كُشف النقاب مؤخّراً عن خطاب سرّيّ ألقاه الرئيس المصريّ محمّد مرسي في ثلاثين من كبار كوادر الإخوان المسلمين. ويبدو واضحاً اليوم أنّ العودة إلى هذا الخطاب، الذي ترافق مع عيد رأس السنة الميلاديّة قبل ثلاثة أعوام، تتيح فهم الكثير من السياسات التي اتّبعها مرسي وأدّت إلى تجديد انتخابه في 2016.
لكنْ يبقى، وقبل الدخول في البنود التي تطرّق إليها، أنّ مرسي كان بالغ الشفافيّة. فهو لم يتردّد في الإشارة إلى أمور شخصيّة في غاية الصراحة، كما جاء كلامه مشوباً بحسّ رفيع من الدعابة غير معهود في قادة الإخوان المسلمين.
فقد ذكر أنّ المنصب الرسميّ علّمه عادات جديدة كما نجّاه من عادات قديمة كان يظنّها طبيعيّة. وهو ضرب مثلاً على ذلك، فيما كان يقهقه، بمبالغته في حكّ منطقة التقاطع بين أعلى فخذيه في حضور المستشارة الألمانيّة أنغيلا ميركل، وقال: “دي حاجة ما بتنعملش يا إخوان”. كذلك تطرّق إلى زوجته السيّدة نجلاء علي محمود، فقال إنّه أقنعها بتقليد السيّدة أمينة أردوغان في لبس حجابات ملوّنة، وبذل بعض الجهود لرسم ابتسامة على شفتيها. ولم يَفتْه أن يغمزها، هي الجالسة في الصفّ الأماميّ، قائلاً: “وقُلتِلْها يا نجلا بلاش طبخ الكوشري والطعميّة في القصر”.
وكانت لمرسي لفتته المدهشة حين اعترف بأنّ عبد المنعم أبو الفتوح لا يقلّ عنه “حبّاً للبلد وشعبه”، وأنّ الإخوان أخطأوا بفصله، بحيث كافأه هو بتسميته رئيساً لحكومة ذات أكثريّة إخوانيّة.
لقد بدأ السيسي خطابه بتهنئة الحضور برأس السنة الميلاديّة، مع أنّه لم يكن هناك أيّ قبطيّ بين الحضور، قائلاً إنّ على المصريّين ألاّ يكتفوا بإحياء رأس السنة الهجريّة، بل عليهم أن يشاركوا العالم احتفالاته برأس السنة الميلاديّة، خصوصاً وأنّ هذا العيد لم يعد يملك دلالة دينيّة حصريّة، بل بات مناسبة زمنيّة جامعة وكونيّة “لا نستطيع أن نعزل أنفسنا عنها”. وما لبث أن انتقل إلى المسألة القبطيّة في مصر، معتبراً أنّها مزمنة “وآنَ لنا أن نضعها في متحف التاريخ… الأقباط مظلومون في هذا البلد على جميع الأصعدة، وهم يُظلمون كلّما زاد التعصّب في المجتمع والدولة”، ثمّ أضاف مؤكّداً أنّ “الدين لله والوطن للجميع”. لكنّه ذهب خطوة أبعد أثارت امتعاض بعض الحضور من الإخوان، حين اعتبر أنّ نظريّة “أهل الكتاب” و”أهل الذمّة” لم تعد تتناسب مع المساواة بين المواطنين في حقوقهم وواجباتهم.
وتقدّم مرسي من هذا المدخل ليشرح موقفه الجديد من الإسلام والسياسة: “في 1928، يا إخوان، حين أسّس الشيخ حسن البنّا جماعة الإخوان، بدا له أنّ الإسلام في خطر. فمصطفى كمال ألغى الخلافة، وفي الإسماعيليّة، حيث أُسّست الجماعة، تمركزت القيادة العسكريّة البريطانيّة ومراكز التبشير المسيحيّ. هذا الخوف كان مبرّراً، وهو ما جدّده انقلاب يوليو 1952، وأنتم تعرفون جميعاً حجم الاضطهاد الذي تعرّضنا له في عهود عبد الناصر والسادات ومبارك، وكان من نتائج الاضطهاد في العهد الناصريّ أنّ الشهيد سيّد قطب اعتنق أفكاراً متطرّفة ليست من صلب الدعوة الإخوانيّة. الله يرحمو، بالغ كثيراً والله لا يحبّ المبالغات”. أمّا اليوم، كما مضى مرسي، “فهذا كلّه صار من الماضي. لقد افتتحت ثورة يناير العظمى عصر الديمقراطيّة. الآن، نخوض الانتخابات فنفوز بـ 51 بالمئة ونحكم، كما حالنا الآن، أو نحصل على نسبة أقلّ فننتقل إلى المعارضة. لا بوليس سرّيّ ولا حكم مباحث ولا مساجين سياسيّون… ثمّ هل يُعقل أن نخاف على الإسلام في مصر، بل في عموم العالم الإسلاميّ؟ بالعكس، ما نلاحظه اليوم، في ظلّ تزايد الكلام الغربيّ عن التعدّد والاختلاف، هو احترام أكبر للأديان والمعتقدات على اختلافها”، وبشيء من السخرية أضاف: “لكنْ لا تقولوا لي رجاءً إنّ الغرب لا يحترم بن لادن والظواهري، وإنّ عدم احترامهما يعني عدم احترام الإسلام. دول كانو بيقتلو أبرياء يا إخوان!”.
وبعد قليل من الصمت فجّر مرسي القنبلة التالية: “إنّ الأوضاع التي أشرنا إليها من قبل تسمح لنا بالتحوّل إلى حزب ديمقراطيّ إسلاميّ بالمعنى الذي يقصده الأوروبيّون بالديمقراطيّة المسيحيّة، أي أن ندافع عن موقف ثقافيّ عريض يحمل قيماً يتهدّدها التطرّف الإلحاديّ أو الليبراليّ. أمّا أن نفرض على فلان أن يصلّي وعلى فلان أن لا يشرب الخمر، فهذه مهمّة الله سبحانه وتعالى، لا مهمّتنا نحن. وهنا لا بدّ لي من التطرّق إلى مسألة حسّاسة هي مسألة المرأة في مجتمعنا…”.
لكنْ في هذه اللحظة اقترب منه موظّف في القصر الرئاسيّ وهمس في إذنه، فاستشاط مرسي غضباً: “الله الله الله، أعمل إيه في السيسي ده. أنتم تعرفون يا إخوان أنّنا أوقفنا التعذيب في السجون، كما وفّرنا للضابط الانقلابيّ عبد الفتّاح السيسي الراحة التي يطلبها السجين. هو في البداية راح يرسل لي الرسائل التي يعتذر فيها عن محاولته الانقلابيّة ويكيل لي المدائح لأنّني جعلته وزير دفاع، مؤكّداً أنّه غدر بي وخانني. قلت: ماشي. بعد ذلك وصلتني تقارير بأنّه يقضي الوقت يبكي ويصلّي. قلت: لا بأس. لكنّ التطوّر الأخير هو المقلق: فمنذ ثلاثة أشهر أصيب الرجل، على ما يبدو، بعارض غريب: بيقلع هُدومو عشرين مرّة في اليوم، بيقلعها بالكامل، أنتو عارفين ده يعني إيه، وبيروح يهتف وهُـوّا عاري أنّو هُـوّا نابوليون”، ثمّ أكمل بالفصحى: “الحرس لا يكادون يُلبسونه ثيابه حتّى يعاود التعرّي. لقد فقدوا أعصابهم فعلاً، وهم لا يدرون ماذا يفعلون. أنا أيضاً لم أعد أعلم ماذا أفعل بالسيسي ده!”.
وإذ تناول مرسي جرعة من كوب الماء الموضوع أمامه على الطاولة، عاد إلى الكلام عن المرأة: “إنها، مثل القبطيّ، مظلومة ومضطهَدة منذ زمن بعيد، وقد آن الأوان، في ظلّ ثورة يناير، أن تتحرّر. إنّ من الظلم والسخف التسامح مع ممارسات كتعدّد الزيجات أو أن نضطهدها، مرّةً بحجّة أنها ناقصة عقل ودين ومرّة بحجّة أنّها تحيض… هذه حجج سخيفة يا إخوان. نساء كمارغريت ثاتشر وغولدا مائير وأنديرا غاندي قُدن بلداناً وخُضن حروباً”. وفجأة صرخ أحد المندوبين الإخوانيّين من القاعة: “لكنهنّ فعلن هذا بعد أن توقّفن عن الحيض بسبب تقدّمهنّ في السنّ”، فاستشاط مرسي غضباً: “يا غبي، هناك وزيرات شابّات كثيرات في أوروبا اليوم، وكلّهنّ يَحضن”. وأردف بالعاميّة مجدّداً: “حاجة تجنّن خالص. تحيض! وما لو يا أخي! عايز نركّب عدّاد للي تحيض واللي ما تحضشِ”.
وإذ سادت في القاعة بعض الفوضى، تابع الرئيس المصريّ: “سأصارحكم بمسألة أظنّها مهمّة جدّاً، هي شخصيّةٌ بقدر ما هي سياسيّة. فتظاهرات يونيو 2013 الشعبيّة ضدّي علّمتني الكثير، وأنا الآن أعتبر تلك الثورة استكمالاً وتتويجاً وتصويباً لثورة يناير. لقد دفعتني تلك المظاهرات إلى التهام الكتب التي تتناول علوم السياسة والقوانين والدساتير، كما قرأت بضعة كتب في الاقتصاد. وكان ما اكتشفته، ممّا أريد أن أشارككم إيّاه، خطيراً. فأوّلاً، ليست لدينا، نحن الإخوان، أيّة فكرة عن العمل في ظلّ نظام سياسيّ. لقد نشأنا وتطوّرنا كتنظيم حزبيّ في ظلّ العنف والقهر والخوف، واعتقدنا أنّنا نستطيع، بمجرّد أن نصل إلى السلطة، أن نفعل كلّ ما يحلو لنا. هذا ليس صحيحاً، لأنّ كلّ تفويض انتخابيّ محدود بحدود معيّنة لا يتخطّاها، وهناك في الحياة أمور ليست من اختصاص السلطة السياسيّة بتاتاً. وثانياً، ليست لدينا أيّة فكرة جدّيّة عن الاقتصاد. ساعةً نستشهد بالرسول صلّى الله عليه وسلّم في المدينة، وساعة نستشهد بالخلفاء الراشدين رضي الله عنهم أجمعين. لكنّ هذا لا ينفع اليوم حيث باتت الأمور أعقد كثيراً. لهذا اضطررت أن اعتمد على اقتصاديّين ليس بينهم إسلاميّ واحد، وبالفعل نجحنا في التوصّل إلى سياسة جمعت بين مهمّتين صعبتين تحتاجهما مصر بإلحاح: من ناحية، جذب استثمارات خارجيّة لإطلاق دورة اقتصاديّة في البلد، ومن ناحية أخرى، تنشيط شبكة الأمان الاجتماعيّ التي تحمي من هم أشدّ فقراً وضعفاً من المواطنين. إنّ شعارنا الشهير “الإسلام هو الحلّ” قد يصلح في الوصول إلى السلطة، لكنّتي أصارحكم القول إنّه لا يفيدنا كثيراً في بناء السلطة”.
وأنهى مرسي خطابه بفقرة شديدة الدلالة: “لا يسعني أيّها الإخوان إلاّ الشعور بالامتنان الكبير والتوجّه بالشكر الدائم للحركة الشعبيّة التي أطلقت ثورة 30 يونيو. فهذه الحركة ما إن أحسّت أنّ بعض الضبّاط المغامرين سيستغلّونها لإطاحة النظام الديمقراطيّ والعودة بنا إلى الحكم العسكريّ، حتّى عاودت الالتحام بي وبالرموز المنتخبة والمؤسّسات الدستوريّة. بهذا برهن التقليد الديمقراطيّ في بلدنا أنّه قويّ ومتين، وبهذا أفشلنا المحاولة الانقلابيّة وحافظنا على الديمقراطيّة، كما أتيح لي أن أباشر تعلّم الدروس التي تعلّمتها. لقد اعترف قائد المؤامرة الانقلابيّة المدعوّ عبد الفتّاح السيسي بأنّه كان ينوي سجني، وربّما إعدامي، والتنكيل مجدّداً بالإخوان. لكنّه اعترف أيضاً بأنّ انقلابه كان يستهدف باقي الأحزاب والقوى والأفكار السياسيّة من دون استثناء. لكنّنا انتصرنا في النهاية بفضل الحركة الشعبيّة، وها هو المدعوّ السيسي يواجه العقوبة التي يستحقّها في السجن”.
لكنْ ما إن حيّى مرسي الشعب والديمقراطيّة وثورتي يناير ويونيو وهمّ بالنزول عن المنبر، حتّى طالبه بعض المندوبين بكلمة عن سياسته الخارجيّة، فكان هذا جوابه: “اسمعوا يا إخوان. السياسة الخارجيّة مسألة طويلة ومعقّدة، وسوف أخصّص قريباً جلسة خاصّة للتحدّث عنها. لكنّني الآن سأكتفي بموضوع واحد ربّما كان أكثر ما يشغلنا في مصر عموماً، وفي محيط الإخوان المسلمين خصوصاً. إنّها مسألة غزّة وحركة حماس. أنا ملتزم الدفاع عن الفلسطينيّين في غزّة لأنّهم مظلومون وضحايا، أمرهم يهمّني كبشر وكمسلمين وكعرب. لكنّني أيضاً ملتزم مصالح مصر العليا التي تستدعي عدم تورّطها في نزاعات ومنازعات كبرى. إنّنا لا نحتمل خسارة عائدات المرور في قناة السويس، أو خسارة تحويلات العاملين في الخارج، لكنّنا خصوصاً لا نحتمل انهيار اتّفاقيّة كامب ديفيد والعودة إلى حالة الحرب مع إسرائيل. ما أفعله حاليّاً هو الضغط باتّجاهين: الضغط على إسرائيل كي تخفّف عجرفتها ووساوسها الأمنيّة ممّا يؤدّي إلى تخريب حياة السكّان المدنيّين الأبرياء، والضغط على “حركة حماس” كي تتخلّص من سلوكها الطفوليّ وتعلّقها بصواريخ الخردة التي تضرّها أكثر كثيراً ممّا تضرّ إسرائيل. وبصراحة، على حماس أيضاً أن تُبعد عن صفوفها هذا المعتوه محمود الزهّار الذي ينوي جرّها إلى مواقع إيرانيّة ننظر إليها، نحن في مصر، بكثير من التحفّظ والارتياب. إنّ هؤلاء المتطرّفين يظنّون أنّهم يستطيعون، باسم الإسلام والماضي الإخوانيّ المشترك، أن يجرّونا إلى مواقعهم، ولا يفهمون أنّنا نعتبر الإسلام عنصراً لتقوية مصر، لا عنصراً في إضعافها”.
وهرول مرسي خوفاً من أن يتأخّر عن استقبال المستشارة ميركل التي يُفترض أن تحطّ طائرتها في مطار القاهرة الدوليّ في أيّة لحظة.
[video_player link=””][/video_player]