fbpx
ساهموا في دعم الإعلام المستقل و الجريء!
ادعموا درج

فيكشن: مبادئ محمّد نجيب بعد إلحاقه الهزيمة بعبد الناصر

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

عبد الناصر كان يحدّق في أرض الغرفة بعينين زائغتين فيما يفرك يديه، يحيط به من جهة اليمين عبد الحكيم عامر وكمال الدين حسين وحسين الشافعي وصلاح سالم، ومن جهة اليسار أنور السادات وزكريّا محيي الدين وجمال سالم وحسن ابراهيم. إنّهم قادة التنظيم الذي نفّذ الانقلاب في 23 يوليو/ تموز 1952، وكانوا يعدّون العدّة لإطاحة اللواء محمّد نجيب الذي استخدموه كواجهة لمجرّد كونه صاحب رتبة عليا في الجيش، قبل أن يكتشفوا أنّ للرجل قناعات تخالف بقوّة قناعاتهم، وأنّه مستعدّ للقتال تمسّكاً بها. هكذا عاجلهم بانقلاب استباقيّ أدّى إلى نقلهم من وزاراتهم ومكاتبهم الفخمة إلى هذا القبو الكئيب.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

ليلة الأوّل من مارس/ آذار 1954، أُحضر إلى القبو التابع لوزارة الحربيّة الضبّاط القياديّون في تنظيم “الضبّاط الأحرار”. لقد أُخرجوا من بيوتهم بمقادير متفاوتة من العنف، إذ بدا على جبين جمال عبد الناصر جرح طفيف، فيما لم يُتح لأنور السادات أن يغيّر بيجامته فجيء به وهو يرتديها.
عبد الناصر كان يحدّق في أرض الغرفة بعينين زائغتين فيما يفرك يديه، يحيط به من جهة اليمين عبد الحكيم عامر وكمال الدين حسين وحسين الشافعي وصلاح سالم، ومن جهة اليسار أنور السادات وزكريّا محيي الدين وجمال سالم وحسن ابراهيم. إنّهم قادة التنظيم الذي نفّذ الانقلاب في 23 يوليو/ تموز 1952، وكانوا يعدّون العدّة لإطاحة اللواء محمّد نجيب الذي استخدموه كواجهة لمجرّد كونه صاحب رتبة عليا في الجيش، قبل أن يكتشفوا أنّ للرجل قناعات تخالف بقوّة قناعاتهم، وأنّه مستعدّ للقتال تمسّكاً بها. هكذا عاجلهم بانقلاب استباقيّ أدّى إلى نقلهم من وزاراتهم ومكاتبهم الفخمة إلى هذا القبو الكئيب.
وما هي إلاّ دقائق حتّى دخل عليهم نجيب محاطاً بخمسة ضبّاط أو ستّة، فاستقبله معظمهم بالوقوف ما عدا عبد الناصر والسادات.
الحوار الساخن سريعاً ما بدأ، فوجّه نجيب كلامه إلى الرجل الأوّل في “الضبّاط الأحرار”: “لستُ أنا، يا جمال، من غدر بكم وطعنكم في الظهر. أنتم كنتم تخطّطون لعمل كهذا بحيث تتخلّصون منّي وتتحوّل أنت شخصيّاً إلى زعيم مطلق. إلى شبه إله. لقد تعاملتُ معكم كأنّكم أولادي، باعتباركم وطنيّين تريدون أن تنقذوا الأمّة المصريّة من الفساد والفوضى ثمّ تعيدوها إلى الحكم المدنيّ. وأعترف أنّني أخطأت كثيراً بأن تواطأت مع عدد من سياساتكم القمعيّة ومن تجاوزاتكم على الأحزاب والحياة السياسيّة، لا سيّما الموافقة على إلغاء دستور 1923. لقد أقنعتموني بأنّ تلك مجرّد إجراءات مؤقّتة لا بدّ منها لتقوية قبضة الثورة كيما تتمكّن من إنجاز أهدافها في تنظيف الحياة السياسيّة قبل أن ننسحب إلى ثكناتنا. لكنْ لا. فقد تبيّن لي أنّ هدفكم ليس إلا إقامة ديكتاتوريّة عسكريّة لا بدّ أن تكون أسوأ من الحكم الملكيّ”.
“هذا ليس صحيحاً”، قال عبد الناصر بصوت منخفض وعلى شيء من التلعثم، “فنحن طموحنا الفعليّ كان إقامة حكم لمصلحة الشعب، ولأنّنا أبناء الشعب فإنّنا نمثّل إرادة الشعب…”. هنا قهقه نجيب بصوت مرتفع: “الشعب… الشعب… لقد ضمّ تنظيمكم، تنظيم “الضبّاط الأحرار”، 329 ضابطاً، شارك منهم في الانقلاب 80 ضابطاً لأنّ الباقين، كما نعلم جميعاً، كانوا يخدمون خارج القاهرة. هؤلاء الثمانون لا يشكّلون أكثر من 3 في المئة من ضبّاط جيشنا. ولو شاركوا كلّهم لكانوا أقلّ من 13 في المئة من الضبّاط. فوق هذا، ليس بينهم صاحب رتبة عليا، ولم يكن بينهم قبطيّ واحد. فأنتم إذاً لم تكونوا تمثّلون الجيش، فكيف تدّعون أنّكم تمثّلون الشعب ومصالحه وإرادته. كفّوا عن هذا الكلام السخيف يا جمال. الشعب يعلن إرادته ويحدّد مصلحته من خلال انتخابات ديمقراطيّة نزيهة، وأنتم لا تريدون ذلك لأنّكم تخافون من نتيجتها وتعلمون أنّها تقضي على مشروعكم الديكتاتوريّ. هذا البلد – الذي تقولون إنّكم تحبّونه وتريدون إنقاذه – ليس ابن البارحة يا جمال. فيه تقاليد حزبيّة وصحافيّة ونقابيّة عريقة. فيه سلطة للقضاء وحرّيّات بحث جامعيّ. فيه سينما ومدارس رسم وموسيقى وغناء. عليكم أن تدمّروا كلّ هذا لكي تحكموه”.
وإذ مضى عبد الناصر مُطرقاً يحدّق في أرض الغرفة، حاول أنور السادات أن يناوش: “يا سيادة اللواء، هذه إرادة الله. هذا هو القدر… نحن مثّلناه… نحن…”. لكنّ نجيب قاطعه متأفّفاً ومحرّكاً يده بشيء من القرف: “ألم تكبر بعد يا أنور!؟ ألم تتخلّص من هذه اللغة الخطابيّة العبيطة؟ ألم تقرأ مقالة صديقك إحسان عبد القدّوس، الذي أودعتموه السجن بسببها، عن أنّكم “جماعة سرّيّة تحكم مصر”؟ أنتم هكذا مجرّد “جماعة سرّيّة” متآمرة، لا علاقة لكم لا بالله ولا بالقدر. كفّ عن هذا الهراء. إكبر يا أنور. إكبر”.
في هذه اللحظة العصيبة أغمي على جمال سالم الذي تردّد أنّ حالته الصحّيّة لا تحتمل لحظات التوتّر، فطلب نجيب من أحد مرافقيه نقله بسرعة إلى المستشفى. ومستفيداً من ذاك الاضطراب العابر في الجلسة تدخّل عبد الحكيم عامر: “سيادة اللواء، بغضّ النظر عن الخلاف بيننا، فإنّ الثورة تجمعنا، ولا ينبغي لسيادتكم معاملتنا بقسوة وعنف. نحن أبناؤك يا سيادة اللواء، والأب يغفر لأبنائه. ما فعلناه صدر عن حسن نيّة وعن وطنيّة صادقة. وإذا كنّا قد أخطأنا التقدير فنحن مستعدّون للتكفير عن خطئنا بالعمل معكم وخدمة نظامكم الجديد…”.
“اسمع يا عبد الحكيم: كان واحداً من أخطائي أنّني سايرتكم أيضاً بالموافقة على تعيينك قائداً للقوّات المسلّحة، مع أنّني أعرف، وأنت تعرف، وجميعاً هنا يعرف، كم أنّ كفاءاتك محدودة. شيء كهذا لن يكون ممكناً بعد عودة الحياة الحزبيّة والسياسيّة حيث لا تعود سلطة البتّ والقرار بيدي أنا، ولا بيد أيّ شخص كان. في هذه الغضون أنا لن أسجنكم ولن أعدمكم. هذا ما لا أستطيع فعله. بيني وبينكم خبز وملح كثير. إنّني أعرفكم فرداً فرداً، وذات مرّة كنت أنظر إليكم كأبناء. ما سأفعله في هذه الفترة الانتقاليّة، وقبل أن أعود إلى بيتي وأسلّم الحكم للمدنيّين، هو أن أعيّنكم ملحقين عسكريّين في سفاراتنا بالخارج. هكذا نطوي هذه الصفحة ونتفرّغ لأمور أجدى وأهمّ تطلبها منّا مصر”.
ورفع نجيب يده مودّعاً “أبناءه” السابقين، لكنّه ما إن أدار ظهره وهو يقول لهم: “والآن السلام عليكم”، حتّى استدار ثانيةً وخاطب عبد الناصر بشيء من التودّد والممازحة: “أنت يا جمال سأعيّنك في روما، حيث عاش الرجل الذي يثير إعجابك، موسوليني. لكنْ بالله عليك، اقرأ قبل التوجّه إلى إيطاليا شيئاً عن النظام الذي أقامه، وخصوصاً عن النهاية التي خُتمت بها حياته. لا أريد لك نهاية بشعة كهذه يا جمال”.
بانصراف نجيب إلى مكتبه بدأ العمل الجدّيّ. تلاحقت المواقف التي وُصفت بـ “التمهيد الضروريّ” لعودة الحياة السياسيّة: أعلن حلّ “هيئة التحرير”. أطلق سراح جميع المساجين السياسيّين. اعتقل كبار نقابيّي النقل العامّ الذين ثبت أنّهم تلقّوا رشاوى من عبد الناصر كي ينظّموا مظاهرات ضدّ الحرّيّة والديمقراطيّة. ألغى قرار حلّ الأحزاب وقرّر في أقرب فرصة أن يزور قائد الوفد مصطفى النحّاس ويعتذر له عمّا صدر بحقّه وحقّ حزبه. دعا إلى إعادة الانتخابات في الجامعات التي سبق أن زوّرتها سلطة “الضبّاط الأحرار”. طالب الصحف التي أُوقفت عن الصدور بمعاودة الصدور. عيّن الضبّاط الانقلابيين ملحقين عسكريّين وأمر بسفرهم الفوريّ.
من جهة أخرى، فإنّ المرحلة الانتقاليّة التي ذُكر أنّها ستدوم ستّة أشهر، لمع فيها، إلى جانب نجيب، اسمان: محمّد حسنين هيكل ومحمود فوزي. أمّا الأوّل ففاجأ نجيب بنشره مقالاً يدافع فيه عن إبعاد “الضبّاط الأحرار” الذين وصفهم بـ “النيّة لإقامة ديكتاتوريّة عسكريّة ولإبقاء النظام الملكيّ من دون ملك”. لقد بدا هيكل في مقاله هذا وكأنّه يحرّض على الاقتصاص منهم، وهذا ما جعل نجيب يستغرب جدّاً ما يقرأه ويفرك عينيه عدّة مرّات قبل أن يُنهي المقالة: “أليس هو إيّاه صحافيّ “الأهرام” الذي كان يعلّم جمال ويكتب له تلك الوريقات السخيفة التي نُشرت بعنوان “فلسفة الثورة”؟
لكنْ حين قيل له أنّه هو الشخص عينه، سُمع يخاطب مساعده الضابط كمال أشرف: “هذا رجل يستحيل الوثوق به، لكنْ ربّما كان مفيداً أن نستخدمه في هذه المرحلة الانتقاليّة لترويج فكرة العودة إلى الحياة السياسيّة. اتّصلوا به واحرصوا على إخباره أسبوعيّاً بما يجب أن يكتبه وما لا يجب. إنّه يفعل كلّ ما تأمره به السلطة، فوجّهوه بما فيه مصلحة البلد وعودة الديمقراطيّة”. وإذ رسم نجيب بسمة ساخرة وخبيثة على شفتيه أضاف: “اطلبوا من هيكل أن يكتب كرّاساً يردّ فيه على كرّاس “فلسفة الثورة”. أنا متأكّد من أنّه يفعل ذلك بنفس الحماسة التي كتب بها كُتيّب عبد الناصر”.
محمود فوزي كان له شأن آخر. فقد سمّاه نجيب رئيساً لحكومة المرحلة الانتقاليّة. ويقول مقرّبون من الإثنين إنّ اللواء أرفق طلبه بالتعليل التالي: “لقد اخترتك يا دكتور فوزي لسببين، أوّلهما أنّك لست سياسيّاً لأنّني لا أريد الإيحاء بأنّنا نتدخّل في الأمور السياسيّة. إنّ كلّ ما سنفعله هو تهيئة الأوضاع لعودة السياسيّين بعد إجراء انتخابات عامّة. أمّا السبب الثاني فهو خبرتك الديبلوماسيّة لأنّ مصر لا تستطيع، في ظلّ هذه الحرب الباردة المستعرة، أن تبقى بلا لسان ولا حضور طوال الأشهر الستّة للمرحلة الانتقاليّة. كلّ يوم يجدّ حدث كبير وعلينا أن نملك الاستجابة اللازمة. إنّ ما ستفعله حكومتك هو أقرب إلى إعلان مبادئ أفترض أنّ أيّة حكومة منتخبة ستلتزمها، علماً بأنّها ستكون بالطبع حرّة في أن لا تلتزمها.
أوّل هذه المبادئ أنّ مصالح مصر هي العنصر المقرّر، وأنت تعلم أنّ مصالحنا الاقتصاديّة والاستراتيجيّة هي مع الدول الغربيّة. ولسوف نتوصّل إلى صيغة مع البريطانيّين للجلاء تكون أفضل كثيراً لنا من التي كان عبد الناصر يفاوضهم بشأنها من وراء ظهري. هذا لا يعني أنّنا سنقاتل النفوذ السوفياتيّ لأنّ هذا ليس شأننا، وأظنّ أنّ واشنطن لن تضغط علينا بهذا الاتّجاه حين تلاحظ أنّنا نبني ديمقراطيّة جدّيّة. كذلك لا أريد لعلاقاتنا الوثيقة مع البلدان الغربيّة أن تؤثّر سلباً على حريّة التنظيمات الشيوعيّة المصريّة في العمل السياسيّ، بشرط واحد هو أن تعلن تخلّيها التامّ عن العنف وانخراطها الكلّيّ في الحياة السياسيّة.
أمّا المبدأ الثاني فهو أن نتوصّل مع الولايات المتّحدة وبريطانيا إلى تسوية سلميّة للنزاع مع إسرائيل. وأظنّ أنّ إعادة الاعتبار لصيغة التقسيم في 1947 ممكنة جدّاً، خصوصاً أنّ الاتّحاد السوفياتيّ لن يعارض ذلك. ألم تكن موسكو أشدّ العواصم حماسةً لقرار التقسيم؟
يبقى المبدأ الثالث، وهو أنّ مصلحة مصر تقتضي تعزيز الاتّجاه نحو الديمقراطيّة في المنطقة، في السودان جنوباً كما في سوريّا والعراق شمالاً وشرقاً. السيّد عبد الناصر كان معجباً بمعتوه سوريّا أديب الشيشكلي الذي قصف شعبه بالطيران. كان ينوي تقليده هنا في مصر. نحن سنتحرّك بالعكس تماماً: سنشجّع اللبنانيّين على تطوير نموذجهم البرلمانيّ وتعدّديّتهم الطائفيّة، فهذا مكسب للمنطقة عموماً. كذلك سنحاول إقناع الأنظمة المَلكيّة في طرابلس وعمّان وبغداد والرياض بالتحوّل التدريجيّ إلى ملكيّات دستوريّة، وأعتقد أنّهم فهموا الدرس المصريّ أو أنّهم مستعدّون للحوار حول هذه المسألة”.
ويبدو أنّ فوزي موافق بالكامل على ما سمعه من نجيب. لقد صرّح لدى انفضاض اللقاء، والسعادة طافحة في وجهه، بأنّ “مصر ومنطقة الشرق الأوسط مرشّحتان لدخول مرحلة من الاستقرار والازدهار غير مسبوقة منذ قرون”.

[video_player link=””][/video_player]

مصطفى إبراهيم - حقوقي فلسطيني | 24.01.2025

فرح أهل غزة المؤقّت والبحث عما تبقّى من ذاتهم

المفروض أن يعود النازحون من الجنوب الى مدينة غزة وشمالها حسب اتفاق وقف إطلاق النار، وهي المرحلة الثانية من الحرب، والبحث عما تبقى من ممتلكاتهم وأملاكهم وحياتهم. في الوقت ذاته، يبحث الذين هُدمت بيوتهم عن أماكن لإيوائهم أو يسعون الى استئجار شقق والبدء من جديد. هي "حرب" جديدة قد تستمر سنوات من إعادة ترميم الذات…
23.01.2018
زمن القراءة: 7 minutes

عبد الناصر كان يحدّق في أرض الغرفة بعينين زائغتين فيما يفرك يديه، يحيط به من جهة اليمين عبد الحكيم عامر وكمال الدين حسين وحسين الشافعي وصلاح سالم، ومن جهة اليسار أنور السادات وزكريّا محيي الدين وجمال سالم وحسن ابراهيم. إنّهم قادة التنظيم الذي نفّذ الانقلاب في 23 يوليو/ تموز 1952، وكانوا يعدّون العدّة لإطاحة اللواء محمّد نجيب الذي استخدموه كواجهة لمجرّد كونه صاحب رتبة عليا في الجيش، قبل أن يكتشفوا أنّ للرجل قناعات تخالف بقوّة قناعاتهم، وأنّه مستعدّ للقتال تمسّكاً بها. هكذا عاجلهم بانقلاب استباقيّ أدّى إلى نقلهم من وزاراتهم ومكاتبهم الفخمة إلى هذا القبو الكئيب.

ليلة الأوّل من مارس/ آذار 1954، أُحضر إلى القبو التابع لوزارة الحربيّة الضبّاط القياديّون في تنظيم “الضبّاط الأحرار”. لقد أُخرجوا من بيوتهم بمقادير متفاوتة من العنف، إذ بدا على جبين جمال عبد الناصر جرح طفيف، فيما لم يُتح لأنور السادات أن يغيّر بيجامته فجيء به وهو يرتديها.
عبد الناصر كان يحدّق في أرض الغرفة بعينين زائغتين فيما يفرك يديه، يحيط به من جهة اليمين عبد الحكيم عامر وكمال الدين حسين وحسين الشافعي وصلاح سالم، ومن جهة اليسار أنور السادات وزكريّا محيي الدين وجمال سالم وحسن ابراهيم. إنّهم قادة التنظيم الذي نفّذ الانقلاب في 23 يوليو/ تموز 1952، وكانوا يعدّون العدّة لإطاحة اللواء محمّد نجيب الذي استخدموه كواجهة لمجرّد كونه صاحب رتبة عليا في الجيش، قبل أن يكتشفوا أنّ للرجل قناعات تخالف بقوّة قناعاتهم، وأنّه مستعدّ للقتال تمسّكاً بها. هكذا عاجلهم بانقلاب استباقيّ أدّى إلى نقلهم من وزاراتهم ومكاتبهم الفخمة إلى هذا القبو الكئيب.
وما هي إلاّ دقائق حتّى دخل عليهم نجيب محاطاً بخمسة ضبّاط أو ستّة، فاستقبله معظمهم بالوقوف ما عدا عبد الناصر والسادات.
الحوار الساخن سريعاً ما بدأ، فوجّه نجيب كلامه إلى الرجل الأوّل في “الضبّاط الأحرار”: “لستُ أنا، يا جمال، من غدر بكم وطعنكم في الظهر. أنتم كنتم تخطّطون لعمل كهذا بحيث تتخلّصون منّي وتتحوّل أنت شخصيّاً إلى زعيم مطلق. إلى شبه إله. لقد تعاملتُ معكم كأنّكم أولادي، باعتباركم وطنيّين تريدون أن تنقذوا الأمّة المصريّة من الفساد والفوضى ثمّ تعيدوها إلى الحكم المدنيّ. وأعترف أنّني أخطأت كثيراً بأن تواطأت مع عدد من سياساتكم القمعيّة ومن تجاوزاتكم على الأحزاب والحياة السياسيّة، لا سيّما الموافقة على إلغاء دستور 1923. لقد أقنعتموني بأنّ تلك مجرّد إجراءات مؤقّتة لا بدّ منها لتقوية قبضة الثورة كيما تتمكّن من إنجاز أهدافها في تنظيف الحياة السياسيّة قبل أن ننسحب إلى ثكناتنا. لكنْ لا. فقد تبيّن لي أنّ هدفكم ليس إلا إقامة ديكتاتوريّة عسكريّة لا بدّ أن تكون أسوأ من الحكم الملكيّ”.
“هذا ليس صحيحاً”، قال عبد الناصر بصوت منخفض وعلى شيء من التلعثم، “فنحن طموحنا الفعليّ كان إقامة حكم لمصلحة الشعب، ولأنّنا أبناء الشعب فإنّنا نمثّل إرادة الشعب…”. هنا قهقه نجيب بصوت مرتفع: “الشعب… الشعب… لقد ضمّ تنظيمكم، تنظيم “الضبّاط الأحرار”، 329 ضابطاً، شارك منهم في الانقلاب 80 ضابطاً لأنّ الباقين، كما نعلم جميعاً، كانوا يخدمون خارج القاهرة. هؤلاء الثمانون لا يشكّلون أكثر من 3 في المئة من ضبّاط جيشنا. ولو شاركوا كلّهم لكانوا أقلّ من 13 في المئة من الضبّاط. فوق هذا، ليس بينهم صاحب رتبة عليا، ولم يكن بينهم قبطيّ واحد. فأنتم إذاً لم تكونوا تمثّلون الجيش، فكيف تدّعون أنّكم تمثّلون الشعب ومصالحه وإرادته. كفّوا عن هذا الكلام السخيف يا جمال. الشعب يعلن إرادته ويحدّد مصلحته من خلال انتخابات ديمقراطيّة نزيهة، وأنتم لا تريدون ذلك لأنّكم تخافون من نتيجتها وتعلمون أنّها تقضي على مشروعكم الديكتاتوريّ. هذا البلد – الذي تقولون إنّكم تحبّونه وتريدون إنقاذه – ليس ابن البارحة يا جمال. فيه تقاليد حزبيّة وصحافيّة ونقابيّة عريقة. فيه سلطة للقضاء وحرّيّات بحث جامعيّ. فيه سينما ومدارس رسم وموسيقى وغناء. عليكم أن تدمّروا كلّ هذا لكي تحكموه”.
وإذ مضى عبد الناصر مُطرقاً يحدّق في أرض الغرفة، حاول أنور السادات أن يناوش: “يا سيادة اللواء، هذه إرادة الله. هذا هو القدر… نحن مثّلناه… نحن…”. لكنّ نجيب قاطعه متأفّفاً ومحرّكاً يده بشيء من القرف: “ألم تكبر بعد يا أنور!؟ ألم تتخلّص من هذه اللغة الخطابيّة العبيطة؟ ألم تقرأ مقالة صديقك إحسان عبد القدّوس، الذي أودعتموه السجن بسببها، عن أنّكم “جماعة سرّيّة تحكم مصر”؟ أنتم هكذا مجرّد “جماعة سرّيّة” متآمرة، لا علاقة لكم لا بالله ولا بالقدر. كفّ عن هذا الهراء. إكبر يا أنور. إكبر”.
في هذه اللحظة العصيبة أغمي على جمال سالم الذي تردّد أنّ حالته الصحّيّة لا تحتمل لحظات التوتّر، فطلب نجيب من أحد مرافقيه نقله بسرعة إلى المستشفى. ومستفيداً من ذاك الاضطراب العابر في الجلسة تدخّل عبد الحكيم عامر: “سيادة اللواء، بغضّ النظر عن الخلاف بيننا، فإنّ الثورة تجمعنا، ولا ينبغي لسيادتكم معاملتنا بقسوة وعنف. نحن أبناؤك يا سيادة اللواء، والأب يغفر لأبنائه. ما فعلناه صدر عن حسن نيّة وعن وطنيّة صادقة. وإذا كنّا قد أخطأنا التقدير فنحن مستعدّون للتكفير عن خطئنا بالعمل معكم وخدمة نظامكم الجديد…”.
“اسمع يا عبد الحكيم: كان واحداً من أخطائي أنّني سايرتكم أيضاً بالموافقة على تعيينك قائداً للقوّات المسلّحة، مع أنّني أعرف، وأنت تعرف، وجميعاً هنا يعرف، كم أنّ كفاءاتك محدودة. شيء كهذا لن يكون ممكناً بعد عودة الحياة الحزبيّة والسياسيّة حيث لا تعود سلطة البتّ والقرار بيدي أنا، ولا بيد أيّ شخص كان. في هذه الغضون أنا لن أسجنكم ولن أعدمكم. هذا ما لا أستطيع فعله. بيني وبينكم خبز وملح كثير. إنّني أعرفكم فرداً فرداً، وذات مرّة كنت أنظر إليكم كأبناء. ما سأفعله في هذه الفترة الانتقاليّة، وقبل أن أعود إلى بيتي وأسلّم الحكم للمدنيّين، هو أن أعيّنكم ملحقين عسكريّين في سفاراتنا بالخارج. هكذا نطوي هذه الصفحة ونتفرّغ لأمور أجدى وأهمّ تطلبها منّا مصر”.
ورفع نجيب يده مودّعاً “أبناءه” السابقين، لكنّه ما إن أدار ظهره وهو يقول لهم: “والآن السلام عليكم”، حتّى استدار ثانيةً وخاطب عبد الناصر بشيء من التودّد والممازحة: “أنت يا جمال سأعيّنك في روما، حيث عاش الرجل الذي يثير إعجابك، موسوليني. لكنْ بالله عليك، اقرأ قبل التوجّه إلى إيطاليا شيئاً عن النظام الذي أقامه، وخصوصاً عن النهاية التي خُتمت بها حياته. لا أريد لك نهاية بشعة كهذه يا جمال”.
بانصراف نجيب إلى مكتبه بدأ العمل الجدّيّ. تلاحقت المواقف التي وُصفت بـ “التمهيد الضروريّ” لعودة الحياة السياسيّة: أعلن حلّ “هيئة التحرير”. أطلق سراح جميع المساجين السياسيّين. اعتقل كبار نقابيّي النقل العامّ الذين ثبت أنّهم تلقّوا رشاوى من عبد الناصر كي ينظّموا مظاهرات ضدّ الحرّيّة والديمقراطيّة. ألغى قرار حلّ الأحزاب وقرّر في أقرب فرصة أن يزور قائد الوفد مصطفى النحّاس ويعتذر له عمّا صدر بحقّه وحقّ حزبه. دعا إلى إعادة الانتخابات في الجامعات التي سبق أن زوّرتها سلطة “الضبّاط الأحرار”. طالب الصحف التي أُوقفت عن الصدور بمعاودة الصدور. عيّن الضبّاط الانقلابيين ملحقين عسكريّين وأمر بسفرهم الفوريّ.
من جهة أخرى، فإنّ المرحلة الانتقاليّة التي ذُكر أنّها ستدوم ستّة أشهر، لمع فيها، إلى جانب نجيب، اسمان: محمّد حسنين هيكل ومحمود فوزي. أمّا الأوّل ففاجأ نجيب بنشره مقالاً يدافع فيه عن إبعاد “الضبّاط الأحرار” الذين وصفهم بـ “النيّة لإقامة ديكتاتوريّة عسكريّة ولإبقاء النظام الملكيّ من دون ملك”. لقد بدا هيكل في مقاله هذا وكأنّه يحرّض على الاقتصاص منهم، وهذا ما جعل نجيب يستغرب جدّاً ما يقرأه ويفرك عينيه عدّة مرّات قبل أن يُنهي المقالة: “أليس هو إيّاه صحافيّ “الأهرام” الذي كان يعلّم جمال ويكتب له تلك الوريقات السخيفة التي نُشرت بعنوان “فلسفة الثورة”؟
لكنْ حين قيل له أنّه هو الشخص عينه، سُمع يخاطب مساعده الضابط كمال أشرف: “هذا رجل يستحيل الوثوق به، لكنْ ربّما كان مفيداً أن نستخدمه في هذه المرحلة الانتقاليّة لترويج فكرة العودة إلى الحياة السياسيّة. اتّصلوا به واحرصوا على إخباره أسبوعيّاً بما يجب أن يكتبه وما لا يجب. إنّه يفعل كلّ ما تأمره به السلطة، فوجّهوه بما فيه مصلحة البلد وعودة الديمقراطيّة”. وإذ رسم نجيب بسمة ساخرة وخبيثة على شفتيه أضاف: “اطلبوا من هيكل أن يكتب كرّاساً يردّ فيه على كرّاس “فلسفة الثورة”. أنا متأكّد من أنّه يفعل ذلك بنفس الحماسة التي كتب بها كُتيّب عبد الناصر”.
محمود فوزي كان له شأن آخر. فقد سمّاه نجيب رئيساً لحكومة المرحلة الانتقاليّة. ويقول مقرّبون من الإثنين إنّ اللواء أرفق طلبه بالتعليل التالي: “لقد اخترتك يا دكتور فوزي لسببين، أوّلهما أنّك لست سياسيّاً لأنّني لا أريد الإيحاء بأنّنا نتدخّل في الأمور السياسيّة. إنّ كلّ ما سنفعله هو تهيئة الأوضاع لعودة السياسيّين بعد إجراء انتخابات عامّة. أمّا السبب الثاني فهو خبرتك الديبلوماسيّة لأنّ مصر لا تستطيع، في ظلّ هذه الحرب الباردة المستعرة، أن تبقى بلا لسان ولا حضور طوال الأشهر الستّة للمرحلة الانتقاليّة. كلّ يوم يجدّ حدث كبير وعلينا أن نملك الاستجابة اللازمة. إنّ ما ستفعله حكومتك هو أقرب إلى إعلان مبادئ أفترض أنّ أيّة حكومة منتخبة ستلتزمها، علماً بأنّها ستكون بالطبع حرّة في أن لا تلتزمها.
أوّل هذه المبادئ أنّ مصالح مصر هي العنصر المقرّر، وأنت تعلم أنّ مصالحنا الاقتصاديّة والاستراتيجيّة هي مع الدول الغربيّة. ولسوف نتوصّل إلى صيغة مع البريطانيّين للجلاء تكون أفضل كثيراً لنا من التي كان عبد الناصر يفاوضهم بشأنها من وراء ظهري. هذا لا يعني أنّنا سنقاتل النفوذ السوفياتيّ لأنّ هذا ليس شأننا، وأظنّ أنّ واشنطن لن تضغط علينا بهذا الاتّجاه حين تلاحظ أنّنا نبني ديمقراطيّة جدّيّة. كذلك لا أريد لعلاقاتنا الوثيقة مع البلدان الغربيّة أن تؤثّر سلباً على حريّة التنظيمات الشيوعيّة المصريّة في العمل السياسيّ، بشرط واحد هو أن تعلن تخلّيها التامّ عن العنف وانخراطها الكلّيّ في الحياة السياسيّة.
أمّا المبدأ الثاني فهو أن نتوصّل مع الولايات المتّحدة وبريطانيا إلى تسوية سلميّة للنزاع مع إسرائيل. وأظنّ أنّ إعادة الاعتبار لصيغة التقسيم في 1947 ممكنة جدّاً، خصوصاً أنّ الاتّحاد السوفياتيّ لن يعارض ذلك. ألم تكن موسكو أشدّ العواصم حماسةً لقرار التقسيم؟
يبقى المبدأ الثالث، وهو أنّ مصلحة مصر تقتضي تعزيز الاتّجاه نحو الديمقراطيّة في المنطقة، في السودان جنوباً كما في سوريّا والعراق شمالاً وشرقاً. السيّد عبد الناصر كان معجباً بمعتوه سوريّا أديب الشيشكلي الذي قصف شعبه بالطيران. كان ينوي تقليده هنا في مصر. نحن سنتحرّك بالعكس تماماً: سنشجّع اللبنانيّين على تطوير نموذجهم البرلمانيّ وتعدّديّتهم الطائفيّة، فهذا مكسب للمنطقة عموماً. كذلك سنحاول إقناع الأنظمة المَلكيّة في طرابلس وعمّان وبغداد والرياض بالتحوّل التدريجيّ إلى ملكيّات دستوريّة، وأعتقد أنّهم فهموا الدرس المصريّ أو أنّهم مستعدّون للحوار حول هذه المسألة”.
ويبدو أنّ فوزي موافق بالكامل على ما سمعه من نجيب. لقد صرّح لدى انفضاض اللقاء، والسعادة طافحة في وجهه، بأنّ “مصر ومنطقة الشرق الأوسط مرشّحتان لدخول مرحلة من الاستقرار والازدهار غير مسبوقة منذ قرون”.

[video_player link=””][/video_player]