fbpx
ساهموا في دعم الإعلام المستقل و الجريء!
ادعموا درج

فيلم “أرزة”: الكوميديا كأداة مقاومة في لبنان

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

يقدم فيلم “أرزة” نوعاً ضرورياً تحتاجه السينما العربية، لأنه يتعامل مع المشاهدين بتواضع، ولا يحتاج إلى افتراض أن مُتفرجيه هم مجموعة من المثقفين المُحتملين، عليهم أن يُدركوا دواخل الأزمات المجتمعية عبر الاستنطاق القاسي للمأساة.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

حضرتُ الفيلم اللبناني “أرزة”، حفلة التاسعة مساءً في مهرجان القاهرة السينمائي، آملاً بمُشاهدة فيلم يخفف ثِقل موضوعات أفلام اليوم. في قاعة السينما، استعدتُ حيوية ورغبة كبرتا بسرعة في ظل البهجة الجماعية التي حققها الفيلم، أدركت سريعاً قيمة الكوميديا في تكوين بُعد حيوي للجماعة، وعلى مستوى أكثر قيمية فهمت أن الواقع مهما تعاظمت مأساته التاريخية، يُمكنه أن يتراجع جُزئياً وتتفكّك حاكميّته أمام خفّة الضحك التي يُمكن أن يحققها فيلم لذيذ في قاعة السينما.

بدا حضور “أرزة” في مهرجان القاهرة ذا شكلٍ مُغاير، لأنه فيلم يعرف حدوده جيداً ويغذّي مادته في إطارها، ينأى عن الجديّة ويرضى بفئة الأفلام “اللذيذة” التي تُنزع عنها، عادةً، صفة الجودة والتحديق القاسي في عين الواقع. لكننا في السينما العربية نحتاج الى مثل هذه الأفلام بشكلٍ دوري، فهي على الأقل أفضل من استهلاك ما هو شائع على منصات التواصل الاجتماعي وتحويله إلى مواد كوميدية ثقيلة الدم، أو مجموعة من مصادر السُخرية الآمنة والمُفارقة للواقع، التي تتلاشى سريعاً مثلما تتكوّن سريعاً.

يبدأ الفيلم بالشارع أولاً، تسير فيه أرزة (ديامان بو عبود) التي يعود اسمها إلى شجر الأرز، في إشارة مباشرة الى لبنان. تعيش أرزة على هامش المدينة، مع ذكرى لرجلٍ غائب مُنذ ميلاد ابنها، ومع أختها الكبرى التي تعيش على أمل عودة زوجها الذي لا نعرف أين غاب ولماذا. يرتكز الفيلم على أساس أنثوي خالص، إذ لا يُحمّل حضور الابن كِنان (جنيد زين الدين) أي مركز عائلي، بل يضع له طموحات جيلية تجعل رؤيته للحياة والواقع المُحيط به قائمة على الهروب والبحث عن أي وسيلة للخروج من لبنان. بعكس والدته وخالته ليلى (بيتي توتل) المتعلّقتين بالمكان، فكل محاولاتهما تقوم على حركات ثابتة ومحدودة لا تتجاوز حدود الجُغرافيا. 

تبدو بيروت مع بداية الفيلم، كسجن اختياري، فرص العيش فيها محدودة لا تُتاح للجيل الأكبر، والنساء منه تحديداً، والصراع يقوم على تدبير آليات للبقاء، بينما مُستوى طموح أبعد من ذلك بكثير، خارج إطار الحياة.

تشكّل المناقيش والمخبوزات التي تصنعها أرزة ركيزة العيش الأساسية في المنزل، يتولّى الولد كِنان مهمة توصيلها، أما ليلى فمهووسة بذاتها، بإبقاء جسدها حيّاً ليستقبل زوجها وقتما يعود. تُحاول أرزة إقناع ليلى ببيع ذهب عُرسها لشراء دراجة نارية تُسهّل عملية توصيل الطلبات وترفع من المردود المادي للمشروع المنزلي، وحينما ترفض ليلى، تسرق أرزة الذهب، تبيعه وتدفع قيمته مُقدّم دراجة نارية، يقضي بها كِنان قليلًا من وقته في توصيل الطلبات، وكثيراً منه في رفقة حبيبته “دينا”.

تُسرق الدراجة من كِنان في ظلِ ظهور علامات تعرّفنا بطبيعة المدينة، حيث المجتمع مُتفكك ومُنقسم بين التظاهرات والرغبة في الرحيل. لكن أرزة، وبحُكم محدودية حياتها، تجد أن استعادة الدراجة هي الأساس، فتخوض رحلة تتقفى فيها أثر المدينة وتعدّديتها الطائفية، كما تتكشّف تدريجياً علاقتها المُركّبة بعائلتها الصغيرة.

الكوميديا التي نحتاجها

يقتبس “أرزة” مادته الحكائية من فيلم “سارقو الدراجات”، إحدى العلامات البارزة في موجة الواقعية الجديدة في إيطاليا. يبدو هذا الاقتباس مقبولاً عندما ننظُر إلى طبيعة التشابه بين عالمي صناعة الفيلم من دون الحاجة إلى مُقارنتهما سينمائياً. فـ”سارقو الدراجات” نتج من أزمة ما بعد الحرب العالمية الثانية، حيث كان المجتمع الإيطالي مُفرّغاً من المعنى، مُفككاً وفقيراً وبلا بنية تحتية. أما لبنان فيعيش حالياً على أصداء تداعٍ اقتصادي وتفكك في بنية المُجتمع، فضلًا عن رائحة الحرب التي تفوح من تاريخ المكان ومن حاضره.  

اختار “أرزة” المُشتركات الأساسية نفسها مع “سارقو الدراجات”، هُناك دلالة على شيء مادي يضيع، يمثّل أساساً ما للعيش، وتتبع ذلك رحلة في المكان تقوم على تبادل المُكاشفة بين شخصيات الرحلة، وعلى استنطاق أبعاد جديدة للعلاقة مع المكان.

C:\Users\islam\Desktop\530275_0.jpg

ثمّة تحوّل بسيط أضفى على الفيلم تحديثاً ما، جانباً  له خصوصية تجعله يبدأ من الاقتباس، لكنه يتحوّل عبر الأساس الكوميدي خلال البحث عن الدراجة، إلى رحلة لذيذة من الكشف والمُراوغة. تحضر الكوميديا هنا في أبسط أشكالها، إذ تدور على ألسنة شديدة العادية، شخصيات يسهل أن تجد لها أشباهاً كثيرة.  

حينما يمثّل فقد الدراجة في الفيلم، فقداً لوضعية شريحة مجتمعية تريد عيشاً آمناً، تأخذ الكوميديا منحى متميزاً باعتبارها أساساً لرؤية هذا المجتمع، عبر تبسيط تعقيد التعددية الطائفية وسطح العداء العقدي. تنطلقُ الكوميديا من أساس اجتماعي، لا يحوّل الشخصيات إلى أداءات كاريكاتورية، بل نضحك على مواقف وسلوكيات، أخلاقيات وأفعال مُقتبسة من الجسد الاجتماعي لما هو مُعاش بشكل عادي ومرتجل. 

وعندما تُطرد أرزة من دكّانة دائنها لشراء الدراجة، لا تجد بديلاً عن استعادتها، فتخوض رحلة عابرة للتاريخ والجُغرافيا معاً، تتصاعد فيها المشاهد الكوميدية في المساحات التي لا يُفضّل تناولها على نحوٍ واقعي جاد. تلجأ أرزة إلى كشك صغير يبيع الأكسسوارات، تشتري منه في البداية غطاء رأس وقميصاً، لأنها علمت أن هُناك أحد التجار السُنّيين، يشتري الدراجات المسروقة. ومن الكشك نفسه، تشتري أرزة سلسلة سيف الإمام علي حينما تذهبُ إلى تاجر آخر شيعي، صليب ماروني  وآخر كاثوليكي، لكل طائفة شكليّاتها التي ترتديها أرزة سريعاً ثم تنزعها سريعاً لإيجاد الدراجة.

خلال الحركة الكثيفة عبر المكان، يُضفي مناخ “أفلام الطريق” حيويةً على تطوّر الفيلم زمنياً، كما يتكشّف المكان جُزئياً في أقسى صوره السلبية. بيروت تتمثّل في شوارع حيوية وملوّنة، لكنها تمتلئ بنزعات استهلاكية يغرق فيها أشخاص، تقوم على البقاء. والمكان بدوره منزوع القدرة على فِعل أي شيء، نرى شوارع مستسلمة، لا تُلقي بالهدايا أو المُصادفات الدرامية، فقط من وقتٍ الى آخر تعكس كارثة مُرتجلة تنتجها حاجة بشرية.

C:\Users\islam\Desktop\Screenshot (128).png

لم يطمح الفيلم إلى عكس هذا الواقع المأزوم من خلال زاوية الواقع، ومع التركيز على الكوميديا سقط الكثير من سطوته، ومن المساحات المحجوبة فيه. في الفيلم تطعيمات لونية شديدة الحيوية، وكذلك الشوارع، فرغم سلبيتها فإنها تنطوي على تنويعات جمالية، كأنها تقول إن فيها شيئاً  ما زال حياً، كذلك الأداء المميز لشخصية أرزة. بوجه جميل وملامح مُسالمة ودودة، تستقبلُ الأشياء بعناد طفولي، تُعطي لنفسها الحقوق البشرية المُرتجلة ذاتها، التي تُرى في البيت ولا تُرى على شاشة السينما العربية، حيثُ الضحك والبكاء، مُباركة الأمومة والرغبة في إلقائها بعيداً، جميعها نشاطات تأتي مرة واحدة، من دون وعي سببي بها، لكنها في الوقت ذاته تبدو مُبرّرة من أصالة التفاعل معها.

بقدرِ ما يعكس التوظيف الذكي للكوميديا، من قيمةٍ فنيّة وجمالية للفيلم، فإنه يعكس أيضاً إمكانية الذكاء في التحدّث من خلال إصابة الهدف عبر المُراوغة، فليس الواقع كُله يُكشف بالتحديق العنيد فيه، كما أن الاشتباك مع الواقع عبر أساس الضحك والسُخرية التي تنطلق من تجاوز حدود المحظور، هو بدوره كشف عميق للواقع. أحتاج في هذا السياق إلى العودة مُجدداً الى قاعة السينما، ورصد تصاعد التفاعل مع رحلة أرزة. 

في بداية الفيلم، بدى الضحك قائماً على المشاهد الساخرة، تحديداً حينما كانت أرزة تعود مع كِنان إلى كشك الأكسسوارات، ومع تطوّر الأحداث، تحوّل التفاعل إلى شيء أقرب إلى التماهي، ليس مع موقع أرزة الأمومي والشخصي النبيل فقط، بل أيضاً مع موقعها من المُجتمع، رُبما لذلك حفلت القاعة بتصفيق جماعي وحفاوة لحظية حينما حصلت على ما تأمله من الحكاية، أن ترى هذه السيدة الجميلة تسير بدراجتها في المدينة وتبتسم.

C:\Users\islam\Desktop\AA1uc3Or.jpg

البساطة الفاعلة

حينما بدأ الفيلم وذُكر اسم “أرزة” (إخراج ميرا شعيب) توقّعت أنني أمام فيلم هزيل، حاول أن يشتبك مع الواقع لكنه تاه فيه، كبر هذا التوقّع عندما رأيت أرزة تحضّر مخبوزات  لبنانية وتعيش من بيعها، بدت لي هذه الإشارات أدوات دلالية مُباشرة ومحدودة، حتى تحوّل الفِعل الوظيفي للأكل إلى أداة درامية، ملكة تُضفي ميزة عملية على مفاوضات أرزة في الشارع.

أينما تسير أرزة، تحمل في يدها علبة من مُنتجاتها المنزلية، تفتح بها أي حوار تتعثر فيه. يضع الغريب يده ويسحب قطعة ويأكل، فيزول التخوّف سريعاً وتستدل أرزة على وسيلة أقرب للحصول على دراجتها. يأخذ الأكل هُنا منحى أولياً، يجعله أكبر من  مدلولات شهوة الطعام وما يمتد خلالها من جشع وطمع وإباحة. ما تحضره أرزة ليس وجبة، مُجرد تصبيرة لن تموت لو تركتها، لذلك تأكلها بمزاج وحُب في فِعل الأكل، وليس في وظيفته، فيتحول التعاطي بين أرزة وآكلي مخبوزاتها إلى نشاطٍ من الود، ويتحول الخلاف الطائفي المُسلّم به إلى جليد يُمكن كسره بذكاء.

هناك تناوُل آخر للأكل أثناء التحضير باعتباره مهارة، وكذلك باعتباره عملاً. في عز أزمتها، تقرر أرزة أن تشتري عجّانة حديثة تتقن من خلالها عجن المخبوزات، تنظُر إليها أثناء عملها بحب ساذج، باعتبارها تحققاً ما ولو بسيط في طبيعة عملها، وهو شعور مرتبط بالأساس بالعمل القهري، الذي يبدأ بالحب وينتهي بالروتين اليومي المُمل، يحتاج الى تجدّد من وقت الى آخر عبر إضافات بسيطة. يظهر المطبخ في الفيلم باعتباره فضاء من التصالح والهدوء، يستطيع أن يحصل فيه كنان على ورقة مالية من والدته أو خالته، وتخبئ أرزة فيه مدخراتها ومشاعرها، حتى أوقات التصالح والحميمية بينها وبين أختها وإبنها، ظهرت أيضاً في المطبخ.

C:\Users\islam\Desktop\أرزة .png

يقدم فيلم “أرزة” نوعاً ضرورياً تحتاجه السينما العربية، لأنه يتعامل مع المشاهدين بتواضع، ولا يحتاج إلى افتراض أن مُتفرجيه هم مجموعة من المثقفين المُحتملين، عليهم أن يُدركوا دواخل الأزمات المجتمعية عبر الاستنطاق القاسي للمأساة.

هذا بدوره نوع مهم، لكن بساطة حكاية أرزة توصلنا الى طريق ضروري وطويل، من خلال اختصارات سهلة وفاعلة، وهي أن يتم الاشتباك مع المجتمع ونقد أكواده الأخلاقية والدينية، من خلال عرض الحكاية عبر كوميديا ذكية تخرج من المكان.

وهُنا ليس على المُشاهد بالضرورة أن يشتبك مع الفيلم نظرياً، فأمام حكاية تقوم على العادي وتعكسه بتطعيمات مُسليّة، سيكون كافياً أن تُدرك هذا الشعور الجميل بالقبول تجاه الآخر، مهما توارثتما من اختلافات، وأن تجد أشباهاً لك في الأزمات.  

مصطفى إبراهيم - حقوقي فلسطيني | 24.01.2025

فرح أهل غزة المؤقّت والبحث عما تبقّى من ذاتهم

المفروض أن يعود النازحون من الجنوب الى مدينة غزة وشمالها حسب اتفاق وقف إطلاق النار، وهي المرحلة الثانية من الحرب، والبحث عما تبقى من ممتلكاتهم وأملاكهم وحياتهم. في الوقت ذاته، يبحث الذين هُدمت بيوتهم عن أماكن لإيوائهم أو يسعون الى استئجار شقق والبدء من جديد. هي "حرب" جديدة قد تستمر سنوات من إعادة ترميم الذات…
03.12.2024
زمن القراءة: 7 minutes

يقدم فيلم “أرزة” نوعاً ضرورياً تحتاجه السينما العربية، لأنه يتعامل مع المشاهدين بتواضع، ولا يحتاج إلى افتراض أن مُتفرجيه هم مجموعة من المثقفين المُحتملين، عليهم أن يُدركوا دواخل الأزمات المجتمعية عبر الاستنطاق القاسي للمأساة.

حضرتُ الفيلم اللبناني “أرزة”، حفلة التاسعة مساءً في مهرجان القاهرة السينمائي، آملاً بمُشاهدة فيلم يخفف ثِقل موضوعات أفلام اليوم. في قاعة السينما، استعدتُ حيوية ورغبة كبرتا بسرعة في ظل البهجة الجماعية التي حققها الفيلم، أدركت سريعاً قيمة الكوميديا في تكوين بُعد حيوي للجماعة، وعلى مستوى أكثر قيمية فهمت أن الواقع مهما تعاظمت مأساته التاريخية، يُمكنه أن يتراجع جُزئياً وتتفكّك حاكميّته أمام خفّة الضحك التي يُمكن أن يحققها فيلم لذيذ في قاعة السينما.

بدا حضور “أرزة” في مهرجان القاهرة ذا شكلٍ مُغاير، لأنه فيلم يعرف حدوده جيداً ويغذّي مادته في إطارها، ينأى عن الجديّة ويرضى بفئة الأفلام “اللذيذة” التي تُنزع عنها، عادةً، صفة الجودة والتحديق القاسي في عين الواقع. لكننا في السينما العربية نحتاج الى مثل هذه الأفلام بشكلٍ دوري، فهي على الأقل أفضل من استهلاك ما هو شائع على منصات التواصل الاجتماعي وتحويله إلى مواد كوميدية ثقيلة الدم، أو مجموعة من مصادر السُخرية الآمنة والمُفارقة للواقع، التي تتلاشى سريعاً مثلما تتكوّن سريعاً.

يبدأ الفيلم بالشارع أولاً، تسير فيه أرزة (ديامان بو عبود) التي يعود اسمها إلى شجر الأرز، في إشارة مباشرة الى لبنان. تعيش أرزة على هامش المدينة، مع ذكرى لرجلٍ غائب مُنذ ميلاد ابنها، ومع أختها الكبرى التي تعيش على أمل عودة زوجها الذي لا نعرف أين غاب ولماذا. يرتكز الفيلم على أساس أنثوي خالص، إذ لا يُحمّل حضور الابن كِنان (جنيد زين الدين) أي مركز عائلي، بل يضع له طموحات جيلية تجعل رؤيته للحياة والواقع المُحيط به قائمة على الهروب والبحث عن أي وسيلة للخروج من لبنان. بعكس والدته وخالته ليلى (بيتي توتل) المتعلّقتين بالمكان، فكل محاولاتهما تقوم على حركات ثابتة ومحدودة لا تتجاوز حدود الجُغرافيا. 

تبدو بيروت مع بداية الفيلم، كسجن اختياري، فرص العيش فيها محدودة لا تُتاح للجيل الأكبر، والنساء منه تحديداً، والصراع يقوم على تدبير آليات للبقاء، بينما مُستوى طموح أبعد من ذلك بكثير، خارج إطار الحياة.

تشكّل المناقيش والمخبوزات التي تصنعها أرزة ركيزة العيش الأساسية في المنزل، يتولّى الولد كِنان مهمة توصيلها، أما ليلى فمهووسة بذاتها، بإبقاء جسدها حيّاً ليستقبل زوجها وقتما يعود. تُحاول أرزة إقناع ليلى ببيع ذهب عُرسها لشراء دراجة نارية تُسهّل عملية توصيل الطلبات وترفع من المردود المادي للمشروع المنزلي، وحينما ترفض ليلى، تسرق أرزة الذهب، تبيعه وتدفع قيمته مُقدّم دراجة نارية، يقضي بها كِنان قليلًا من وقته في توصيل الطلبات، وكثيراً منه في رفقة حبيبته “دينا”.

تُسرق الدراجة من كِنان في ظلِ ظهور علامات تعرّفنا بطبيعة المدينة، حيث المجتمع مُتفكك ومُنقسم بين التظاهرات والرغبة في الرحيل. لكن أرزة، وبحُكم محدودية حياتها، تجد أن استعادة الدراجة هي الأساس، فتخوض رحلة تتقفى فيها أثر المدينة وتعدّديتها الطائفية، كما تتكشّف تدريجياً علاقتها المُركّبة بعائلتها الصغيرة.

الكوميديا التي نحتاجها

يقتبس “أرزة” مادته الحكائية من فيلم “سارقو الدراجات”، إحدى العلامات البارزة في موجة الواقعية الجديدة في إيطاليا. يبدو هذا الاقتباس مقبولاً عندما ننظُر إلى طبيعة التشابه بين عالمي صناعة الفيلم من دون الحاجة إلى مُقارنتهما سينمائياً. فـ”سارقو الدراجات” نتج من أزمة ما بعد الحرب العالمية الثانية، حيث كان المجتمع الإيطالي مُفرّغاً من المعنى، مُفككاً وفقيراً وبلا بنية تحتية. أما لبنان فيعيش حالياً على أصداء تداعٍ اقتصادي وتفكك في بنية المُجتمع، فضلًا عن رائحة الحرب التي تفوح من تاريخ المكان ومن حاضره.  

اختار “أرزة” المُشتركات الأساسية نفسها مع “سارقو الدراجات”، هُناك دلالة على شيء مادي يضيع، يمثّل أساساً ما للعيش، وتتبع ذلك رحلة في المكان تقوم على تبادل المُكاشفة بين شخصيات الرحلة، وعلى استنطاق أبعاد جديدة للعلاقة مع المكان.

C:\Users\islam\Desktop\530275_0.jpg

ثمّة تحوّل بسيط أضفى على الفيلم تحديثاً ما، جانباً  له خصوصية تجعله يبدأ من الاقتباس، لكنه يتحوّل عبر الأساس الكوميدي خلال البحث عن الدراجة، إلى رحلة لذيذة من الكشف والمُراوغة. تحضر الكوميديا هنا في أبسط أشكالها، إذ تدور على ألسنة شديدة العادية، شخصيات يسهل أن تجد لها أشباهاً كثيرة.  

حينما يمثّل فقد الدراجة في الفيلم، فقداً لوضعية شريحة مجتمعية تريد عيشاً آمناً، تأخذ الكوميديا منحى متميزاً باعتبارها أساساً لرؤية هذا المجتمع، عبر تبسيط تعقيد التعددية الطائفية وسطح العداء العقدي. تنطلقُ الكوميديا من أساس اجتماعي، لا يحوّل الشخصيات إلى أداءات كاريكاتورية، بل نضحك على مواقف وسلوكيات، أخلاقيات وأفعال مُقتبسة من الجسد الاجتماعي لما هو مُعاش بشكل عادي ومرتجل. 

وعندما تُطرد أرزة من دكّانة دائنها لشراء الدراجة، لا تجد بديلاً عن استعادتها، فتخوض رحلة عابرة للتاريخ والجُغرافيا معاً، تتصاعد فيها المشاهد الكوميدية في المساحات التي لا يُفضّل تناولها على نحوٍ واقعي جاد. تلجأ أرزة إلى كشك صغير يبيع الأكسسوارات، تشتري منه في البداية غطاء رأس وقميصاً، لأنها علمت أن هُناك أحد التجار السُنّيين، يشتري الدراجات المسروقة. ومن الكشك نفسه، تشتري أرزة سلسلة سيف الإمام علي حينما تذهبُ إلى تاجر آخر شيعي، صليب ماروني  وآخر كاثوليكي، لكل طائفة شكليّاتها التي ترتديها أرزة سريعاً ثم تنزعها سريعاً لإيجاد الدراجة.

خلال الحركة الكثيفة عبر المكان، يُضفي مناخ “أفلام الطريق” حيويةً على تطوّر الفيلم زمنياً، كما يتكشّف المكان جُزئياً في أقسى صوره السلبية. بيروت تتمثّل في شوارع حيوية وملوّنة، لكنها تمتلئ بنزعات استهلاكية يغرق فيها أشخاص، تقوم على البقاء. والمكان بدوره منزوع القدرة على فِعل أي شيء، نرى شوارع مستسلمة، لا تُلقي بالهدايا أو المُصادفات الدرامية، فقط من وقتٍ الى آخر تعكس كارثة مُرتجلة تنتجها حاجة بشرية.

C:\Users\islam\Desktop\Screenshot (128).png

لم يطمح الفيلم إلى عكس هذا الواقع المأزوم من خلال زاوية الواقع، ومع التركيز على الكوميديا سقط الكثير من سطوته، ومن المساحات المحجوبة فيه. في الفيلم تطعيمات لونية شديدة الحيوية، وكذلك الشوارع، فرغم سلبيتها فإنها تنطوي على تنويعات جمالية، كأنها تقول إن فيها شيئاً  ما زال حياً، كذلك الأداء المميز لشخصية أرزة. بوجه جميل وملامح مُسالمة ودودة، تستقبلُ الأشياء بعناد طفولي، تُعطي لنفسها الحقوق البشرية المُرتجلة ذاتها، التي تُرى في البيت ولا تُرى على شاشة السينما العربية، حيثُ الضحك والبكاء، مُباركة الأمومة والرغبة في إلقائها بعيداً، جميعها نشاطات تأتي مرة واحدة، من دون وعي سببي بها، لكنها في الوقت ذاته تبدو مُبرّرة من أصالة التفاعل معها.

بقدرِ ما يعكس التوظيف الذكي للكوميديا، من قيمةٍ فنيّة وجمالية للفيلم، فإنه يعكس أيضاً إمكانية الذكاء في التحدّث من خلال إصابة الهدف عبر المُراوغة، فليس الواقع كُله يُكشف بالتحديق العنيد فيه، كما أن الاشتباك مع الواقع عبر أساس الضحك والسُخرية التي تنطلق من تجاوز حدود المحظور، هو بدوره كشف عميق للواقع. أحتاج في هذا السياق إلى العودة مُجدداً الى قاعة السينما، ورصد تصاعد التفاعل مع رحلة أرزة. 

في بداية الفيلم، بدى الضحك قائماً على المشاهد الساخرة، تحديداً حينما كانت أرزة تعود مع كِنان إلى كشك الأكسسوارات، ومع تطوّر الأحداث، تحوّل التفاعل إلى شيء أقرب إلى التماهي، ليس مع موقع أرزة الأمومي والشخصي النبيل فقط، بل أيضاً مع موقعها من المُجتمع، رُبما لذلك حفلت القاعة بتصفيق جماعي وحفاوة لحظية حينما حصلت على ما تأمله من الحكاية، أن ترى هذه السيدة الجميلة تسير بدراجتها في المدينة وتبتسم.

C:\Users\islam\Desktop\AA1uc3Or.jpg

البساطة الفاعلة

حينما بدأ الفيلم وذُكر اسم “أرزة” (إخراج ميرا شعيب) توقّعت أنني أمام فيلم هزيل، حاول أن يشتبك مع الواقع لكنه تاه فيه، كبر هذا التوقّع عندما رأيت أرزة تحضّر مخبوزات  لبنانية وتعيش من بيعها، بدت لي هذه الإشارات أدوات دلالية مُباشرة ومحدودة، حتى تحوّل الفِعل الوظيفي للأكل إلى أداة درامية، ملكة تُضفي ميزة عملية على مفاوضات أرزة في الشارع.

أينما تسير أرزة، تحمل في يدها علبة من مُنتجاتها المنزلية، تفتح بها أي حوار تتعثر فيه. يضع الغريب يده ويسحب قطعة ويأكل، فيزول التخوّف سريعاً وتستدل أرزة على وسيلة أقرب للحصول على دراجتها. يأخذ الأكل هُنا منحى أولياً، يجعله أكبر من  مدلولات شهوة الطعام وما يمتد خلالها من جشع وطمع وإباحة. ما تحضره أرزة ليس وجبة، مُجرد تصبيرة لن تموت لو تركتها، لذلك تأكلها بمزاج وحُب في فِعل الأكل، وليس في وظيفته، فيتحول التعاطي بين أرزة وآكلي مخبوزاتها إلى نشاطٍ من الود، ويتحول الخلاف الطائفي المُسلّم به إلى جليد يُمكن كسره بذكاء.

هناك تناوُل آخر للأكل أثناء التحضير باعتباره مهارة، وكذلك باعتباره عملاً. في عز أزمتها، تقرر أرزة أن تشتري عجّانة حديثة تتقن من خلالها عجن المخبوزات، تنظُر إليها أثناء عملها بحب ساذج، باعتبارها تحققاً ما ولو بسيط في طبيعة عملها، وهو شعور مرتبط بالأساس بالعمل القهري، الذي يبدأ بالحب وينتهي بالروتين اليومي المُمل، يحتاج الى تجدّد من وقت الى آخر عبر إضافات بسيطة. يظهر المطبخ في الفيلم باعتباره فضاء من التصالح والهدوء، يستطيع أن يحصل فيه كنان على ورقة مالية من والدته أو خالته، وتخبئ أرزة فيه مدخراتها ومشاعرها، حتى أوقات التصالح والحميمية بينها وبين أختها وإبنها، ظهرت أيضاً في المطبخ.

C:\Users\islam\Desktop\أرزة .png

يقدم فيلم “أرزة” نوعاً ضرورياً تحتاجه السينما العربية، لأنه يتعامل مع المشاهدين بتواضع، ولا يحتاج إلى افتراض أن مُتفرجيه هم مجموعة من المثقفين المُحتملين، عليهم أن يُدركوا دواخل الأزمات المجتمعية عبر الاستنطاق القاسي للمأساة.

هذا بدوره نوع مهم، لكن بساطة حكاية أرزة توصلنا الى طريق ضروري وطويل، من خلال اختصارات سهلة وفاعلة، وهي أن يتم الاشتباك مع المجتمع ونقد أكواده الأخلاقية والدينية، من خلال عرض الحكاية عبر كوميديا ذكية تخرج من المكان.

وهُنا ليس على المُشاهد بالضرورة أن يشتبك مع الفيلم نظرياً، فأمام حكاية تقوم على العادي وتعكسه بتطعيمات مُسليّة، سيكون كافياً أن تُدرك هذا الشعور الجميل بالقبول تجاه الآخر، مهما توارثتما من اختلافات، وأن تجد أشباهاً لك في الأزمات.