fbpx
ساهموا في دعم الإعلام المستقل و الجريء!
ادعموا درج

فيلم “ذاكرة جسد”: الجنسانية المُستكشفة والجنسانية الموّجهة

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

“من الواضح أن ما يقوم به ممارسو العلاجات التصحيحية هو تعليم نظرياتهم لأشخاص غير سعيدين بمثليتهم الجنسية وتحضهم هذه التعليمات على التوقف عن التورط في ممارسات مثلية، والحفاظ على سلوك يتطابق مع جنس الشخص، وتشجيع النشاط الجنسي المغاير”.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

في فيلم “ذاكرة جسد”، من حسية الستارة تخرج اليد الأنثوية لتلمس وجه الفتاة الأخرى المتأملة بجانبها، هي محاولة في الصورة السينمائية لرسم المشاعر المثلية. وكامتداد طبيعي للإحساس بشعرية الوجود، كملمس الستارة الناعم على الوجه، تبرز لمسة المثلية الأولى بين الشابتين. في المشاهد الأولى نرى اكتشاف جسد الأنثى للأخرى، المغامرة المشتركة، المداعبات الحسية الأولى بين فتاتين تتقاربان، القبلة الفموية الأولى، ثم سلسلة لقطات تركز على تعابير الوجه الأنثوي في تلك اللحظات والمشاعر الحميمية.

يحمل الفيلم عنوانين الأول بالإنكليزية وهو Rupture Divine، أي “انقطاع الإلهي، وتدنيس المقدس”. والمقدس هنا كما سنرى في الفيلم، هو مشاعر الشهوة التي تنمو بحرية، مشاعر المثلية بين جسدين يستمتعان باللذة في عالم الشهوة الحسية. والعنوان باللغة العربية “ذاكرة جسد” ما يحيل إلى عناوين أعمال أدبية عربية تناولت الحسية، والجنسانية في موضوعاتها وخصوصاً “ذاكرة الجسد” 1993، و “فوضى الحواس” 1997 للروائية الجزائرية أحلام مستغانمي. الفيلم من إخراج: ملاك مروة، ومن تمثيل: مايا داغر، ملينا لوك، ماريا سكياس.

جسد العري الإنساني وجسد العري الفني

تخلق الفنانة في فيلمها عالمين، الأول عالم الحسية المثلية بين جسدي الممثلتين، وهو عالم الجمال والفن، فتحضر فيه لوحات من رسومات العري في فنون النهضة الإيطالية، أما الخلفية الموسيقية فهي من القداس لموزارت. إن لقاء جسد الشابتين يتم تحت براويز لوحات كبيرة من النهضة الإيطالي، ويبرز جسد الفتاتين لتشكيل امتداد لمضامين اللوحة في واقع اللقطة السينمائية. لا تجسد الأجساد الرومانية معنى جمالياً عند المثلية بين النساء فقط، ففي نصه آلام فتى مثلي الجنس وعذاباته، يكتب فيديل سبيتي عن انجذابه إلى تماثيل الرجال الرومانية: “رجال الصور القديمة التي يبدون فيها شبه عراة كاشفين عن عضلات متوسطة الحجم وأجساد حليبية نضرة، يثيرون فيّ رغبة ما أيضاً، وخصوصاً رسوم الكنائس الرومانية ومنحوتاتها. كنت أستغرب ألا تثير مثل هذه الأجساد الشبان الآخرين من أقراني”.

في هذا العالم الجمالي، يتداخل العري الإنساني والعري الفني. في واحدة من اللقطات، نجد الممثلة في وضعية الالتفات نحو الخلف، تنظر إلى الكاميرا مباشرةً، في حين يلتحم عريها بعري الشخصيات المرسومة في اللوحة الضخمة من خلفها، عري الجسد الإنساني وعري الجسد الفني يشكل وحدة متكاملة في رؤية المخرجة، وكذلك هي تركز بهذا النوع من اللقطات على الجماليات التي يتمتع بها الجسد الإنساني الحقيقي الذي تجعله بمصاف اللوحات الفنية. إن العالم الجنساني المثلي بين فتاتين في طور الاكتشاف هو العالم الجمالي في الفيلم، عالم البراءة واللذة، لقطات قريبة على تفاصيل الوجوه توحي بالشعرية والبراءة، وحركة الكاميرا توحي باللذة الحسية.

تكمن أهمية نص “مشاهدات مثلية خاصة من هنا وهناك”، 2008 بأنه ينقل تجربة كاتبه الغيرية مها حسن في اكتشافها عوالم المثلية الرجالية والنسائية، وهي تحافظ حتى نهاية هذه المغامرة- النص على رؤيتها كغيرية. لكن المثير للانتباه في النص، أن هذه الكاتبة الغيرية تشعر بالراحة والأمان والحرية في العوالم المثلية الرجالية كما هو الحال مع المثلية النسائية. في النص تصف تفاصيل مشاعرها في العالم المثلي الرجالي، تصف شعورها بالصداقة والراحة بكونها ليست موضوعاً جنسياً، وكذلك في العالم المثلي النسائي التي تكتب عن لقاءاتها الأولى فيه، فإنها تشعر بأجساد نساء حرة، قادرة على الاختيار. الاختيار الذاتي هو المفهوم الذي يدافع عنه فيلم “ذاكرة جسد”.

إقرأوا أيضاً:

عالم الرغبة الموّجهة، الجسد المريض

في مقابل العالم الأول المثلي النسائي الجمالي، أي عالم الشهوة الحرة، يحضر العالم الثاني الذي يشكل النقيض، هو عالم المستشفى. بالتقطيع البصري تظهر مجموعة من أدوات الطبية المستعملة في المستشفى. يتنقل بنا الفيلم تالياً إلى لقطة للممثلة هناك، لقد غاب الجمال العاري ليحل محله الجسد المريض، القيء، العالم الطبي الصارم والذي يتعامل مع الجسد بالمفهوم العلاجي. يظهر هذا العالم حين تعلم والدة الشخصية عن ميولها المثلية يصور المشهد استحالة استقبال الأم المعلومة، وهي تسعى عبر سلسلة محاولات لتوجيه الرغبة الجنسية لابنتها، إنه عالم الشهوة الموجهة.

تعنف الأم ابنتها، ننتقل من عالم الإيروتيكية الحسية إلى الضرب، تجبر الأم ابنتها على الدخول في الصورة النمطية للأنثى، تجبرها على وضع مستحضرات التجميل، وتشرع في رحلة علاجها في المستشفى؟ في الفيلم تعتقد الأم بأن المثلية انحراف في الرغبة يمكن تقويمه، وهي النظرة الشائعة التي كرست حولها دراسات كثيرة. 

في عامي 1970 و 1971، قام نشطاء مثليون بالاحتجاج على إدراج “الجمعية الأميركية للطب النفسي” للمثلية الجنسية في قائمتها لأمراض الاضطرابات العقلية. ونتيجة هذه الاحتجاجات، فوضت الجمعية لجنة علمية للتحقيق في هذا الأمر، وبعد سنتين من البحث توصلت إلى استنتاج بأن الدراسات التي تقول بأن المثلية الجنسية هي تباين طبيعي في ميول الإنسان الجنسية، هي دراسات أدق علمياً من تلك التي ترى أن المثلية الجنسية هي مرض. 

عام 1973 قدمت اللجنة توصية إلى “الجمعية الأمريكية للطب النفسي” بإزالة المثلية الجنسية من قائمتها لأمراض الاضطرابات العقلية. وبعد مدة قصيرة نشرت “الجمعية الأميركية للطب النفسي” نصاً ورد فيه: “إن المثلية الجنسية لا تقتضي ضمناً أي ضعف في تكوين الأحكام أو في التوازن أو في الجدارة أو في المقدرة الاجتماعية أو المهنية. لذلك فليكن معلوماً أن الجمعية الأميركية للطب النفسي تستنكر كل أشكال التمييز العامة والخاصة ضد مثليي الجنس”.

الشهوة المفروضة

في كتابها “الجنس الآخر”، تشرح سيمون دي بوفوار كيف أن الأم هي أكثر الشخصيات التي تلعب دوراً في إدخال ابنتها في الصورة النمطية، إنها ترغب لها أن تسير المسيرة نفسها، وتصل إلى النتائج نفسها التي وصلت إليها، وأحياناً تقف في طريق اختيارها أو تمردها قصداً حتى لا تكون ابنتها أكثر جرأة أو تمرّداً. وفي الفيلم، تصطحب ذكراً ليمارس الاستمناء أمام ابنتها في محاولة لتوليد الشهوة الغيرية، تمسك الأم بيد ابنتها لتمررها على الجسد الذكوري، الصدر، الجذع، والقضيب، يد الأم فوق يد الابنة بفرض توجيه التماهي بين كل من رغبتيهما. لكن بإمكاننا أن نقرأ عن الرغبة المفروضة على الإرادة كيف تؤثر سلباً وتولد شعوراً أعمق بالنفور، وذلك كما يصف نبيل الشخصية المثلية في رواية “رجل من ساتان”، صهيب أيوب حينما يضطر إلى مجامعة زوجته: “تقرفني رائحة جسمها بعد الجنس، بعرق إبطيها ومهبلها الساخن، ألمسها على مضض وأقبلها بتقزز، ثم أرمي نفسي على جسدها كمن يريد فعلته على عجل، آتياً بكل الرجال الذين حلمت بهم. لطالما تخيلت زوجتي جثة، نعم، هي جثة ولست أنا. كنت أخاف مع زوجتي أن أفقد عضواً مني أخاف أن أخرج ناقصاً، أتركها نائمة مع نقاط مني أكرهها من جسمي منثورة على صدرها المزموم”.

الجسد الشهواني والجسد العلاجي

إن عالم الشهوة الموجهة هو عالم بارد، بلا مشاعر، لقد غاب الجمال العاري ليحل محله الجسد المريض، القيء، العالم الطبي الصارم والذي يتعامل مع الجسد بالمفهوم العلاجي. نشاهد جسداً موصولاً إلى الأجهزة الطبية، مرتبطاً بالمجسات المثبتة والمغروزة في مواضع متفرقة منه. وبينما نرى ما تراه الممثلة في ذاكرتها الحسية من صور للحبيبة في لحظات إغراء، تعود الكاميرا إلى المستشفى حيث تسري التيارات الكهربائية في الجسد المصاب بمرض، بحسب النظرة التقليدية السائدة. في اللقطة التالية، يدخل الأطباء قضيباً بلاستيكياً (ديلدو) بين فخذي الممثلة. إنه ترويض الشهوة مجدداً بالقوة، يحاول أصحاب المخطط العلاجي تنمية شهوة الممثلة إلى الذكور، بملامسة جسد الرجل العاري بمراقبة عملية استمنائه، وثم يلجأ الأسلوب العلاجي إلى الأدوات، القضيب البلاستيكي يخترق فرج الممثلة كأنه يجبرها على اشتهائه.

تقطع الكاميرا بين لحظات النشوة الجنسية المثلية المفعمة بالتعبير والانفعالات، وبين العذابات التي يسببها النظام العلاجي لجسد الممثلة، حيث تسود أصوات الآلام، والتشنجات والآلات. إنه الجسد الشهواني في مقابل الجسد العلاجي. فالجسد الشهواني جسد مستكشف، لا يعرف القواعد والقوانين حتى يجربها، وهو مرتبط بالإرادة الذاتية والمتعة الذاتية، بينما الجسد العلاجي هو عبارة عن قوانين طبية تخضع الجسد لفرضيات المحفزات والمثيرات، الأدوية والأدوات، الصعق والشفاء. وهذا ما يطلق عليه “العلاج التصحيحي” أو “علاج إعادة التوجيه الجنسي”. فتظهر العبارة الختامية للفيلم، البعد الاجتماعي والثقافي لموضوعته: “علاج إعادة التوجيه الجنسي ما زال يطبق حتى اليوم في لبنان”، وبالتالي، فإن الفيلم هو إدانة لعلاج إعادة التوجيه الجنسي، وإضافة إلى الجماليات والحكاية التي يرويها، يصنف الفيلم في خطابه الأخير هذا كعمل فني يلقي الضوء على الممارسات العلاجية بحق المثلية في لبنان.

إن عالم الشهوة الموجهة هو عالم بارد، بلا مشاعر، لقد غاب الجمال العاري ليحل محله الجسد المريض، القيء، العالم الطبي الصارم والذي يتعامل مع الجسد بالمفهوم العلاجي.

جنسانية الاختيار وجنسانية الإجبار

في لقاء معه أجراه طارق العريس عام 2006، يبين الدكتور الأميركي جاك دريشير أن العلاج التصحيحي أو العلاج التحويلي ممارسة ثانوية في بعض الحقول العلاجية التي تدعي معالجة المثلية الجنسية حتى الشفاء. لكن هذه الممارسة، ومن خلال استخدامها غير المناسب المعالجة العلمية لمآرب أيديولوجية، تتسبب حالياً في تدمير حياة الكثير من الرجال والنساء. ويبين الطبيب الأميركي أن هذا العلاج لا يدرس في البرامج السائدة للطب النفسي أو علم النفس أو برامج التدريب على العمل الاجتماعي والإرشادي: “والذين يمارسون هذا النوع من العلاج واقعون تحت تأثير:

 1 الاعتقاد بأن المثلية الجنسية هي مرض أو اختيار لا أخلاقي أو الاثنين معاً. 

2 أن سبب المثلية الجنسية إما التربية السيئة من قبل الأهالي أو التحرش الجنسي. 

3 أن الجنسية المثلية هي سلوك إدماني. 

4 أن العلاقات المثلية ليست قابلة للاستمرار. 

5 أن التغاير الجنسي هو السبيل الوحيد للتمتع بحياة شاملة ومرضية”.

ويضيف: “من الواضح أن ما يقوم به ممارسو العلاجات التصحيحية هو تعليم نظرياتهم لأشخاص غير سعيدين بمثليتهم الجنسية وتحضهم هذه التعليمات على التوقف عن التورط في ممارسات مثلية، والحفاظ على سلوك يتطابق مع جنس الشخص، وتشجيع النشاط الجنسي المغاير”.

إقرأوا أيضاً:

29.06.2021
زمن القراءة: 7 minutes

“من الواضح أن ما يقوم به ممارسو العلاجات التصحيحية هو تعليم نظرياتهم لأشخاص غير سعيدين بمثليتهم الجنسية وتحضهم هذه التعليمات على التوقف عن التورط في ممارسات مثلية، والحفاظ على سلوك يتطابق مع جنس الشخص، وتشجيع النشاط الجنسي المغاير”.

في فيلم “ذاكرة جسد”، من حسية الستارة تخرج اليد الأنثوية لتلمس وجه الفتاة الأخرى المتأملة بجانبها، هي محاولة في الصورة السينمائية لرسم المشاعر المثلية. وكامتداد طبيعي للإحساس بشعرية الوجود، كملمس الستارة الناعم على الوجه، تبرز لمسة المثلية الأولى بين الشابتين. في المشاهد الأولى نرى اكتشاف جسد الأنثى للأخرى، المغامرة المشتركة، المداعبات الحسية الأولى بين فتاتين تتقاربان، القبلة الفموية الأولى، ثم سلسلة لقطات تركز على تعابير الوجه الأنثوي في تلك اللحظات والمشاعر الحميمية.

يحمل الفيلم عنوانين الأول بالإنكليزية وهو Rupture Divine، أي “انقطاع الإلهي، وتدنيس المقدس”. والمقدس هنا كما سنرى في الفيلم، هو مشاعر الشهوة التي تنمو بحرية، مشاعر المثلية بين جسدين يستمتعان باللذة في عالم الشهوة الحسية. والعنوان باللغة العربية “ذاكرة جسد” ما يحيل إلى عناوين أعمال أدبية عربية تناولت الحسية، والجنسانية في موضوعاتها وخصوصاً “ذاكرة الجسد” 1993، و “فوضى الحواس” 1997 للروائية الجزائرية أحلام مستغانمي. الفيلم من إخراج: ملاك مروة، ومن تمثيل: مايا داغر، ملينا لوك، ماريا سكياس.

جسد العري الإنساني وجسد العري الفني

تخلق الفنانة في فيلمها عالمين، الأول عالم الحسية المثلية بين جسدي الممثلتين، وهو عالم الجمال والفن، فتحضر فيه لوحات من رسومات العري في فنون النهضة الإيطالية، أما الخلفية الموسيقية فهي من القداس لموزارت. إن لقاء جسد الشابتين يتم تحت براويز لوحات كبيرة من النهضة الإيطالي، ويبرز جسد الفتاتين لتشكيل امتداد لمضامين اللوحة في واقع اللقطة السينمائية. لا تجسد الأجساد الرومانية معنى جمالياً عند المثلية بين النساء فقط، ففي نصه آلام فتى مثلي الجنس وعذاباته، يكتب فيديل سبيتي عن انجذابه إلى تماثيل الرجال الرومانية: “رجال الصور القديمة التي يبدون فيها شبه عراة كاشفين عن عضلات متوسطة الحجم وأجساد حليبية نضرة، يثيرون فيّ رغبة ما أيضاً، وخصوصاً رسوم الكنائس الرومانية ومنحوتاتها. كنت أستغرب ألا تثير مثل هذه الأجساد الشبان الآخرين من أقراني”.

في هذا العالم الجمالي، يتداخل العري الإنساني والعري الفني. في واحدة من اللقطات، نجد الممثلة في وضعية الالتفات نحو الخلف، تنظر إلى الكاميرا مباشرةً، في حين يلتحم عريها بعري الشخصيات المرسومة في اللوحة الضخمة من خلفها، عري الجسد الإنساني وعري الجسد الفني يشكل وحدة متكاملة في رؤية المخرجة، وكذلك هي تركز بهذا النوع من اللقطات على الجماليات التي يتمتع بها الجسد الإنساني الحقيقي الذي تجعله بمصاف اللوحات الفنية. إن العالم الجنساني المثلي بين فتاتين في طور الاكتشاف هو العالم الجمالي في الفيلم، عالم البراءة واللذة، لقطات قريبة على تفاصيل الوجوه توحي بالشعرية والبراءة، وحركة الكاميرا توحي باللذة الحسية.

تكمن أهمية نص “مشاهدات مثلية خاصة من هنا وهناك”، 2008 بأنه ينقل تجربة كاتبه الغيرية مها حسن في اكتشافها عوالم المثلية الرجالية والنسائية، وهي تحافظ حتى نهاية هذه المغامرة- النص على رؤيتها كغيرية. لكن المثير للانتباه في النص، أن هذه الكاتبة الغيرية تشعر بالراحة والأمان والحرية في العوالم المثلية الرجالية كما هو الحال مع المثلية النسائية. في النص تصف تفاصيل مشاعرها في العالم المثلي الرجالي، تصف شعورها بالصداقة والراحة بكونها ليست موضوعاً جنسياً، وكذلك في العالم المثلي النسائي التي تكتب عن لقاءاتها الأولى فيه، فإنها تشعر بأجساد نساء حرة، قادرة على الاختيار. الاختيار الذاتي هو المفهوم الذي يدافع عنه فيلم “ذاكرة جسد”.

إقرأوا أيضاً:

عالم الرغبة الموّجهة، الجسد المريض

في مقابل العالم الأول المثلي النسائي الجمالي، أي عالم الشهوة الحرة، يحضر العالم الثاني الذي يشكل النقيض، هو عالم المستشفى. بالتقطيع البصري تظهر مجموعة من أدوات الطبية المستعملة في المستشفى. يتنقل بنا الفيلم تالياً إلى لقطة للممثلة هناك، لقد غاب الجمال العاري ليحل محله الجسد المريض، القيء، العالم الطبي الصارم والذي يتعامل مع الجسد بالمفهوم العلاجي. يظهر هذا العالم حين تعلم والدة الشخصية عن ميولها المثلية يصور المشهد استحالة استقبال الأم المعلومة، وهي تسعى عبر سلسلة محاولات لتوجيه الرغبة الجنسية لابنتها، إنه عالم الشهوة الموجهة.

تعنف الأم ابنتها، ننتقل من عالم الإيروتيكية الحسية إلى الضرب، تجبر الأم ابنتها على الدخول في الصورة النمطية للأنثى، تجبرها على وضع مستحضرات التجميل، وتشرع في رحلة علاجها في المستشفى؟ في الفيلم تعتقد الأم بأن المثلية انحراف في الرغبة يمكن تقويمه، وهي النظرة الشائعة التي كرست حولها دراسات كثيرة. 

في عامي 1970 و 1971، قام نشطاء مثليون بالاحتجاج على إدراج “الجمعية الأميركية للطب النفسي” للمثلية الجنسية في قائمتها لأمراض الاضطرابات العقلية. ونتيجة هذه الاحتجاجات، فوضت الجمعية لجنة علمية للتحقيق في هذا الأمر، وبعد سنتين من البحث توصلت إلى استنتاج بأن الدراسات التي تقول بأن المثلية الجنسية هي تباين طبيعي في ميول الإنسان الجنسية، هي دراسات أدق علمياً من تلك التي ترى أن المثلية الجنسية هي مرض. 

عام 1973 قدمت اللجنة توصية إلى “الجمعية الأمريكية للطب النفسي” بإزالة المثلية الجنسية من قائمتها لأمراض الاضطرابات العقلية. وبعد مدة قصيرة نشرت “الجمعية الأميركية للطب النفسي” نصاً ورد فيه: “إن المثلية الجنسية لا تقتضي ضمناً أي ضعف في تكوين الأحكام أو في التوازن أو في الجدارة أو في المقدرة الاجتماعية أو المهنية. لذلك فليكن معلوماً أن الجمعية الأميركية للطب النفسي تستنكر كل أشكال التمييز العامة والخاصة ضد مثليي الجنس”.

الشهوة المفروضة

في كتابها “الجنس الآخر”، تشرح سيمون دي بوفوار كيف أن الأم هي أكثر الشخصيات التي تلعب دوراً في إدخال ابنتها في الصورة النمطية، إنها ترغب لها أن تسير المسيرة نفسها، وتصل إلى النتائج نفسها التي وصلت إليها، وأحياناً تقف في طريق اختيارها أو تمردها قصداً حتى لا تكون ابنتها أكثر جرأة أو تمرّداً. وفي الفيلم، تصطحب ذكراً ليمارس الاستمناء أمام ابنتها في محاولة لتوليد الشهوة الغيرية، تمسك الأم بيد ابنتها لتمررها على الجسد الذكوري، الصدر، الجذع، والقضيب، يد الأم فوق يد الابنة بفرض توجيه التماهي بين كل من رغبتيهما. لكن بإمكاننا أن نقرأ عن الرغبة المفروضة على الإرادة كيف تؤثر سلباً وتولد شعوراً أعمق بالنفور، وذلك كما يصف نبيل الشخصية المثلية في رواية “رجل من ساتان”، صهيب أيوب حينما يضطر إلى مجامعة زوجته: “تقرفني رائحة جسمها بعد الجنس، بعرق إبطيها ومهبلها الساخن، ألمسها على مضض وأقبلها بتقزز، ثم أرمي نفسي على جسدها كمن يريد فعلته على عجل، آتياً بكل الرجال الذين حلمت بهم. لطالما تخيلت زوجتي جثة، نعم، هي جثة ولست أنا. كنت أخاف مع زوجتي أن أفقد عضواً مني أخاف أن أخرج ناقصاً، أتركها نائمة مع نقاط مني أكرهها من جسمي منثورة على صدرها المزموم”.

الجسد الشهواني والجسد العلاجي

إن عالم الشهوة الموجهة هو عالم بارد، بلا مشاعر، لقد غاب الجمال العاري ليحل محله الجسد المريض، القيء، العالم الطبي الصارم والذي يتعامل مع الجسد بالمفهوم العلاجي. نشاهد جسداً موصولاً إلى الأجهزة الطبية، مرتبطاً بالمجسات المثبتة والمغروزة في مواضع متفرقة منه. وبينما نرى ما تراه الممثلة في ذاكرتها الحسية من صور للحبيبة في لحظات إغراء، تعود الكاميرا إلى المستشفى حيث تسري التيارات الكهربائية في الجسد المصاب بمرض، بحسب النظرة التقليدية السائدة. في اللقطة التالية، يدخل الأطباء قضيباً بلاستيكياً (ديلدو) بين فخذي الممثلة. إنه ترويض الشهوة مجدداً بالقوة، يحاول أصحاب المخطط العلاجي تنمية شهوة الممثلة إلى الذكور، بملامسة جسد الرجل العاري بمراقبة عملية استمنائه، وثم يلجأ الأسلوب العلاجي إلى الأدوات، القضيب البلاستيكي يخترق فرج الممثلة كأنه يجبرها على اشتهائه.

تقطع الكاميرا بين لحظات النشوة الجنسية المثلية المفعمة بالتعبير والانفعالات، وبين العذابات التي يسببها النظام العلاجي لجسد الممثلة، حيث تسود أصوات الآلام، والتشنجات والآلات. إنه الجسد الشهواني في مقابل الجسد العلاجي. فالجسد الشهواني جسد مستكشف، لا يعرف القواعد والقوانين حتى يجربها، وهو مرتبط بالإرادة الذاتية والمتعة الذاتية، بينما الجسد العلاجي هو عبارة عن قوانين طبية تخضع الجسد لفرضيات المحفزات والمثيرات، الأدوية والأدوات، الصعق والشفاء. وهذا ما يطلق عليه “العلاج التصحيحي” أو “علاج إعادة التوجيه الجنسي”. فتظهر العبارة الختامية للفيلم، البعد الاجتماعي والثقافي لموضوعته: “علاج إعادة التوجيه الجنسي ما زال يطبق حتى اليوم في لبنان”، وبالتالي، فإن الفيلم هو إدانة لعلاج إعادة التوجيه الجنسي، وإضافة إلى الجماليات والحكاية التي يرويها، يصنف الفيلم في خطابه الأخير هذا كعمل فني يلقي الضوء على الممارسات العلاجية بحق المثلية في لبنان.

إن عالم الشهوة الموجهة هو عالم بارد، بلا مشاعر، لقد غاب الجمال العاري ليحل محله الجسد المريض، القيء، العالم الطبي الصارم والذي يتعامل مع الجسد بالمفهوم العلاجي.

جنسانية الاختيار وجنسانية الإجبار

في لقاء معه أجراه طارق العريس عام 2006، يبين الدكتور الأميركي جاك دريشير أن العلاج التصحيحي أو العلاج التحويلي ممارسة ثانوية في بعض الحقول العلاجية التي تدعي معالجة المثلية الجنسية حتى الشفاء. لكن هذه الممارسة، ومن خلال استخدامها غير المناسب المعالجة العلمية لمآرب أيديولوجية، تتسبب حالياً في تدمير حياة الكثير من الرجال والنساء. ويبين الطبيب الأميركي أن هذا العلاج لا يدرس في البرامج السائدة للطب النفسي أو علم النفس أو برامج التدريب على العمل الاجتماعي والإرشادي: “والذين يمارسون هذا النوع من العلاج واقعون تحت تأثير:

 1 الاعتقاد بأن المثلية الجنسية هي مرض أو اختيار لا أخلاقي أو الاثنين معاً. 

2 أن سبب المثلية الجنسية إما التربية السيئة من قبل الأهالي أو التحرش الجنسي. 

3 أن الجنسية المثلية هي سلوك إدماني. 

4 أن العلاقات المثلية ليست قابلة للاستمرار. 

5 أن التغاير الجنسي هو السبيل الوحيد للتمتع بحياة شاملة ومرضية”.

ويضيف: “من الواضح أن ما يقوم به ممارسو العلاجات التصحيحية هو تعليم نظرياتهم لأشخاص غير سعيدين بمثليتهم الجنسية وتحضهم هذه التعليمات على التوقف عن التورط في ممارسات مثلية، والحفاظ على سلوك يتطابق مع جنس الشخص، وتشجيع النشاط الجنسي المغاير”.

إقرأوا أيضاً: