fbpx
ساهموا في دعم الإعلام المستقل و الجريء!
ادعموا درج

في أثر مدمني مصر نحو “الموت”

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

أهز رأسي بحسرة وأقلب بين صفحات التواصل الاجتماعي فتداهمني فيديوهات قديمة لوائل غنيم وهو يدخن الماريجوانا وربما الفودو، فأقول في نفسي: كلنا وائل غنيم… كلنا حطمتنا الهزائم السياسية حتى فضّلنا الموت على الحياة.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

يندهش صديقي المُدمن من سؤالي “الموت فين؟”؛ فقد توقفت عن التعاطي منذ سنوات عدة، وعليه لم يعد لي اتصال بأحد من أصدقائنا المتعاطين. غير أنني تواصلت معه اليوم. ظن أنني أستجيب لنداء النداهة. لم أراجعه في ظنه، ولم أخبره بأنني سأخوض هذه الرحلة من أجل هذه المقالة فحسب.

كالأيام السوداء أقف على ناصية الشارع في انتظاره، أراقبه وهو يتقدم نحوي بدراجته البخارية، والتي أطلقنا عليها اسم “الأزبلفة”، وهو اسم مشتق من الجوينت الصغير المحشو بالدبغ، ومادة البودر، والذي يُسمى بـ “الأزبلف”، فـهو -على حد وصف المتعاطين- يأخذك ويلفّ. وكذلك الحال مع دراجة صديقي، التي لا تتوقف عن اللف بين الدواليب وخلف الديلرات بائعي المواد المخدّرة.

استقبلني صديقي بحضن عميق وهو يربت على ظهري “بـعودة الأيام”. هذه الأيام التي لا أرغب في العودة إليها أبداً… تبدو لي في الذاكرة كومضات خاطفة لصور متقطّعة وباهتة. 

يوضح لي الخريطة المستجدّة لترويج المخدرات، ويشير الى أن الرشاح – وهي منطقة على الدائري تقع بين صفط وناهيا- أصبحت من أهم المناطق لبيع البودر، وكذلك الشابو/ الآيس أو الكريستال، وعليه سنتّجه إلى دولاب شماتة أو دولاب قشدة. لكني أفضّل دولاب عرسة في المسحور (منطقة زراعية قبل المريوطية). يتحمس صديقي للاقتراح ويؤكد أن دولاب عرسة لا يزال يحتفظ بمادته المميتة.

رحلة البحث عن بوكيت 

 يمتلك المدمن حياة سرية وخفية عن الجميع، تبدأ حين ينتهي آخر نَفس من الإزبلف، لا يهم الوقت، فـالدواليب تعمل على مدار 24 ساعة. المهم فعلاً، أن يكون لديه ما يكفي لشراء بوكيت، وهو الكيس الصغير الذي يحتوي على مادة البودر، ونقطة منها في كيس يرتكب المدمن من أجلها الخطايا العشر وأكثر، لا شيء يقف أمام المدمن وجرعته السامّة التي تصبح محور حياته.

“دولاب عرسة” غير باقي الدواليب، فـهو يحتاج الى خبرة كبيرة في معرفة مكانه المتحصّن بالأراضي الزراعية، خريطة يحفظها صديقي عن ظهر قلب.

 ينطلق على الطريق الترابي حيث مجرى مائي صغير على الجانب الأيمن، وعلى الجانب الأيسر وخلفنا وأمامنا الأراضي ذات الزرع الصغير، وحولنا مجموعة من الوافدين إلى الدولاب، معظمهم يحملون على ظهرهم أجولة يجمعون فيها عبوات الزجاجات الفارغة أو الكرتون، إنهم ضحايا الحياة، عشاق الموت.

في العمق، نرى الدولاب بطوابيره المعتادة، هنا مجتمع داخل مجتمع، طبقة جديدة نشأت وترعرعت خلال العشر سنوات الأخيرة، فأصبحت لها لغتها وعالمها شديد الخصوصية والتفرد. يستقبلنا دوماً واغش الدولاب، وهم من قرروا العيش على هامش الدولاب يأكلون من خيراته ويتسولون لجرعاته. ها هو طفل في التاسعة يطلب من صديقي خمس جنيهات ليستكمل ثمن البوكيت، الذي يبلغ 30 جنيهاً، هو يتسوّل من أجل الجرعة. 

بالطبع، نتجاهل توسّلات المتوسّل ونتجه إلى الدولاب بعد أن نركن “إزبلفة” بجوار شجرة عملاقة.

تمتلك الدواليب قواعدها التي يجب أن تُحترم، وإلا تعرضت للأذى وربما للقتل. في البداية، عليك أن تقف في الطابور ملتزماً بتعليماته، وأن تتقبل الإهانة بابتسامة، فهنا ستسمع من يسب أمك وأجدادك وأجداد أجدادك، وقد تنال خبطة من عصا المُنظم بلا سبب مفهوم، والأهم، لا تطلب من البائع أن يبدل لك أحد الأكياس حتى وإن كانت فارغة.

وللدولاب إدارة تعمل في منتهى الدقة: هناك في الخارج، اللادورجية، مجرد صبية يلعبون بالكرة، وامرأة مُسنة تجلس على عتبة بيتها، مَن بإمكانه أن يخمن أن هؤلاء الصبية وتلك المرأة العجوز يعملون لحساب عرسة صاحب الدولاب؟!

في الداخل، يبدأ تنسيق من نوع آخر، فمنهم من ينظم الطوابير، ومنهم من يبيع المخدر، وآخر يُحصّل الأموال ويضعها في كيس بلاستيكي كبير تحت قدميه، وثالث يراقب حركة البيع ليتأكد أن كل شيء على ما يرام. هنا، ثمة قواعد لكل شيء. غير أن القاعدة الأبرز بين كل الدواليب هي: لا يجوز لأحد من الباعة أن يتعاطى هذا المخدر. رأيت بعيني سابقاً في دولاب الشونة الجزار – صاحب الدولاب- وهو يهين أحد أتباعه لأنه فكر، مجرد التفكير في اختبار المادة، وأنزله درجة من بائع إلى لا دورجي. بهذا الحسم، وبهذه الدقة، تُدار الدواليب في مصر.

اغتصاب وجنس مقابل الجرعة

ألاحظ في هذه الرحلة، أن عدد الفتيات والنساء المدمنات في تزايد كبير، فـمنذ سنوات عدة لم يكن الإقبال كبيراً الى هذا الحد من جانب النساء، بعضهن يحملن أطفالاً صغاراً. أميز من بينهن زنوبة، وهي فتاة في أوائل العشرينات تعمل على مسح زجاج السيارات في شارع فيصل الرئيسي. 

صادف أن تقابلنا في الأيام الغبراء مرات عدة في دولاب الجزار القريب من شارع فيصل. غير أنها الآن حامل. يوضح صديقي ورفيق الرحلة، أنها حبلت بعدما اغتُصبت بشكل جماعي في دولاب الشونة، الواقع – قبل أن تزيله السلطات المصرية- تحت كوبري الدائري عند الوصلة التي تربط دائري المنيب بدائري المحور. في قلب الأرض الجرداء، كان هناك بيت تحت الإنشاء لا يزال يخص أحد عتولة الإجرام المعروف بفيصل، وفيه كان يُباع البودر. كانت زنوبة آنذاك تحت البيت المهجور تدخن الإزبلف، هو ذو تأثير قوي وسريع، إذ يُدخل المتعاطي في حالة تُشبه الغيبوبة أو بمعنى أدق (متسنطر)، وهي الحالة التي يعيشها المدمن، إذ إنه يرى العالم من حوله غير أنه لا يستطيع أن يشارك فيه. لا أعرف مَن هو العبقري الذي وضع هذا الوصف الدقيق! كأنك على خط السنطر في ملعب ما، تتابع اللعب، ولا تشارك فيه. وهي اللحظة التي يفقد فيها المتعاطي القدرة على الحركة أو إصدار ردة فعل.

في طريق العودة، اقتربت منها فتذكّرتني، وسألتني عن سبب اختفائي، فأخبرتها بأنني تعافيت والحمد لله، ثم أشرت نحو بطنها المنتفخة “هتعلمي فيه إيه دا؟”، فـترد بهدوء: “ربنا يبعت سيجارة موت تاخد أجله”.

هنا يمكن أن تحصل على علاقة سريعة مع أي مدمنة في مقابل أن تشاركك الإزبلف، لتترك في بطنها نطفة تكبر وتنمو وتصبح طفلاً يتسول ثمن الجرعة.

كيف كانت البداية؟ 

 عبر فلاش باك تقليدي، يعود الزمن بنا إلى 30 تموز/ يوليو، ثورة جديدة لاستعادة الثورة المسلوبة، ميدان التحرير بحر من بشر، وأصوات الهتافات تتداخل بين “الجيش والشعب إيد واحدة” و”يسقط يسقط حكم المرشد”، فيما ثلاثة أصدقاء من صُناع ثورة يناير يفترشون الرصيف، ويتابعون الوجوه المستجدة على الميدان، هي الوجوه نفسها التي دافعت عن مبارك، والتي انتخبت الإخوان، والتي تدعم اليوم العسكر وحكمه. لا مجال للشك في فشل الثورة الأم، ثورة يناير بشعارها الإنساني الخالد “عيش حرية عدالة اجتماعية” و”مصر مدنية لا عسكرية ولا دينية”.

غير أن حكم مصر لم يخرج من رجال الدين ورجال العسكر. أما المدنية، فهي تفترش الأرصفة وتتأمل أحوال البلد التي تخلع عباءة الدين وترتدي بذلة الجيش. 

في ظل هذا التخبط، ظهر نبات الفودو للمرة الأولى في الميدان، ثلاثة شبان من شباب الثورة فقدوا البوصلة السياسية، وأصابهم الإحباط والعجز… فيستخرج أحدهم كيساً صغيراً مُغلفاً طُبعت عليه رسمة جمجمة تبتسم، وفي داخله عشب ذو رائحة زكية ونفاذة جداً، ويُشبه إلى حد كبير أعشاب البانجو التي انتشرت في تسعينات القرن الماضي.   

لهذا لم نشعر بالخوف من الفودو، إنه الدخان الذي نثق به. ولكن، بعد النفس الأول من هذا النبات ستدرك على الفور أنك تواجه الموت. أجل، الموت ولا شيء غيره. صحيح أن الأجهزة الجسدية تعمل بكفاءة رهيبة، ولا أعراض طارئة على المتعاطي، غير أنك ستكون بداخلك على يقين بأنه الموت وعليك أن تواجهه. 

ليس مصادفة أن يكون هذا المخدّر مناسباً لبعض أصحاب ثورة يناير، الآن تقفز في عقلي صورة الشاب الذي واجه المدرعة العسكرية في ثبات، والآخر الذي كان يشير إلى صدره في تحدٍّ واضح للقناصة كأنه ترحيب بالموت. 

هكذا كان – وربما لا يزال- جيل ثورة يناير، يفتح ذراعه للموت من دون خوف من عواقبه. لكن الموت نفسه لم يكن غير وهم، وهم لا يستمر لأكثر من ثلث ساعة، وهي المدة التي يعيشها المتعاطي مع نبات الفودو الذي اشتق اسمه من السحر الأسود، وهو كان سحراً فعلاً، سحراً من نوع خاص قادراً على تحريرك لترى العالم بدقة. وهذا ما كان يحتاجه جيل الثورة: التحرر، والنظر إلى الخارج بدقة، وربما النظر إلى الداخل كذلك. لعل ذلك ما دفع السلطات المصرية الى أن تنتبه لهذا النبات الذي لم يكن معروفاً لدي ضباط الجمارك، فأغلفة المنتج القادم من أوروبا المتنوعة والجميلة: رسومات للكلب سكوبي دو، جمجمة ضاحكة، المهرج.. وغيرها من الرسومات التي لا تعبر مطلقاً عن خطورة ما يحتويه الكيس، كانت كفيلة بخداع رجال الجمارك. لكن مع تحرك الإعلام، تحركت السلطة كذلك، ليختفي الفودو من الأسواق المصرية ويحل محله الإستروكس، المنتج المحلي الأشد فتكاً على الإطلاق.

صناعة محلّية بنكهة الأسيتون

اختفاء الفودو من الأسواق لم يشكل ضرراً على المتعاطي، إذ يمكن الإقلاع عنه بسهولة وبلا أعراض تُذكر. لذلك عدنا إلى الحشيش مجدداً. 

بعد عام تقريباً، ظهرت أول سيجارة إستروكس، كانوا يطلقون عليه في البداية الأخضر. مع أول نَفس هبت رائحة الفودو القديمة، “إنه هو بلا شك”. هكذا كان تعليق الشلة التي أدمنت الإستروكس، وهو منتج محلي يُصنع من أعشاب المرمرية أو البردقوش المخلوط بالأسيتون الخام 99 في المئة والكيتامين…  تلك التوليفة لاقت إقبالاً شعبياً كبيراً، لأسباب عدة، منها أولاً  أنه نبات، والشعب المصري يثق في النبات خصوصاً بعد تجربته مع البانجو. ثانياً سعره زهيد مقارنة بالمخدرات الأخرى، إذ بإمكانك أن تشتري سيجارة بخمس جنيهات. ثالثًا، مفعوله قوي جداً وسريع أو على حد وصف المتعاطي “ضربة بالمرزبة ولا عشرة بالشاكوش”.

هذا الرواج كان له صداه في الأعمال الفنية سواء الدراما التي حاولت رصد ذلك المخدر كمسلسل “ولد الغلابة” أو أغاني المهرجانات التي عبّرت عن حالة المتعاطي.

هكذا انتشر الإستروكس وأصبح رائجاً، بخاصة في الأفراح الشعبية التي وجدت فيه بديلاً أقل ثمناً وأقوى من الحشيش، الى درجة أنه في دعوات بعض الأفراح كانت تُكتب “المادة شَدة هات مخدة”، وهي كناية عن قوة المخدر الذي يجبر المدمن على الدخول في غيبوبة قصيرة. 

ربما يكون دولاب الأسد في بولاق الدكرور من أشهر دواليب الإستروكس في القاهرة والجيزة، غير أن الأخير اختفى بدوره من الأسواق لأسباب عدة: أولاً، لأن العطارين اكتشفوا أن المرمرية والبردقوش أعشاب رئيسية في صناعة مخدر الإستروكس، فمنهم من زاد سعرها لعشرات الأضعاف ومنهم من توقف عن التعامل بها. ثانياً، لأن مادة الكيتامين والتي كانت تُجلب من وزارة الزراعة أصبحت محظورة وتدخل في نطاق أدوية الجدول. ثالثاً: حتى الأسيتون الخام، والذي يستخدم في تنظيف الأظافر، أصبح تابعاً للدولة ولا يُصرف إلا من صيدلية الإسعاف الحكومية. رابعاً: إعلان الرئيس عبد الفتاح بعد حادث تصادم قطار محطة مصر، أن مرتكب الحادث كان تحت تأثير مخدر الإستروكس.

الحياة في رحاب الموت    

اختفاء المواد المستخدمة في الإستروكس من الأسواق المصرية جعل تجار المخدرات في حيرة. فالإستروكس الذي تعلق به أكثر من 10 ملايين مواطن مصري لا يمكن أن يختفي هكذا ويتبخر. فـكان لا بد من إيجاد بدائل: تبغ Golden Virginia بديلاً عن البردقوش والأسيتون التقليدي عوضاً عن الخام أما الكيتامين فقد كان الأزمة الكبرى. في البداية، تم استخدام سم أسماك مُضافة إليه قطرة بليجيكا التي تسبب الهلوسة. غير أن هذه الخلطة لم تكن في قوة الفودو أو الإستروكس. لكن الصين، والتي يبدو أنها تدرس الأسواق المصرية جيداً، قدمت لهذا الشعب عبوة البودر، وهي مادة تُستخدم لإبعاد الحشرات عن المنزل من دون قتلها. تلك المادة كانت الأشد فتكاً وتأثيراً. وهي المادة المنتشرة حالياً في دواليب المخدرات بلا منافس يُذكر.

إنه الموت الذي سيهزمك بالضرورة. وها هو يهزم صديقي الآن، الإزبلف يسقط من بين أصابعه بينما هو جالس القرفصاء، يعيش في غيبوبته. أنظر إليه وأتذكر حماسته القديمة في ثورة يناير، ودوره الفعال يوم جمعة الغضب التي شهدت بطولاته ومعجزاته. أهز رأسي بحسرة وأقلب بين صفحات التواصل الاجتماعي فتداهمني فيديوهات قديمة لوائل غنيم وهو يدخن الماريجوانا وربما الفودو، فأقول في نفسي: كلنا وائل غنيم… كلنا حطمتنا الهزائم السياسية حتى فضّلنا الموت على الحياة.  

20.08.2023
زمن القراءة: 8 minutes

أهز رأسي بحسرة وأقلب بين صفحات التواصل الاجتماعي فتداهمني فيديوهات قديمة لوائل غنيم وهو يدخن الماريجوانا وربما الفودو، فأقول في نفسي: كلنا وائل غنيم… كلنا حطمتنا الهزائم السياسية حتى فضّلنا الموت على الحياة.

يندهش صديقي المُدمن من سؤالي “الموت فين؟”؛ فقد توقفت عن التعاطي منذ سنوات عدة، وعليه لم يعد لي اتصال بأحد من أصدقائنا المتعاطين. غير أنني تواصلت معه اليوم. ظن أنني أستجيب لنداء النداهة. لم أراجعه في ظنه، ولم أخبره بأنني سأخوض هذه الرحلة من أجل هذه المقالة فحسب.

كالأيام السوداء أقف على ناصية الشارع في انتظاره، أراقبه وهو يتقدم نحوي بدراجته البخارية، والتي أطلقنا عليها اسم “الأزبلفة”، وهو اسم مشتق من الجوينت الصغير المحشو بالدبغ، ومادة البودر، والذي يُسمى بـ “الأزبلف”، فـهو -على حد وصف المتعاطين- يأخذك ويلفّ. وكذلك الحال مع دراجة صديقي، التي لا تتوقف عن اللف بين الدواليب وخلف الديلرات بائعي المواد المخدّرة.

استقبلني صديقي بحضن عميق وهو يربت على ظهري “بـعودة الأيام”. هذه الأيام التي لا أرغب في العودة إليها أبداً… تبدو لي في الذاكرة كومضات خاطفة لصور متقطّعة وباهتة. 

يوضح لي الخريطة المستجدّة لترويج المخدرات، ويشير الى أن الرشاح – وهي منطقة على الدائري تقع بين صفط وناهيا- أصبحت من أهم المناطق لبيع البودر، وكذلك الشابو/ الآيس أو الكريستال، وعليه سنتّجه إلى دولاب شماتة أو دولاب قشدة. لكني أفضّل دولاب عرسة في المسحور (منطقة زراعية قبل المريوطية). يتحمس صديقي للاقتراح ويؤكد أن دولاب عرسة لا يزال يحتفظ بمادته المميتة.

رحلة البحث عن بوكيت 

 يمتلك المدمن حياة سرية وخفية عن الجميع، تبدأ حين ينتهي آخر نَفس من الإزبلف، لا يهم الوقت، فـالدواليب تعمل على مدار 24 ساعة. المهم فعلاً، أن يكون لديه ما يكفي لشراء بوكيت، وهو الكيس الصغير الذي يحتوي على مادة البودر، ونقطة منها في كيس يرتكب المدمن من أجلها الخطايا العشر وأكثر، لا شيء يقف أمام المدمن وجرعته السامّة التي تصبح محور حياته.

“دولاب عرسة” غير باقي الدواليب، فـهو يحتاج الى خبرة كبيرة في معرفة مكانه المتحصّن بالأراضي الزراعية، خريطة يحفظها صديقي عن ظهر قلب.

 ينطلق على الطريق الترابي حيث مجرى مائي صغير على الجانب الأيمن، وعلى الجانب الأيسر وخلفنا وأمامنا الأراضي ذات الزرع الصغير، وحولنا مجموعة من الوافدين إلى الدولاب، معظمهم يحملون على ظهرهم أجولة يجمعون فيها عبوات الزجاجات الفارغة أو الكرتون، إنهم ضحايا الحياة، عشاق الموت.

في العمق، نرى الدولاب بطوابيره المعتادة، هنا مجتمع داخل مجتمع، طبقة جديدة نشأت وترعرعت خلال العشر سنوات الأخيرة، فأصبحت لها لغتها وعالمها شديد الخصوصية والتفرد. يستقبلنا دوماً واغش الدولاب، وهم من قرروا العيش على هامش الدولاب يأكلون من خيراته ويتسولون لجرعاته. ها هو طفل في التاسعة يطلب من صديقي خمس جنيهات ليستكمل ثمن البوكيت، الذي يبلغ 30 جنيهاً، هو يتسوّل من أجل الجرعة. 

بالطبع، نتجاهل توسّلات المتوسّل ونتجه إلى الدولاب بعد أن نركن “إزبلفة” بجوار شجرة عملاقة.

تمتلك الدواليب قواعدها التي يجب أن تُحترم، وإلا تعرضت للأذى وربما للقتل. في البداية، عليك أن تقف في الطابور ملتزماً بتعليماته، وأن تتقبل الإهانة بابتسامة، فهنا ستسمع من يسب أمك وأجدادك وأجداد أجدادك، وقد تنال خبطة من عصا المُنظم بلا سبب مفهوم، والأهم، لا تطلب من البائع أن يبدل لك أحد الأكياس حتى وإن كانت فارغة.

وللدولاب إدارة تعمل في منتهى الدقة: هناك في الخارج، اللادورجية، مجرد صبية يلعبون بالكرة، وامرأة مُسنة تجلس على عتبة بيتها، مَن بإمكانه أن يخمن أن هؤلاء الصبية وتلك المرأة العجوز يعملون لحساب عرسة صاحب الدولاب؟!

في الداخل، يبدأ تنسيق من نوع آخر، فمنهم من ينظم الطوابير، ومنهم من يبيع المخدر، وآخر يُحصّل الأموال ويضعها في كيس بلاستيكي كبير تحت قدميه، وثالث يراقب حركة البيع ليتأكد أن كل شيء على ما يرام. هنا، ثمة قواعد لكل شيء. غير أن القاعدة الأبرز بين كل الدواليب هي: لا يجوز لأحد من الباعة أن يتعاطى هذا المخدر. رأيت بعيني سابقاً في دولاب الشونة الجزار – صاحب الدولاب- وهو يهين أحد أتباعه لأنه فكر، مجرد التفكير في اختبار المادة، وأنزله درجة من بائع إلى لا دورجي. بهذا الحسم، وبهذه الدقة، تُدار الدواليب في مصر.

اغتصاب وجنس مقابل الجرعة

ألاحظ في هذه الرحلة، أن عدد الفتيات والنساء المدمنات في تزايد كبير، فـمنذ سنوات عدة لم يكن الإقبال كبيراً الى هذا الحد من جانب النساء، بعضهن يحملن أطفالاً صغاراً. أميز من بينهن زنوبة، وهي فتاة في أوائل العشرينات تعمل على مسح زجاج السيارات في شارع فيصل الرئيسي. 

صادف أن تقابلنا في الأيام الغبراء مرات عدة في دولاب الجزار القريب من شارع فيصل. غير أنها الآن حامل. يوضح صديقي ورفيق الرحلة، أنها حبلت بعدما اغتُصبت بشكل جماعي في دولاب الشونة، الواقع – قبل أن تزيله السلطات المصرية- تحت كوبري الدائري عند الوصلة التي تربط دائري المنيب بدائري المحور. في قلب الأرض الجرداء، كان هناك بيت تحت الإنشاء لا يزال يخص أحد عتولة الإجرام المعروف بفيصل، وفيه كان يُباع البودر. كانت زنوبة آنذاك تحت البيت المهجور تدخن الإزبلف، هو ذو تأثير قوي وسريع، إذ يُدخل المتعاطي في حالة تُشبه الغيبوبة أو بمعنى أدق (متسنطر)، وهي الحالة التي يعيشها المدمن، إذ إنه يرى العالم من حوله غير أنه لا يستطيع أن يشارك فيه. لا أعرف مَن هو العبقري الذي وضع هذا الوصف الدقيق! كأنك على خط السنطر في ملعب ما، تتابع اللعب، ولا تشارك فيه. وهي اللحظة التي يفقد فيها المتعاطي القدرة على الحركة أو إصدار ردة فعل.

في طريق العودة، اقتربت منها فتذكّرتني، وسألتني عن سبب اختفائي، فأخبرتها بأنني تعافيت والحمد لله، ثم أشرت نحو بطنها المنتفخة “هتعلمي فيه إيه دا؟”، فـترد بهدوء: “ربنا يبعت سيجارة موت تاخد أجله”.

هنا يمكن أن تحصل على علاقة سريعة مع أي مدمنة في مقابل أن تشاركك الإزبلف، لتترك في بطنها نطفة تكبر وتنمو وتصبح طفلاً يتسول ثمن الجرعة.

كيف كانت البداية؟ 

 عبر فلاش باك تقليدي، يعود الزمن بنا إلى 30 تموز/ يوليو، ثورة جديدة لاستعادة الثورة المسلوبة، ميدان التحرير بحر من بشر، وأصوات الهتافات تتداخل بين “الجيش والشعب إيد واحدة” و”يسقط يسقط حكم المرشد”، فيما ثلاثة أصدقاء من صُناع ثورة يناير يفترشون الرصيف، ويتابعون الوجوه المستجدة على الميدان، هي الوجوه نفسها التي دافعت عن مبارك، والتي انتخبت الإخوان، والتي تدعم اليوم العسكر وحكمه. لا مجال للشك في فشل الثورة الأم، ثورة يناير بشعارها الإنساني الخالد “عيش حرية عدالة اجتماعية” و”مصر مدنية لا عسكرية ولا دينية”.

غير أن حكم مصر لم يخرج من رجال الدين ورجال العسكر. أما المدنية، فهي تفترش الأرصفة وتتأمل أحوال البلد التي تخلع عباءة الدين وترتدي بذلة الجيش. 

في ظل هذا التخبط، ظهر نبات الفودو للمرة الأولى في الميدان، ثلاثة شبان من شباب الثورة فقدوا البوصلة السياسية، وأصابهم الإحباط والعجز… فيستخرج أحدهم كيساً صغيراً مُغلفاً طُبعت عليه رسمة جمجمة تبتسم، وفي داخله عشب ذو رائحة زكية ونفاذة جداً، ويُشبه إلى حد كبير أعشاب البانجو التي انتشرت في تسعينات القرن الماضي.   

لهذا لم نشعر بالخوف من الفودو، إنه الدخان الذي نثق به. ولكن، بعد النفس الأول من هذا النبات ستدرك على الفور أنك تواجه الموت. أجل، الموت ولا شيء غيره. صحيح أن الأجهزة الجسدية تعمل بكفاءة رهيبة، ولا أعراض طارئة على المتعاطي، غير أنك ستكون بداخلك على يقين بأنه الموت وعليك أن تواجهه. 

ليس مصادفة أن يكون هذا المخدّر مناسباً لبعض أصحاب ثورة يناير، الآن تقفز في عقلي صورة الشاب الذي واجه المدرعة العسكرية في ثبات، والآخر الذي كان يشير إلى صدره في تحدٍّ واضح للقناصة كأنه ترحيب بالموت. 

هكذا كان – وربما لا يزال- جيل ثورة يناير، يفتح ذراعه للموت من دون خوف من عواقبه. لكن الموت نفسه لم يكن غير وهم، وهم لا يستمر لأكثر من ثلث ساعة، وهي المدة التي يعيشها المتعاطي مع نبات الفودو الذي اشتق اسمه من السحر الأسود، وهو كان سحراً فعلاً، سحراً من نوع خاص قادراً على تحريرك لترى العالم بدقة. وهذا ما كان يحتاجه جيل الثورة: التحرر، والنظر إلى الخارج بدقة، وربما النظر إلى الداخل كذلك. لعل ذلك ما دفع السلطات المصرية الى أن تنتبه لهذا النبات الذي لم يكن معروفاً لدي ضباط الجمارك، فأغلفة المنتج القادم من أوروبا المتنوعة والجميلة: رسومات للكلب سكوبي دو، جمجمة ضاحكة، المهرج.. وغيرها من الرسومات التي لا تعبر مطلقاً عن خطورة ما يحتويه الكيس، كانت كفيلة بخداع رجال الجمارك. لكن مع تحرك الإعلام، تحركت السلطة كذلك، ليختفي الفودو من الأسواق المصرية ويحل محله الإستروكس، المنتج المحلي الأشد فتكاً على الإطلاق.

صناعة محلّية بنكهة الأسيتون

اختفاء الفودو من الأسواق لم يشكل ضرراً على المتعاطي، إذ يمكن الإقلاع عنه بسهولة وبلا أعراض تُذكر. لذلك عدنا إلى الحشيش مجدداً. 

بعد عام تقريباً، ظهرت أول سيجارة إستروكس، كانوا يطلقون عليه في البداية الأخضر. مع أول نَفس هبت رائحة الفودو القديمة، “إنه هو بلا شك”. هكذا كان تعليق الشلة التي أدمنت الإستروكس، وهو منتج محلي يُصنع من أعشاب المرمرية أو البردقوش المخلوط بالأسيتون الخام 99 في المئة والكيتامين…  تلك التوليفة لاقت إقبالاً شعبياً كبيراً، لأسباب عدة، منها أولاً  أنه نبات، والشعب المصري يثق في النبات خصوصاً بعد تجربته مع البانجو. ثانياً سعره زهيد مقارنة بالمخدرات الأخرى، إذ بإمكانك أن تشتري سيجارة بخمس جنيهات. ثالثًا، مفعوله قوي جداً وسريع أو على حد وصف المتعاطي “ضربة بالمرزبة ولا عشرة بالشاكوش”.

هذا الرواج كان له صداه في الأعمال الفنية سواء الدراما التي حاولت رصد ذلك المخدر كمسلسل “ولد الغلابة” أو أغاني المهرجانات التي عبّرت عن حالة المتعاطي.

هكذا انتشر الإستروكس وأصبح رائجاً، بخاصة في الأفراح الشعبية التي وجدت فيه بديلاً أقل ثمناً وأقوى من الحشيش، الى درجة أنه في دعوات بعض الأفراح كانت تُكتب “المادة شَدة هات مخدة”، وهي كناية عن قوة المخدر الذي يجبر المدمن على الدخول في غيبوبة قصيرة. 

ربما يكون دولاب الأسد في بولاق الدكرور من أشهر دواليب الإستروكس في القاهرة والجيزة، غير أن الأخير اختفى بدوره من الأسواق لأسباب عدة: أولاً، لأن العطارين اكتشفوا أن المرمرية والبردقوش أعشاب رئيسية في صناعة مخدر الإستروكس، فمنهم من زاد سعرها لعشرات الأضعاف ومنهم من توقف عن التعامل بها. ثانياً، لأن مادة الكيتامين والتي كانت تُجلب من وزارة الزراعة أصبحت محظورة وتدخل في نطاق أدوية الجدول. ثالثاً: حتى الأسيتون الخام، والذي يستخدم في تنظيف الأظافر، أصبح تابعاً للدولة ولا يُصرف إلا من صيدلية الإسعاف الحكومية. رابعاً: إعلان الرئيس عبد الفتاح بعد حادث تصادم قطار محطة مصر، أن مرتكب الحادث كان تحت تأثير مخدر الإستروكس.

الحياة في رحاب الموت    

اختفاء المواد المستخدمة في الإستروكس من الأسواق المصرية جعل تجار المخدرات في حيرة. فالإستروكس الذي تعلق به أكثر من 10 ملايين مواطن مصري لا يمكن أن يختفي هكذا ويتبخر. فـكان لا بد من إيجاد بدائل: تبغ Golden Virginia بديلاً عن البردقوش والأسيتون التقليدي عوضاً عن الخام أما الكيتامين فقد كان الأزمة الكبرى. في البداية، تم استخدام سم أسماك مُضافة إليه قطرة بليجيكا التي تسبب الهلوسة. غير أن هذه الخلطة لم تكن في قوة الفودو أو الإستروكس. لكن الصين، والتي يبدو أنها تدرس الأسواق المصرية جيداً، قدمت لهذا الشعب عبوة البودر، وهي مادة تُستخدم لإبعاد الحشرات عن المنزل من دون قتلها. تلك المادة كانت الأشد فتكاً وتأثيراً. وهي المادة المنتشرة حالياً في دواليب المخدرات بلا منافس يُذكر.

إنه الموت الذي سيهزمك بالضرورة. وها هو يهزم صديقي الآن، الإزبلف يسقط من بين أصابعه بينما هو جالس القرفصاء، يعيش في غيبوبته. أنظر إليه وأتذكر حماسته القديمة في ثورة يناير، ودوره الفعال يوم جمعة الغضب التي شهدت بطولاته ومعجزاته. أهز رأسي بحسرة وأقلب بين صفحات التواصل الاجتماعي فتداهمني فيديوهات قديمة لوائل غنيم وهو يدخن الماريجوانا وربما الفودو، فأقول في نفسي: كلنا وائل غنيم… كلنا حطمتنا الهزائم السياسية حتى فضّلنا الموت على الحياة.