fbpx

في أسباب خذلان مثقفين فلسطينيين الثورة السورية

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

عشت في تونس لعشرين عاماً، وكنت وصلتها بعد ثلاثة شهور من تولي الرئيس زين العابدين بن علي الحكم على إثر انقلابه الشهير. خلال عشرين عاماً، شهدت التطورات السياسية والاجتماعية في تونس، التي ستؤدي الى الانتفاض الشعبي عام 2011.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

عشت في تونس لعشرين عاماً، وكنت وصلتها بعد ثلاثة شهور من تولي الرئيس زين العابدين بن علي الحكم على إثر انقلابه الشهير. خلال عشرين عاماً، شهدت التطورات السياسية والاجتماعية في تونس، التي ستؤدي الى الانتفاض الشعبي عام 2011. وحين غادرت تونس في كانون الثاني (يناير) عام 1988، كانت إرهاصات الانتفاض على النظام بدأت تتضح. كان كل شيء واضحاً من الهمس الحذر في التحدث بالشأن السياسي في نهاية  الثمانينيات، إلى الجهر بالنقد السياسي لممارسات النظام والفساد الفاقع الذي مارسته الطبقة الحاكمة وبطانتها، ومن خوف النساء من ارتداء الحجاب أو غطاء الرأس في المراحل الأولى من عمر النظام الجديد، إلى شيوع الحجاب في أوساط الطبقات المختلفة من المجتمع التونسي، ومن المواقف الخجولة من الانفتاح على إسرائيل إلى القبول، بعد توقيع منظمة التحرير الفلسطينية اتفاقيات أوسلو، بفتح ممثلية تجارية إسرائيلية  في العاصمة التونسية، مقراً لها.
بعد  سنتين من مغادرتي تونس، انفجرت الثورة التونسية لتطيح نظام بن علي، ويطغى على المشهد السياسي وللمرة الأولى منذ الاستقلال، تنوعاً في التمثيل السياسي. ربما أصيب الجميع بالمفاجأة لما آلت إليه الأمور في تونس، وخصوصاً الفلسطينيين. ربما لم يخطر على بال أحد أن تنتشر الانتفاضات الشعبية من تونس إلى مصر وليبيا وسوريا واليمن بهذه الوتيرة المتسارعة، وقد يكون الفلسطينيون الأكثر قلقاً وريبةً بين الشعوب العربية، في ردة فعلهم تجاه الثورات العربية، وذلك لأن الفلسطينيين الذين انكسرت أحلامهم تدريجياً، وعلى مدى هزائمهم  في الأردن أولاً، ثم في لبنان، وتشتت قوتهم العسكرية في أكثر من بلد عربي بعيد عن فلسطين، وانعكاس هذا الواقع على البنية الفكرية والاجتماعية والسياسية للمنظومة التمثيلية للفلسطينيين، فصائل منظمة التحرير الفلسطينية، التي كانت آخذة بالتآكل والضعف، ثم تحولها بنيوياً إلى شكل من أشكال النظم العربية السائدة، وجدوا أنفسهم داخل إطار الاعتماد الكلي لاستمرار وجودهم على الأنظمة العربية المتواجدين في دولها معيشياً وأمنياً، وفي حرية الحركة السياسية ومحدوديتها، بما لا يتعارض مع سياسات تلك الأنظمة. هذا التحول البنيوي في المنظومة السياسية الفلسطينية، ألحق في ركبه المنظومة الثقافية بأوضح مما كانت عليه أصلاً. فلم يكن المثقفون الفلسطينيون البارزون في غالبيتهم خارج المدى الذي تحدده المنظومة السياسية، بل هم جزء منها ومن القيود المفروضة عليها، بل في أحيان كثيرة، ذهب مثقفون فلسطينيون في موالاتهم للنظم العربية، أبعد مما ذهبت إليه منظومتهم السياسية. قلائل هم المثقفون الفلسطينيون الذين استطاعوا الخروج من هذه القوقعة الرسمية فلسطينياً وعربياً، فقد استندوا في معيشتهم، التي وصلت في بعض الحالات إلى الترف، إلى ما يقدمه النظام السياسي الفلسطيني من سفر ونفقات وامتيازات وحرية حركة بين الدول، من غير أن يتعرضوا للمضايقات والمنع والتوقيف في المطارات والمعابر، كما يتعرض مواطنوهم العاديون. حدثني صديق في رام الله، أثق بمواقفه المساندة لحراك الشعوب العربية، كيف أنه وغيره كثيرين من الفلسطينيين في الضفة الغربية، لا يجرؤون على نقد النظام الأردني مثلاً في أي موقف، لخشيتهم من أن يمنعوا من عبور جسر الملك حسين، المعبر الوحيد لهم إلى الخارج، وكذلك الأمر بالنسبة إلى فلسطينيي غزة حيال النظام المصري. وربما نستطيع أن نقول الشيء نفسه عن المثقفين والإعلاميين العاملين في دول الخليج، الذين وإن كانوا يمتلكون رؤية نقدية لسياسات تلك البلاد الداخلية أو الخارجية، فهم لا يجازفون بإظهار النقد والمساءلة حتى في القضايا التي تمس فلسطين وقضيتها. يمكن القول إن هذا الواقع الفلسطيني المنزوي داخل قوقعة عدم الاكتراث في حالته الدنيا، والوقوف إلى جانب الأنظمة في حالته القصوى، بما يجري منذ اندلاع الثورات العربية، قبل ما يزيد على ست سنوات، وعلى المستويين السياسي والثقافي، يظهر بوضوح أشد في الموقف الفلسطيني السياسي والثقافي من الثورة السورية، منذ بدايتها وقبل أن تتعرض لنكسات واختراقات وعثرات مصادرتها من قبل قوى أصولية متوحشة، مدعومة من عدد من دول الخليج. فباستثناء بعض المثقفين الفلسطينيين السوريين، الذين دعموا  الشعب السوري، ما فرض عليهم الخروج من سوريا إلى منافي عربية وأوروبية، وأصوات قليلة معروفة في الضفة الغربية وغزة ولبنان والأردن، وأقل من ذلك بكثير داخل دولة إسرائيل، فإننا نرى بما لا يقبل الشك أن الفلسطينيين خذلوا الثورات العربية، خصوصاً الثورة السورية، التي كان متوقعاً منهم أن يقفوا معها  نظراً لتاريخ الصراع الدموي بينهم وبين النظام السوري، الذي لم يتوقف يوماً عن التنكيل بقضيتهم ومحاولة مصادرة قرارها المستقل، تحت حجج المقاومة الغوغائية، ومارس بحقهم القتل والحصار والاعتقال والتشريد، منذ السبعينيات، وإلى مخيم اليرموك اليوم . لم يكتف مثقفون فلسطينيون كثيرون بالصمت  إزاء ما يجري في سوريا، كما فعل مثقفون عرب غيرهم، بل دافع بعضهم عن النظام الاستبدادي بالكتابة والزيارات التضامنية إلى دمشق، والظهور في برامج تلفزيونية، مدافعين عن النظام وحلفائه. لجأ هؤلاء الفلسطينيون، في دفاعهم هذا إلى حجج ساقطة، كاختراق الثورة السورية من حركات إسلامية أصولية، غافلين عن أن حزب الله والمليشيات الشيعية الأخرى ليست حركات علمانية أو ماركسية. بلغ تهافت المشهد الثقافي في العمق فلسطينيي ال48 والضفة الغربية ذروته أثناء  كارثة حصار مدينة حلب، حين قام أعضاء وقيادات فلسطينيون في الحزب الشيوعي الإسرائيلي، والجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة، بالتعبير العلني على محطات التلفزة الإسرائيلية، وفي الشوارع، بالدفاع عن تدمير حلب، بحجة القتال ضد “داعش”، مستنسخين الخطاب الإسرائيلي نفسه في تدمير غزة، بحجة وجود حركتي حماس والجهاد الإسلامي. أمام هذا المشهد البائس، وأمام كل هذا السقوط الأخلاقي، لا بد لنا أن نلجأ إلى التحليل النفسي علّناً نرى إلى الدوافع وراء السقوط المريع، فلا شك أن هزيمة المشروع الوطني الفلسطيني نخرت العقل الفلسطيني فلجأ إلى الهروب إلى مصالحه الشخصية والمناطقية، فلا اهتمام حقيقي لدى التجمعات الفلسطينية، بما يجري خارج بقعتها الجغرافية، كل على حدة. لم يعد هناك جامع موحد لمصلحة وطنية واحدة، لذا نرى أنه حتى مأساة نصف مليون فلسطيني في سوريا لم تستفز حتى المشاعر الإنسانية لدى التجمعات الفلسطينية الأخرى، ربما باستثناء فلسطينيي لبنان، الذين خبروا دموية النظام السوري ماضياُ وحاضراً.

02.11.2017
زمن القراءة: 4 minutes

عشت في تونس لعشرين عاماً، وكنت وصلتها بعد ثلاثة شهور من تولي الرئيس زين العابدين بن علي الحكم على إثر انقلابه الشهير. خلال عشرين عاماً، شهدت التطورات السياسية والاجتماعية في تونس، التي ستؤدي الى الانتفاض الشعبي عام 2011.

عشت في تونس لعشرين عاماً، وكنت وصلتها بعد ثلاثة شهور من تولي الرئيس زين العابدين بن علي الحكم على إثر انقلابه الشهير. خلال عشرين عاماً، شهدت التطورات السياسية والاجتماعية في تونس، التي ستؤدي الى الانتفاض الشعبي عام 2011. وحين غادرت تونس في كانون الثاني (يناير) عام 1988، كانت إرهاصات الانتفاض على النظام بدأت تتضح. كان كل شيء واضحاً من الهمس الحذر في التحدث بالشأن السياسي في نهاية  الثمانينيات، إلى الجهر بالنقد السياسي لممارسات النظام والفساد الفاقع الذي مارسته الطبقة الحاكمة وبطانتها، ومن خوف النساء من ارتداء الحجاب أو غطاء الرأس في المراحل الأولى من عمر النظام الجديد، إلى شيوع الحجاب في أوساط الطبقات المختلفة من المجتمع التونسي، ومن المواقف الخجولة من الانفتاح على إسرائيل إلى القبول، بعد توقيع منظمة التحرير الفلسطينية اتفاقيات أوسلو، بفتح ممثلية تجارية إسرائيلية  في العاصمة التونسية، مقراً لها.
بعد  سنتين من مغادرتي تونس، انفجرت الثورة التونسية لتطيح نظام بن علي، ويطغى على المشهد السياسي وللمرة الأولى منذ الاستقلال، تنوعاً في التمثيل السياسي. ربما أصيب الجميع بالمفاجأة لما آلت إليه الأمور في تونس، وخصوصاً الفلسطينيين. ربما لم يخطر على بال أحد أن تنتشر الانتفاضات الشعبية من تونس إلى مصر وليبيا وسوريا واليمن بهذه الوتيرة المتسارعة، وقد يكون الفلسطينيون الأكثر قلقاً وريبةً بين الشعوب العربية، في ردة فعلهم تجاه الثورات العربية، وذلك لأن الفلسطينيين الذين انكسرت أحلامهم تدريجياً، وعلى مدى هزائمهم  في الأردن أولاً، ثم في لبنان، وتشتت قوتهم العسكرية في أكثر من بلد عربي بعيد عن فلسطين، وانعكاس هذا الواقع على البنية الفكرية والاجتماعية والسياسية للمنظومة التمثيلية للفلسطينيين، فصائل منظمة التحرير الفلسطينية، التي كانت آخذة بالتآكل والضعف، ثم تحولها بنيوياً إلى شكل من أشكال النظم العربية السائدة، وجدوا أنفسهم داخل إطار الاعتماد الكلي لاستمرار وجودهم على الأنظمة العربية المتواجدين في دولها معيشياً وأمنياً، وفي حرية الحركة السياسية ومحدوديتها، بما لا يتعارض مع سياسات تلك الأنظمة. هذا التحول البنيوي في المنظومة السياسية الفلسطينية، ألحق في ركبه المنظومة الثقافية بأوضح مما كانت عليه أصلاً. فلم يكن المثقفون الفلسطينيون البارزون في غالبيتهم خارج المدى الذي تحدده المنظومة السياسية، بل هم جزء منها ومن القيود المفروضة عليها، بل في أحيان كثيرة، ذهب مثقفون فلسطينيون في موالاتهم للنظم العربية، أبعد مما ذهبت إليه منظومتهم السياسية. قلائل هم المثقفون الفلسطينيون الذين استطاعوا الخروج من هذه القوقعة الرسمية فلسطينياً وعربياً، فقد استندوا في معيشتهم، التي وصلت في بعض الحالات إلى الترف، إلى ما يقدمه النظام السياسي الفلسطيني من سفر ونفقات وامتيازات وحرية حركة بين الدول، من غير أن يتعرضوا للمضايقات والمنع والتوقيف في المطارات والمعابر، كما يتعرض مواطنوهم العاديون. حدثني صديق في رام الله، أثق بمواقفه المساندة لحراك الشعوب العربية، كيف أنه وغيره كثيرين من الفلسطينيين في الضفة الغربية، لا يجرؤون على نقد النظام الأردني مثلاً في أي موقف، لخشيتهم من أن يمنعوا من عبور جسر الملك حسين، المعبر الوحيد لهم إلى الخارج، وكذلك الأمر بالنسبة إلى فلسطينيي غزة حيال النظام المصري. وربما نستطيع أن نقول الشيء نفسه عن المثقفين والإعلاميين العاملين في دول الخليج، الذين وإن كانوا يمتلكون رؤية نقدية لسياسات تلك البلاد الداخلية أو الخارجية، فهم لا يجازفون بإظهار النقد والمساءلة حتى في القضايا التي تمس فلسطين وقضيتها. يمكن القول إن هذا الواقع الفلسطيني المنزوي داخل قوقعة عدم الاكتراث في حالته الدنيا، والوقوف إلى جانب الأنظمة في حالته القصوى، بما يجري منذ اندلاع الثورات العربية، قبل ما يزيد على ست سنوات، وعلى المستويين السياسي والثقافي، يظهر بوضوح أشد في الموقف الفلسطيني السياسي والثقافي من الثورة السورية، منذ بدايتها وقبل أن تتعرض لنكسات واختراقات وعثرات مصادرتها من قبل قوى أصولية متوحشة، مدعومة من عدد من دول الخليج. فباستثناء بعض المثقفين الفلسطينيين السوريين، الذين دعموا  الشعب السوري، ما فرض عليهم الخروج من سوريا إلى منافي عربية وأوروبية، وأصوات قليلة معروفة في الضفة الغربية وغزة ولبنان والأردن، وأقل من ذلك بكثير داخل دولة إسرائيل، فإننا نرى بما لا يقبل الشك أن الفلسطينيين خذلوا الثورات العربية، خصوصاً الثورة السورية، التي كان متوقعاً منهم أن يقفوا معها  نظراً لتاريخ الصراع الدموي بينهم وبين النظام السوري، الذي لم يتوقف يوماً عن التنكيل بقضيتهم ومحاولة مصادرة قرارها المستقل، تحت حجج المقاومة الغوغائية، ومارس بحقهم القتل والحصار والاعتقال والتشريد، منذ السبعينيات، وإلى مخيم اليرموك اليوم . لم يكتف مثقفون فلسطينيون كثيرون بالصمت  إزاء ما يجري في سوريا، كما فعل مثقفون عرب غيرهم، بل دافع بعضهم عن النظام الاستبدادي بالكتابة والزيارات التضامنية إلى دمشق، والظهور في برامج تلفزيونية، مدافعين عن النظام وحلفائه. لجأ هؤلاء الفلسطينيون، في دفاعهم هذا إلى حجج ساقطة، كاختراق الثورة السورية من حركات إسلامية أصولية، غافلين عن أن حزب الله والمليشيات الشيعية الأخرى ليست حركات علمانية أو ماركسية. بلغ تهافت المشهد الثقافي في العمق فلسطينيي ال48 والضفة الغربية ذروته أثناء  كارثة حصار مدينة حلب، حين قام أعضاء وقيادات فلسطينيون في الحزب الشيوعي الإسرائيلي، والجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة، بالتعبير العلني على محطات التلفزة الإسرائيلية، وفي الشوارع، بالدفاع عن تدمير حلب، بحجة القتال ضد “داعش”، مستنسخين الخطاب الإسرائيلي نفسه في تدمير غزة، بحجة وجود حركتي حماس والجهاد الإسلامي. أمام هذا المشهد البائس، وأمام كل هذا السقوط الأخلاقي، لا بد لنا أن نلجأ إلى التحليل النفسي علّناً نرى إلى الدوافع وراء السقوط المريع، فلا شك أن هزيمة المشروع الوطني الفلسطيني نخرت العقل الفلسطيني فلجأ إلى الهروب إلى مصالحه الشخصية والمناطقية، فلا اهتمام حقيقي لدى التجمعات الفلسطينية، بما يجري خارج بقعتها الجغرافية، كل على حدة. لم يعد هناك جامع موحد لمصلحة وطنية واحدة، لذا نرى أنه حتى مأساة نصف مليون فلسطيني في سوريا لم تستفز حتى المشاعر الإنسانية لدى التجمعات الفلسطينية الأخرى، ربما باستثناء فلسطينيي لبنان، الذين خبروا دموية النظام السوري ماضياُ وحاضراً.