غادة عون من النوع الذي يجبرك فعلها على القبول أو الرفض ، ثم الإستدراك بـ”لكن”، فحتى لحظة قرّر المجلس التأديبي للقضاة، برئاسة القاضي جمال الحجار، صرفها من الخدمة، بدا التضامن معها مريباً، ومثله كان رجمها أو اعتبار أنها تستحق هذه النهاية.
والارتباك هنا ليس عبثياً، بل هو سياق تفضي إليه وقائع تلازمت مع الحضور الطاغي لميشال عون والعونيين في قضايا جوهرية أثقلت على اللبنانيين بعد ثورة 17 تشرين.
بين مكتبها كمدعية عامة لجبل لبنان، ومشاهد ملاحقتها رياض سلامة في منزله وفي البنك المركزي، إلى مداهمتها شركة مكتف للصيرفة، ثم ادعائها على أصحاب المصارف اللبنانية، كان حضور الحرس العوني القديم معها، أشبه بجهاز أمني يدور في فلك “العونية” كضابطة عدلية بديلة! مؤشران راجحان عن هوية سياسية لم تبذل القاضية عون جهداً لتبديدها.
نحن والحال هنا، نتحدث عن هدر وفساد وسرقة كارتكابات عونية أنَّ قُدِّر لهم ذلك. غادة عون في “عونيتها” كانت أداة تواطؤ الأخيرة وتدليسها على عقل اللبنانيين. كيف؟
بعد حوالي عقدين لها في السلطة، هذا حال البلد مع الحالة”العونية” وشركائها. مع ذلك ظل عون و باسيل قادران على التدليس وادعاء العفة، والقاضية عون كانت الاستثمار العوني القبيح لهذا الادعاء.
دهاء القاضية غادة عون وفريقها السياسي، يكمن في اختيار مسار المواجهة. فحين يكون رياض سلامة وأصحاب المصارف، من تنكبت عون ملاحقتهم، وكعناوين جاذبة للوجدان اللبناني الطردي يصير تقصي هذا الدهاء يسيراً. إنه استدراج منطقي لـ”نعم” عند المواطن التي تكفلت المصارف وحاميها في صنع “ضدية” هائلة اتجاههما.
بالمقابل، ما هو العدل؟ الإجابة ببساطة في مؤشره. ميزان العدل الذي تدَّعي عون باسمه يتبدى مختلاً.
إقرأوا أيضاً:
لم تخض عون في قضية إلا ووشى متنها أن خصومة عونية تقف وراءها، دون انتفاء حقيقة معظم هذه القضايا وأحقيتها طبعاً. “عونية” القاضية عون هي من تفرض الـ”لكن” بعد “النعم”. “لكن” كهذه تستقي مشروعيتها من قضايا مشابهة لم تحاول عون مجرد الاقتراب منها، وإن اقتربت فمآل هذا الاقتراب في الأدراج.
كل المصارف مباحة أمام ادعاء القاضية عون، إلا “بنك سيدروس” العوني. المال الذي أساله رياض سلامة على المصرف المذكور في العام 2017، كهندسات مالية، كان بالمناسبة سبب التمديد له بطلب من الرئيس السابق ميشال عون، ومن خارج جدول أعمال مجلس الوزراء.
ملف النفط المغشوش الذي خاضت فيه عون كان محقاً، وكان لا بأس أن ينطوي ربما على التضحية بمديرة المنشآت النفطية العونية أورورا فغالي مقابل إدانة سركيس حليس “زلمة” مرشح الممانعة سليمان فرنجية، وتهشيم صورة منافس رئاسي لباسيل.
لكن قضية الفيول المغشوش هي فساد في سياق فساد أكبر يبدأ بالعقد الملتبس لبواخر “الطاقة” كأحد “ثمار” تفاهم مار مخايل بين “حزب الله” و”التيار الوطني الحر”، ثم يتدرج في عمولات كشفت البرامج الاستقصائية أن “زبائنها” هم من البطانة العونية إضافة إلى وزرائها منذ جبران باسيل إلى وليد فياض.
لم تنتظر عون يوماً الإدعاء لكي تبادر. مشاهد مداهماتها وملاحقاتها كانت صانعة للأحداث، وفي أحيان كثيرة كانت هذه الصناعة مدروسة بطقوسها القانونية والبوليسية. لكن “بطولات” عون لم تتمدد خارج الخصومة العونية وغاياتها السياسية.
بهذا المعنى ، كانت عون تخوض في القانون وفي السياسة معاً. وهو ما يفترض بالضرورة تسييل القانون، كما الحق، في خدمة السياسة ونماذجها الفاسدة. هنا تتبدى سقطة قاضية لم تحاول التخفف من “عونية” تخففت منها أغلب الأذرع العونية في القضاء.
لا بأس باستدراج نموذج عن صعوبة تسييل تهمة الهوية السياسية للقاضي عند رأي عام مأخوذ بالاتهام. المحقق العدلي في قضية انفجار مرفأ بيروت طارق البيطار هو نموذج عن ذلك.
غالباً ما حاول المتهمون بجريمة المرفأ إلصاق الهوية “العونية” بالبيطار. مقالات، وتسريبات مقصودة، وكلام سياسي كثير سال في “عونية” البيطار، وكانت غايتها “تسييس” ملف الجريمة. وسياق كهذا تبدى كخيبة أمام قاضٍ لم يبدد جهده في طقوس ووقائع احترفتها القاضية عون.
عون خاضت في قضايا، نعم. وتغاضت عن قضايا، نعم. ومجرد تماهيها مع هذه المواءمة المبتذلة بين القانون والسياسة هو بحد ذاته سبب من أسباب “الاعتلال” القضائي الذي أتاح لخصم سياسي أن يعاقبها راهناً، وأتاح لرياض سلامة وأصحاب المصارف متنفساً جديداً لتبديد أموال اللبنانيين.