fbpx
ساهموا في دعم الإعلام المستقل و الجريء!
ادعموا درج

في الثمانينيات دفعت برلين الغربية ثمناً باهظاً لقاء الحرية

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!
"درج"

من الشائع الآن تذكر برلين الغربية في السنوات الأخيرة من الحرب الباردة كمكان للحرية المطلقة. لكن العثور على غرفة للإيجار كان واحداً من المشاكل التي واجهتنا في المدينة.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

من الشائع الآن تذكر برلين الغربية في السنوات الأخيرة من الحرب الباردة كمكان للحرية المطلقة. لكن العثور على غرفة للإيجار كان واحداً من المشاكل التي واجهتنا في المدينة.
ربما أتحمل بعضاً من المسؤولية عن الحنين لبرلين الغربية الثائرة، نظراً لأنني أيضاً أرسم عبر كتاباتي مدينة الحرب الباردة الغابرة، وكأنها بؤرةً ساخنة للسياسات الراديكالية والحماس الإبداعي غير العادي، وبالطبع، كانت كذلك.
كانت برلين الغربية مدعومة تماماً، بينما كانت محصورة في عمق في الكتلة الشرقية،  وهو ما جعل العيش الرخيص  أمراً سهلاً، ووفر وقت الفراغ للملهمين واللامبالين على حد سواء. ومع ذلك، يساورني بعض الشك عندما أسمع الوافدين الجدد يتغنون بالأيام الخوالي الجيدة عندما كانت المعيشة سهلة، حين قسم المعقل المناهض للفاشية أوروبا، وعندما كانت برلين الغربية شديدة الروعة في فقاعتها  الصغيرة الواقية.
في الواقع، لم تكن برلين الغربية الساحة المريحة الخالية من القلق لمتعاطي المخدرات كما يعتقد الكثيرون.  ولابد لي من التساؤل عن عدد المغامرين من محبي موسيقى الجاز أو الهيبسترز الحاليين الذين كانوا ليتمكنوا من البقاء والاستمرار تحت هذه الظروف القاسية. فالعديد من الأشخاص بمن فيهم أنا، لم ينجوا من الشتاء الكئيب والرهاب من الأماكن المغلقة، دون ندباتٍ وعلامات. قالت لي شابة أعرفها إنها كانت في المساء، تفتح باب شقتها المظلمة والباردة والفارغة في ساحة  شونبرغ ثم تنفجر بالبكاء.
هرب صديقي توماس، أحد فوضويي 1968، إلى ميونيخ حيث تشرق الشمس في أغلب أشهر السنة، وجبال الألب على بعد مرمى حجر. وأخبرتني إحدى معارفي إن فكرة استحواذ الدبابات السوفيتية على نصف المدينة أو تقسيمها كما حدث في عام 1948 -1949، كان مفزعاً لها دوماً، لدرجة أنها كانت تبقي بعض المال الكافي لسيارة الأجرة وتذكرة الطائرة في أعلى خزانة ملابسها.
هذا من جهة، ومن جهةٍ أخرى،  كان السكن نادراً، بل الأدهى من ذلك، هو أن البحث عن غرفة- وليس شقة، بل مجرد غرفة واحدة أو إيجار مؤقت -أصعب بكثير من اليوم. جميع من أعرف عاشوا في شقة مشتركة، تدعى بالألمانية   Wohngemeinschaft ، والتي كانت تحوي أكثر من سبعة أشخاص في نفس الوقت طالما كان ذلك ممكناً.
استخدمت  العديد من الشقق الفحم المحروق في الأفران الخزفية للتدفئة. وخُزنت القوالب المتسخة والمتربة في القبو. ناهيك عن أن إشعال الفرن كان مهمةً شاقة، ومهما وضعت من فحم، لم تكن أغلب الأفران تدفئ الشقة بأكملها في البرد القارس (الذي بقيت فيه درجات الحرارة إبان “1985-1986″، وهو أول عام لي في برلين الغربية، أقل من الصفر لأشهر).
كانت الحانات والمقاهي مزدحمة للغاية، لدفئها بشكل ما. بالإضافة إلى أن الحصول على مأوى من أي نوع كان أمراً صعباً، حتى وإن كنت على استعداد على تحمل حمامات الدرج المشتركة مع الجيران، أو البيوت الصغيرة التي لا يوجد بها لا حمام ولا دش.
كان السكن  قليلاً للغاية، لدرجة أن الناس كانوا يصطفون منذ الخامسة صباحاً يوم الأربعاء والأحد أمام بيرلينر مورجنبوست، وهي صحيفة يومية كانت تنشر لوائح التأجير مرتين في الأسبوع. وكان المتآمر الشريك يحجز مكاناً في أقرب كشك هاتف. ويسرع شخص آخر بنسخة من اللائحة الجديدة فور خروجها من المطابع في السادسة صباحاً، ليبدأ السباق لرؤية من سيتمكن من الاتصال أولاً.
وبما أن الأجور كانت مرتفعة نسبياً مقارنة بالسكن، فعند حصولك على غرفة تكون عادةً رخيصة- تستطيع العمل لبضعة أسابيع ومن ثم العيش بما كسبته لمدة شهر أو أكثر. كانت فرص العمل الجزئي وفيرة، نظراً لأن المدينة قد عرفت تشريداً للسكان، وهو ما تسبب في نقص في اليد العاملة، بالرغم من تراجع مناطق الصناعة في المدينة كذلك.
كان أسهل مكان للحصول على عمل جزئي فيه هو مكتب تشغيل الجامعة. وكان يدعى هذا المكتب Heinzelmännchen، أو Elfin Helpers. يمكن القدوم إليه الساعة السابعة صباحاً، ثم اختيار رقم والانتظار (إلا إذا لم تستطع تحمل رائحة دخان السجائر، عندها يمكنك الانتظار في الردهة). وعندما يأتي دورك، يتم تعيينك في وظيفة ما، والتي كانت بالنسبة لي تتراوح بين ملء رفوف الصيدلية، أو كنس أوراق الشجر، أو توصيل الرسائل البريدية وتقطيع الحطب، وتوصيل المشروبات المعبأة، وبناء المدرجات.
أمضيت أكثر من شهر في جر عربة يدوية في موقع بناء في زهلندورف. لقد استمتعت بعبور المدينة والعمل جنباً إلى جنب مع العاملين الأجانب وسكان برلين. ولكن تلك الأيام كانت صعبة وطويلة، أيام تبدأ قبل بزوغ الفجر وتنتهي بعد الغسق بساعاتٍ.
ما كان ينبغي التدرب عليه، هو  الحفاظ على المال لأطول فترة ممكنة، ممّا يعني أن الأكل لم يكن رائعاً. كانت كافيتيريا الجامعة والتي تدعى بالألمانية “Mensa” تقدم وجباتٍ ساخنة وبأسعار لا تضاهى.
أما أثناء وجودي في المنزل، فلا أتذكر شيئاً سوى المعجنات، والصلصة الحمراء، كما أن متاجر برلين الغربية لم تكن تحتوي سوى على السلع الأساسية. أما أرخص الوجبات، فكان بوسعك الحصول عليها في مطعم  Athena Grill في شارع الكودام، حيث يمكن لستة ماركات ألمانية أن توفر لك وجبة يونانية متنوعة. وحتى لو كنت تمتلك المال، فلم يكن هناك أي محلات لبيع خبز الباغل، ولا مقاهي للإنترنت، ولا منافذ لتوزيع القهوة، ولا محلات الوجبات الجاهزة المصممة على الطراز الأميركي، ولا مطاعم البرغر أو مطاعم نباتية.
كان “المشهد” السائد، كمكان يُدعى، عالماً من النوادي والمقاهي، والأعمال البديلة، والمباني المسكونة دون حق قانوني، وشركات توزيع الطعام، والحدائق التي يملؤها أفراد الموجة الجديدة من موسيقيي ما بعد حقبة البانك، وأصحاب الشهرة.
إذا عشت في كريوزبرغ أو شونيبيرغ، الأحياء المفضلة، يمكنك التنقل عبر مشهد برلين الغربية لأسابيع ممتدة، دون اللقاء  بـ”أشخاص عاديين” ( أولئك الذين لديهم وظائف حقيقية أو عائلات أو ملابس جديدة ويرتدون ساعات يد، وما إلى ذلك) بشكل عرضي. وبالرغم من ذلك، هناك تناقض تام بين سنوات ما بعد الجدار من الفوضى في برلين الشرقية، حيث كان الجميع موضع ترحيب، وبين المواضع الثقافية الفرعية التي اتسمت بالعمق والانغلاق. لم يتم حماية الأجانب بل صُرخ في وجههم. قد تتمكن من دخول الحانات العصرية مثل ريسيكو أو كومبلنيست، ولكن سيكون عليك أن تبدو بالمظهر المناسب لتحصل على مشروب.
أما مستوطني المنزل فكانوا شعباً منفصلاً، من الممكن أن يكونوا شديدي العنف إن تجرأت على إلقاء نظرة على مبانيهم، والتي كانت مزينة بلافتات وأعلام وكتابات، التي من المفترض أن تُقرأ. المزاج السيء لـ “المشهد” اندمج تماماً مع سكان برلين  بردودهم الحادة، لضمان أنك ستفقد أعصابك في جميع الأيام باستثناء الأيام التي ستنال فيها بعض الحظ.
ومع اقتراب انتهاء الثمانينيات، أخذت عقلية مظلمة، خاطئة، مؤمنة بنهاية العالم في الظهور، وعُبر عنها بالشكل الأمثل في أغاني إينستورزند نيوبوتن. لو امتلكنا وقتها زاوية أوسع للنظر إلى العالم، لكنا قد لاحظنا أن مصلحاً قوياً “ميخائيل غورباتشوف”، قد تولى السلطة في الاتحاد السوفياتي، وأن التغييرات كانت تجري في جميع أنحاء أوروبا الشرقية، حتى أن بولندا المجاورة كانت واحدة من أفضل الأمثلة. ولكن لا أحد اهتم حقاً بأوروبا الشرقية.
وبحلول ذلك الوقت، كان الصدى الإبداعي لthe Brilliant Dilettantes (جينيال ديليتانتن)، وهم الفنانون المحليون في برلين الغربية، قد أوشك عل الانتهاء. انتشرت الكآبة في كل مكان، وتخطى الزمن السياسات القائمة، حتى أن سكان برلين الغربية الأصليين كانوا يفكرون في الخروج من المدينة.
عندما سقط الجدار في  التاسع من نوفمبر/ تشرين الثاني 1989، لم يكن أحد أقل استعداداً له من سكان برلين الغربية. اكتشف سكان المشهد في غرب برلين أن برلينهم المحبوبة والمحمية ستختفي قريباً. لم يروا في البداية سقوط الجدار فرصة لا تأتي إلا مرة واحدة في العمر لإعادة تشكيل برلين – بل كل أوروبا. تطلب الأمر تضافر  جهود سكان برلين الشرقية  والضيوف غير المدعوين من جميع أنحاء العالم، للبدء في إعادة تشكيل برلين على  أنقاض عاصمة ألمانيا الشرقية. وقد نصبوا مخيماتهم في حطام المباني التي لم يكن بها لا سباكة ولا تدفئة. كان ذلك ثمن القيام بما فيه مصلحتهم، لكن تلك قصة أخرى.
*بول هوكينوس هو كاتب مقره برلين. كتابه الأخير هو دعوة برلين: قصة الفوضى، والموسيقى، والجدار، ولادة برلين الجديدة.

المقال مترجم عن موقع the local ولقراءة المقال الأصلي زوروا الرابط التالي
 [video_player link=””][/video_player]

باسكال صوما - صحافية لبنانية | 11.02.2025

“ميني” حرب على الحدود اللبنانيّة – السورية… شهود يروون حكايات التهريب والمعابر غير الشرعيّة 

بعد سقوط نظام الأسد وبحسب شهود التقينا بهم لإنجاز هذا التحقيق، لم يتوقف التهريب على رغم التضييق الذي حاولت الإدارة السورية الجديدة فرضه، لكنّ التهريب اتّخذ أشكالاً مختلفة، وهو ما أكّده لنا مهرّبون وأشخاص عاشوا تجربة العبور غير الشرعي، بعد سقوط النظام، أي في الأسابيع الأخيرة.
"درج"
لبنان
01.02.2018
زمن القراءة: 6 minutes

من الشائع الآن تذكر برلين الغربية في السنوات الأخيرة من الحرب الباردة كمكان للحرية المطلقة. لكن العثور على غرفة للإيجار كان واحداً من المشاكل التي واجهتنا في المدينة.

من الشائع الآن تذكر برلين الغربية في السنوات الأخيرة من الحرب الباردة كمكان للحرية المطلقة. لكن العثور على غرفة للإيجار كان واحداً من المشاكل التي واجهتنا في المدينة.
ربما أتحمل بعضاً من المسؤولية عن الحنين لبرلين الغربية الثائرة، نظراً لأنني أيضاً أرسم عبر كتاباتي مدينة الحرب الباردة الغابرة، وكأنها بؤرةً ساخنة للسياسات الراديكالية والحماس الإبداعي غير العادي، وبالطبع، كانت كذلك.
كانت برلين الغربية مدعومة تماماً، بينما كانت محصورة في عمق في الكتلة الشرقية،  وهو ما جعل العيش الرخيص  أمراً سهلاً، ووفر وقت الفراغ للملهمين واللامبالين على حد سواء. ومع ذلك، يساورني بعض الشك عندما أسمع الوافدين الجدد يتغنون بالأيام الخوالي الجيدة عندما كانت المعيشة سهلة، حين قسم المعقل المناهض للفاشية أوروبا، وعندما كانت برلين الغربية شديدة الروعة في فقاعتها  الصغيرة الواقية.
في الواقع، لم تكن برلين الغربية الساحة المريحة الخالية من القلق لمتعاطي المخدرات كما يعتقد الكثيرون.  ولابد لي من التساؤل عن عدد المغامرين من محبي موسيقى الجاز أو الهيبسترز الحاليين الذين كانوا ليتمكنوا من البقاء والاستمرار تحت هذه الظروف القاسية. فالعديد من الأشخاص بمن فيهم أنا، لم ينجوا من الشتاء الكئيب والرهاب من الأماكن المغلقة، دون ندباتٍ وعلامات. قالت لي شابة أعرفها إنها كانت في المساء، تفتح باب شقتها المظلمة والباردة والفارغة في ساحة  شونبرغ ثم تنفجر بالبكاء.
هرب صديقي توماس، أحد فوضويي 1968، إلى ميونيخ حيث تشرق الشمس في أغلب أشهر السنة، وجبال الألب على بعد مرمى حجر. وأخبرتني إحدى معارفي إن فكرة استحواذ الدبابات السوفيتية على نصف المدينة أو تقسيمها كما حدث في عام 1948 -1949، كان مفزعاً لها دوماً، لدرجة أنها كانت تبقي بعض المال الكافي لسيارة الأجرة وتذكرة الطائرة في أعلى خزانة ملابسها.
هذا من جهة، ومن جهةٍ أخرى،  كان السكن نادراً، بل الأدهى من ذلك، هو أن البحث عن غرفة- وليس شقة، بل مجرد غرفة واحدة أو إيجار مؤقت -أصعب بكثير من اليوم. جميع من أعرف عاشوا في شقة مشتركة، تدعى بالألمانية   Wohngemeinschaft ، والتي كانت تحوي أكثر من سبعة أشخاص في نفس الوقت طالما كان ذلك ممكناً.
استخدمت  العديد من الشقق الفحم المحروق في الأفران الخزفية للتدفئة. وخُزنت القوالب المتسخة والمتربة في القبو. ناهيك عن أن إشعال الفرن كان مهمةً شاقة، ومهما وضعت من فحم، لم تكن أغلب الأفران تدفئ الشقة بأكملها في البرد القارس (الذي بقيت فيه درجات الحرارة إبان “1985-1986″، وهو أول عام لي في برلين الغربية، أقل من الصفر لأشهر).
كانت الحانات والمقاهي مزدحمة للغاية، لدفئها بشكل ما. بالإضافة إلى أن الحصول على مأوى من أي نوع كان أمراً صعباً، حتى وإن كنت على استعداد على تحمل حمامات الدرج المشتركة مع الجيران، أو البيوت الصغيرة التي لا يوجد بها لا حمام ولا دش.
كان السكن  قليلاً للغاية، لدرجة أن الناس كانوا يصطفون منذ الخامسة صباحاً يوم الأربعاء والأحد أمام بيرلينر مورجنبوست، وهي صحيفة يومية كانت تنشر لوائح التأجير مرتين في الأسبوع. وكان المتآمر الشريك يحجز مكاناً في أقرب كشك هاتف. ويسرع شخص آخر بنسخة من اللائحة الجديدة فور خروجها من المطابع في السادسة صباحاً، ليبدأ السباق لرؤية من سيتمكن من الاتصال أولاً.
وبما أن الأجور كانت مرتفعة نسبياً مقارنة بالسكن، فعند حصولك على غرفة تكون عادةً رخيصة- تستطيع العمل لبضعة أسابيع ومن ثم العيش بما كسبته لمدة شهر أو أكثر. كانت فرص العمل الجزئي وفيرة، نظراً لأن المدينة قد عرفت تشريداً للسكان، وهو ما تسبب في نقص في اليد العاملة، بالرغم من تراجع مناطق الصناعة في المدينة كذلك.
كان أسهل مكان للحصول على عمل جزئي فيه هو مكتب تشغيل الجامعة. وكان يدعى هذا المكتب Heinzelmännchen، أو Elfin Helpers. يمكن القدوم إليه الساعة السابعة صباحاً، ثم اختيار رقم والانتظار (إلا إذا لم تستطع تحمل رائحة دخان السجائر، عندها يمكنك الانتظار في الردهة). وعندما يأتي دورك، يتم تعيينك في وظيفة ما، والتي كانت بالنسبة لي تتراوح بين ملء رفوف الصيدلية، أو كنس أوراق الشجر، أو توصيل الرسائل البريدية وتقطيع الحطب، وتوصيل المشروبات المعبأة، وبناء المدرجات.
أمضيت أكثر من شهر في جر عربة يدوية في موقع بناء في زهلندورف. لقد استمتعت بعبور المدينة والعمل جنباً إلى جنب مع العاملين الأجانب وسكان برلين. ولكن تلك الأيام كانت صعبة وطويلة، أيام تبدأ قبل بزوغ الفجر وتنتهي بعد الغسق بساعاتٍ.
ما كان ينبغي التدرب عليه، هو  الحفاظ على المال لأطول فترة ممكنة، ممّا يعني أن الأكل لم يكن رائعاً. كانت كافيتيريا الجامعة والتي تدعى بالألمانية “Mensa” تقدم وجباتٍ ساخنة وبأسعار لا تضاهى.
أما أثناء وجودي في المنزل، فلا أتذكر شيئاً سوى المعجنات، والصلصة الحمراء، كما أن متاجر برلين الغربية لم تكن تحتوي سوى على السلع الأساسية. أما أرخص الوجبات، فكان بوسعك الحصول عليها في مطعم  Athena Grill في شارع الكودام، حيث يمكن لستة ماركات ألمانية أن توفر لك وجبة يونانية متنوعة. وحتى لو كنت تمتلك المال، فلم يكن هناك أي محلات لبيع خبز الباغل، ولا مقاهي للإنترنت، ولا منافذ لتوزيع القهوة، ولا محلات الوجبات الجاهزة المصممة على الطراز الأميركي، ولا مطاعم البرغر أو مطاعم نباتية.
كان “المشهد” السائد، كمكان يُدعى، عالماً من النوادي والمقاهي، والأعمال البديلة، والمباني المسكونة دون حق قانوني، وشركات توزيع الطعام، والحدائق التي يملؤها أفراد الموجة الجديدة من موسيقيي ما بعد حقبة البانك، وأصحاب الشهرة.
إذا عشت في كريوزبرغ أو شونيبيرغ، الأحياء المفضلة، يمكنك التنقل عبر مشهد برلين الغربية لأسابيع ممتدة، دون اللقاء  بـ”أشخاص عاديين” ( أولئك الذين لديهم وظائف حقيقية أو عائلات أو ملابس جديدة ويرتدون ساعات يد، وما إلى ذلك) بشكل عرضي. وبالرغم من ذلك، هناك تناقض تام بين سنوات ما بعد الجدار من الفوضى في برلين الشرقية، حيث كان الجميع موضع ترحيب، وبين المواضع الثقافية الفرعية التي اتسمت بالعمق والانغلاق. لم يتم حماية الأجانب بل صُرخ في وجههم. قد تتمكن من دخول الحانات العصرية مثل ريسيكو أو كومبلنيست، ولكن سيكون عليك أن تبدو بالمظهر المناسب لتحصل على مشروب.
أما مستوطني المنزل فكانوا شعباً منفصلاً، من الممكن أن يكونوا شديدي العنف إن تجرأت على إلقاء نظرة على مبانيهم، والتي كانت مزينة بلافتات وأعلام وكتابات، التي من المفترض أن تُقرأ. المزاج السيء لـ “المشهد” اندمج تماماً مع سكان برلين  بردودهم الحادة، لضمان أنك ستفقد أعصابك في جميع الأيام باستثناء الأيام التي ستنال فيها بعض الحظ.
ومع اقتراب انتهاء الثمانينيات، أخذت عقلية مظلمة، خاطئة، مؤمنة بنهاية العالم في الظهور، وعُبر عنها بالشكل الأمثل في أغاني إينستورزند نيوبوتن. لو امتلكنا وقتها زاوية أوسع للنظر إلى العالم، لكنا قد لاحظنا أن مصلحاً قوياً “ميخائيل غورباتشوف”، قد تولى السلطة في الاتحاد السوفياتي، وأن التغييرات كانت تجري في جميع أنحاء أوروبا الشرقية، حتى أن بولندا المجاورة كانت واحدة من أفضل الأمثلة. ولكن لا أحد اهتم حقاً بأوروبا الشرقية.
وبحلول ذلك الوقت، كان الصدى الإبداعي لthe Brilliant Dilettantes (جينيال ديليتانتن)، وهم الفنانون المحليون في برلين الغربية، قد أوشك عل الانتهاء. انتشرت الكآبة في كل مكان، وتخطى الزمن السياسات القائمة، حتى أن سكان برلين الغربية الأصليين كانوا يفكرون في الخروج من المدينة.
عندما سقط الجدار في  التاسع من نوفمبر/ تشرين الثاني 1989، لم يكن أحد أقل استعداداً له من سكان برلين الغربية. اكتشف سكان المشهد في غرب برلين أن برلينهم المحبوبة والمحمية ستختفي قريباً. لم يروا في البداية سقوط الجدار فرصة لا تأتي إلا مرة واحدة في العمر لإعادة تشكيل برلين – بل كل أوروبا. تطلب الأمر تضافر  جهود سكان برلين الشرقية  والضيوف غير المدعوين من جميع أنحاء العالم، للبدء في إعادة تشكيل برلين على  أنقاض عاصمة ألمانيا الشرقية. وقد نصبوا مخيماتهم في حطام المباني التي لم يكن بها لا سباكة ولا تدفئة. كان ذلك ثمن القيام بما فيه مصلحتهم، لكن تلك قصة أخرى.
*بول هوكينوس هو كاتب مقره برلين. كتابه الأخير هو دعوة برلين: قصة الفوضى، والموسيقى، والجدار، ولادة برلين الجديدة.

المقال مترجم عن موقع the local ولقراءة المقال الأصلي زوروا الرابط التالي
 [video_player link=””][/video_player]