تزيح البوشية (النقاب) قليلاً عن وجهها ثم تعود فترخيها، يربكها احتكاكها الأول بضوء هذه المدينة الجديدة وهوائها وأصواتها. تأخذ نفساً عميقاً وتعاود اختلاس النظر. تبحر عيناها فوق رمال الفلاة المحيطة بها، تعانقان القباب والمآذن التي تظهر في البعيد، وتعلوان وتهبطان رفقة سرب من حمائم المقام.
تفلت يديها من كمي العباءة نحو الداخل، تمسك طرفي البوشية وتعقدهما عند منبت شعرها، فينكشف وجهها بالكامل. تشعر بالهواء يتخلل كل مسامات وجهها، يفتر فمها عن ابتسامة رضا، تتنهد كمن يزيح صخرة عن صدره، تستجمع ما في قلبها من شجاعة، وتجد الخطى نحو قلب المدينة.
للمرة الأولى منذ مجيئها إلى المدينة المقدسة، تمشي متحررة من الحاجز الأسود، الذي ألصقه بوجهها زوجها، مولانا، كما يسميه أهل القرية. نبهها قبل أن ينقلها عروساً إلى النجف، أن زوجات العلماء هناك، لا يبدين شيئاً من أجسادهن، يتجللن بالسواد من الرأس حتى القدمين، وعليها أن تكون مثلهن. قبلت لأنها لم تكن تملك رفاهية الرفض أو القبول، رجل قرر خطفها من حياتها ورجل آخر قبل بذلك، في مواقف كهذه لا حيلة لأمثالها إلا الإذعان.
منذ البداية أذعنت لقرار والدها بتزويجها لمولانا، كانت كبرى أخواتها الستة. أمها لا شغل لها سوى أن تحبل بعد كل فطام، ترضع الطفلة حولين كاملين، تفطمها، وتتهيأ لإنجاب الصبي، والصبي لا يأتي. سبقته ست بنات حتى الآن.
كانت كبرى أخواتها، لكنها لم تكن كبيرة كفاية لتتزوج، لترتبط برجل لا تعرف عنه شيئاً سوى أنه آدمي ابن أوادم، وأنه شيخ قريته ويتعلم في حوزة النجف مدينة العلم والعلماء. لم تكن تعرف شيئاً لا عن الرجل ولا عن المرأة، ولا عن أي عالم خارج حدود هذه البراري التي نشأت فيها. كانت حياتها موزعة ما بين العمل في الأرض والعمل من أجل الأرض، كانت يدا عاملة أكثر مما هي كائن بشري، شأنها شأن كل بنات قريتها. تنكش، تعشّب، تزرع، تبذر، تروي، تحصد، تقطف الجنى وتبيع الغلال.
كان أهل قريتها يتسلحون بالإنجاب ليطردوا الفقر والغلبة. طفل آخر آلة إنتاج أخرى، لكنه في الواقع كان فما جائعاً آخر. لا يعترفون بهذه الحقيقة، إلا بعد أن يزدحم البيت بالبطون الفارغة، وتعجز الحقول التي يزرعونها من أجل أن تدر عليهم نعيما وبحبوحة، عن ملئها وإشباعها.
كانت سنداً لأمها في البيت، وساعداً لأبيها في الحقول والمواسم، آلمها أن يتخليا عنها بهذه السهولة، أن يقذفاها في أحضان رجل غريب وبلد بعيد. إنه الخوف من الجوع، أجابت أمها، والدك كبر في السن ولم يعد بإمكانه إطعامنا كلنا، والأرض لا يمكن التنبؤ بعطائها. ليلة سفرها، سمعت أمها تبكي، وتقول لأبيها: “النجف فقيرة والناس هناك جائعون مثلنا”، فأجابها: “فلتجع بعيداً” ونام.
قبل السفر بساعات، أحضر لها مولانا عباءة وقفازات وبوشية وجوارب سوداء، وقال لها إنها أصبحت منذ الآن امرأة أخرى، تختلف عن نساء القرية جميعاً. عدة اللباس هذه، ستصبح جزءاً من جسدها، مكوناً لشخصيتها الجديدة، ولا يجوز شرعاً بعدما تضعها على جسدها، أن تتخلى عنها لأي سبب أو تستهين بشروطها.
هذه الذكريات صارت وراءها، أمامها الآن، تلمع المدينة المقدسة تحت شمس الصباح، مثل مرآة كبيرة تعكس الضوء وترسل خيوطه إلى أبعد زوايا القلب. تناديها، تلوح لها وتحثها على الإسراع بالوصول قبل أن يزدحم حضنها بالأبناء والعابرين والغرباء.
تدخل مقام الإمام علي من باب الساعة، توشك أن ترمي البوشية على وجهها، لكنها تتراجع. اليوم ستقدم نفسها لطيفه بدون حواجز، تريده أن يرى وجهها، أن يحفظ تفاصيله، ليميزها عن غيرها حين تقف ببابه طالبة الشفاعة عند الخالق. ليس صحيحاً ما قاله زوجها- مولانا، عن أن أمير المؤمنين يعرف الجميع من أصواتهم، أنفاسهم، خطواتهم. هناك حاجة للمتكلم أن يرى وجه المخاطب، أو العكس، أو الاثنان معاً. وإلا فهو يتحدث إلى فراغ، إلى وهم، إلى خيال. لا ينوب عن رؤية وجه المخاطب أي إشارة إليه، عالم الإشارات ليس عالم البسطاء، البسطاء يؤمنون بالأدلة الدامغة. ألم يقل موسى لربه أرني وجهك؟
تخرج من المقام، يغمرها شعور جارف بالبهجة وهي ترى وجه المدينة مكشوفاً أمام عينيها بهذا الوضوح. تمشي باتجاه السوق الكبير، تهل عليها روائح البهارات والدهين (حلوى نجفية) والطرشي (المخلل). يبدو السوق أكثر اتساعاً عما رأته من قبل، حيا، نابضاً ومليئاً بالألوان.
تفتح عينيها على اتساعهما، لتعب من مشاهدة ما تشاء، تتأمل وجوه الناس، حركات أجسادهم، تشم روائحهم، تسمع أصواتهم، تضحك لهم للمرة الأولى منذ قدومها. الحياة في السوق تمضي بكثير من الصخب، حين لا تفرقها عنها البوشية، حين تضع البوشية تحس أن أحداً ضغط على زر ما، فأوقف صخب الحياة.
تكمل مغامرتها في شوارع المدينة. مازالت كاشفة عن وجهها. تبلل ريقها بحبة دندرما (بوظة)، لا أحد يهتم بما تفعله، رغم أن الشارع مزدحم حولها. تلقي السلام على أناس لا تعرفهم، كأنها تدعوهم إلى وضع بصمات أعينهم على وجهها، فلربما لن تسنح لها الفرصة مرة ثانية لتكرار هذه المغامرة.
مولانا استقل الأمانة (الباص) باكراً إلى الكوفة ولن يعود قبل انسدال الليل، وهي بها شوق إلى رؤية المدينة من دون ظلال سوداء على عينيها، صحيح أن مولانا نهاها عن فعل هذا الحرام، إلا أنها لم تقتنع! هل كل نساء القرية يرتكبن الحرام وهي وحدها الناجية؟ له دينه ولي ديني.
تغادر المدينة باتجاه بيتها في حي أبو خالد، الحياة تتواصل خلفها، بكثير من الضوضاء والأضواء، تصل ومآذن المقام والمساجد والحسينيات المزروعة حوله، تصدح بأذان المغرب، تنفض آثار الرمل عن عباءتها، تنظر إلى البوشية نظرة تواطؤ وتضعها جانباً. في حمام السرداب، تهيل على جسدها دفعات متتالية من الماء البارد مستعيدة بيت العتابا الذي ودعتها به جدتها “يا نجمة الصبح بالله عليكي لمشهد علي روحي، ووصلي سلامي للأعز من روحي”، تحس أنها استعادت جزءاً عزيزاً من روحها، بعضاً من صدقها وعفويتها، تتمدد على الحصير وتنام نوماً عميقاً…هنيئاً.
[video_player link=””][/video_player]