fbpx

في جدليّة “احتكار المعاناة”

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

بات بعض من الفلسطينيين الذين يُعانون منذ أكثر من سبعين عاماً، على خلاف مع مُعاناة السوريين، والعكس صحيح، إذ لبعض السوريين انتقادات كثيرة لرد فعل بعض الفلسطينيين المتمثل بتأييدهم للنظام الأسدي، وتجاهل معاناة السوريين و”احتكار المعاناة” لأنفسهم فقط وبشكلٍ حصريّ.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

جدلية “احتكار المعاناة”، قضية طالما برزت في النقاشات المُمتدة عبر التاريخ -على الأقل التاريخ المعاصر- بين شعوب متباينة، وحتى بين فئات مُتباينة من الشعب الواحد. وهذا ما يدفعنا إلى النظر بعمّق حول المعاناة التي تُركت لنا من قِبل أحداث تاريخية مؤلمة (فلسطين مثالا)، أحداث ليست ماضية فقط، بل أيضا حاضرة (سوريا)، ومُتجددة (الإبادة الحالية في غزة).

الهدف محاولة الخروج من “احتكار المعاناة” نحو الوقوف على أرضٍ ثابتة تساعدنا على شدِّ الأزر بيننا -نحن أصحاب ذاكرة القهر-، ساعين نحو إداركٍ أخلاقيَ يسع الجميع، ولا يختص بذاته ويهمل الآخرين، كذلك إدراك سياسيّ واقعي، لا إدراك مُتوّهم، لبّسه المُستفيد منه في وجدان الكثيرين. وهذا ما يأخذنا إلى سؤال كيف نُفكك هذه المعاناة، لا أن نحتَكِرها؟ 

ذاكرة القهر، واحتكار المعاناة

منذ عقود طويلة، عانت الشعوب العربية من وطأة الاحتلالات الاستعمارية على أراضيها، والتي حكمتها في شكلٍ انتدابات أو حمايات أو احتلالات، بهدف السيطرة السياسية والاقتصادية على مُقدّرات الأرض والشعب.

 لكن، كان وضع الشعب الفلسطيني مُغايرا للسيناريوهات التي حدثت في مصر وسوريا والجزائر والمغرب وبلدان أُخرى، فوضع فلسطين تحت الانتداب البريطاني، ساعد وسمح بتأسيس مجموعاتٍ مُسلحة صهيونية، أقامت بعد ذلك دولة إسرائيل، بعد ما عُرف بنكبة فلسطين عام 1948. 

إثر هذه النكبة، هُجّر مئات الآلاف من الشعب الفلسطيني، في بلدان مجاورة وغير مجاورة. كانت لبنان والأردن وسوريا محضنا أساسيا للشعب الفلسطيني، بسبب متلازمة الجغرافيا، بالإضافة إلى الحاضنة السياسة التي كانت حاضرة وفعّالة في المشهد الفلسطيني، خاصة قبل وبعد النكبة. 

التهجير أعطى أسبقية تاريخية للشعب الفلسطيني من حيث المعاناة، حين أصبح مئات الآلاف تعيش في المخيمات، آملين أن يرجعوا إلى وطنهم الذي هجّر منه. لكن، لم يحدث هذا، بل ومع الوقت واشتعال الأحداث واختلاف سياسات الأنظمة العربية تجاه القضية الفلسطينية.

العامل الأبرز الذي دفع الكثيرين لإعادة النظر في القضية الفلسطينيّة هو النزاعات بين مُسلحي الفلسطينيين (منظمة التحرير الفلسطينية وفصائل أُخرى) وبين القوات العسكرية الرسمية وغير الرسمية داخل هذه البلدان. المثال الأبرز في الأردن خلال ما يعرف بأيلول الأسود (1970-1971) والذي انتهى بخروج الفدائيين الفلسطينيين من الأراضي الأردنية، والثاني على أرض لبنان، فيما عُرف بالحرب الأهليّة اللبنانيّة، والتي استمرت لعدة سنوات، إلى أن انتهت أيضاً، بخروج مسلحي منظمة التحرير الفلسطينية عام 1982. 

منذ قُرابة عشر سنوات حلَّ بالشعب السوري مأساة نتيجة قمع النظام السوريّ لقورة 2011، قُتل وسُجن وهُجر، ونَزح ولَجأ الملايين في شتّى بلدان العالم، خاصة لبنان، الأردن، مصر، تركيا وألمانيا. عاقب النظام الأسديّ السوريين على طلبهم الحرية، وتحولت الأرض السوريّة تباعا إلى مسرح حربٍ بين قوى داخليّة وخارجية، تتبع أيديولوجيات فكرية مُختلفة، وطموحات سياسية واقتصاديّة فرديّة ومؤسساتيّة ودولية. كُلّ هذا وضع الملايين من السوريين تحت وطأة معاناة لا مثيل لها منذ بداية القرن الحادي والعشرين. 

بالتوازي مع هذه المعاناة، بات بعض من الفلسطينيين الذين يُعانون منذ أكثر من سبعين عاماً، على خلاف مع مُعاناة السوري، والعكس، إذ كان لبعض السوريين انتقاداتٍ كثيرة لبعض من الفلسطينيين على رد فعلهم المتمثل بتأييدهم للنظام الأسدي، وتجاهل معاناتهم واحتكار المعاناة لهم فقط وبشكلٍ حصريّ.

 هذا “الخلاف” حصل على أصعدة عدة، جزء أساسي منها، تمثَّل في التعاون الاستراتيجي والسياسي القائم بين حركة حماس الفلسطينية والنظام الإيراني، الشريك الرئيسي لنظام الأسد في قتل وتشريد السوريين.

الآن، ومنذ طوفان الأقصى وحرب الإبادة على غزة، تجدد وظهر هذا الخلاف جلياً، لأن إيران وأذرعها، لاسيما حزب الله اللبناني دخل حرب ضمن قواعد اشتباك محددة، مع الجيش الإسرائيلي على الحدود الجنوبية اللبنانية.

ما سبق أدى إلى تموضع الحزب عند البعض كجماعة مقاومة مناضلة، تقف بجوار شعب غزة وحركة حماس في مواجهة إسرائيل، ما أغضب الكثيرين من السوريين ومؤيدي الثورة السورية، حيال تمجيد حركة مسلحة كانت شريكة للنظام الأسدي في قمع وقتل وتشريد ملايين السوريين. 

لم يكتفِ الممجدون لحزب الله وإيران على المستوى السياسي والعسكري فحسب، بل إنهم انتقلوا إلى التمجيد البطولي الشخصي، مثلما فعل القيادي بحماس إسماعيل هنّية بنعيه ذكرى القائد العسكري الإيراني المَقتول على يد القوات الأمريكية قاسم سُليماني، وَكنّاه بـ “شهيد القدس”، غير مبال بتورّط هذا “البطل” في قتل وتشريد الشعب السوري، كما شارك هنيّة في تمجيد قيادات أُخرى من الحرس الثوري الإيراني اغتالتهم إسرائيل مؤخرا في سوريا.

افتقاد المشروع العربي

على صعيد آخر، هذا التمجيد (وليس الاكتفاء بالتأييد) دفع ببعض النشطاء الفلسطينيين والعرب نحو ما يعرف بمحور الممانعة (لاسيما في أثناء ضربات إيران الأخيرة على إسرائيل)، مُعتقدين أنّه طوق التحرير من الاحتلال.

هذا الميل يعود إلى سببين رئيسيين، أولهما، افتقاد المشروع الوطني أو القومي لهؤلاء، فليس للعرب منذ يونيو 67، مشروع عروبي يُبنى ويعتمد عليه أيديولوجيا وسياسيا، لذلك يتجه هؤلاء، فاقدي المشروع، نحو تخيل امتلاك مشروع، وهو المشروع الإيراني في المنطقة.

 والسبب الثاني، هو عدم القراءة الصحيحة والدقيقة، لسياسات وأهداف مصالح إيران وأذرعها، فيُنسبون أهداف إيران في الرد على إسرائيل، إلى أهدافهم المُتخيلة، والتي يتمنون وجودها، وليس ضمن سياسات ومصالح إيران في المقام الأول. 

من بعد هذا التجاهل، عدم التدقيق، يتناسى الكثير، (تحديدا ذوات أوهام اليسار وبقايا أحلام العروبة ومحاربة الإرهاب)، أن إسرائيل دائما تضرب إيران داخل الأراضي السورية، لا مبالية بوجود النظام الأسدي، النظام المتجرد من سيادته على الأرض والثروات، بفعل التحكم الإيراني والروسي، القوي والمُتمركز عسكريا واقتصاديا على أرض سوريا. 

كما تجاهل البعض أن وجود ميليشيّات إيران وحزب الله على أرض سوريا من أجل قتال الشعب السوري، سبق وجود أي تنظيمات سُنّية راديكالية مثل هيئة تحرير الشام، جبهة النُصرة سابقا، أو تنظيم الدولة الإسلامية المعروف بـ داعش، ما ينفي أي حُجج تقول إن مساندة النظام الأسدي جاء مُجابهةً لِلتطرّف السُنّي. لذلك، ومن خلال هذه الدوافع، افتقاد المشروع، والتفكير بالتمني، نتج فعل احتكار المعاناة.

وحيال هذا الفعل، ما علينا إلّا أن نلتف حول مبدأ أخلاقي لا أسماء أو جنسيّات. إذ يجب التفريق بين القضية الفلسطينيّة والإنسان الفلسطيني. القضية هي بالفعل دينيا وأخلاقيا وتاريخيا، محورية بالنسبة للشعوب العربيّة، هذا بالفعل يجعلنا دائما -كشعوب- نلتف حولها، وندافع عن قدسيتها الواضحة جدا أمام الجميع. 

يجب أيضاً الدفاع عن الإنسان الفلسطيني، والفخر به، لكن، وفقا لِنضاله ومواقفه لا لكوّنه فلسطيني والسلام. مثله مثل أي إنسان آخر. الإنسان/الروح/الدم الفلسطيني مثل السوري كالمصري وغيرهم، نفخر، نثني وننتقد أو نُدين، أحيانا أو دائما حسب الموقف الأخلاقي الماضي والراهن.

يقول السياسي والكاتب الفلسطيني وقياديّ منظمة التحرير الفلسطينيّة شفيق الحوت “لسنا شعب من الملائكة، نحن شعب عادي، عُرضة للإغراء، للضغوط، وهناك البعض من ضِعاف النفوس”، إذ الملائكيّة لا تتوفّر في أي شعب أيا كانت جنسيّته أو اعتقاده أو تاريخيّته النضاليّة. فجلّ الدول المُستعمَرة تاريخيّا، أو الواقعة تحت الاستبداد الراهن، توجد بها فئة مؤيدة للاحتلال والاستبداد، تختلف نسبيّتها وتتباين ظروفها الطبقية من الفقيرة إلى البرجوازيّة، وهكذا تدور عجلة التاريخ، بين مناضلين أحرار ومُنحطّين عبيد من نفس الشعب الواحد. 

والخلاص هُنا للمناضلين أن يكون لهم أرض ثابتة في تأييد الحرية ورفع الظلم، كمَقهورين، وعن الآخرين ممّا تعرضوا لهذا القهر. إذ المبدأ لا يتجزأ وفقا لأي مصالح، وإن كانت هذه المصالح حقيقة وفعّالة في المشهد التاريخي، وبهذا يذوب أي خِلاف أخلاقي بين المُستبَدين والمُعذَّبين في الأرض.

نهايةً، يجب على أي فئة مُضهدة ألّا تبني على معاناتها استراتيجيّة براغماتية، تتجاهل فيها معاناة الآخرين من أجل تحقيق مصالحها وفقط، وهذا بالفعل ما استند إليه “المشروع الصهيوني”، لما امتلكه -اليهود- من سرديّة معاناتيّة، متمثّلة في نبذهم وقتلهم من قبل النظام الهتلريّ النازيّ، وقبلها اضطهادهم من الممالك المسيحية، فاستخدموا هذه السردية وتلك، كدافع إنساني، لهجرتهم نحو فلسطين وبناء مستوطناتهم، وإعلان دولتهم العُنصريّة. 

لو أخذت كلّ فئة اضطهادها بعين النظر، غاضة الطرف عن مأساة غيرها، هذا سيكون بمثابة عائق كبير، يُعزز مشاعر الكُره والاستقطاب، ويُفتت نضال الشعوب المَقهورة، والذي لن يتحقق تحررها إلَّا بوحدتها نحو مشروع تحرري متكامل لا متجزئ. 

04.05.2024
زمن القراءة: 6 minutes

بات بعض من الفلسطينيين الذين يُعانون منذ أكثر من سبعين عاماً، على خلاف مع مُعاناة السوريين، والعكس صحيح، إذ لبعض السوريين انتقادات كثيرة لرد فعل بعض الفلسطينيين المتمثل بتأييدهم للنظام الأسدي، وتجاهل معاناة السوريين و”احتكار المعاناة” لأنفسهم فقط وبشكلٍ حصريّ.

جدلية “احتكار المعاناة”، قضية طالما برزت في النقاشات المُمتدة عبر التاريخ -على الأقل التاريخ المعاصر- بين شعوب متباينة، وحتى بين فئات مُتباينة من الشعب الواحد. وهذا ما يدفعنا إلى النظر بعمّق حول المعاناة التي تُركت لنا من قِبل أحداث تاريخية مؤلمة (فلسطين مثالا)، أحداث ليست ماضية فقط، بل أيضا حاضرة (سوريا)، ومُتجددة (الإبادة الحالية في غزة).

الهدف محاولة الخروج من “احتكار المعاناة” نحو الوقوف على أرضٍ ثابتة تساعدنا على شدِّ الأزر بيننا -نحن أصحاب ذاكرة القهر-، ساعين نحو إداركٍ أخلاقيَ يسع الجميع، ولا يختص بذاته ويهمل الآخرين، كذلك إدراك سياسيّ واقعي، لا إدراك مُتوّهم، لبّسه المُستفيد منه في وجدان الكثيرين. وهذا ما يأخذنا إلى سؤال كيف نُفكك هذه المعاناة، لا أن نحتَكِرها؟ 

ذاكرة القهر، واحتكار المعاناة

منذ عقود طويلة، عانت الشعوب العربية من وطأة الاحتلالات الاستعمارية على أراضيها، والتي حكمتها في شكلٍ انتدابات أو حمايات أو احتلالات، بهدف السيطرة السياسية والاقتصادية على مُقدّرات الأرض والشعب.

 لكن، كان وضع الشعب الفلسطيني مُغايرا للسيناريوهات التي حدثت في مصر وسوريا والجزائر والمغرب وبلدان أُخرى، فوضع فلسطين تحت الانتداب البريطاني، ساعد وسمح بتأسيس مجموعاتٍ مُسلحة صهيونية، أقامت بعد ذلك دولة إسرائيل، بعد ما عُرف بنكبة فلسطين عام 1948. 

إثر هذه النكبة، هُجّر مئات الآلاف من الشعب الفلسطيني، في بلدان مجاورة وغير مجاورة. كانت لبنان والأردن وسوريا محضنا أساسيا للشعب الفلسطيني، بسبب متلازمة الجغرافيا، بالإضافة إلى الحاضنة السياسة التي كانت حاضرة وفعّالة في المشهد الفلسطيني، خاصة قبل وبعد النكبة. 

التهجير أعطى أسبقية تاريخية للشعب الفلسطيني من حيث المعاناة، حين أصبح مئات الآلاف تعيش في المخيمات، آملين أن يرجعوا إلى وطنهم الذي هجّر منه. لكن، لم يحدث هذا، بل ومع الوقت واشتعال الأحداث واختلاف سياسات الأنظمة العربية تجاه القضية الفلسطينية.

العامل الأبرز الذي دفع الكثيرين لإعادة النظر في القضية الفلسطينيّة هو النزاعات بين مُسلحي الفلسطينيين (منظمة التحرير الفلسطينية وفصائل أُخرى) وبين القوات العسكرية الرسمية وغير الرسمية داخل هذه البلدان. المثال الأبرز في الأردن خلال ما يعرف بأيلول الأسود (1970-1971) والذي انتهى بخروج الفدائيين الفلسطينيين من الأراضي الأردنية، والثاني على أرض لبنان، فيما عُرف بالحرب الأهليّة اللبنانيّة، والتي استمرت لعدة سنوات، إلى أن انتهت أيضاً، بخروج مسلحي منظمة التحرير الفلسطينية عام 1982. 

منذ قُرابة عشر سنوات حلَّ بالشعب السوري مأساة نتيجة قمع النظام السوريّ لقورة 2011، قُتل وسُجن وهُجر، ونَزح ولَجأ الملايين في شتّى بلدان العالم، خاصة لبنان، الأردن، مصر، تركيا وألمانيا. عاقب النظام الأسديّ السوريين على طلبهم الحرية، وتحولت الأرض السوريّة تباعا إلى مسرح حربٍ بين قوى داخليّة وخارجية، تتبع أيديولوجيات فكرية مُختلفة، وطموحات سياسية واقتصاديّة فرديّة ومؤسساتيّة ودولية. كُلّ هذا وضع الملايين من السوريين تحت وطأة معاناة لا مثيل لها منذ بداية القرن الحادي والعشرين. 

بالتوازي مع هذه المعاناة، بات بعض من الفلسطينيين الذين يُعانون منذ أكثر من سبعين عاماً، على خلاف مع مُعاناة السوري، والعكس، إذ كان لبعض السوريين انتقاداتٍ كثيرة لبعض من الفلسطينيين على رد فعلهم المتمثل بتأييدهم للنظام الأسدي، وتجاهل معاناتهم واحتكار المعاناة لهم فقط وبشكلٍ حصريّ.

 هذا “الخلاف” حصل على أصعدة عدة، جزء أساسي منها، تمثَّل في التعاون الاستراتيجي والسياسي القائم بين حركة حماس الفلسطينية والنظام الإيراني، الشريك الرئيسي لنظام الأسد في قتل وتشريد السوريين.

الآن، ومنذ طوفان الأقصى وحرب الإبادة على غزة، تجدد وظهر هذا الخلاف جلياً، لأن إيران وأذرعها، لاسيما حزب الله اللبناني دخل حرب ضمن قواعد اشتباك محددة، مع الجيش الإسرائيلي على الحدود الجنوبية اللبنانية.

ما سبق أدى إلى تموضع الحزب عند البعض كجماعة مقاومة مناضلة، تقف بجوار شعب غزة وحركة حماس في مواجهة إسرائيل، ما أغضب الكثيرين من السوريين ومؤيدي الثورة السورية، حيال تمجيد حركة مسلحة كانت شريكة للنظام الأسدي في قمع وقتل وتشريد ملايين السوريين. 

لم يكتفِ الممجدون لحزب الله وإيران على المستوى السياسي والعسكري فحسب، بل إنهم انتقلوا إلى التمجيد البطولي الشخصي، مثلما فعل القيادي بحماس إسماعيل هنّية بنعيه ذكرى القائد العسكري الإيراني المَقتول على يد القوات الأمريكية قاسم سُليماني، وَكنّاه بـ “شهيد القدس”، غير مبال بتورّط هذا “البطل” في قتل وتشريد الشعب السوري، كما شارك هنيّة في تمجيد قيادات أُخرى من الحرس الثوري الإيراني اغتالتهم إسرائيل مؤخرا في سوريا.

افتقاد المشروع العربي

على صعيد آخر، هذا التمجيد (وليس الاكتفاء بالتأييد) دفع ببعض النشطاء الفلسطينيين والعرب نحو ما يعرف بمحور الممانعة (لاسيما في أثناء ضربات إيران الأخيرة على إسرائيل)، مُعتقدين أنّه طوق التحرير من الاحتلال.

هذا الميل يعود إلى سببين رئيسيين، أولهما، افتقاد المشروع الوطني أو القومي لهؤلاء، فليس للعرب منذ يونيو 67، مشروع عروبي يُبنى ويعتمد عليه أيديولوجيا وسياسيا، لذلك يتجه هؤلاء، فاقدي المشروع، نحو تخيل امتلاك مشروع، وهو المشروع الإيراني في المنطقة.

 والسبب الثاني، هو عدم القراءة الصحيحة والدقيقة، لسياسات وأهداف مصالح إيران وأذرعها، فيُنسبون أهداف إيران في الرد على إسرائيل، إلى أهدافهم المُتخيلة، والتي يتمنون وجودها، وليس ضمن سياسات ومصالح إيران في المقام الأول. 

من بعد هذا التجاهل، عدم التدقيق، يتناسى الكثير، (تحديدا ذوات أوهام اليسار وبقايا أحلام العروبة ومحاربة الإرهاب)، أن إسرائيل دائما تضرب إيران داخل الأراضي السورية، لا مبالية بوجود النظام الأسدي، النظام المتجرد من سيادته على الأرض والثروات، بفعل التحكم الإيراني والروسي، القوي والمُتمركز عسكريا واقتصاديا على أرض سوريا. 

كما تجاهل البعض أن وجود ميليشيّات إيران وحزب الله على أرض سوريا من أجل قتال الشعب السوري، سبق وجود أي تنظيمات سُنّية راديكالية مثل هيئة تحرير الشام، جبهة النُصرة سابقا، أو تنظيم الدولة الإسلامية المعروف بـ داعش، ما ينفي أي حُجج تقول إن مساندة النظام الأسدي جاء مُجابهةً لِلتطرّف السُنّي. لذلك، ومن خلال هذه الدوافع، افتقاد المشروع، والتفكير بالتمني، نتج فعل احتكار المعاناة.

وحيال هذا الفعل، ما علينا إلّا أن نلتف حول مبدأ أخلاقي لا أسماء أو جنسيّات. إذ يجب التفريق بين القضية الفلسطينيّة والإنسان الفلسطيني. القضية هي بالفعل دينيا وأخلاقيا وتاريخيا، محورية بالنسبة للشعوب العربيّة، هذا بالفعل يجعلنا دائما -كشعوب- نلتف حولها، وندافع عن قدسيتها الواضحة جدا أمام الجميع. 

يجب أيضاً الدفاع عن الإنسان الفلسطيني، والفخر به، لكن، وفقا لِنضاله ومواقفه لا لكوّنه فلسطيني والسلام. مثله مثل أي إنسان آخر. الإنسان/الروح/الدم الفلسطيني مثل السوري كالمصري وغيرهم، نفخر، نثني وننتقد أو نُدين، أحيانا أو دائما حسب الموقف الأخلاقي الماضي والراهن.

يقول السياسي والكاتب الفلسطيني وقياديّ منظمة التحرير الفلسطينيّة شفيق الحوت “لسنا شعب من الملائكة، نحن شعب عادي، عُرضة للإغراء، للضغوط، وهناك البعض من ضِعاف النفوس”، إذ الملائكيّة لا تتوفّر في أي شعب أيا كانت جنسيّته أو اعتقاده أو تاريخيّته النضاليّة. فجلّ الدول المُستعمَرة تاريخيّا، أو الواقعة تحت الاستبداد الراهن، توجد بها فئة مؤيدة للاحتلال والاستبداد، تختلف نسبيّتها وتتباين ظروفها الطبقية من الفقيرة إلى البرجوازيّة، وهكذا تدور عجلة التاريخ، بين مناضلين أحرار ومُنحطّين عبيد من نفس الشعب الواحد. 

والخلاص هُنا للمناضلين أن يكون لهم أرض ثابتة في تأييد الحرية ورفع الظلم، كمَقهورين، وعن الآخرين ممّا تعرضوا لهذا القهر. إذ المبدأ لا يتجزأ وفقا لأي مصالح، وإن كانت هذه المصالح حقيقة وفعّالة في المشهد التاريخي، وبهذا يذوب أي خِلاف أخلاقي بين المُستبَدين والمُعذَّبين في الأرض.

نهايةً، يجب على أي فئة مُضهدة ألّا تبني على معاناتها استراتيجيّة براغماتية، تتجاهل فيها معاناة الآخرين من أجل تحقيق مصالحها وفقط، وهذا بالفعل ما استند إليه “المشروع الصهيوني”، لما امتلكه -اليهود- من سرديّة معاناتيّة، متمثّلة في نبذهم وقتلهم من قبل النظام الهتلريّ النازيّ، وقبلها اضطهادهم من الممالك المسيحية، فاستخدموا هذه السردية وتلك، كدافع إنساني، لهجرتهم نحو فلسطين وبناء مستوطناتهم، وإعلان دولتهم العُنصريّة. 

لو أخذت كلّ فئة اضطهادها بعين النظر، غاضة الطرف عن مأساة غيرها، هذا سيكون بمثابة عائق كبير، يُعزز مشاعر الكُره والاستقطاب، ويُفتت نضال الشعوب المَقهورة، والذي لن يتحقق تحررها إلَّا بوحدتها نحو مشروع تحرري متكامل لا متجزئ.