fbpx
ساهموا في دعم الإعلام المستقل و الجريء!
ادعموا درج

في خمّارة اليسار الدمشقية مع علي الجندي وممدوح عدوان

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

إضافة إلى خسارة عشرات الرفاق في حملة آذار/ مارس 1977 على رابطة العمل الشيوعي، خسرت الرابطة مطبعتها التي كانت تفخر بها. الخسارة كانت متعدّدة الطبقات…

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

يتقصّى الكاتب السوري وائل السواح في هذه المتابعة الضغوط التي تعرّض لها اليسار السوري الجديد بعد اعتقالات 1977، وانعكاس ..ذلك عليه وعلى أبناء جيله وبناته.

إضافة إلى خسارة عشرات الرفاق في حملة آذار/ مارس 1977 على رابطة العمل الشيوعي، خسرت الرابطة مطبعتها التي كانت تفخر بها. الخسارة كانت متعدّدة الطبقات، فباستثناء الجانب المادي والمعاناة في تأمين ثمنها، كانت عملية شرائها مغامرة كبيرة من الصعب أن تتكرّر. نشرت إحدى المطابع إعلاناً لبيع مطبعة مستعملة، واعتقد الشباب في لجنة العمل أن تلك فرصة ذهبية، ولكن كيف السبيل لشرائها من دون أن نلفت انتباه السلطة وعيونها في كلّ مكان؟ فاتح جاموس المغامر دوماً اقترح خطّة. تردّد أعضاء لجنة العمل كثيراً في تنفيذها، ولكنهم أقرّوها بعد حين. استخدم فاتح لهجته العلوية في تقمّص دور ضابط في سرايا الدفاع، وكان هيثم العودات جندياً بسيطاً برفقته، ومع الاثنين رفيق ثالث لعب دور السائق. صاحب المطبعة المسكين تلبّسه خوف من أن يطرح أي سؤال على الضابط العلوي، ولعلّه كان سعيداً لأن الضابط لم يصادر مطبعته، بل دفع السعر الذي طلبه من دون مجادلة. جاءت شاحنة فحمّلت الطابعة إلى عنوان محّدد، كان رفيق آخر ينتظرها في شاحنة أخرى، ونقلها إلى بيت للتنظيم في مخيّم اليرموك. وبدأت الراية الحمراء والبيانات تصدر بشكل أنيق ولافت. لم ندرِ وقتها أن رفيقاً آخر كان يسكن في الشارع نفسه. في حملة آذار، اقتحم رجال الأمن بيت الرفيق الآخر، ولكن الفتى تمكّن من الهرب، قافزاً من سطح إلى آخر، ونجا. قائد الدورية الذي أحس بالإهانة، أمر بتفتيش بيوت الحارة كلّها، وبدلاً من الرفيق الهارب، وجد كنزاً أفضل: الطابعة وأعداد من الراية الحمراء والبيانات والخط الاستراتيجي.

عاد أصلان عبد الكريم وفاتح جاموس وعبّاس عبّاس من بيروت في صيف 1977، بعد حملة اعتقالات آذار، بينما كان هيثم العودات (منّاع) في رحلة في شمال البلاد. حين عاد، وجد أخاه معن ينتظره في أول الحارة. سلّم عليه، ولكن معن لم يجبه، بل سارع يقول: “اهرب بسرعة! إنهم ينتظرونك في البيت”. نظر هيثم في وجه معن لحظة، ثم استدار ومضى ليعيش حياة التخفّي والملاحقة والتشرّد، مثله مثل كلّ الذين طلبهم الفرع الداخلي في مديرية المخابرات العامة. معن العودات الذي أنقذ أخاه هيثم، قضى بعد 31 سنة برصاصة من أحد قنّاصي بشار الأسد، وهو يودّع الشهيد محمد الاكراد في منطقة درعا. كان يسمّي نفسه مندسّ حوران، وكان سيماً، يفوّف البياض الجميل بعضاً من خصلات شعره وشاربيه، وابتسامة مقيمة لا تغادر شفتيه في معظم الأحيان.

سارع أبو حسين وفاتح ومعهما نهاد نحاس إلى لملمة خيوط التنظيم واستئناف العمل. وعاد التنظيم يعمل بإيقاع جيد. ودخل إلى ميدان العمل السرّي مفهوم “المتخفّي” وهو رفيق مطلوب من الأمن، يعيش حياة غير علنية، باسم جديد وهويّة جديدة، وعنوان غير معروف. كان تزوير الهويّة فناً أتقنه بعض الرفاق. وكانت بطاقات الهوية سهلة التزوير. كان هيثم العودات أول من عمل على تزوير الأختام والوثائق، وأتقن هذا الفنّ أكثر من غيره العميد، زياد مشهور. وحين اعتقل، حمل الراية منيف ملحم، الذي أتقن تزوير عشرات الهويات، ولكنه سيعطيني بعد زمن بطاقة هوية سيئة التزوير، ستلقي بي في قبضة رجال أمن الحدود.

ممدوح عدوان

ومن الطبيعي أن المتخفّي لا يستطيع أن يعمل لينفق على نفسه، فاضطر التنظيم إلى تأمين بيوت لاستيعاب المتخفين وقدّم مرتبّاً شهرياً كان 150 ليرة سورية لكلّ رفيق متخفّ. فرض ذلك علينا عبئاً إضافياً، ولم تكن اشتراكاتنا الشهرية (10 ليرات للطلاب ونسبة من الراتب للعاملين) تكفي لكلّ ذلك، فاضطررنا لتلقي المساعدات المالية من الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وكان ذلك موقفاً نبيلاً من الحكيم آنذاك. ولكننا سنردّ الجميل في 1982، إبان الغزو الإسرائيلي للبنان.

لذلك كان لا بدّ أن أجد عملاً، إذاً. كان ثمّة سببان لذلك. الضغوطات المالية بسبب حملة اعتقالات آذار 1977 ورغبتي في البقاء بجانب كل من أحب في دمشق. كان علي الجندي منقذي. في خمّارة مجدولين التقينا، كما كنا نفعل كل يوم تقريباً عند الظهر، شرحت له وضعي، وسألته إن كان يمكن أن يساعدني. ضحك بقهقهته الصاخبة التي يعرفها كل الصحب، وزاد وجهه احمراراً.

“لا تستطيع مفارقتها، ماهيك؟” سأل بصوت سمعه كل من كان في الخمّارة.

في شارع فرعي ضيّق يتسلل بخبث من جانب كنيسة اللاتين قرب ساحة النجمة إلى شارع الأرجنتين، كانت تختبئ خمّارة مجدولين. في السابق كانت مطمعاً مهمّاً، وربما ملهى أحياناً، ولكنّ الحال حطّت بها إلى درجة الخمّارة، تقدم عرقاً وبيرة بردى المحلية ونبيذاً رخيصاً، وتردفه – إذا أردتَ – بحمّص ومتبّلات وسلطة وبطاطا مقلية، بل، وأحياناً، بصينية دجاج بالفرن. في هذا المكان المنزوي، كانت شلّة الشاعر البهيّ علي الجندي تلتقي في ظهيرة كلّ يوم تقريباً. ممدوح عدوان كان ركناً أساسياً. ممدوح وعلي كانا صديقين لدودين، يتنافسان في الشعر والخمر والنساء.

دمشق في السبعينات

لم يعرف علي الجندي مهنة سوى الشعر. كان يكره العمل والمكاتب والدوام وضبّاط الأمن والعسكر. حين كان مديراً للدعاية والأنباء في الستينات، حوّل المديرية إلى لعبة، وكان ذلك آخر عهده في المكتب. طفق بعدها يجوب البلاد والمكتبات والمقاهي والبارات، يكتب الشعر كما يعيش، ويحبّ الناس ببساطة وصدق. كان واحداً من أهم الشعراء السوريين ومَعْلماً بارزاً في المشهد الثقافي السوري في الستينات والسبعينات من القرن الفائت، ولكنه لم يطق أن يصوّر نفسه كذلك. بدلاً من ذلك آثر حياة تشبه حياة التروبادور. مزيج من بودلير وبايرون وابي العتاهية، مع لمحات من شوبنهاور، من دون أن يكون أياً منهم. كان يقدّر عالياً شيئين اثنين الجسد الإنساني والموت. وبين هذا وذاك كان يتسلل نحو أسئلة الوطن والحرية والحب. سمّى ابنه البكر لهب، في تحدّ لا يستطيع أحد سواه أن يقوم به. لم يَخَفْ في حياته أحداً باستثناء زوجته الثانية القاصّة دلال حاتم، وكان يتباهى بخوفه منها.

أكثر ما كان يكرهه هو الشعر الرديء. كنّا في ظهيرة يوم نيساني ناعس نشرب في أحد مطاعم الربوة، حين كانت في الربوة مطاعم تحفّ بجانبي النهر وتقدّم عرقا ومشويّات. مرّ بنا شاعر له قلب طيّب ودواوين كثيرة من الشعر الرديء.

“هنالك أشخاص تراهم مرّة واحدة، فيتركون لديك أثراً لا يمحى على مرّ السنين. ياسين الشكر كان واحداً منهم”

“علي!! كنت أبحث عنك”. قال الشاعر، وأخرج من حقيبة جلدية عتيقة كان يحملها نسخة من ديوانه الأخير، وأخرج قلماً فكتب على الصفحة الأولى إهداء لعلي. شكره عليّ وطلب إليه أن ينضمّ إلينا، إلا أن الشاعر كان في عجلة ليسلّم النسخ الأخرى التي بحوزته إلى شعراء ونقاد وصحافيين آخرين. ودّعنا ومضى. وعليّ، الودود كحمامة، شيّعه بنظره حتى اختفى، ثمّ رمى بالكتاب في نهر بردى. قال لي: “خ. رجل طيب جداً. ليته فقط يتوقف عن كتابة الشعر”.

سألته مرّة لماذا لا يكتب قصّة حياته. نظر إلي بعينيه المحمرّتين: “لا أملك جرأة هنري ميللر.” ولكن من يفعل في عالمنا العربي؟ من لديه جرأة هنري ميللر، ربما باستثناء محمد شكري في “الخبز الحافي”؟ لو أنني أمتلكها، لكان ما تقرأونه ههنا شيئا مختلفا تماماً.  

ممدوح عدوان يشبه علي الجندي في الكثير من النواحي، ولكنه كان يفتقد إلى غلالة الحزن الشفيف التي كانت تحيط بمرح عليّ وصخبه كهالة مقدسة. وبينما لم يكتب علي سوى الشعر، كتب ممدوح الرواية والمسرحية والمقالة. في تلك الفترة، كان ممدوح مسؤول القسم الثقافي في جريدة الثورة، وقد ساعدني كثيراً في نشر قصص ومقالات في صفحته الغنية. إضافة إلى أدبه، سيذكره السوريون كثيراً لشجاعته عام 1980، في اجتماع اتحاد الكتّاب العرب مع قيادة الجبهة الوطنية التقدمية، حين ألقى بكلمة جريئة جداً، قال فيه: “أنا أشتغل في إعلام أخجل منه، إعلام يكذب حتى في النشرة الجوية، ويتستر على التجار والمرتشين وشركائهم”. وأضاف أن السلطة كاذبة وسبب كذبها الخوف من شعبها، وبسبب الخوف تقمع رأي الشعب وحتى سؤاله.

في أحد اللقاءات شبه اليومية بين علي وممدوح، قرأ لنا ممدوح قصيدة جديدة أهداها لعلي، كان مطلعها:

يألَفونَكَ فانْفُر
إلى وطنٍ قد يهاجر فيك
وينسى تغرّبه
ثم تذوي
كأنك شلت الثرى مرضاً

وعلي الذي أسكره مطلع القصيدة، صاح بممدوح، “بتبيعني هالبيت بألف ليرة؟”

كان مبلغ الألف ليرة أكبر مبلغ يمكن لعليّ أن يتصوّره، وحين كان يريد أن يشير إلى ثراء أحد التجار أو المتنفذين، كان يقول: “معه شي ألف ورقة”، مفخّماً كالعادة حرف القاف الحلقية السلمونية الأصيلة. وضحك ممدوح بفجور. “فشرت!” قال له.

وفي لقاء آخر، كان علي يعبّر عن خوفه من الشيخوخة، فقهقه ممدوح بصوته العميق، وقال: “متْ الآن وسأكتب عنك قصيدة”، فرد علي بسرعة، “بل مت أنت وسأكتب عنك ديواناً”. وفي أي حال مات الرجلان. رحل ممدوح باكراً جداً، اختطفه منا سرطان خبيث قبيح، وكان لديه الكثير من الشعر والضحك والمسرح والكتابة والشجاعة ليقدّمها لنا، ولكنه، سُحِب منا بقسوة، من دون أن يتمكن من أن يجعل من الشعر مزاحاً مستحبّاً، كما عبر محمود درويش حين رثاه.

علي انتظر الموت طويلاً. حين خرجت من السجن، عرفت أنه ترك دمشق وسافر إلى اللاذقية بصحبة زوجته الثالثة، التي كانت ممرضته أكثر منها زوجته، وقد منع عنه الأطباء العرق والتدخين والنساء. أي عليٍّ سيكون إذاً من دون هذه الأشياء الثلاثة؟ التقيته في دمشق مصادفة، في بهو أحد فنادق البحصة الرخيصة. اقتربت منه باشاً ضاحكاً، عانقته وقبلته، وعانقني بلطف ووهن، ولكن كان جليّاً أنه لم يتذكر وقتها ذلك الولدَ الذي كان يجالسه في مجدولين أو الربوة أو الإيتوال، أو يزوره وزوجته دلال حاتم في شقتهما الأنيقة النظيفة في دمشق. وحتّى حين ذكرت اسمي، لم يعنِ ذلك له الكثير. ودعّته، مضيت، وفي عينيّ دمعات سرعان ما انهمرت.

“لا تستطيع مفارقتها، ماهيك؟”
هكذا إذاً قال لي عليّ. ثم أضاف بعد تفكير قليل:
“اذهب إلى وزارة الإعلام وقابل شخصاً اسمه ياسين الشكر. سأحدثه الليلة.”

هنالك أشخاص تراهم مرّة واحدة، فيتركون لديك أثراً لا يمحى على مرّ السنين. ياسين الشكر كان واحداً منهم. استقبلني في مكتبه بابتسامة غامرة وأجلسني على كرسي مريح. كان نحيلاً، أقرب إلى الطول بشارين لطيفين ونظارة على أنفه. استقبلني بلطف وحفاوة. سألني عن دراستي وكتاباتي، ثم سألني إذا كنت أحب أن أعمل في الوكالة السورية للأنباء (سانا). لم ينتظر جوابي، بل رفع سمّاعة الهاتف وطلب رقماً.

“دكتور صابر! كيفك يا رجل. أنا ياسين.”
لم أسمع الطرف الآخر. ولكن مضيفي ضحك ضحكة قصيرة، ثم أضاف.
“سأرسل لك شاباً عزيزاً، قد تحتاج إليه في الوكالة. يجيد الإنكليزية والعربية بطلاقة”
ثم بضع عبارات مجاملة.
وضع السمّاعة، وقال لي:
“دكتور صابر فلحوط بانتظارك الآن في مكتبه. بتعرف وين سانا”

ثمّ شيّعني إلى باب مكتبه. لم اره بعد ذلك مطلقاً. بعد نحو ثلاثين سنة، التقيت ابنته الناقدة المتميّزة ديمة الشكر، وكانت تهيّئ لرسالتها في الدكتوراه في علم العَرُوض. التقينا في مطعم في دمشق بدعوة من أصدقاء مشتركين. كانت لها حماسة أبيها ذاتها ولطفه ودماثته، وحضوره أيضاً. لعلّ ديمة آخر من يفكّر في دراسة علم شبه مندثر: العّرُوض.

كان صابر فلحوط آخر رجل أريد فعلاً أن ألتقيه، فهو إضافة إلى ارتباط اسمه باسم حزب البعث على مرّ سنوات طوال، فأنت لا تريد فعلاً أن تلتقي شخصاً هذا بعض من شعره:

أنا صوت الجيل رعاد يهز الكون هادر‏
أنا نور البعث هتاك حجابات الدياجر‏
أنا شعب يعربي النجر رعاف البواثر‏
أنا إعصار عظيم الهول من ثورة ناصر‏

ومع ذلك، استقبلني الرجل بلطف، وأرسلني إلى أحد رؤساء الفترات لامتحاني. أعطاني لؤي معروف خبراً وطلب مني ترجمته. ترجمته في دقائق، وأعطيته إياه. نظر لؤي فيّ مطولاً، ورأيته يتأمل بشكل خاص لحيتي وقميصي المجعّد، ثمّ مرّ بعينيه على الترجمة.

بدأت العمل محرر أخبار أجنبية في اليوم التالي. بعد أشهر تصاحبنا، لؤي وأنا، وفي إحدى الأمسيات، قال لي: “أتعرف لمَ وافقتُ على تعيينك؟”
“لم؟”
“كرهت لحيتك، وقلت في نفسي: “لأعاقبه، وأقبله في هذا الجحر الكريه”.
ثمّ أغرب في ضحكة عريضة.

على رغم أن صابر فلحوط بعثي قديم، إلا أنني سرعان ما اكتشفت أن السلطة الحقيقية في وكالة سانا كانت في يدي رجل أقرب للأمّية والمخابرات، اسمه قاسم ياغي. سوريا عامرة بالصحافيين شبه الأميين ومساعدي المخبرين، ولكنني لم ألتقِ بواحد تنقصه المهارة واللغة والأسلوب واللياقة كقاسم ياغي. ولسوف يطردني الرجل من الوكالة بعد أقل من سنة.

إقرأ أيضاً:
حين صرت مسيحياً لستّة أشهر
شاي أسود غامق مع قليل من السكّر
“حين قرأنا خبر موت رياض الصالح ونحن في سجن تدمر”

07.09.2018
زمن القراءة: 9 minutes

إضافة إلى خسارة عشرات الرفاق في حملة آذار/ مارس 1977 على رابطة العمل الشيوعي، خسرت الرابطة مطبعتها التي كانت تفخر بها. الخسارة كانت متعدّدة الطبقات…

يتقصّى الكاتب السوري وائل السواح في هذه المتابعة الضغوط التي تعرّض لها اليسار السوري الجديد بعد اعتقالات 1977، وانعكاس ..ذلك عليه وعلى أبناء جيله وبناته.

إضافة إلى خسارة عشرات الرفاق في حملة آذار/ مارس 1977 على رابطة العمل الشيوعي، خسرت الرابطة مطبعتها التي كانت تفخر بها. الخسارة كانت متعدّدة الطبقات، فباستثناء الجانب المادي والمعاناة في تأمين ثمنها، كانت عملية شرائها مغامرة كبيرة من الصعب أن تتكرّر. نشرت إحدى المطابع إعلاناً لبيع مطبعة مستعملة، واعتقد الشباب في لجنة العمل أن تلك فرصة ذهبية، ولكن كيف السبيل لشرائها من دون أن نلفت انتباه السلطة وعيونها في كلّ مكان؟ فاتح جاموس المغامر دوماً اقترح خطّة. تردّد أعضاء لجنة العمل كثيراً في تنفيذها، ولكنهم أقرّوها بعد حين. استخدم فاتح لهجته العلوية في تقمّص دور ضابط في سرايا الدفاع، وكان هيثم العودات جندياً بسيطاً برفقته، ومع الاثنين رفيق ثالث لعب دور السائق. صاحب المطبعة المسكين تلبّسه خوف من أن يطرح أي سؤال على الضابط العلوي، ولعلّه كان سعيداً لأن الضابط لم يصادر مطبعته، بل دفع السعر الذي طلبه من دون مجادلة. جاءت شاحنة فحمّلت الطابعة إلى عنوان محّدد، كان رفيق آخر ينتظرها في شاحنة أخرى، ونقلها إلى بيت للتنظيم في مخيّم اليرموك. وبدأت الراية الحمراء والبيانات تصدر بشكل أنيق ولافت. لم ندرِ وقتها أن رفيقاً آخر كان يسكن في الشارع نفسه. في حملة آذار، اقتحم رجال الأمن بيت الرفيق الآخر، ولكن الفتى تمكّن من الهرب، قافزاً من سطح إلى آخر، ونجا. قائد الدورية الذي أحس بالإهانة، أمر بتفتيش بيوت الحارة كلّها، وبدلاً من الرفيق الهارب، وجد كنزاً أفضل: الطابعة وأعداد من الراية الحمراء والبيانات والخط الاستراتيجي.

عاد أصلان عبد الكريم وفاتح جاموس وعبّاس عبّاس من بيروت في صيف 1977، بعد حملة اعتقالات آذار، بينما كان هيثم العودات (منّاع) في رحلة في شمال البلاد. حين عاد، وجد أخاه معن ينتظره في أول الحارة. سلّم عليه، ولكن معن لم يجبه، بل سارع يقول: “اهرب بسرعة! إنهم ينتظرونك في البيت”. نظر هيثم في وجه معن لحظة، ثم استدار ومضى ليعيش حياة التخفّي والملاحقة والتشرّد، مثله مثل كلّ الذين طلبهم الفرع الداخلي في مديرية المخابرات العامة. معن العودات الذي أنقذ أخاه هيثم، قضى بعد 31 سنة برصاصة من أحد قنّاصي بشار الأسد، وهو يودّع الشهيد محمد الاكراد في منطقة درعا. كان يسمّي نفسه مندسّ حوران، وكان سيماً، يفوّف البياض الجميل بعضاً من خصلات شعره وشاربيه، وابتسامة مقيمة لا تغادر شفتيه في معظم الأحيان.

سارع أبو حسين وفاتح ومعهما نهاد نحاس إلى لملمة خيوط التنظيم واستئناف العمل. وعاد التنظيم يعمل بإيقاع جيد. ودخل إلى ميدان العمل السرّي مفهوم “المتخفّي” وهو رفيق مطلوب من الأمن، يعيش حياة غير علنية، باسم جديد وهويّة جديدة، وعنوان غير معروف. كان تزوير الهويّة فناً أتقنه بعض الرفاق. وكانت بطاقات الهوية سهلة التزوير. كان هيثم العودات أول من عمل على تزوير الأختام والوثائق، وأتقن هذا الفنّ أكثر من غيره العميد، زياد مشهور. وحين اعتقل، حمل الراية منيف ملحم، الذي أتقن تزوير عشرات الهويات، ولكنه سيعطيني بعد زمن بطاقة هوية سيئة التزوير، ستلقي بي في قبضة رجال أمن الحدود.

ممدوح عدوان

ومن الطبيعي أن المتخفّي لا يستطيع أن يعمل لينفق على نفسه، فاضطر التنظيم إلى تأمين بيوت لاستيعاب المتخفين وقدّم مرتبّاً شهرياً كان 150 ليرة سورية لكلّ رفيق متخفّ. فرض ذلك علينا عبئاً إضافياً، ولم تكن اشتراكاتنا الشهرية (10 ليرات للطلاب ونسبة من الراتب للعاملين) تكفي لكلّ ذلك، فاضطررنا لتلقي المساعدات المالية من الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وكان ذلك موقفاً نبيلاً من الحكيم آنذاك. ولكننا سنردّ الجميل في 1982، إبان الغزو الإسرائيلي للبنان.

لذلك كان لا بدّ أن أجد عملاً، إذاً. كان ثمّة سببان لذلك. الضغوطات المالية بسبب حملة اعتقالات آذار 1977 ورغبتي في البقاء بجانب كل من أحب في دمشق. كان علي الجندي منقذي. في خمّارة مجدولين التقينا، كما كنا نفعل كل يوم تقريباً عند الظهر، شرحت له وضعي، وسألته إن كان يمكن أن يساعدني. ضحك بقهقهته الصاخبة التي يعرفها كل الصحب، وزاد وجهه احمراراً.

“لا تستطيع مفارقتها، ماهيك؟” سأل بصوت سمعه كل من كان في الخمّارة.

في شارع فرعي ضيّق يتسلل بخبث من جانب كنيسة اللاتين قرب ساحة النجمة إلى شارع الأرجنتين، كانت تختبئ خمّارة مجدولين. في السابق كانت مطمعاً مهمّاً، وربما ملهى أحياناً، ولكنّ الحال حطّت بها إلى درجة الخمّارة، تقدم عرقاً وبيرة بردى المحلية ونبيذاً رخيصاً، وتردفه – إذا أردتَ – بحمّص ومتبّلات وسلطة وبطاطا مقلية، بل، وأحياناً، بصينية دجاج بالفرن. في هذا المكان المنزوي، كانت شلّة الشاعر البهيّ علي الجندي تلتقي في ظهيرة كلّ يوم تقريباً. ممدوح عدوان كان ركناً أساسياً. ممدوح وعلي كانا صديقين لدودين، يتنافسان في الشعر والخمر والنساء.

دمشق في السبعينات

لم يعرف علي الجندي مهنة سوى الشعر. كان يكره العمل والمكاتب والدوام وضبّاط الأمن والعسكر. حين كان مديراً للدعاية والأنباء في الستينات، حوّل المديرية إلى لعبة، وكان ذلك آخر عهده في المكتب. طفق بعدها يجوب البلاد والمكتبات والمقاهي والبارات، يكتب الشعر كما يعيش، ويحبّ الناس ببساطة وصدق. كان واحداً من أهم الشعراء السوريين ومَعْلماً بارزاً في المشهد الثقافي السوري في الستينات والسبعينات من القرن الفائت، ولكنه لم يطق أن يصوّر نفسه كذلك. بدلاً من ذلك آثر حياة تشبه حياة التروبادور. مزيج من بودلير وبايرون وابي العتاهية، مع لمحات من شوبنهاور، من دون أن يكون أياً منهم. كان يقدّر عالياً شيئين اثنين الجسد الإنساني والموت. وبين هذا وذاك كان يتسلل نحو أسئلة الوطن والحرية والحب. سمّى ابنه البكر لهب، في تحدّ لا يستطيع أحد سواه أن يقوم به. لم يَخَفْ في حياته أحداً باستثناء زوجته الثانية القاصّة دلال حاتم، وكان يتباهى بخوفه منها.

أكثر ما كان يكرهه هو الشعر الرديء. كنّا في ظهيرة يوم نيساني ناعس نشرب في أحد مطاعم الربوة، حين كانت في الربوة مطاعم تحفّ بجانبي النهر وتقدّم عرقا ومشويّات. مرّ بنا شاعر له قلب طيّب ودواوين كثيرة من الشعر الرديء.

“هنالك أشخاص تراهم مرّة واحدة، فيتركون لديك أثراً لا يمحى على مرّ السنين. ياسين الشكر كان واحداً منهم”

“علي!! كنت أبحث عنك”. قال الشاعر، وأخرج من حقيبة جلدية عتيقة كان يحملها نسخة من ديوانه الأخير، وأخرج قلماً فكتب على الصفحة الأولى إهداء لعلي. شكره عليّ وطلب إليه أن ينضمّ إلينا، إلا أن الشاعر كان في عجلة ليسلّم النسخ الأخرى التي بحوزته إلى شعراء ونقاد وصحافيين آخرين. ودّعنا ومضى. وعليّ، الودود كحمامة، شيّعه بنظره حتى اختفى، ثمّ رمى بالكتاب في نهر بردى. قال لي: “خ. رجل طيب جداً. ليته فقط يتوقف عن كتابة الشعر”.

سألته مرّة لماذا لا يكتب قصّة حياته. نظر إلي بعينيه المحمرّتين: “لا أملك جرأة هنري ميللر.” ولكن من يفعل في عالمنا العربي؟ من لديه جرأة هنري ميللر، ربما باستثناء محمد شكري في “الخبز الحافي”؟ لو أنني أمتلكها، لكان ما تقرأونه ههنا شيئا مختلفا تماماً.  

ممدوح عدوان يشبه علي الجندي في الكثير من النواحي، ولكنه كان يفتقد إلى غلالة الحزن الشفيف التي كانت تحيط بمرح عليّ وصخبه كهالة مقدسة. وبينما لم يكتب علي سوى الشعر، كتب ممدوح الرواية والمسرحية والمقالة. في تلك الفترة، كان ممدوح مسؤول القسم الثقافي في جريدة الثورة، وقد ساعدني كثيراً في نشر قصص ومقالات في صفحته الغنية. إضافة إلى أدبه، سيذكره السوريون كثيراً لشجاعته عام 1980، في اجتماع اتحاد الكتّاب العرب مع قيادة الجبهة الوطنية التقدمية، حين ألقى بكلمة جريئة جداً، قال فيه: “أنا أشتغل في إعلام أخجل منه، إعلام يكذب حتى في النشرة الجوية، ويتستر على التجار والمرتشين وشركائهم”. وأضاف أن السلطة كاذبة وسبب كذبها الخوف من شعبها، وبسبب الخوف تقمع رأي الشعب وحتى سؤاله.

في أحد اللقاءات شبه اليومية بين علي وممدوح، قرأ لنا ممدوح قصيدة جديدة أهداها لعلي، كان مطلعها:

يألَفونَكَ فانْفُر
إلى وطنٍ قد يهاجر فيك
وينسى تغرّبه
ثم تذوي
كأنك شلت الثرى مرضاً

وعلي الذي أسكره مطلع القصيدة، صاح بممدوح، “بتبيعني هالبيت بألف ليرة؟”

كان مبلغ الألف ليرة أكبر مبلغ يمكن لعليّ أن يتصوّره، وحين كان يريد أن يشير إلى ثراء أحد التجار أو المتنفذين، كان يقول: “معه شي ألف ورقة”، مفخّماً كالعادة حرف القاف الحلقية السلمونية الأصيلة. وضحك ممدوح بفجور. “فشرت!” قال له.

وفي لقاء آخر، كان علي يعبّر عن خوفه من الشيخوخة، فقهقه ممدوح بصوته العميق، وقال: “متْ الآن وسأكتب عنك قصيدة”، فرد علي بسرعة، “بل مت أنت وسأكتب عنك ديواناً”. وفي أي حال مات الرجلان. رحل ممدوح باكراً جداً، اختطفه منا سرطان خبيث قبيح، وكان لديه الكثير من الشعر والضحك والمسرح والكتابة والشجاعة ليقدّمها لنا، ولكنه، سُحِب منا بقسوة، من دون أن يتمكن من أن يجعل من الشعر مزاحاً مستحبّاً، كما عبر محمود درويش حين رثاه.

علي انتظر الموت طويلاً. حين خرجت من السجن، عرفت أنه ترك دمشق وسافر إلى اللاذقية بصحبة زوجته الثالثة، التي كانت ممرضته أكثر منها زوجته، وقد منع عنه الأطباء العرق والتدخين والنساء. أي عليٍّ سيكون إذاً من دون هذه الأشياء الثلاثة؟ التقيته في دمشق مصادفة، في بهو أحد فنادق البحصة الرخيصة. اقتربت منه باشاً ضاحكاً، عانقته وقبلته، وعانقني بلطف ووهن، ولكن كان جليّاً أنه لم يتذكر وقتها ذلك الولدَ الذي كان يجالسه في مجدولين أو الربوة أو الإيتوال، أو يزوره وزوجته دلال حاتم في شقتهما الأنيقة النظيفة في دمشق. وحتّى حين ذكرت اسمي، لم يعنِ ذلك له الكثير. ودعّته، مضيت، وفي عينيّ دمعات سرعان ما انهمرت.

“لا تستطيع مفارقتها، ماهيك؟”
هكذا إذاً قال لي عليّ. ثم أضاف بعد تفكير قليل:
“اذهب إلى وزارة الإعلام وقابل شخصاً اسمه ياسين الشكر. سأحدثه الليلة.”

هنالك أشخاص تراهم مرّة واحدة، فيتركون لديك أثراً لا يمحى على مرّ السنين. ياسين الشكر كان واحداً منهم. استقبلني في مكتبه بابتسامة غامرة وأجلسني على كرسي مريح. كان نحيلاً، أقرب إلى الطول بشارين لطيفين ونظارة على أنفه. استقبلني بلطف وحفاوة. سألني عن دراستي وكتاباتي، ثم سألني إذا كنت أحب أن أعمل في الوكالة السورية للأنباء (سانا). لم ينتظر جوابي، بل رفع سمّاعة الهاتف وطلب رقماً.

“دكتور صابر! كيفك يا رجل. أنا ياسين.”
لم أسمع الطرف الآخر. ولكن مضيفي ضحك ضحكة قصيرة، ثم أضاف.
“سأرسل لك شاباً عزيزاً، قد تحتاج إليه في الوكالة. يجيد الإنكليزية والعربية بطلاقة”
ثم بضع عبارات مجاملة.
وضع السمّاعة، وقال لي:
“دكتور صابر فلحوط بانتظارك الآن في مكتبه. بتعرف وين سانا”

ثمّ شيّعني إلى باب مكتبه. لم اره بعد ذلك مطلقاً. بعد نحو ثلاثين سنة، التقيت ابنته الناقدة المتميّزة ديمة الشكر، وكانت تهيّئ لرسالتها في الدكتوراه في علم العَرُوض. التقينا في مطعم في دمشق بدعوة من أصدقاء مشتركين. كانت لها حماسة أبيها ذاتها ولطفه ودماثته، وحضوره أيضاً. لعلّ ديمة آخر من يفكّر في دراسة علم شبه مندثر: العّرُوض.

كان صابر فلحوط آخر رجل أريد فعلاً أن ألتقيه، فهو إضافة إلى ارتباط اسمه باسم حزب البعث على مرّ سنوات طوال، فأنت لا تريد فعلاً أن تلتقي شخصاً هذا بعض من شعره:

أنا صوت الجيل رعاد يهز الكون هادر‏
أنا نور البعث هتاك حجابات الدياجر‏
أنا شعب يعربي النجر رعاف البواثر‏
أنا إعصار عظيم الهول من ثورة ناصر‏

ومع ذلك، استقبلني الرجل بلطف، وأرسلني إلى أحد رؤساء الفترات لامتحاني. أعطاني لؤي معروف خبراً وطلب مني ترجمته. ترجمته في دقائق، وأعطيته إياه. نظر لؤي فيّ مطولاً، ورأيته يتأمل بشكل خاص لحيتي وقميصي المجعّد، ثمّ مرّ بعينيه على الترجمة.

بدأت العمل محرر أخبار أجنبية في اليوم التالي. بعد أشهر تصاحبنا، لؤي وأنا، وفي إحدى الأمسيات، قال لي: “أتعرف لمَ وافقتُ على تعيينك؟”
“لم؟”
“كرهت لحيتك، وقلت في نفسي: “لأعاقبه، وأقبله في هذا الجحر الكريه”.
ثمّ أغرب في ضحكة عريضة.

على رغم أن صابر فلحوط بعثي قديم، إلا أنني سرعان ما اكتشفت أن السلطة الحقيقية في وكالة سانا كانت في يدي رجل أقرب للأمّية والمخابرات، اسمه قاسم ياغي. سوريا عامرة بالصحافيين شبه الأميين ومساعدي المخبرين، ولكنني لم ألتقِ بواحد تنقصه المهارة واللغة والأسلوب واللياقة كقاسم ياغي. ولسوف يطردني الرجل من الوكالة بعد أقل من سنة.

إقرأ أيضاً:
حين صرت مسيحياً لستّة أشهر
شاي أسود غامق مع قليل من السكّر
“حين قرأنا خبر موت رياض الصالح ونحن في سجن تدمر”