كتب شاكر النابلسي عام 1999 سيرة ناجي العلي الفنية بعنوان “أكله الذئب!!”، لخّص فيها سيرة قاضي التحقيق السياسي الذي عيّنه الفقراء والمشرّدون نيابة عنهم، منذ التقاه غسان كنفاني حتى اغتيل في لندن، واستندنا إلى السيرة نفسها للكتابة عن العلي.
ينطوي عنوان الكتاب على دلالة وإشارة الى ما قاله أخوة يوسف في النص القرآني: “قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَّخَاسِرُونَ”، واستسلم الأب فأرسل يوسف معهم، ثم حدث ما حدث. وبان أنّ “الأخوة” خاسرون، وغير صالحين. الأخوة هنا معروفون ويمتدّون من ياسر عرفات إلى محمود درويش، والذئب معروف كذلك.
غسان كنفاني مُكتشِفاً
ذهب غسان كنفاني إلى مخيّم عين الحلوة عام 1962 لحضور احتفال شعبي لمناسبة يوم فلسطين كصحافي وسياسي ينتمي إلى حركة القوميين العرب، وكان معروفاً كمحرر لمجلة “الحرية” وقاصاً له مجموعة قصصية اسمها “موت سرير رقم 12”.
كان كلٌّ من ناجي العلي وغسان كنفاني في السادسة والعشرين من عمرهما. ضمن فعاليات هذا المهرجان، أُقيم معرض بسيط في خيمة مهترئة لعرض رسومات الأطفال عن النكبة والشتات والثأر. وكانت بينها لوحات بدائية رسمها ناجي سليم حسين العلي، بعد عودته قبل سنوات من عمله كميكانيكي سيارات بالسعودية في عام 1959، وعمله كمدرِّس للرسم في المدرسة الشيعية الجعفرية جنوب صور.
هذه الرسومات المتواضعة المعروضة في الخيمة المهترئة كانت حصيلة سنوات من تجربة إنسانية مريرة وطويلة من التشرد والفقر والجوع. بدأت سنة 1948 حين لجأ العلي من قرية “الشجرة” في الجليل الفلسطيني بين طبريا والناصرة، وهو في العاشرة من عمره.
خلال السنوات اللاحقة، عمل العلي كجامعٍ في حقول البرتقال والليمون والمندرين، وبين السجون ومراكز الحجز الاحترازي، وبين تعلم ميكانيك السيارات والرسم على جدران المخيم وجلد طرقاته الطينية.
استقبل العلي كنفاني بوصفه مشرفاً على معرض الأطفال لأنه مدرّسهم، وتوقف كنفاني أمام لوحة تمثّل خيمة على شكل هرم ترتفع من رأسه قبضة تطالب بالثأر والتصميم والنصر. سأل كنفاني العلي عن صاحب اللوحة، فقال الأخير إنه صاحبها، ما دفع كنفاني الى مصافحته والشد على يده وبدء حوار طويل معه، لن ينتهي.
لم يخرج كنفاني من مخيم عين الحلوة في تلك الليلة إلا وقد انداح الجدولان (هو والعلي) على بعضهما، وشكّلا جدولاً جديداً يصب في شواطئ فلسطين، وأخذ كنفاني “خيمة” العلي لينشرها في مجلة “الحرية”، وطلب منه مزيداً من الرسومات لنشرها، إلى أن صار الأخير يتردد على المجلة من وقت الى آخر، وتوطدت الصداقة، ومعرفة سوء الحال، فحاول كنفاني أن يجد عملاً للعلي في الكويت، ثم رتّب له أن يعمل محرراً صحافياً في “الطليعة”، وتردد العلي خوفاً من الفشل، إذ لم يكن يحوز غير السرتفيكا (المرحلة الابتدائية)، كما حاول أن يدرس الرسم في أكاديمية اليكسي بطرس للفنون، لكنه لم يفلح، إذ تم اعتقاله ست مرات خلال سنة انتسابه الى الأكاديمية.
أقنع كنفاني العلي بالعمل، فبدأ عمله في الطليعة كمخرج ورسام ومحرر لبعض الأخبار عام 1963، وبدأ الرسم عن مخيم عين الحلوة الذي صار هدفاً للهجمات الإسرائيلية، واستمرّ في “الطليعة” حتى 1968. وكان قد تركها قبل ذلك بسنة ورجع إلى لبنان ليعمل في جريدتي “الحرية” و”اليوم”.
في بداية هذه السنوات الخمس منذ 1963 حتى 1968، كان العلي يرسم لوحة واحدة أسبوعياً، لكنّ جسراً قام بينه وبين الناس، فصار يرسم لوحتين وأكثر. أُغلِقت “الطليعة” وأوقفتها السلطات الكويتية، فعُرض على العلي العمل في جريدة “السياسة”، وعمل فيها خلال فترتين (1068 – 1974) (1976 – 1978)، وكان قد سافر عام 1974 إلى لبنان للعمل في جريدة “السفير”، وعاد إليها مجدداً بعد تركه “السياسة” وعمل في السفير منذ 1978 حتى 1983.
تسمية “الانتفاضة”
منذ بداية السبعينات حتى منتصفها، كان العلي نحيلاً، موسوناً، أشعث الرأس كعادته، وقد بدت بعض الشعيرات البيضاء تتسلل عبر شعر رأسه القصير الأكرت. حزيناً ومهموماً دائماً، كان، وذلك لأنه فقد خلال خمس سنوات من حياته زعيمه السياسي (عبد الناصر) ومعلّمه الفكري (ساطع الحصري) وأديبه المفضل (غسان كنفاني) وقيثارته الغنائية (أم كلثوم).
بدأت الانتفاضة الأولى، انتفاضة أطفال الحجارة، يوم 9 كانون الأول/ ديسمبر عام 1987. صحيح أنّ ناجي كان قد مات يوم 29 آب من السنة نفسها، أي قبل رمي الحجر الأول بأربعة أشهر تقريباً، لكنه أيضاً كان قد أشعل شرارة هذه الانتفاضة قبل ذلك. وقد يكون هو نفسه الذي أطلق عليها اسمها “الانتفاضة”، وهو نفسه الذي أشار إلى سلاحها “الحجارة”، وهو اختار محاربيها “الأطفال”، ذلك لأنّ العلي وفي النصف الثاني من السبعينات، أثناء عمله في “السفير”، نشر لوحة تعتبر فاتحة تاريخية. في يسارها قمر مضيء كتب عليه “انتفاضة الضفة الغربية”، وفي لوحة ثانية رسم “لا” على الأرض بشكل ضخم من الحجارة، وتجمع الأطفال حول هذه “اللا” وراحوا يرشقون بالحجارة جنود الاحتلال، تبعتها لوحات عدة عن الفكرة نفسها.
استمرت حركة حنظلة، وصار يتصدّر العمل اليومي، إلى حين صار القائد والرائد، ووقف على باب تل الزعتر يهتف ضد الحكام وأميركا وكيسنجر وصالونات جنيف.
المنفى، درويش وعرفات، والرصاصة
بعد اجتياح إسرائيل لبنان سنة 1982، شعر العلي أنه زائل، إما بطلقة مصوبة أو طائشة، وذهب إلى صيدا وغاب شهراً، وشاع في بيروت أنه قُتِل، لكنه كان في صيدا يرمم بيته ويساعد الناس، وكادت “السفير” أن تنشر نعيه، إلى أن التقى بسلمى جبر، فأعطاها مجموعة من اللوحات كي توصلها إلى “السفير” لنشرها. ثم سافر إلى بيروت وعاد يعمل مع “السفير” بعنف أكبر، وانسحب الإسرائيليون، وانتهت مدة إقامة العلي في لبنان، التي رفضت السلطات اللبنانية أن تجددها، فترك “السفير” التي رفضت أن تدفع له مستحقاته وتنكرت له، وترك لبنان وعاد إلى الكويت. انضمّ العلي إلى جريدة “القبس” عام 1983، ورسم ياسر عرفات بشحمه ولحمه، وقد رفع يده راسماً بإصبعيه علامة النصر، لكنّ العلي جعل بدل الإصبعين يدين مرفوعتين بالاستسلام.
أعلن العلي الحرب إذاً على رأس السلطة الفلسطينية، وأنّبه محمود درويش لأنه خرج عن “الشرعية الفلسطينية”، وكتب درويش وقتها “الخروج عن الشرعية خروج عن الكتابة الإنسانية”، فردّ عليه فيصل دراج في جريدة “السفير” في مقال بعنوان “ناجي العلي، ثمن البراءة في زمن الإثم الكامل”.
السنتان اللتان أمضاهما العلي في الكويت (1083 – 1985) وصل فيهما إلى القمة الفنية، وكان قد تخطى الأربعين من عمره، ثم أنشئت “القبس الدولي” في لندن عام 1985، ونُفي العلي من الكويت لأنّ دولة خليجية مغتاظة منه طلبت من منظمة التحرير أن تطلب من الكويت نفيه. وكانت الكويت تنتظر ذلك لكي تتخلص منه بأي طريقة. في حين كتب توماس فريدمان مراسل “نيويورك تايمز”: “ناجي العلي كان لاجئاً فلسطينياً، تمّ طرده من الكويت بناءً على إصرار ياسر عرفات كما جاء في التقارير”.
وصل العلي إلى لندن أواخر 1985، وبدا أكثر نشاطاً، ثم أقام معرضين في أميركا، وخاض معركتين مباشرتين، واحدة مع محمود درويش الذي دعا إلى لقاء مع اليسار الإسرائيلي، والثانية مع ياسر عرفات.
رسم العلي لوحة أسماها “درويش خيمتنا الأخيرة”، وتواجه مع درويش بسبب دعوته للقاء اليسار الإسرائيلي، ولم تمض فترة إلا وكان قد دخل في مواجهة جديدة مع سلطات المنظمة العليا. إذ كانت هناك كاتبة قصة مصرية مغمورة تدعى رشيدة مهران (كتبت كتاباً عن ياسر عرفات وكانت تسكن قصره في تونس)، لعلّ تعرض ناجي لها في رسمٍ رسمه واغتيل على إثره بعد أيام هو الذي شهرها، ووردت اتصالات إلى العلي تقول له إنه تجاوز الخطوط الحمراء.
لم تمض أيام إذاً إلا وكان العلي قد تعرض لحادث اغتياله المعروف مساء 22 تموز/ يوليو عام 1987، ورقد بعده في المستشفى سبعة وثلاثين يوماً، حتى توفي يوم ٢٨ آب من العام نفسه، ودفن في لندن.
نعته الصحافة وكتبت عنه من اليمين إلى اليسار، كما كتبت عنه الصحافة العالمية من شرق آسيا حتى غرب أوروبا، إلا مجلة “الكرمل” الناطقة باسم اتحاد الكتاب والصحافيين الفلسطينيين. وكُتب في مجلة “التضامن” العدد 231، سؤال صريح إلى محمود درويش: “لماذا لا تواجه الاتهام باغتيال ناجي العلي؟ لماذا لم تأتِ إلى لندن وتواجه بشجاعة الشجعان كل هذه الاتهامات التي ترشقكم بدم فنان فلسطيني كان ذات يوم عضو أول أمانة عامة لهذا الاتحاد؟ إنّ سبب توجيه السؤال هو أنّ هناك اتهاماً موجهاً علناً ومباشرة إلى الاتحاد الذي يرأسه محمود درويش بأنه قتل عمداً وبالإصرار المباشر الفنان الفلسطيني ناجي العلي كما قالت جريدة الأوبزيرفر”.
أما “الأوبزيرفر” فكانت قد نشرت: “المزحة المميتة هي التي قتلت الرسام ناجي العلي”. ونشرت لوحة ناجي عن رشيدة مهران، وعلقت: “السيف والقلم: ناجي سليم العلي سقط بالرصاص في لندن لسخريته من صديقة عرفات”.
وكتب فيصل دراج: “أليس من العبث أن نسأل عن جنسية من أطلق النار على ناجي العلي؟ لكأنّ مطلق الرصاصة عربياً كان أم صهيونياً، قد حقق في رصاصته رغبات مجموع من البشر، يعرف بعضهم البعض منهم ولا يعرف الجميع، فيصفق له من أعطاه المسدس، ويصفق له من أراد أن يعطيه المسدس منذ زمن من دون أن يعثر عليه”.
حنظلة: السيرة الذاتية
العام الفاصل في مسيرة العلي، وبالنسبة الى الفلسطينيين والعالم، هو 1969، حين اخترع الرجل “حنظلة”، وكان قد كتب بلسان حنظلة نفسه في 13 آب من العام نفسه في جريدة “السياسة”:
“عزيزي القارئ:
اسمح لي أن أقدم لك نفسي.. أنا أعوذ بالله من كلمة أنا.. اسمي حنظلة. اسم أبي مش ضروري. أمي اسمها نكبة. وأختي الصغيرة. نُمرة رجلي ما بعرف لإني دائماً حافي. ولدت في 5 حزيران 1967… جنسيتي… أنا مش فلسطيني مش أردني مش كويتي مش لبناني مش مصري مش حدا. إلخ… باختصار معيش هوية ولا ناوي أتجنّس. محسوبك عربي وبس. التقيت صدفة بالرسام ناجي. كاره شغله لأنه مش عارف يرسم. وشرح لي الأسباب.. وكيف كل ما رسم عن البلد السفارة بتحتج. والارشاد والأنباء بتنذر. بيرسم عن علتان شرحه. قللي الناس كلها أوادم. صاروا ملايكه. والأمور ما فيش أحسن من هيك. وبهالحاله عن شو بدي أرسم. بدي أعيش. وناوي يشوف شغله غير هالشغله. قلت له إنت شخص جبان وبتهرب من المعركة. وقسيت عليه بالكلام. وبعد ما طيّبت خاطره وعرّفتو عن نفسي وإني إنسان عربي واعي بعرف كل اللغات وبحكي كل اللهجات. معاشر كل الناس المليح والعاطل والآدمي والأزعر وبتاع البتاع.. اللّي بيشتغلوا مزبوط واللّي هيك هيك. ورحت الأغوار وبعرف مين بيقاتل ومين بيطلّع بلاغات بسْ. وقلت له إني مستعد أرسم عنه الكاريكاتير كل يوم وفهّمته إني ما بخاف من حدا غير من الله. واللي بدو يزعل يروح يبلط البحر. وقلت له عن اللّي بيفكروا بالكنديشن والسيارات وشو بيطبخو أكثر مما يفكروا بفلسطين.
ويا عزيزي القارئ:
أنا آسف لإني طوّلت عليك… وما تظن إني تعمدت هالشي عشان أعبّي هالمساحة وإني بالأصالة عن نفسي وبالنيابة عن صديقي الرسام أشكرك على طول وبَسْ… وإلى اللقاء غداً… وبتاع.
حنظلة”.
الرسومات الأولية التي تلت ولادة حنظلة كانت تصوّر حنظلة وهو يحلم ويفكر، وقد كُرِّست اللوحة كلها من أجله، وكان العلي ما زال غير واثق كل الثقة بحنظلة لكي يكون ختمه الواضح ورقمه الفاضح، لذا كان العلي يوقع اسمه إلى جانب قدم حنظلة اليسرى.
حنظلة بالدرجة الأولى هو ممثل فلسطين الحقيقي، يمثل الشعب الفلسطيني في الداخل وفي الشتات، هو فلسطين وهو المجلس الوطني الفلسطيني. ثم نقله العلي لكي يصير الشاهد والراصد، وظلّ الولد، أبو الهول الفلسطيني، الرادس (رامي الحجر)، الراجس (الهادر)، الراكس (من قلب الأول عن الآخر)، الحارس، الدارس، المشاكس، الطاسس (الرائي)، الرائس، الفارس، حنظلة المر، حنظلة الحلو، حنظلة السكّري، الشخصية الأسطورية الملحمية، كما يصفه شاكر النابلسي، يتطور وينمو.
كان شكله لا يتغير ولا يتبدل، ولكنه كان يكبر من الداخل بفعله، ومن خلال تنامي دوره في كل لوحة، ثم بدأ يتحرك ويقيم أفعال النهار، وأصبح يشارك في الأحداث بعدما كان مجرد متفرج. بدأ يشارك أيضاً عندما رسمه العلي كصبي من الهنود الحمر الذين ذبحوا وطردوا وشردوا وسُرقت أرضهم، وكان هو الوحيد القادر على ملاعبة الرئيس فرنجية طاولة الزهر. ثم قال قائلون إنّ حنظلة رمز الشعب الذي يشهد ولا يفعل، ويرصد ولا يعمل، ما دفع العلي إلى تحريكه أكثر، وإيكاله مهمات جديدة وجعل منه صاحب ومشغل “صندوق الدنيا” أو “صندوق العجايب”.
وكتب عنه سميح القاسم:
“حنظلة!
كم هو شرير وفاضح
هذا الولد حنظلة
كم هو قاس هذا الولد”.
واستمرت حركة حنظلة، وصار يتصدّر العمل اليومي، إلى حين صار القائد والرائد، ووقف على باب تل الزعتر يهتف ضد الحكام وأميركا وكيسنجر وصالونات جنيف.
وكتبت عنه سلوى النعيمي في “حنظلة العصفور الجريح”:
“أعشق حنظلة
أحييه كل صباح
وأرسم على امتداد ذراعيه قبلة”.
ثم صار يقف وحيداً في اللوحة مطأطئ الرأس، وفي بعض الأحيان كان ينزوي في تل الزعتر على كوم من الزبالة، وحيداً، ويذهب في الغناء ويطلق مواويله السياسية.
وكتب رشاد أبو شاور يقول:
“هذا هو حنظلة في قرى فلسطين، على حيطان الوطن العربي، يخرج من تحت الخراب، من الدخان من النسيان أكثر جسارة وأبهى. لم يمت حنظلة من الجوع، صمد في المخيم على كسرة خبز وأكل مما تنبت الأرض. لم يمت في المنافي، فمال المنافي لم يكن هاجسه، لذا أدار ظهره دائماً للترف، وولّى وجهه إلى فلسطين.
أصبح حنظلة المرآة، إذاً، ضميراً جماعياً في ذاكرة الناس، وملأ الدنيا وشغل الناس، كما أصبح تساؤلاً ملحاً ورمزاً فاعلاً، في صمته وكلامه، في سكونه وحركته، في غنائه ولعبه.
في حوار لرضوى عاشور مع العلي في مجلة “المواجهة” 1985، قال العلي: “شخصية حنظلة كانت بمثابة أيقونة حفظت روحي من السقوط كلما شعرت بشيء من التكاسل أو بأنني أكاد أغفو أو أهمل واجبي. أشعر بأنّ هذا الطفل كنقطة ماء على جبيني يصحّيني ويدفعني إلى الحرص، ويحرسني من الخطأ والضياع. إنه كالبوصلة بالنسبة لي، وهذه البوصلة تشير دائماً إلى فلسطين، وليس فقط إلى فلسطين بالمعنى الجغرافي ولكن بالمعنى الإنساني والرمزي، أي القضية العادلة أينما كانت في مصر أو فيتنام أو في إفريقيا الجنوبية”.
ما سلف ذكره عن حنظلة، لا سيما من القول المباشر والصريح لصاحبه، لا يتفق إطلاقاً مع استعادته أخيراً من فنانين، وإخراجه من سياقه الرمزي والوظيفي. بالتأكيد، حنظلة الذي في حضن أردوغان كطفل صغير، ليس هو حنظلة الذي أراده العلي. كذلك حنظلة الذي رسمه أكسل كنودسين (النكبة الجديدة 2020)، في عمله التضامني مع القضية الفلسطينية، هو حنظلة مشوَّه، ولو بغير قصد، لأنه خرج عن وضعه وموقفه.
الاستعادة ليست دائماً كاريكاتورية أو تشكيلية، بل تأخذ الطابع الروائي كما في رواية إسماعيل فهد إسماعيل “على عهدة حنظلة”، التي يمكن اعتبارها سيرة ذاتية متخيلة للعلي، لا سيما أيامه الأخيرة التي أمضاها في لندن، وحواره التخييلي مع حنظلة، ابنه، الذي يأخذ دور الوعي، أو الذاكرة. كذلك الاستعادة قد تنحو أبعد من ذلك، كما فعلت فرقة موسيقية إيطالية مكونة من فنانين إيطاليين وعرب، اختارت لنفسها اسم “حنظلة” Handala، عام 1989، وثمة استعادات كثيرة، أبرزها مثلاً استعادة حنظلة كما هو، في الثورات العربية، أو استعادته كشخصية مفهومية.
المصطلح الأخير وضعه الفرنسيان جيل دولوز وفيليكس غاتاراي في كتابهما “ما الفلسفة؟” للتعبير عن وضعية يقوم فيها المفكر بتصور ذهني ما عبر شخصية متخيلة أو شبه متخيلة، مثل زرادشت نيتشه، وسقراط أفلاطون، ودون كيخوته وعائلة كارامازوف خارج الفلسفة.
كتب شوقي بن حسن أنّه يمكن اعتبار حنظلة شخصية مفهومية أو مفاهيمية، وهي ليست الوحيدة بين أعمال العلي، كما اعتبر أنّ مدونة الأخير هي من أثرى ما هو موجود في الثقافة العربية من زاوية القدرة على خلق شخصيات مفهومية. إذ مع حنظلة اقترح العلي منظومة علاقات يمكن قراءتها ضمن ما يُعرف في الدراسات السردية الحديثة بـ”الأنموذج الفاعلي” Schéma actantiel، لا سيما أنّ حنظلة يقف ضد شخصيات نقيضة أشهرها تلك الرخويات التي ترمز إلى أبناء أمّته الذاهبين مذهباً آخر في تعاملهم مع العدوّ. تطبيق نظرية “الأنموذج الفاعلي” كما يقترح بن حسن، التي وضعتها آن أوبرسفيلد لفهم المسرح في “مدرسة المتفرج”، قد يكون شيئاً بعيداً عن حنظلة، الذي يمكن الاكتفاء به كشخصية مفهومية، وأسطورة حديثة، ورمز من رموز القرن العشرين.
الأبجدية الناجية
الدراسات عن ناجي العلي كثيرة، منها دراسة عبد المجيد العابودي “دراسة في كاريكاتير ناجي العلي”، ودراسة الفقيه “التنمية السياسية المترتبة على حركة الوعي في كاريكاتير ناجي العلي”، ودراسة مسلماني “حق العودة في كاريكاتير ناجي العلي”، إضافة إلى دراسة fayeq oweis بالإنكليزية: Handala and the cartoons of Naji Al-Ali. Relevance, Characters, Symbols.
كُتب في نيويورك تايمز مرة: “إنّ من يريد أن يعرف هذا الصباح رأي العرب في السياسة الأميركية، فما عليه إلا أن يطالع ما رسمه ناجي العلي”. اللغة التي خلقها الأخير بينه وبين جمهوره، تقوم أولاً وأخيراً على البساطة، لأنه نفسه كان يلتقط الحقيقة، كما يقول، من أفواه البسطاء وألسنة الفقراء. يأخذها ويطبخها في مفاعله الفني ثم يعسكها ثانية على الفقراء والبسطاء.
هذا التوجه دفع أشهر جريدة يابانية “أساهي شمبون” إلى أن تصف العلي بأنه واحد من أشهر عشرة رسامي كاريكاتير في العالم، مضيفةً إلى ذلك أنه يرسم بحامض الكبريتيك. فيما قال عنه أحد رسامي “التايم” إنه يرسم “بريشة من العظم البشري المبري”.أبجدية العلي اتسعت أكثر من ثمانين رمزاً وإشارة وعلامة، تتغير بتغيّر الرسم نفسه، ومستمدة من مصادر مختلفة.
أبرز شخصيات العلي مجموعة الحنفاز (وفقاً لشاكر النابلسي) وهي التي تتكون من حنظلة وفاطمة وصديقتها زينب والزَلمة والعمّة حنيفة، يُضاف إليهم الدبلوماسي المتكرش والفقمازير (من فقمات وخنازير) الرخوية التي تمثل الأنظمة على اختلافها.
يضع النابلسي قائمة بأكثر علامات وإشارات ورموز العلي استعمالاً في أبجديته، يستخرجها من عينة من 500 لوحة لناحي منتقاة من أكثر من 20 ألف لوحة تركها في مراحله الفنية الخمس: مرحلة مجلة “الطليعة”، ثم مرحلة جريدة “السياسة”، ثم مرحلة جريدة “السفير”، ثم جريدة “القبس”، ثم “القبس الدولي”.
والقائمة التي يضعها النابلسي تضم: العلم (رمز الوطن)، الفقمازير الرخوية (رمز الأنظمة والمؤسسات)، الهلال (رمز الأمل)، الصليب (العذاب)، البترول بآباره وبراميله (الثروة المهدورة)، الأبجدية الإنكليزية (الغرب)، الجريدة (الإعلام)، الأسلاك (الشتات)، الأرقام (القرارات السياسية المرفوضة والهزائم العسكرية)، ومجموعة الحنفاز سالفة الذكر، والقلم (رمز الثقافة)، والتضمين (أغاني وأهازيج وأناشيد وأمثال شعبية، رمز الروح الشعبية والتراث)، وبيروت (الوطن الثاني وخط الدفاع الأول عن فلسطين في ذلك الوقت).