fbpx
ساهموا في دعم الإعلام المستقل و الجريء!
ادعموا درج

في ذكرى الثورة السوريّة: الاحتفال في زمن المجزرة!

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

في أي دولة طبيعية، المجازر تعني إعلان الحداد، تعني فتح تحقيقات دولية، تعني محاسبة المسؤولين، لكن في سوريا الجديدة، المجازر مجرّد تفصيل، والأهم هو الاحتفال، وكأن كل شيء أصبح على ما يرام!

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

ما زال عدد قتلى الساحل السوري من العلويين غير محدّد، لا أرقام رسمية، وتخوين لمن يحاول توثيق المجازر التي ارتُكبت، إثر عملية عسكرية قامت بها قوات “النظام الجديد” في الساحل السوري، بدأت بالرد على كمين قام به مسلّحون موالون للأسد، ثم تحوّلت إلى حملة قتل استمرّت أياماً، سُفكت فيها دماء مئات المدنيين.

 انتشرت صور المقتلة في “العالم”، صور وفيديوهات القتل والتنكيل بالجثث، حرّكت الرأي العام العالمي، وتعاطف الناس حول العالم مع الضحايا والأمهات، اللواتي يقفن أمام جثث أبنائهن لحمايتها من الحرق أو التنكيل. وشهدت عواصم أوروبية وقفات حداد على أرواح القتلى المدنيين. لكن، هذه الـ”لكن” التي لا بدّ منها حين الحديث عن سوريا، تظهر في محاولة التغطية على المقتلة بالاحتفال بذكرى الثورة السورية الـ14.

 تتعامل الحكومة في سوريا الجديدة “الحرة” مع المجازر وكأنها مجرد تفصيل هامشي، لا يُعكّر صفو المشهد السياسي السوري بعد “الانتصار”، فالحكومة لديها أولويات أخرى أكثر إلحاحاً اليوم، على رأسها: كرنفالات الفرح الوطني لمناسبة ذكرى الثورة السورية المباركة! وكأن حلقات الدبكة هي العلاج السحري لكل شيء، بما في ذلك جرائم ترتقي إلى التطهير العرقي.

وبينما كانت تعلو نداءات أهالي الساحل السوري لضبط الأمن، وإيقاف عمليات القتل الممنهجة التي تُرافقها صيحات تُعلن نية الإبادة، تجهزّت حكومة أحمد الشرع للاحتفالات الكبرى يوم 15 آذار/ مارس في مختلف المدن السورية التي تتبع لسيطرته، واحتضنت دمشق الاحتفال الرئيسي في ساحة الأمويين. 

ولأن الثورة تعني “تغييراً جذرياً” في كل شيء، فقد قرّر زعيم “هيئة تحرير الشام” أبو محمد الجولاني، أن يُظهر الوجه الجديد للسلطة، عبر لفتة لطيفة غير مسبوقة: إرسال مروحيات لإلقاء الورود على الجماهير المحتشدة في الساحة! فالمروحيات التي كانت تُلقي البراميل المتفجرة على المدنيين في عهد النظام البائد، باتت الآن تُمطرهم بالورود، ومنشورات احتفالية، خلت منها كلمة “ديموقراطية” التي يتفاداها الشرع و”شبابه” في أي حديث.

يتساءل البعض: أليست هذه المروحية ذاتها التي ألقت البراميل المتفجرة على قرى العلويين في الساحل السوري؟ ألم تكن هذه الطائرة التي تنثر الورود اليوم، هي نفسها التي رمت قنبلتين اثنتين فوق الساحل السوري، وثّقها من يرمي القنبلة نفسه؟ ربما علينا أن نؤمن أن الذاكرة الجمعية قصيرة، وأن الصورة الإعلامية المبتكرة قادرة على طمس الحقائق، فالمهم الآن ليس الماضي، بل الحاضر المشرق والمستقبل الذي تَعِد به الحكومة الجديدة!

تباينت الاحتفالات في المدن السورية، تبعاً لقدرة الأهالي على تشرّب مبادئ الدولة السورية الحديثة، التي ستأخذ وقتاً كافياً لخلق نموذج سياسي خاص تبتدعه بنفسها. ففي  إدلب، نظّمت السلطات  احتفاليةً شملت الفصل الجندري، فنشرت قبل الاحتفال رسوماً توضيحية تحدّد مواقع الرجال والنساء خلال الاحتفال؛ خطوة رائدة من شأنها أن تؤسّس لسوريا الجديدة التي نحلم بها، حيث أن أهمّ معايير التقدّم والتحرّر لا نحقّقها بالعدالة ولا الديمقراطية، بل التأكّد من أن الرجال والنساء لا يختلطون أثناء الاحتفالات، ولا ننسى أن نموذج الحكومة في إدلب نموذج ناجح، يسعى أحمد الشرع إلى تعميمه على الأراضي السورية كافة، في السنوات التالية، كما صرّح بكل فخر.

وفي حلب وحمص، كانت الاحتفالات أشبه بمهرجان موسيقي يتجاهل أن هناك جثثاً لسوريين في الساحل لم تُدفن بعد! لكن لا داعيَ للكآبة، فالحياة مستمرّة! المجازر لا تُفسد المتعة! ربما هذا ما اعتدناه خلال 14 عاماً،  وبما أن الحكومة الجديدة تؤمن بالتنوّع والانفتاح، فقد قرّرت السماح للمسيحيين بالمشاركة!

تأتي هذه الاحتفالات، بعدما تم تأكيد انفتاح الحكومة الجديدة على التنوّع، عندما خرج أحمد الشرع ليزفّ للعالم بشرى سارّة: توقيع اتفاقية مع “قوّات سوريا الديمقراطية/ قسد”، وكأن سوريا قد توحّدت جغرافياً وعادت إلى عصرها الذهبي! لا يهمّ أن المجازر مستمرة، ولا أن البلاد غارقة في الفوضى، المهم أن هناك ورقة موقّعة يمكن عرضها أمام الكاميرات، ليُقال إن الدولة استعادت سيادتها. 

وكي تكتمل المسرحية، ينصّ الاتفاق على “ضمان حقوق جميع السوريين في التمثيل السياسي على أساس الكفاءة”، ما دفع أحمد الشرع بعد تفكير معمّق، إلى اكتشاف أن الكفاءة الوحيدة بين 25 مليون سوري تكمن في شخصيته! ليُحدّد في الإعلان الدستوري مهامه، التي تجمع بين مهام رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء والقائد العام للقوّات المسلحة، وخوّل نفسه تعيين أعضاء مجلس الشعب في إنجاز غير مسبوق في التاريخ السياسي.

أما إطلاق النار، فالاتفاقية نصّت رسمياً على إيقافه على الأراضي السورية كافة، ولكن ذلك لن يشمل الحالات الفردية، التي تستهدف العلويين، باعتبارهم “فلول النظام البائد”، أو التي تستهدف الذين يتمرّدون على القوانين الواضحة، بإفطارهم في شهر رمضان الفضيل؛ فهؤلاء يُعتبرون تهديداً للأمن القومي، ولا ضير من اتخاذ عناصر الجيش والأمن المنفلتين الإجراءات اللازمة بحقّهم. 

انتقد “الجميع” غياب الإعلام الرسمي منذ التحرير، ولكن السيد الرئيس أحمد الشرع، عمل بشكل دؤوب على سد الفراغ، وبدلاً من الاستعانة بقنوات تلفزيونية رسمية مملّة، لجأ إلى نجوم العصر الحالي، ليلتقي بنفسه نجوم “التيك توك” و”اليوتيوب”، ويُقدّم لهم التوجيهات اللازمة التي تجعل صفحاتهم التي يتابعها الملايين، منبراً لنقل الرواية شبه الرسمية؛ لينقلوا لنا من أروقة القصر الرئاسي الصور التي تؤكّد إنسانية القائد أحمد الشرع وعصريته. 

بيد أن بعض نجوم “التيك توك”، لم يكونوا على القدر الكافي من المسؤولية الملقاة على عاتقهم، ليقفوا بالصف ذاته مع “العناصر المنفلتة” التي ترتكب الجرائم، ويحرّضوا على القتل، بعض هؤلاء كان حظّهم سيئاً لأنهم يعيشون في بلاد لا تحترم حرية الرأي، ولا تستوعب إمكانية حدوث بعض الأخطاء الفردية، كالدول الأوروبية. ومن ضحايا هذه البلاد أسيل كاشف، التي دعت عبر “التيك توك” إلى إبادة العلويين، مُستخدمةً المقولة الرائجة: “ارموا جثثهم في البحر، كي لا يقولوا إن الأسماك جاعت في عهد بني أمية”، والتي قدّمت نصائح ذهبية لـ”المجاهدين”، توجّههم إلى عدم توثيق عمليات القتل التي يرتكبونها في الجزء الثاني من عملية “ردع العدوان”.

 جاء الرد على فيديوهات أسيل كاشف من نائب البرلمان الهولندي بيتر أومتزخت، إذ نشر أحد مقاطعها واتّهمها بالتطرّف؛ فما كان منها إلا أن اشتكت من المؤامرة الكونية، التي تتعرّض لها الأقليات المسلمة في البلاد الأوروبية العنصرية، بعدما عرضت أثاث منزلها للبيع “أون لاين”.

في المقابل، فإن بعض نجوم “اليوتيوب” و”التيك توك”، كانوا على القدر الكافي من المسؤولية، مثل جو حطاب، الذي تمكّن من الكشف عن الوجه الإنساني والرؤى الشبابية للقائد أحمد الشرع، ومثل ابن حتوتة، الذي سارع إلى نشر فيديو يُبرز جمال الساحل السوري، تعاون فيه مع وارف نجم قناة “ديالا ووارف”، الذي اشتهر بسلسلة فيديوهات هادفة على “اليوتيوب”، عنوانها “كيف الشعب السوري عايش”. 

وعلى رغم أن الفيديو صُوِّر في وقت سابق، لكن ابن حتوتة اختار التوقيت المناسب لنشره، ليواجه الصور الدموية وخطابات التحريض الطائفي بفيديو سياحي لطيف، صُوِّر في حضور شباب “هيئة تحرير الشام”. ومن الجدير بالذكر أن ابن حتوتة وجو حطاب، لديهما خبرة كبيرة في تلميع صور الأنظمة الإسلامية الراديكالية، وكانا من أوائل نجوم “اليوتيوب” الذين استدعتهم “طالبان”، لإظهار الوجه السياحي والحضاري في أفغانستان.  

ولم تكتفِ حكومة أحمد الشرع بالاعتماد على نجوم “التيك توك” و”اليوتيوب” في قطاع الإعلام، بل اعتمدت أيضاً على شخصيات إعلامية مرموقة مثل موسى العمر وجميل الحسن، اللذين رسما ملامح الخطاب الإعلامي للدولة السورية الحديثة، ويوجّها دفّة التعاطي مع مجازر الساحل؛ ليؤكّد موسى العمر أن الإعلام يهوّل، وأن عدد الضحايا يتراوح بين 150 و200، ليس كما يُشاع بأنه تجاوز الألف، ويحمّل المسؤولية كاملةً لفلول النظام البائد. 

وبدلاً من الحديث عن مئات الضحايا الذين قُتلوا خلال الأيام الماضية، بدأت الصفحات الإعلامية الموالية للجولاني، بإعادة نشر صور وتقارير عن مجازر الأسد القديمة، ولا سيما مجازر الكيماوي في الغوطة في عام 2013، ومجزرة دوما في عام 2015، في حملة ممنهجة لتذكير الجميع بأن النظام السابق كان أكثر إجراماً، وكأن ذلك يمنح المجرمين صكّ براءة.

أصابع الاتهام  في مقتلة الساحل اتّجهت إلى قائد الفرقة 25 في الجيش السوري أبو عمشة، لتحمّله مسؤولية مجازر التطهير العرقي في الساحل السوري، لكنه تمكّن من إثبات براءته من خلال نشر صور له، وهو داخل جهاز الطبقي المحوري في أحد المستشفيات، مرتدياً الزي العسكري؛ لتصل إلى العالم كله رسالته: “كنت مريضاً وقت المجازر، ولا دخل لي بكل ما حصل”، فهل أرسل تقريراً طبياً إلى لجنة التحقيق التي شكّلها القائد أحمد الشرع، ليحصل رسمياً على حجّة غياب، أم أن الصور كافية لتبرئته؟

هذا كله يأتي والحكومة الجديدة تحتفل بذكرى “انتصار الثورة”، وكأنها حقّقت الحرية والديمقراطية التي طالب بها السوريون، متجاهلةً أن الإعلان الدستوري الجديد لا يختلف بشيء عن أنظمة الحكم الشمولية، إذ جمع أحمد الشرع في يده السلطة التنفيذية والتشريعية والعسكرية، ليؤكّد ذلك أن البلاد انتقلت من استبداد إلى استبداد آخر.

في أي دولة طبيعية، المجازر تعني إعلان الحداد، تعني فتح تحقيقات دولية، تعني محاسبة المسؤولين، لكن في سوريا الجديدة، المجازر مجرّد تفصيل، والأهم هو الاحتفال، وكأن كل شيء أصبح على ما يرام! ربما يعتقد النظام الجديد أنه يستطيع كتابة التاريخ بطريقته الخاصة، أو أن الموسيقى والدبكة يمكنهما محو آثار الدم، لكن الحقيقة أن المجازر لا تُنسى، والرقص فوق الجثث لا يجعلها تختفي، بل يجعل المشهد أكثر قبحاً.

ولا ننسى بالنهاية أن السوريين منقسمون حول مسألة تاريخ الثورة، وأن الاحتفالات التي أُقيمت في 15 آذار/ مارس هي ليست الجولة الأولى، وأن السوريين سيتجمهرون في الساحات العامة يوم 18 منه أيضاً، آملين بأن تحلّق مروحيات الجولاني “الأليفة” فوق رؤوسهم، وأن تُمطر عليهم بالورود والحب. 

18.03.2025
زمن القراءة: 7 minutes

في أي دولة طبيعية، المجازر تعني إعلان الحداد، تعني فتح تحقيقات دولية، تعني محاسبة المسؤولين، لكن في سوريا الجديدة، المجازر مجرّد تفصيل، والأهم هو الاحتفال، وكأن كل شيء أصبح على ما يرام!

ما زال عدد قتلى الساحل السوري من العلويين غير محدّد، لا أرقام رسمية، وتخوين لمن يحاول توثيق المجازر التي ارتُكبت، إثر عملية عسكرية قامت بها قوات “النظام الجديد” في الساحل السوري، بدأت بالرد على كمين قام به مسلّحون موالون للأسد، ثم تحوّلت إلى حملة قتل استمرّت أياماً، سُفكت فيها دماء مئات المدنيين.

 انتشرت صور المقتلة في “العالم”، صور وفيديوهات القتل والتنكيل بالجثث، حرّكت الرأي العام العالمي، وتعاطف الناس حول العالم مع الضحايا والأمهات، اللواتي يقفن أمام جثث أبنائهن لحمايتها من الحرق أو التنكيل. وشهدت عواصم أوروبية وقفات حداد على أرواح القتلى المدنيين. لكن، هذه الـ”لكن” التي لا بدّ منها حين الحديث عن سوريا، تظهر في محاولة التغطية على المقتلة بالاحتفال بذكرى الثورة السورية الـ14.

 تتعامل الحكومة في سوريا الجديدة “الحرة” مع المجازر وكأنها مجرد تفصيل هامشي، لا يُعكّر صفو المشهد السياسي السوري بعد “الانتصار”، فالحكومة لديها أولويات أخرى أكثر إلحاحاً اليوم، على رأسها: كرنفالات الفرح الوطني لمناسبة ذكرى الثورة السورية المباركة! وكأن حلقات الدبكة هي العلاج السحري لكل شيء، بما في ذلك جرائم ترتقي إلى التطهير العرقي.

وبينما كانت تعلو نداءات أهالي الساحل السوري لضبط الأمن، وإيقاف عمليات القتل الممنهجة التي تُرافقها صيحات تُعلن نية الإبادة، تجهزّت حكومة أحمد الشرع للاحتفالات الكبرى يوم 15 آذار/ مارس في مختلف المدن السورية التي تتبع لسيطرته، واحتضنت دمشق الاحتفال الرئيسي في ساحة الأمويين. 

ولأن الثورة تعني “تغييراً جذرياً” في كل شيء، فقد قرّر زعيم “هيئة تحرير الشام” أبو محمد الجولاني، أن يُظهر الوجه الجديد للسلطة، عبر لفتة لطيفة غير مسبوقة: إرسال مروحيات لإلقاء الورود على الجماهير المحتشدة في الساحة! فالمروحيات التي كانت تُلقي البراميل المتفجرة على المدنيين في عهد النظام البائد، باتت الآن تُمطرهم بالورود، ومنشورات احتفالية، خلت منها كلمة “ديموقراطية” التي يتفاداها الشرع و”شبابه” في أي حديث.

يتساءل البعض: أليست هذه المروحية ذاتها التي ألقت البراميل المتفجرة على قرى العلويين في الساحل السوري؟ ألم تكن هذه الطائرة التي تنثر الورود اليوم، هي نفسها التي رمت قنبلتين اثنتين فوق الساحل السوري، وثّقها من يرمي القنبلة نفسه؟ ربما علينا أن نؤمن أن الذاكرة الجمعية قصيرة، وأن الصورة الإعلامية المبتكرة قادرة على طمس الحقائق، فالمهم الآن ليس الماضي، بل الحاضر المشرق والمستقبل الذي تَعِد به الحكومة الجديدة!

تباينت الاحتفالات في المدن السورية، تبعاً لقدرة الأهالي على تشرّب مبادئ الدولة السورية الحديثة، التي ستأخذ وقتاً كافياً لخلق نموذج سياسي خاص تبتدعه بنفسها. ففي  إدلب، نظّمت السلطات  احتفاليةً شملت الفصل الجندري، فنشرت قبل الاحتفال رسوماً توضيحية تحدّد مواقع الرجال والنساء خلال الاحتفال؛ خطوة رائدة من شأنها أن تؤسّس لسوريا الجديدة التي نحلم بها، حيث أن أهمّ معايير التقدّم والتحرّر لا نحقّقها بالعدالة ولا الديمقراطية، بل التأكّد من أن الرجال والنساء لا يختلطون أثناء الاحتفالات، ولا ننسى أن نموذج الحكومة في إدلب نموذج ناجح، يسعى أحمد الشرع إلى تعميمه على الأراضي السورية كافة، في السنوات التالية، كما صرّح بكل فخر.

وفي حلب وحمص، كانت الاحتفالات أشبه بمهرجان موسيقي يتجاهل أن هناك جثثاً لسوريين في الساحل لم تُدفن بعد! لكن لا داعيَ للكآبة، فالحياة مستمرّة! المجازر لا تُفسد المتعة! ربما هذا ما اعتدناه خلال 14 عاماً،  وبما أن الحكومة الجديدة تؤمن بالتنوّع والانفتاح، فقد قرّرت السماح للمسيحيين بالمشاركة!

تأتي هذه الاحتفالات، بعدما تم تأكيد انفتاح الحكومة الجديدة على التنوّع، عندما خرج أحمد الشرع ليزفّ للعالم بشرى سارّة: توقيع اتفاقية مع “قوّات سوريا الديمقراطية/ قسد”، وكأن سوريا قد توحّدت جغرافياً وعادت إلى عصرها الذهبي! لا يهمّ أن المجازر مستمرة، ولا أن البلاد غارقة في الفوضى، المهم أن هناك ورقة موقّعة يمكن عرضها أمام الكاميرات، ليُقال إن الدولة استعادت سيادتها. 

وكي تكتمل المسرحية، ينصّ الاتفاق على “ضمان حقوق جميع السوريين في التمثيل السياسي على أساس الكفاءة”، ما دفع أحمد الشرع بعد تفكير معمّق، إلى اكتشاف أن الكفاءة الوحيدة بين 25 مليون سوري تكمن في شخصيته! ليُحدّد في الإعلان الدستوري مهامه، التي تجمع بين مهام رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء والقائد العام للقوّات المسلحة، وخوّل نفسه تعيين أعضاء مجلس الشعب في إنجاز غير مسبوق في التاريخ السياسي.

أما إطلاق النار، فالاتفاقية نصّت رسمياً على إيقافه على الأراضي السورية كافة، ولكن ذلك لن يشمل الحالات الفردية، التي تستهدف العلويين، باعتبارهم “فلول النظام البائد”، أو التي تستهدف الذين يتمرّدون على القوانين الواضحة، بإفطارهم في شهر رمضان الفضيل؛ فهؤلاء يُعتبرون تهديداً للأمن القومي، ولا ضير من اتخاذ عناصر الجيش والأمن المنفلتين الإجراءات اللازمة بحقّهم. 

انتقد “الجميع” غياب الإعلام الرسمي منذ التحرير، ولكن السيد الرئيس أحمد الشرع، عمل بشكل دؤوب على سد الفراغ، وبدلاً من الاستعانة بقنوات تلفزيونية رسمية مملّة، لجأ إلى نجوم العصر الحالي، ليلتقي بنفسه نجوم “التيك توك” و”اليوتيوب”، ويُقدّم لهم التوجيهات اللازمة التي تجعل صفحاتهم التي يتابعها الملايين، منبراً لنقل الرواية شبه الرسمية؛ لينقلوا لنا من أروقة القصر الرئاسي الصور التي تؤكّد إنسانية القائد أحمد الشرع وعصريته. 

بيد أن بعض نجوم “التيك توك”، لم يكونوا على القدر الكافي من المسؤولية الملقاة على عاتقهم، ليقفوا بالصف ذاته مع “العناصر المنفلتة” التي ترتكب الجرائم، ويحرّضوا على القتل، بعض هؤلاء كان حظّهم سيئاً لأنهم يعيشون في بلاد لا تحترم حرية الرأي، ولا تستوعب إمكانية حدوث بعض الأخطاء الفردية، كالدول الأوروبية. ومن ضحايا هذه البلاد أسيل كاشف، التي دعت عبر “التيك توك” إلى إبادة العلويين، مُستخدمةً المقولة الرائجة: “ارموا جثثهم في البحر، كي لا يقولوا إن الأسماك جاعت في عهد بني أمية”، والتي قدّمت نصائح ذهبية لـ”المجاهدين”، توجّههم إلى عدم توثيق عمليات القتل التي يرتكبونها في الجزء الثاني من عملية “ردع العدوان”.

 جاء الرد على فيديوهات أسيل كاشف من نائب البرلمان الهولندي بيتر أومتزخت، إذ نشر أحد مقاطعها واتّهمها بالتطرّف؛ فما كان منها إلا أن اشتكت من المؤامرة الكونية، التي تتعرّض لها الأقليات المسلمة في البلاد الأوروبية العنصرية، بعدما عرضت أثاث منزلها للبيع “أون لاين”.

في المقابل، فإن بعض نجوم “اليوتيوب” و”التيك توك”، كانوا على القدر الكافي من المسؤولية، مثل جو حطاب، الذي تمكّن من الكشف عن الوجه الإنساني والرؤى الشبابية للقائد أحمد الشرع، ومثل ابن حتوتة، الذي سارع إلى نشر فيديو يُبرز جمال الساحل السوري، تعاون فيه مع وارف نجم قناة “ديالا ووارف”، الذي اشتهر بسلسلة فيديوهات هادفة على “اليوتيوب”، عنوانها “كيف الشعب السوري عايش”. 

وعلى رغم أن الفيديو صُوِّر في وقت سابق، لكن ابن حتوتة اختار التوقيت المناسب لنشره، ليواجه الصور الدموية وخطابات التحريض الطائفي بفيديو سياحي لطيف، صُوِّر في حضور شباب “هيئة تحرير الشام”. ومن الجدير بالذكر أن ابن حتوتة وجو حطاب، لديهما خبرة كبيرة في تلميع صور الأنظمة الإسلامية الراديكالية، وكانا من أوائل نجوم “اليوتيوب” الذين استدعتهم “طالبان”، لإظهار الوجه السياحي والحضاري في أفغانستان.  

ولم تكتفِ حكومة أحمد الشرع بالاعتماد على نجوم “التيك توك” و”اليوتيوب” في قطاع الإعلام، بل اعتمدت أيضاً على شخصيات إعلامية مرموقة مثل موسى العمر وجميل الحسن، اللذين رسما ملامح الخطاب الإعلامي للدولة السورية الحديثة، ويوجّها دفّة التعاطي مع مجازر الساحل؛ ليؤكّد موسى العمر أن الإعلام يهوّل، وأن عدد الضحايا يتراوح بين 150 و200، ليس كما يُشاع بأنه تجاوز الألف، ويحمّل المسؤولية كاملةً لفلول النظام البائد. 

وبدلاً من الحديث عن مئات الضحايا الذين قُتلوا خلال الأيام الماضية، بدأت الصفحات الإعلامية الموالية للجولاني، بإعادة نشر صور وتقارير عن مجازر الأسد القديمة، ولا سيما مجازر الكيماوي في الغوطة في عام 2013، ومجزرة دوما في عام 2015، في حملة ممنهجة لتذكير الجميع بأن النظام السابق كان أكثر إجراماً، وكأن ذلك يمنح المجرمين صكّ براءة.

أصابع الاتهام  في مقتلة الساحل اتّجهت إلى قائد الفرقة 25 في الجيش السوري أبو عمشة، لتحمّله مسؤولية مجازر التطهير العرقي في الساحل السوري، لكنه تمكّن من إثبات براءته من خلال نشر صور له، وهو داخل جهاز الطبقي المحوري في أحد المستشفيات، مرتدياً الزي العسكري؛ لتصل إلى العالم كله رسالته: “كنت مريضاً وقت المجازر، ولا دخل لي بكل ما حصل”، فهل أرسل تقريراً طبياً إلى لجنة التحقيق التي شكّلها القائد أحمد الشرع، ليحصل رسمياً على حجّة غياب، أم أن الصور كافية لتبرئته؟

هذا كله يأتي والحكومة الجديدة تحتفل بذكرى “انتصار الثورة”، وكأنها حقّقت الحرية والديمقراطية التي طالب بها السوريون، متجاهلةً أن الإعلان الدستوري الجديد لا يختلف بشيء عن أنظمة الحكم الشمولية، إذ جمع أحمد الشرع في يده السلطة التنفيذية والتشريعية والعسكرية، ليؤكّد ذلك أن البلاد انتقلت من استبداد إلى استبداد آخر.

في أي دولة طبيعية، المجازر تعني إعلان الحداد، تعني فتح تحقيقات دولية، تعني محاسبة المسؤولين، لكن في سوريا الجديدة، المجازر مجرّد تفصيل، والأهم هو الاحتفال، وكأن كل شيء أصبح على ما يرام! ربما يعتقد النظام الجديد أنه يستطيع كتابة التاريخ بطريقته الخاصة، أو أن الموسيقى والدبكة يمكنهما محو آثار الدم، لكن الحقيقة أن المجازر لا تُنسى، والرقص فوق الجثث لا يجعلها تختفي، بل يجعل المشهد أكثر قبحاً.

ولا ننسى بالنهاية أن السوريين منقسمون حول مسألة تاريخ الثورة، وأن الاحتفالات التي أُقيمت في 15 آذار/ مارس هي ليست الجولة الأولى، وأن السوريين سيتجمهرون في الساحات العامة يوم 18 منه أيضاً، آملين بأن تحلّق مروحيات الجولاني “الأليفة” فوق رؤوسهم، وأن تُمطر عليهم بالورود والحب. 

18.03.2025
زمن القراءة: 7 minutes
|

اشترك بنشرتنا البريدية