لا يزال والدي الحاج خليل يتذكر الأيام الجميلة التي عاشها في قريته “برير” الواقعة في الشمال الشرقي من مدينة غزة، التي هُجِّرً سكانها قسراً قبل 72 عاماً، عمر النكبة الفلسطينية، لا تغيب عن باله تلك الأوقات السعيدة وأيام الهناء والأمن والسمر. ويتذكر أغاني القمر، “وشباب قوموا العبوا والموت ما عنو، والعمر زي القمر ما ينشبع منو”.
إلى موسم حصاد القمح وفزعة الفلاحين والبدو من جيران القرية، يتذكر والده ووالدته وشقيقه الوحيد محمد الملقب بـ”الباشا” ويكبره بعشرين عاماً وحبه له. تمر صور أقاربه وأصدقائه، يتذكر بحزن كيف تسللت عصابات الحركة الصهيونية بمساعدة الإنكليز إلى قريته والقرى المحيطة بها والجرائم التي ارتكبتها، يتذكر جيداً من قتل من أقربائه وأقرانه، ويتذكر كيف كان يعود وشقيقه تسللاً إلى القرية لاستعادة ما تبقى من محصول القمح الذي كانا خزنانه.
في الذكرى 72 للنكبة يعيش الفلسطينيون أزمات متلاحقة، في ظل نظام سياسي مرتبك ومنقسم وهش فيما بوادر الانحلال تهدد الكيان الفلسطيني برمّته، في ظل سياسات وإجراءات إسرائيلية استعمارية متلاحقة ومتصاعدة، تستكمل ما لم تستطع استكماله عامي 1948 و1967. تحل الذكرى 72، وسط الاتفاق على تشكيل الائتلاف الحكومي الإسرائيلي على ضم منطقة الاغوار والمستوطنات في الضفة الغربية اعتباراً من مطلع تموز/ يوليو 2020، إضافة إلى إصدار أوامر عسكرية لمصادرة المزيد من الأراضي، وحملات التحريض الممنهجة ضد المجتمع المدني الفلسطيني.
وصمة “إرهاب”
تضاف إلى ذلك وصمة “الإرهاب” التي تلاحق المجتمع الفلسطيني، ومخاطبة الاتحاد الأوروبي برسائل حكومية رسمية موجهة بشأن تمويل المؤسسات الفلسطينية، إضافة إلى رسائل وجهها محام إسرائيلي يعمل مستشاراً لمجموعات استيطانية، للمصارف الفلسطينية يهددها بالمساءلة إذا ما استمرت في الإبقاء على حسابات الأسرى الفلسطينيين في سجون إسرائيل، بناء على أمر عسكري إسرائيلي وبصلاحيات واسعة لمصادرة ممتلكات الفلسطينيين، ومنح أي جندي صلاحية المصادرة ووضع اليد على أي ممتلكات تعود للفلسطينيين وتقليص حقوقهم في التمثيل القانوني.
إسرائيل تستفرد بالأسرى وتجمّد حساباتهم المصرفية، فيما تبحث المصارف عن مصالحها، وقد تركت بدون حماية من السلطة. أما منظمات المجتمع المدني الفلسطيني فجزء كبير منها مهدد، بخاصة منظمات حقوق الانسان، التي تقف على عتبات الانهيار والإفلاس بسبب توثيقها انتهاكات وجرائم إسرائيلية وتقديمها ملفات لمحكمة الجنايات الدولية. وبذلك وضعت دول الاتحاد الأوروبي شروطاً تمويلية صعبة، على المنظمات، التي يتم أحياناً اتهامها بمساعدة مجموعات “إرهابية”. وتضاف إلى ذلك ملاحقة أكاديميين وباحثين فلسطينيين وإدراجهم على القوائم السود باعتبارهم معادين للصهيوينة.
“فيسبوك”
وهناك قضية أخرى اعتبرها المجتمع المدني الفلسطيني استفراداً بالفلسطينيين، هي اختيار إيمي بالمور، المديرة العامّة السابقة لوزارة القضاء الإسرائيليّة، لعضوية مجلس الإشراف في “فايسبوك”، وقد لعبت دوراً خطيراً في تقليص مساحة حرية التعبير عن الرأي عبر الإنترنت، وكذلك على الدفاع عن حقوق الإنسان. وقال المجتمع المدني الفلسطيني في بيان صحافي إنه مقابل أهميّة تنوّع أعضاء مجلس الإشراف، هناك أهميّة بالمقدار ذاته لأن يكون الأعضاء أشخاصاً داعمين لسيادة القانون وحماية حقوق الإنسان في جميع أنحاء العالم.
وسجل إيمي بالمور حافل بمراقبة الخطاب الشرعي للمدافعين عن حقوق الإنسان والصحافيّين، لمجرّد اعتبار هذا الخطاب غير مرغوب فيه سياسياً، وهذا ما يناقض معايير القانون الدوليّ لحقوق الإنسان، والتوصيات التي نشرها المقرّر الخاص في الأمم المتّحدة حول الدفاع عن الحق في حريّة الرأي والتعبير. وخلال فترة عمل بالمور في وزارة القضاء الإسرائيليّة (2014-2019)، أقامت الوزارة وحدة السايبر الإسرائيليّة، أو “وحدة إحالة الإنترنت”، التي استهدفت عن قصد عشرات آلاف المحتويات الفلسطينيّة وأدّت إلى إزالتها، وفرضت قيوداً بالغة على حريّة التعبير عبر الإنترنت، خصوصاً في ما يتعلّق بفلسطين، ما أثّر بشكلٍ غير متكافئ في المجتمعات العربيّة والمسلمة في جميع أنحاء العالم.
عام 2017، وبعد مرور عامين على إقامة وحدة السايبر، طرأ ارتفاع بنسبة 500 في المئة على إزالة المحتوى. عام 2018، أي عام واحد قبل انتهاء مدّة عمل بالمور كمديرة عامّة، تمّ توثيق 14285 حالة إزالة محتوى. في الوقت نفسه، أظهر بحث حول التحريض على الكراهيّة العرقيّة ضدّ الفلسطينيّين عبر الإنترنت، أنّه خلال عام 2018 شهد نشر محتوى تحريضيّ باللّغة العبريّة موجّه ضدّ الفلسطينيّين كلّ 66 ثانية، بينما لم يتم التعبير عن أيّ رغبة في مكافحة ظاهرة المنشورات التحريضية ضد الفلسطينيّين العرب.
إضافة إلى ذلك، وكما هو موثّق في تقرير الشفافيّة في “فايسبوك”، طرأ منذ عام 2016 ارتفاع في عدد طلبات الحكومة الإسرائيليّة للحصول على بيانات، والتي وصل عددها حتّى الآن إلى 700 طلب، وتمّ تقديم 50 في المئة منها ضمن فئة “طلبات طارئة”، ولم تكن ذات صلة بإجراءات قانونيّة.
هذه ليست محاولات معزولة لتقييد الحقوق الرقميّة الفلسطينيّة وحريّة التعبير عبر الإنترنت. يأتي ذلك في سياق المحاولات واسعة النطاق والمُمنهجة من قبل الحكومة الإسرائيليّة، وخصوصاً من خلال وحدة السايبر التي ترأستها إيمي بالمور سابقاً، لإسكات الفلسطينيّين وإزالة محتوى الإعلام الاجتماعي الناقد للسياسات والممارسات الإسرائيليّة، ولنزع الشرعيّة عن المدافعين عن حقوق الإنسان، والناشطين والمنظّمات التي تسعى إلى التصدّي للانتهاكات الإسرائيليّة لحقوق الشعب الفلسطينيّ.
عقاب جماعي
وتأتي هذه السياسات والإجراءات في سياق سياسة العقاب الجماعي ضد مكونات الشعب الفلسطيني وكفاحه المستمر لتقرير مصيره وإنهاء الاحتلال، وسياق فرض إجراءات تهدف إلى وأد أدوات النضال الفلسطيني، بما فيها السلمية والقانونية. الجميع ملاحق ويقف عاجزاً أمام غطرسة إسرائيل والولايات المتحدة، وأوروبا ضعيفة ومتواطئة في الحد الأدنى، ومنظمة التحرير والسلطة الفلسطينية تقفان عاجزتين عن حماية الفلسطينيين في مواجهة الانهيار الشامل.
وما يقوم به الفلسطينيون أو ما عرف شعبياً بفزعة عرب لمواجهة السياسات الإسرائيلية ومن ضمنها إغلاق حسابات الأسرى وذوي الشهداء والجرحى، هو ما يفعله الفلسطينيون عادة من دون تخطيط واعتراف بأنهم حركة تحرر وطني. وتبقى تلك الحركة فزعة وطوشة تنتهي بمجرد وضع حلول ترقيعية لحل أزماتهم واصدار بيانات غاضبة وعنف استخدم ضد بعض المصارف.
الحل واضح وهو العودة إلى الأصول، على الفلسطينيين إدراك أنهم شعب تحت الاحتلال وأن نضالهم مشروع وهم ضحايا الاحتلال والمشروع الصهيوني، وأن الأسرى مناضلون من أجل الحرية والضحايا هم زخمهم الاستراتيجي ودافعنا لاستمرار السردية الفلسطينية والمظلومية المستمر منذ 72 عاماً.
في الذكرى 72 للنكبة، سيقوم الفلسطنيون بعملية تدمير ذاتي، نفاق وتنبلة أخلاقية ووطنية وسياسية فلسطينية بدءاً من رأس الهرم حتى أصغر فصيل، إضافة إلى مناكفات سياسية واعتقال وتعذيب واعتداء على الحريات العامة وحرية الرأي والتعبير.
انتهاكات حقوق الإنسان في غزة يستنكرها مناصرو فتح، بينما يغضون البصر عما يحصل من انتهاكات في الضفة الغربية، في دفاع مستميت كل واحد عن سلطته الوهمية، والحركتان “فتح” و”حماس” تتسابقان في عدم احترام حقوق الإنسان وتدميره.
ولسان حال الفلسطينيين يقول، أي عار هذا الذي يلاحقهم وعن أي وطن يتحدثون، والمورد الوحيد في أيدي السلطتين المتناحرتين هو الشعب الفلسطيني، فتقومان بعملية ممنهجة لتدميره والتخلص من مكامن قوته وإمكاناته الجبارة في الصمود والمقاومة.
هل هذا هو وطن الأبطال ووطن الحرية والمقاومة؟ وأي مقاومة والفصائل الفلسطينية تكلست وشاخت قياداتها، ولم يتم تداول القيادة بطريقة شفافة في غياب الديموقراطية الحقيقية في مؤسساتها؟ وهناك قيادات عمرها من عمر تأسيس الحركتين، ومن غير المعقول أن تبقى تلك القيادات إلى الأبد.
الباقي الوحيد للفلسطينيين هو تربية الأمل في نفوس أبنائهم، بأن فلسطين كانت تسمى فلسطين ولا تزال تسمى فلسطين.