على الرغم من تفّننها في سحقنا تحت ثقلها وقسوتها، لا تزال بلادنا تفاجئنا بهشاشتها المفرطة.
فبعد إعلان حامد سنو، وهو المغني الرئيسي لفرقة “مشروع ليلى”، عن توقف أعمال الفرقة نهائيًا في مقابلة مع “سردة”، هلّل كثيرون على مواقع التواصل الاجتماعي لهذا التوقف وكأنهم تخلّصوا من آفة خطيرة تتربص بهم، وقد يشكل ذلك الإعلان انتصاراً لهم، لأنهم على قدر من الهشاشة يدفعهم إلى التهليل لمنع أغنيات لا تعجبهم.
على مدى سنوات سبقت منع الفرقة من إقامة حفلات في لبنان ومصر والأردن بحجة قيامها بإزدراء الأديان والإساءة لقيم المجتمع والترويج للمثلية الجنسية، واجهت الفرقة حملات واسعة من السخرية والتسخيف لمجرد كونها غير تقليدية، وانتشرت تلك الحملات بأسلوب حوّل السخرية من أداة مشروعة للتعبير والنقد إلى وسيلة لتطويع الذائقة الفنية للأفراد بحيث بات يشعر محبو الفرقة بأن عليهم اخفاء حبهم لها باعتباره عاراً، أو أن يتحول الاستماع إلى أغانيهم ومشاركتها فعل تمرّد بحد ذاته، إلى أن تطورت تلك الحملات لتصبح حملات شيطنة بعد وقوف جهات سياسية ودينية وراءها، دفعت ببعض المتطرفين إلى حد الدعوة إلى تنفيذ هجوم مسلح على الحفل في حال أقيم في مدينة جبيل عام 2018، مع العلم أن الفرقة نفسها أحيت حفلة في المدينة عام 2010، والمفارقة أن أحد أسباب دعوات التحريض تلك، كان قيام سنو بإعادة نشر مقال يحمل رسمًا يظهر المغنية الأميركية مادونا كأيقونة مسيحية، أصحاب الدعوات أنفسهم لم يستفزهم رسم يظهر رئيس الجمهورية ميشال عون وهو في حضن السيدة العذراء، وكانت قد سلّمت له في احتفال رسمي سياسي وديني.
ألا يحق لنا أن نغني في رثاء “مشروع ليلى”؟
نجحت كل حفلات الجنون التي رافقت اسم الفرقة والخرافات التي حيكت في تأويل وتشريح أعمالها بتجريدها من فعلها الفني الأصلي، وهما بكل بساطة لحن وكلمة يحملان قصة، ويعود لكل فرد الخيار في كيفية التفاعل معها بكل ما يتيحه المنطق الطبيعي للأشياء، كنقدها فنيًا أو عدم الاستماع إليها ببساطة، لا بمنعها أو المطالبة بإعدام منتجها وملاحقة كل من يستمع إليها.
وأمام تلك الشيطنة المتعمدة للفرقة والتي لا يزال يزج باسمها في كل هجوم على عمل فني يزعج حراس القيم الدينية والمجتمعية الذين لا تحركهم جرائم العنف اليومية ضد النساء والأطفال واللاجئين – وكان آخرها ما قيل عن فرقة الرقص اللبنانية “مياس” التي تشارك في برنامج “America’s Got Talent” بأنها ظهور آخر لمشروع ليلى الشيطاني- لا بد أن يستذكر محبو الفرقة تأثير فنها فيهم وفي حيواتهم.
لا بد أن نستذكر كل مرة شاركنا فيها أغنية “شم الياسمين” في وداع حب مستحيل، وكل أغنية حاكت صراعاتنا مع علاقات المال والسلطة والنفوذ وبطش الأجهزة السياسية والأمنية الأبوية التي تعتاش على عذابات المستضعفين، وكل أغنية ترجمت محاولاتنا للعيش في أجساد تكبّلها أعراف بالية وللبحث عن حب يلملم بقايانا، ولكل مرة سافرت بنا ألحانها إلى خارج أسوار مدننا الجاثمة بكل بؤسها على صدورنا، وامتناننا لمرات كثيرة كانت فيها حفلات “مشروع ليلى” مساحة أمان للتعبير عن الحب اللامشروط والفرح والحياة، والغضب والسخط والنقمة على بيوت وشوارع ومنظومات تلفظنا، والاحتفاء بتحطيم ولو رمزي لأصنام اللغة والقيود الاجتماعية أو إرتكاب “أفعال شيطانية فظيعة” كتلك التي ارتكبتها الناشطة الكويرية المصرية الراحلة سارة حجازي برفعها علم قوس القزح في حفلة للفرقة في مصر، وعلى إثر ذلك اعتقلت وعذّبت ولوحقت وتعرّضت إلى حملات واسعة من التشهير والذم في وسائل الإعلام وعلى مواقع التواصل الاجتماعي طالتها حتى بعد سفرها إلى كندا، حيث اضطرت وحيدة هناك أن تواجه التداعيات النفسية المدمرة لكل ذلك إلى أن قررت وضع حد لحياتها والرحيل نحو “السماء التي ستكون أحلى من الأرض”، على حد قولها، تاركةّ رسالة مدوية للعالم باعتباره “كان قاسيًا جدًا، لكنها تسامح”.
لا يمكن قياس الأسى الذي خلّفه رحيل سارة، وفداحة كل ما ارتكب في حقها في السر والعلن، الأمر الذي يفسر الانتكاسة الفنية والنفسية التي عاشها أعضاء الفرقة، كما ولا يمكن أيضًا أن نتخيل آلاف المضطهدين الذين لن نعرف قصصهم أبدًا، والذين قتلوا وقد يقتلوا بصمت في حال قرروا أن يعيشوا حياتهم بما يروق لهم، والذين ربما وجدوا يومًا ما في أغنيات مشروع ليلى مواساة تخفف عنهم ثقل الفزع اليومي، ووطأة الخوف القابع تحت جلدهم.
يحق للفرقة التي واجهت كل أشكال التهديد والتحريض والقمع والإقصاء والتنكيل الواقعي والافتراضي لسنوات أن تتوقف عن العمل، وأن يبحث أعضاؤها عن السلام بعيدًا عن الجنون المستعر.
وقد نقرّ نحن أيضًا أن كل معاركنا هنا خاسرة، ولكن ألا يحق لنا أن نغني في رثائها؟
على طريقة حامد سنو نردّد، “فليكن ما يكون، بدي كون بعدني واقف عم غني”.
إقرأوا أيضاً: