fbpx
ساهموا في دعم الإعلام المستقل و الجريء!
ادعموا درج

في سوريا… المكتبات تغلق أبوابها و”البسطات” ترفع الأسعار والأمل بـ”القرصان” 

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

تبدو الكتابة عن المكتبة السوريّة اليوم أقرب ما يكون إلى فعلِ اجترارٍ لماضٍ لم يعد واضحاً، ومحاولة لفهم حاضرٍ ضبابيّ، من دون الجرأة على مدّ النظر نحو المستقبل. 

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

تغلق المكتبات السورية أبوابها لأسبابٍ عدة، معظمها واضح تماماً. ومع إغلاقها، تسود نبرةُ استعادة مجدٍ قديم، يرجع إلى آلاف الأعوام قبل الميلاد، ويطول أوغاريت ومكتبتي حي الترف ورابعانو فيها وصولاً إلى تل مرديخ. هكذا إلى مكتبة نوبل التي أغلقت أبوابها قبل وقت قريب ومن قبلها مكتبات ميسلون وأطلس والزهراء، ومن قبلها مكتبات العائلة وإيتانا واليقظة وغيرها.

تاريخ المكتبات، ونقصد هنا محلات بيع الكتب، في سوريا – على اتساعه وامتداده – منذ الثمانينات تقريباً، يقوم على تناقض متناوب بين ما يمكن تسميته بالمكتبات النظامية، أي تلك التي تُعرَف كمكان ثابت، ويمكن اعتبارها مؤسسة، وبين حركة الخروج عن هذه “المؤسسة”، متمثلة في “بسطات” الكتب الكثيرة التي ليست ثمة رواية موحدة عن نشوئها وانطلاقها كحِراك أو خروج عن نظام المؤسسة، وأخيراً، بين حركة يمكن تسميتها “الخروج عن الخروج”، وصارت تتمثل أخيراً بمجموعات بيع الكتب هائلة العدد عبر السوشال ميديا، لا سيما “فيسبوك”. لكنّ الأخيرة تُخترق، على نحوٍ كبير، من قِبل الحركتين الأولتين.

نستخدم لفظ “مؤسسة” هنا، لاعتبارات عدة، أولها رقابيّة، فالمكتبات النظاميّة تبيع ما هو موافق عليه ومباح ومسموح، صحيح أن لبعضها أقبية، تحوي “الممنوعات”، لكن المعروف أن الأخيرة، يمكن الحصول عليها من البسطات، التي أيضاً تحوي في زواياها ما هو ممنوع، أو يثير الجدل كـ”الشخصية المحمديّة” لمعروف الرصافي، بل وأحياناً “القوقعة” لمصطفى خليفة، لكن يمكن القول إن سبب الإغلاق هو الغلاء، على رغم انتشار طبعات مزورة مطبوعة في أقبية بعض المكاتب، ظلّ الغلاء هو العامل الحاسم، ومنافسة الكتاب الإلكتروني النظامي و المقرصن. 

الربح شرط دائم

المكتبات في سوريا “كمؤسسة”، قامت وتقوم على شرط الربح ولا تحيد عنه، كذلك”بسطات” الكتب في المدن السورية، لا سيما في دمشق، والتي يُقال إنها بدأت وانتشرت على نحوٍ واسع في الثمانينات، ويعد ما تحويه كنزاً بالنسبة الى البعض، مبيعات الكتب الروسيّة المترجمة الى العربيّة الصادرة عن دار التقدم- دار رادروغا، من لينين إلى الكسندر بوشكين، تلك التي أعاد المركز الثقافي الروسي طبعاتها داخل سوريا منتصف الألفيّة الثانية. يمكن أن نجد أيضاً طبعات من ثلاثية نجيب محفوظ الصادرة عن مكتبة مصر نهاية السبعينات.

يمكن القول إنّ “الحركة” بدأت مُناهضة للنظام، أي للمؤسسة، وهي تشمل بالدرجة الأولى الهواة. ما ينطبق تماماً على أصحاب بسطات الكتب، الذين لم يكونوا محترفين، ولا “مؤسساتيين”. وكذلك، يقول أصحاب البسطات إنّ حركتهم هذه قامت كحركة نقيضة للمؤسسة، ولكسر نظام إنتاجها ورأسمالها، وأحياناً هناك رومانسية في العلاقة مع القرّاء، نقرأ على لسان أبو زينب (أحد باعة الكتب تحت الجسر في دمشق): “بصفتي بائع كتبٍ قديمةٍ، أحبّ البساطة، وأنبذ الرسميّات. هنا لا توجد حواجز بيننا وبين القرّاء. في المكتبات، ينتهي الحوار خلال دقائق، أما هنا، فيمتد الحوار الى ساعات وساعات”.

ثمة قول لخوسيه كوينتيرو، مؤسس مسرح “الحلقة في الساحة” المنتمي إلى حركة “خارج برودواي”، يشير فيه إلى أنّ “الفقر قد حرّر المسرح”، يمكن جرّ هذه المقولة لتطبيقها على حركة بسطات الكتب السورية في بداياتها وحتى وقت ليس بالبعيد كثيراً (لا سيما في السنوات العشر الأخيرة)، إذ حرّرت هذه الحركة القرّاء، والهواة، من القبضة المالية الخانقة، ومن خوف الدخول إلى مكتبة.

دوافع أصحاب بسطات الكتب غير معروفة (بعض إجاباتهم في لقاءات صحافية متفرقة تبدو شعريّة)، ولا يمكن التخمين بمضامينها، إلا أنها، استطاعت تحقيق جزءٍ من طموح الفقراء، وهو تقديم شيءٍ ما للمحرومين الذين لا يمكن أن يطولوه.

الغرق في المجد الذاتيّ

خرقت بسطات الكتب في سوريا العرف السائد وآلية العمل والشراء والإنتاج. لكنّ ذلك لم يستمر طويلاً، لأنها (ربما للأسف) غرقت في بحر مجدها بالذات. هذا “التمرّد”، أو الحركة التي يمكن اعتبارها “رفضيّة”، انحدرت لتتحوّل إلى العمل بآلية أسوأ بكثير من الآلية التي تشتغل بها “المؤسسة”، وأصبحت أسوأ مما قامت ضدّه. خرجت البسطات عن نظام المكتبات، ارتدّت عليه، لكن حكمها الربح، تحديداً في السنوات الخمس الأخيرة، إلى حدِّ أنها صارت مرعبة مثل المكتبات نفسها. إنّ الاقتراب من بسطة كتب سورية اليوم، تثير رعب القارئ، أو هاوي القراءة، كما لو أنه داخل الى مكتبة فخمة.

ليست عمليّة البيع وحدها ما جعلت “البسطات” ترتدّ إلى الوراء، إنما عمليّة الشراء نفسها، شراء الكتب. في السنوات الأخيرة، مع نزوح عددٍ هائل من الناس من بيوتهم، اضطر بعضهم لبيع مكتباتهم، وتوجّهوا إلى هذه “البسطات” التي اشترت منهم الكتب “بالكيلو”. لا كتب سخيفة ومنتشرة، إنما كتب نادرة وموسوعات ومجلّدات قديمة، ليست موجودة في المكتبات والمؤسسات.

 حملت حركة البسطات آمالاً، في فترةٍ ما، لعددٍ ليس بالقليل من القرّاء. لكنّ هذه الآمال تبدّدت دفعةً وحدة، عندما دخلت “الحركة” في لعبة الحسابات، ولبست لبوس التجارة المؤسساتية. تمرّدت الحركة على المؤسسة، لكنها ما لبثت أن صارت أسوأ منها. لكنْ، هناك خصم جديد، ومحاولة لكسر هالة “البسطة” و “غلاء المؤسسة”، تتمثل ببعض المشاريع الشبابية القرائية، إن صحت التسمية، لهواة أو محترفين. أقرّت عند نشوئها على “السوشال ميديا”، أيضاً، ابتعادها عن التجارة والكسب، واتّخذت لنفسها هدفاً هو إيصال “الكتاب” كمُنتَج ثقافيٍّ بحت، إلى أفقر بيت، لكن بعض مشاريع هذه الحركة الإلكترونية لم تكن لها الأهداف سالفة الذكر، أو ببساطة “قراءة الفقراء”، إنما قامت بهدف الربح المادي، إلى حدِّ نشرها كتباً بلغ سعرها مليون ليرة سورية.

حركة السوشال الميديا لبيع الكتب، ماتت في مهدها تقريباً، وتحوّلت الى العمل بآلية أسوأ من آلية عمل المكتبة “المؤسسة” و”البسطات”. كما انتشرت ظاهرة “المزاد” فيها: كتاب موجود ومنتشر في المكتبات وفي البسطات، بكثرة ربما، يُباع بمزادٍ عبر الإنترنت، وإن لم يرضَ صاحب المزاد بالأسعار التي وُضِعت، يمكنه أن يلغي العمليّة كلها بنقرة.

الإشكاليّة التي يجب طرحها، والظاهرة تماماً بين الحركات السورية الثلاث لبيع الكتب، هي أنّ “التجار” على البسطات وعبر الإنترنت لا يعرفون الكتب التي يبيعونها، لكن التقييم في الغالب يكون وفقاً لجودة الكتاب وورقه وغلافه وسماكته، وقد يكون غير مهم أبداً (لا يشملهم هذا جميعهم، إذ يوجد أصحاب بسطات وبائعو كتب عبر الميديا قرّاء وعارفون، لكن نسبتهم قليلة جداً مقارنةً بمن ذُكروا). في الوقت ذاته، هناك حيلة تجارية أخرى تتحكم بالسعر، وهي لهفة القارئ، اتقاد عينيه حين يرى ما يريد شراءه، هذه المهارة، أوضح في البسطة. في المقابل، فإنّ أصحاب وعاملي “المكتبات” السورية قديماً، كما يُروى في الحكايات، لم يكونوا على جهالة في ما يبيعونه، إنما يعرفون، ويقرأون، وأيضاً هذا لا يُعمَّم تماماً.

الكتاب الإلكتروني… “القرصان المُخلّص”

ضمن الصراعات السابقة، يبرز اسم  السوري علي مولا المقيم في بودابست، أحد أشهر قراصنة الكتب في العالم العربي وسوريا، علي مولا شديد الطهرانية في ما يتعلق بالكتب، هو يشتري، يقرصن، وينشر مجاناً، كل ما يقع تحت يده، مكتبته الرقمية مصنّفة ومرتبة، ويتعرض لانتقادات شديدة من الناشرين  والكتاب، مثله، نشطت مجموعة “أبو عبدو البغل”، التي توفر الكتب التي تتعلق بسوريا بشكل عام مجاناً على شبكات التواصل الاجتماعي.

هذه الجهود يحمدها القرّاء الذي وجدوا فيها ملاذاً لهم، في الوقت ذاته يقال إنها تهدد الناشرين، لكن هل هذا التهديد حقيقي؟ نعم هناك قراصنة، لكن صناعة النشر لم تتوقف، صحيح ظهرت تطبيقات كـ”أبجد” تحوي الكتب الجديدة، لكنْ هناك رسم اشتراك، أما القراصنة، أولئك لا يبحثون عن المال، فقط القرّاء.

يزعم قراصنة الكتب أنهم يساهمون في زيادة المبيعات، بل وإطلاق شهرة بعض الكتب، يقول علي مولا في لقاء نادر معه :”زاد توزيع الكتب التي تم رفعها على الشبكة، وذلك بسبب التعريف بالكاتب ومؤلفاته، كان بعض الكتاب العرب غير معروفين، وما يتم توزيعه لهم، لا يتجاوز المئة نسخة، وبعدما تعرف عليهم القارئ، من خلال الكتب الإلكترونية، تضاعف توزيع عدد النسخ الورقية من الكتب”.

أضف إلى الادعاء السابق، الموقف النقدي الذي يتبناه القراصنة، وهو ضرورة توفير المعلومات للجميع ومجاناً، الشأن الذي لا يتعلق فقط بالعالم العربي، بل العالم بأسره. مثلاً، أحدث إغلاق السلطات الفيدراليّة لـ Z-Library ضجة كبيرة، كونها أكبر مصدر للكتب المقرصنة في العالم،  لكنها ما لبثت “أن بعثت من الموت” حسب تعبير الصحف التي تناولت الخبر، وعادت ضمن الدارك ويب، وهنا المفارقة في شأن الكتب المقرصنة، اللوم يقع على القراصنة والقرّاء، لتهديدهم “صناعة النشر” و”حقوق الملكيّة”، في حين أن غلاء الكتب وعدم توافرها، شأن “طبيعي” لا يتعرض للانتقاد، وهنا يظهر القرصان كـ”بطل” إن صح التعبير، يتمسك بحرية تبادل المعلومات ولو عنى ذلك مطاردته قانونياً.

16.08.2023
زمن القراءة: 6 minutes

تبدو الكتابة عن المكتبة السوريّة اليوم أقرب ما يكون إلى فعلِ اجترارٍ لماضٍ لم يعد واضحاً، ومحاولة لفهم حاضرٍ ضبابيّ، من دون الجرأة على مدّ النظر نحو المستقبل. 

تغلق المكتبات السورية أبوابها لأسبابٍ عدة، معظمها واضح تماماً. ومع إغلاقها، تسود نبرةُ استعادة مجدٍ قديم، يرجع إلى آلاف الأعوام قبل الميلاد، ويطول أوغاريت ومكتبتي حي الترف ورابعانو فيها وصولاً إلى تل مرديخ. هكذا إلى مكتبة نوبل التي أغلقت أبوابها قبل وقت قريب ومن قبلها مكتبات ميسلون وأطلس والزهراء، ومن قبلها مكتبات العائلة وإيتانا واليقظة وغيرها.

تاريخ المكتبات، ونقصد هنا محلات بيع الكتب، في سوريا – على اتساعه وامتداده – منذ الثمانينات تقريباً، يقوم على تناقض متناوب بين ما يمكن تسميته بالمكتبات النظامية، أي تلك التي تُعرَف كمكان ثابت، ويمكن اعتبارها مؤسسة، وبين حركة الخروج عن هذه “المؤسسة”، متمثلة في “بسطات” الكتب الكثيرة التي ليست ثمة رواية موحدة عن نشوئها وانطلاقها كحِراك أو خروج عن نظام المؤسسة، وأخيراً، بين حركة يمكن تسميتها “الخروج عن الخروج”، وصارت تتمثل أخيراً بمجموعات بيع الكتب هائلة العدد عبر السوشال ميديا، لا سيما “فيسبوك”. لكنّ الأخيرة تُخترق، على نحوٍ كبير، من قِبل الحركتين الأولتين.

نستخدم لفظ “مؤسسة” هنا، لاعتبارات عدة، أولها رقابيّة، فالمكتبات النظاميّة تبيع ما هو موافق عليه ومباح ومسموح، صحيح أن لبعضها أقبية، تحوي “الممنوعات”، لكن المعروف أن الأخيرة، يمكن الحصول عليها من البسطات، التي أيضاً تحوي في زواياها ما هو ممنوع، أو يثير الجدل كـ”الشخصية المحمديّة” لمعروف الرصافي، بل وأحياناً “القوقعة” لمصطفى خليفة، لكن يمكن القول إن سبب الإغلاق هو الغلاء، على رغم انتشار طبعات مزورة مطبوعة في أقبية بعض المكاتب، ظلّ الغلاء هو العامل الحاسم، ومنافسة الكتاب الإلكتروني النظامي و المقرصن. 

الربح شرط دائم

المكتبات في سوريا “كمؤسسة”، قامت وتقوم على شرط الربح ولا تحيد عنه، كذلك”بسطات” الكتب في المدن السورية، لا سيما في دمشق، والتي يُقال إنها بدأت وانتشرت على نحوٍ واسع في الثمانينات، ويعد ما تحويه كنزاً بالنسبة الى البعض، مبيعات الكتب الروسيّة المترجمة الى العربيّة الصادرة عن دار التقدم- دار رادروغا، من لينين إلى الكسندر بوشكين، تلك التي أعاد المركز الثقافي الروسي طبعاتها داخل سوريا منتصف الألفيّة الثانية. يمكن أن نجد أيضاً طبعات من ثلاثية نجيب محفوظ الصادرة عن مكتبة مصر نهاية السبعينات.

يمكن القول إنّ “الحركة” بدأت مُناهضة للنظام، أي للمؤسسة، وهي تشمل بالدرجة الأولى الهواة. ما ينطبق تماماً على أصحاب بسطات الكتب، الذين لم يكونوا محترفين، ولا “مؤسساتيين”. وكذلك، يقول أصحاب البسطات إنّ حركتهم هذه قامت كحركة نقيضة للمؤسسة، ولكسر نظام إنتاجها ورأسمالها، وأحياناً هناك رومانسية في العلاقة مع القرّاء، نقرأ على لسان أبو زينب (أحد باعة الكتب تحت الجسر في دمشق): “بصفتي بائع كتبٍ قديمةٍ، أحبّ البساطة، وأنبذ الرسميّات. هنا لا توجد حواجز بيننا وبين القرّاء. في المكتبات، ينتهي الحوار خلال دقائق، أما هنا، فيمتد الحوار الى ساعات وساعات”.

ثمة قول لخوسيه كوينتيرو، مؤسس مسرح “الحلقة في الساحة” المنتمي إلى حركة “خارج برودواي”، يشير فيه إلى أنّ “الفقر قد حرّر المسرح”، يمكن جرّ هذه المقولة لتطبيقها على حركة بسطات الكتب السورية في بداياتها وحتى وقت ليس بالبعيد كثيراً (لا سيما في السنوات العشر الأخيرة)، إذ حرّرت هذه الحركة القرّاء، والهواة، من القبضة المالية الخانقة، ومن خوف الدخول إلى مكتبة.

دوافع أصحاب بسطات الكتب غير معروفة (بعض إجاباتهم في لقاءات صحافية متفرقة تبدو شعريّة)، ولا يمكن التخمين بمضامينها، إلا أنها، استطاعت تحقيق جزءٍ من طموح الفقراء، وهو تقديم شيءٍ ما للمحرومين الذين لا يمكن أن يطولوه.

الغرق في المجد الذاتيّ

خرقت بسطات الكتب في سوريا العرف السائد وآلية العمل والشراء والإنتاج. لكنّ ذلك لم يستمر طويلاً، لأنها (ربما للأسف) غرقت في بحر مجدها بالذات. هذا “التمرّد”، أو الحركة التي يمكن اعتبارها “رفضيّة”، انحدرت لتتحوّل إلى العمل بآلية أسوأ بكثير من الآلية التي تشتغل بها “المؤسسة”، وأصبحت أسوأ مما قامت ضدّه. خرجت البسطات عن نظام المكتبات، ارتدّت عليه، لكن حكمها الربح، تحديداً في السنوات الخمس الأخيرة، إلى حدِّ أنها صارت مرعبة مثل المكتبات نفسها. إنّ الاقتراب من بسطة كتب سورية اليوم، تثير رعب القارئ، أو هاوي القراءة، كما لو أنه داخل الى مكتبة فخمة.

ليست عمليّة البيع وحدها ما جعلت “البسطات” ترتدّ إلى الوراء، إنما عمليّة الشراء نفسها، شراء الكتب. في السنوات الأخيرة، مع نزوح عددٍ هائل من الناس من بيوتهم، اضطر بعضهم لبيع مكتباتهم، وتوجّهوا إلى هذه “البسطات” التي اشترت منهم الكتب “بالكيلو”. لا كتب سخيفة ومنتشرة، إنما كتب نادرة وموسوعات ومجلّدات قديمة، ليست موجودة في المكتبات والمؤسسات.

 حملت حركة البسطات آمالاً، في فترةٍ ما، لعددٍ ليس بالقليل من القرّاء. لكنّ هذه الآمال تبدّدت دفعةً وحدة، عندما دخلت “الحركة” في لعبة الحسابات، ولبست لبوس التجارة المؤسساتية. تمرّدت الحركة على المؤسسة، لكنها ما لبثت أن صارت أسوأ منها. لكنْ، هناك خصم جديد، ومحاولة لكسر هالة “البسطة” و “غلاء المؤسسة”، تتمثل ببعض المشاريع الشبابية القرائية، إن صحت التسمية، لهواة أو محترفين. أقرّت عند نشوئها على “السوشال ميديا”، أيضاً، ابتعادها عن التجارة والكسب، واتّخذت لنفسها هدفاً هو إيصال “الكتاب” كمُنتَج ثقافيٍّ بحت، إلى أفقر بيت، لكن بعض مشاريع هذه الحركة الإلكترونية لم تكن لها الأهداف سالفة الذكر، أو ببساطة “قراءة الفقراء”، إنما قامت بهدف الربح المادي، إلى حدِّ نشرها كتباً بلغ سعرها مليون ليرة سورية.

حركة السوشال الميديا لبيع الكتب، ماتت في مهدها تقريباً، وتحوّلت الى العمل بآلية أسوأ من آلية عمل المكتبة “المؤسسة” و”البسطات”. كما انتشرت ظاهرة “المزاد” فيها: كتاب موجود ومنتشر في المكتبات وفي البسطات، بكثرة ربما، يُباع بمزادٍ عبر الإنترنت، وإن لم يرضَ صاحب المزاد بالأسعار التي وُضِعت، يمكنه أن يلغي العمليّة كلها بنقرة.

الإشكاليّة التي يجب طرحها، والظاهرة تماماً بين الحركات السورية الثلاث لبيع الكتب، هي أنّ “التجار” على البسطات وعبر الإنترنت لا يعرفون الكتب التي يبيعونها، لكن التقييم في الغالب يكون وفقاً لجودة الكتاب وورقه وغلافه وسماكته، وقد يكون غير مهم أبداً (لا يشملهم هذا جميعهم، إذ يوجد أصحاب بسطات وبائعو كتب عبر الميديا قرّاء وعارفون، لكن نسبتهم قليلة جداً مقارنةً بمن ذُكروا). في الوقت ذاته، هناك حيلة تجارية أخرى تتحكم بالسعر، وهي لهفة القارئ، اتقاد عينيه حين يرى ما يريد شراءه، هذه المهارة، أوضح في البسطة. في المقابل، فإنّ أصحاب وعاملي “المكتبات” السورية قديماً، كما يُروى في الحكايات، لم يكونوا على جهالة في ما يبيعونه، إنما يعرفون، ويقرأون، وأيضاً هذا لا يُعمَّم تماماً.

الكتاب الإلكتروني… “القرصان المُخلّص”

ضمن الصراعات السابقة، يبرز اسم  السوري علي مولا المقيم في بودابست، أحد أشهر قراصنة الكتب في العالم العربي وسوريا، علي مولا شديد الطهرانية في ما يتعلق بالكتب، هو يشتري، يقرصن، وينشر مجاناً، كل ما يقع تحت يده، مكتبته الرقمية مصنّفة ومرتبة، ويتعرض لانتقادات شديدة من الناشرين  والكتاب، مثله، نشطت مجموعة “أبو عبدو البغل”، التي توفر الكتب التي تتعلق بسوريا بشكل عام مجاناً على شبكات التواصل الاجتماعي.

هذه الجهود يحمدها القرّاء الذي وجدوا فيها ملاذاً لهم، في الوقت ذاته يقال إنها تهدد الناشرين، لكن هل هذا التهديد حقيقي؟ نعم هناك قراصنة، لكن صناعة النشر لم تتوقف، صحيح ظهرت تطبيقات كـ”أبجد” تحوي الكتب الجديدة، لكنْ هناك رسم اشتراك، أما القراصنة، أولئك لا يبحثون عن المال، فقط القرّاء.

يزعم قراصنة الكتب أنهم يساهمون في زيادة المبيعات، بل وإطلاق شهرة بعض الكتب، يقول علي مولا في لقاء نادر معه :”زاد توزيع الكتب التي تم رفعها على الشبكة، وذلك بسبب التعريف بالكاتب ومؤلفاته، كان بعض الكتاب العرب غير معروفين، وما يتم توزيعه لهم، لا يتجاوز المئة نسخة، وبعدما تعرف عليهم القارئ، من خلال الكتب الإلكترونية، تضاعف توزيع عدد النسخ الورقية من الكتب”.

أضف إلى الادعاء السابق، الموقف النقدي الذي يتبناه القراصنة، وهو ضرورة توفير المعلومات للجميع ومجاناً، الشأن الذي لا يتعلق فقط بالعالم العربي، بل العالم بأسره. مثلاً، أحدث إغلاق السلطات الفيدراليّة لـ Z-Library ضجة كبيرة، كونها أكبر مصدر للكتب المقرصنة في العالم،  لكنها ما لبثت “أن بعثت من الموت” حسب تعبير الصحف التي تناولت الخبر، وعادت ضمن الدارك ويب، وهنا المفارقة في شأن الكتب المقرصنة، اللوم يقع على القراصنة والقرّاء، لتهديدهم “صناعة النشر” و”حقوق الملكيّة”، في حين أن غلاء الكتب وعدم توافرها، شأن “طبيعي” لا يتعرض للانتقاد، وهنا يظهر القرصان كـ”بطل” إن صح التعبير، يتمسك بحرية تبادل المعلومات ولو عنى ذلك مطاردته قانونياً.