لم تكن الإجراءات الأمنية على الجانب السوري من الحدود، توازي بأية حال من الأحوال، ذلك التدقيق المبالغ فيه على الجانب الأردني، ومع ذلك، بدا معبر نصيب الحدودي جاهزاً لاستقبال المسافرين، مع مظاهر انضباط وفعاليّة ونظافة لا تُقارن بالتأكيد، بحال الفوضى التي طبعت المعابر الحدودية السورية لأسابيع قليلة بعد سقوط نظام بشار الأسد.
أعداد الموظفين كانت كافية كي لا يزدحم العابرون، ولتسير عمليات ختم جوازات السفر بسلاسة. سألت الموظّف الذي أدخل بياناتي، إن كان هناك أية إشارات لديه لوجود طلبات ملاحقة أمنية بحقّي في عهد النظام السابق، فأجاب بالنفي. مازحته قائلاً إن كل نشاطي الصحافي كان بلا قيمة إذاً، وإن فروع نظام الأسد الأمنية التي كانت مستعدة لمراقبة النمل، لم تلق بالاً لي. ضحك وهنأني بالسلامة.
في الحافلة التي كانت انطلقت باكراً من العاصمة الأردنية عمّان في طريقها إلى دمشق، لم تحمل الوجوه ملامح الحماسة والفرح نفسها، التي تشاركتها مع سوريين آخرين عائدين قبل ثلاثة أشهر، عندما زرت سوريا بعد نحو أسبوع من سقوط النظام، وبعد غياب طال لاثني عشر عاماً، بدت الوجوه متعبة لمسافرين في رحلة تقليدية، بعضهم حمل من الأمتعة ما يدلّ على أنه في طريقه لاستقرار دائم.
عند أكثر من نقطة في الطريق الدولي الذي يعبر محافظة درعا، نزل مسافرون ليكملوا طريقهم باتجاه بلداتهم وقراهم. مظاهر الدمار من أيام نظام الأسد، ما زالت بادية للعيان على جانبي الأتوستراد، بعض البيوت مدمّر نتيجة القصف الجوي والاشتباكات، وبعضها من الواضح أنه نُسف إما كإجراء عقابي، وإما للحيلولة دون تمكّن أي من المسلحين من الاحتماء بها، ورصد الطريق نارياً. بيوت متفرّقة أخرى قامت على أساساتها من جديد، ولكن من الواضح أن ذلك بجهود ذاتية، وبأموال أصحابها، وليس كجزء من أية عملية إعادة إعمار قد لا تأتي.
بُعيد جسر بلدة إزرع الذي يبعد أكثر من ٥٠ كيلومتراً عن أطراف هضبة الجولان، استقبلت على جوّالي الذي يضمّ شريحة بريطانية، رسالة ترحّب بي في إسرائيل، مع تفاصيل حول تكاليف الاتصالات والرسائل واستخدام الإنترنت. من الواضح أن تغطية شبكات الخلوي الإسرائيلية باتت تمتد لمسافات أعمق في الداخل السوري. كان ثمة تشكيل صخري ضخم على تلّة عسكرية يحمل عبارة “نعم للقائد الأسد”، اعتدت رؤيته منذ سنوات طويلة جداً، أيام رحلات الذهاب والإياب بين دمشق ودرعا، خلال أولى سنوات دراستي الجامعية.
لا يزال التشكيل موجوداً مع تعديل في العبارة التي باتت “نعم للقائد محمد”. أخذت أفكر في أولويات الإسلاميين في بلد منهك، وفي أيديولوجيتهم وشعاراتهم التي يريدون فرضها على الجميع، معظم الجامعات الخاصة الموجودة كذلك على الطريق الدولي مغلقة، ومبانيها خاوية على عروشها، باستثناء واحدة أو اثنتين ظهرتا ممتلئتين بالطلاب والطالبات.

على مدخل دمشق الجنوبي، بدا الدمار في حيّ سبينة هائلاً. الحيّ الممتلئ بالأبنية العشوائية والفقير كان من بؤر الاحتجاجات على أطراف العاصمة، ولاحقاً سيطرت عليه فصائل المعارضة المسلّحة، قبل أن تستعيد قوات الأسد سيطرتها إثر مجازر وحصار وتجويع وقصف ممتدة. قبل أسابيع فقط، عثر الدفاع المدني السوري، على قبرين جماعيين يحويان بقايا جثث متفحّمة في قبوين منفصلين في المنطقة.
بلغت الحافلة محطتها النهائية في حيّ القدم، حيث انتشرت قبل أيام أنباء متضاربة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، تتحدّث عن انتهاكات حدثت في هذا الحيّ بحقّ علويين، بالتوازي مع المجازر التي شهدها الساحل السوري. أكّد لي سائق سيارة أجرة هناك، أنه سمع أخباراً مشابهة، تناقشنا بإيجاز حول تلك المجازر، أشار إلى رفضه ما حصل بالطبع، مع إضافة “ولكن”.
ما تلا تلك الـ”لكن” تذكير بما حصل في البلد خلال أربعة عشر عاماً وبدور العلويين في ذلك، مضيفاً أنه عاش فترة اعتقال جحيمية طالت خمس سنوات. في المنطقة نفسها، تجمهر العشرات من الرجال قرب مركز لتجنيد أفراد جدد في الأمن العام، هذا بينما تكاد تنعدم فرص العمل الجديدة.
قبل دقائق من وصولي إلى حيّ “مشروع دُمّر”، شنّت طائرات إسرائيلية غارة استهدفت قيادياً في حركة الجهاد الإسلامي، وبينما استمر خطّ صغير من الدخان بالاندفاع نحو السماء بعد الغارة، واصلت طائرات أخرى التحليق في الأجواء، مخلّفة وراءها دوائر من الدخان الأبيض بشكل استعراضي، لم يُبدِ أي من أصدقائي وصديقاتي الذين قابلتهم تفاؤلاً بشأن المستقبل.
حاولت ألا أقتصر الأحاديث على دوائري المعتادة التي قد تتماثل آراء أصحابها. ثلاثة سائقي تاكسي آخرون صعدت معهم في اليوم الأول، عبّروا عن أشكال من النقمة تتقاطع حيناً وتتباين حيناً آخر. أحدهم من عين ترما في ريف دمشق، أشار إلى جهل السلطات الجديدة بتعقيدات منطقته وحساسيات أهلها، مما خلق مشاكل كان بالإمكان تجنّبها، وتحدّث عن عدم الاستعانة بأبناء البلدة لإدارتها أمنياً. سائق آخر اعتبر ما حصل في الساحل دليلاً على انتفاء أي أمل، بينما أشار ثالث ينحدر من جبل الأكراد في ضواحي دمشق، إلى ثقته بقدرة “قوات سوريا الديمقراطية” على الحد من مساعي السلطات الجديدة، لبناء ديكتاتورية جديدة. السائقون جميعهم اتّفقوا على الشكوى من انتفاء أي تحسّن اقتصادي وخدمي في الأشهر السابقة.
مساء، ووسط تخبّط وفشل إعلاميين باتا معتادين، صدر الإعلان الدستوري الذي كلّف الرئيس أحمد الشرع لجنة لتحضيره قبل أيام. حمل الإعلان موادّ متناقضة، لكنه مضى باتجاه تكريس مزيد من السلطات بيد الرئيس، وانتفاء قدرة السلطة التشريعية (القاصرة بموجب الإعلان نفسه) على مراقبته ومساءلته، وبينما أُلغي منصب رئيس الوزراء، حدّد الإعلان الفترة الانتقالية بخمس سنوات من دون أن يُوضح ما يليها، عدا غياب أي حضور كردي أو درزي في عملية الإعلان، مما استدعى انتقادات مباشرة من الإدارة الذاتية الكردية، وأصوات حقوقية ومثقفين.
الإعلان الدستوري أتى بعد يوم واحد من الإعلان عن تشكيل مجلس للأمن القومي، برئاسة الشرع، وعضوية وزير الخارجية ووزير الدفاع ومدير الاستخبارات العامة ووزير الداخلية المعيّنين جميعاً من طرف الرئيس، كما يضمّ المجلس مقعدين استشاريين يعيّنهما الرئيس، بالإضافة إلى مقعد تقني تخصّصي يعيّنه الرئيس أيضاً.
غرقت دمشق مساء بالعتمة المألوفة نتيجة استمرار انقطاع الكهرباء، وغياب الإنارة عن الشوارع، مع صدور دعوات للخروج بمسيرات لتأييد قوى الأمن والجيش (لا أستطيع لغاية اليوم أن أذكر كلمتي الأمن والجيش من دون ربطهما تلقائياً بنظام الأسد).
إقرأوا أيضاً: