لم يكد أمين عام “حزب الله” يعلن موافقة إيرانية على تزويد لبنان مادة البنزين، وبالعملة اللبنانية، حتى زف رئيس حركة “أمل” خبر مضاعفة العراق شحنات الفيول إلى المليون طن، والذي بالمناسبة تولى ملف تسويقه مدير عام الأمن العام.
اليوم، وبعد أكثر من شهر على بشائر الثنائي الشيعي للبنانيين، لا يحتاج المرء وهو يُبصر تزايد طوابير السيارات أمام محطات المحروقات، مع تنامي شح مادتها، ثم العتمة الشاملة التي تلف البلد وانسحابها على شح المياه أيضاً، إلى تكثيف بصيرته لمعرفة حال الوعود التي تنهمر على اللبنانيين ممن يتحكمون بناصية البلاد والعباد. في المقابل، يُرد الاعتلال في تسييل تلك الوعود إلى وقائع ملموسة على الحكومة المستقيلة، وإهمالها مباشرة التفاوض مع الجانبين الإيراني والعراقي، بذرائع تستحضر الخوف من العقوبات الأميركية حيناً، والتقصير في واجباتها أحياناً. ولا يعدو ذلك أكثر من ترويض لجمهور مأزوم اجتماعياً، ويعرف مسوقو تلك الأخبار أنها مجرد تعليل محلي يسعف عجزاً بنيوياً مصدره تحديداً إيران والعراق. فالمشهديات التي عاينا وقائعها هناك، تؤشر إلى تناظر في أزماتنا وأزماتهم، وتحديداً في مادتي الفيول والبنزين، والذي استقر عراقياً على مواءمتنا في العتمة. استقال وزير الكهرباء العراقي، وهو في ظل عتمتينا يبقى مؤشراً إيجابياً لمصلحتهم عن مآل متنكب للفشل الذي تفضي كثافته عندنا إلى مكابرة وإمعان في تنكبه، ثم تغليفه بخطب تفترض أن العتمة (مجازاً) تسمح بالتعمية على الوقائع المعاشة، وأن ما يُهرق من أفواه السلطويين عن الإنجازات هي الحقائق، وهذا بالضرورة يفضي إلى فصام يسنده بلا شك جمهور لا يني يصفق ويصدّق ما يقال.

في العودة إلى البدء، لم ينسَ أمين عام “حزب الله” وهو يعِد اللبنانيين بوضع حد لمشاهد الذل اليومية أمام المحطات، بتهديد (الدولة) أن البنزين الإيراني سيصل، وأنه لن يكون بمقدور أحد حينها أن يمنعه من تفريغ حمولة بواخره وتعويض السوق المحلية، من دون أن يتسنى لنا أن نسمع أصلاً من هو الذي سيمنعه في ظل سلطة تدير دولة هو في متنها، مع حلفائه المخلصين، مع وجود أجهزة أمنية تدور حول هذه السلطة. وهو في تهديده المذكور لم يُلمِّح إلى موانع إقليمية أو دولية إلا من باب ارتباط أطراف لبنانية بها، ما يفترض أنه ليس حال هؤلاء الحلفاء، إلا إذا افترضنا أن الرجل مدرك أن بعض حلفائه يخشون هذه الموانع. وهو أمر راجح في كل حال، ويثريه ما تفوه به ممانِعون كوئام وهاب ونجاح واكيم كتدليل على الموانع المحلية والخشية من عواقبها. لكننا أمام تعمية نصرالله المحكومة بالسياسة عادةً، نصير أمام استدراج العتمة من جديد، واستخدامها مرةً أخرى كحاجب للحقائق عما يجب أن يعرفه اللبنانيون عن سلطويين قيضت لهم التفاهمات التي صيغت في ظل المشروع الكبير لـ”حزب الله”، تسريع انحدارنا نحو الانهيار الكبير.
ما سبق عموماً، يفترض أمراً جدلياً عن واقعية ما طرحه أمين عام “حزب الله”، وعن حقيقة العرض الإيراني، والذي بالمناسبة كان ليستجلب، على رغم مصدره، صمتاً لبنانياً شعبياً من خصومه بقدر تهليل جمهوره الذي باشر أصلاً هذا التهليل مذ أعلنه نصرالله، فيما صمت الخصوم مرده إلى أن الواقع المعيشي كفيل بتعرية النفس في مفاضلتها بين الخصومة والحاجة، لمصلحة الأخيرة، والتي يستدعي رتقها في راهنها المرير صمتاً يكابر فيه اللبنانيون عن “مكرمات” هي في حتميتها استثماراً سياسياً لمحور إقليمي هو في صلب مسببات الانهيار، حتى وهو يمنحنا، ومن الباب المعيشي هذه المرة، طوقاً موقتاً لسبل عيشنا…

بعد مرور أكثر من شهر على الوعدين المذكورين، بتنا نتجه في سياق تصاعدي إلى الانهيار، وتحديداً في أزمتي الفيول والبنزين، وفي تراجع مستهجن أمامهما لتغول أزمات أخرى كالغذاء والدواء والذي بدأنا نحصي موتانا أمام فقده، وكأننا بالمحصلة أمام وعود سيقت على الأرجح كتسنيد للرؤية التي أطلقها نصرالله بالاتجاه شرقاً، فيما تقفي هذا المسار ومآلاته يفضي، أقله في راهنه، إلى بؤس يستجدي بؤساً، وفي محور تبدو اللازمة الأكثر جذرية في التعبير عنه، أنْ كلنا في البؤس شرق.
إقرأوا أيضاً: