إلى عمي رضوان
البارحة وصلتني صورٌ لبيت مهدّم، أرسلها إلي ابن عمّي. لم أفهم. أخبرني أنّه بيت جدي في قريتنا شقراء. تذكرت أنّهم فعلوا الشيء نفسه منذ أربعين عاماً، عندما قام مسؤول الأمن الوطني الإسرائيلي حسين عبد النبي الملقّب بجلّاد إسرائيل، بتفخيخ البيت وتفجيره.
بعد عشر سنوات قام جدّي وأولاده بإعادة بناء المنزل، أما حسين عبد النبي فقد قتلته المقاومة في تشرين الأوّل عام ١٩٩٢ أثناء عمليات استهداف عملاء جيش لحد.
ربما التاريخ هو الآن، حتى التاريخ الذي لم أشهد على حدوثه هو نفسه هذه اللحظة، التي نعيشها وكأنها أقدارنا وأقدار آبائنا وأجدادنا.
متى يموت كل هذا الموت؟ متى يتوقّف الجلّاد عن تفخيخ الحجارة وتفخيخ الوقت والذاكرة؟ متى يمضي العمر من غير أن تزداد الخسارات؟ ربما هذا هو الواقع، عندما تُدرك أمراً تخسر أمراً. كلّما اشتقت خسرت ما تشتاق إليه، وكلّما فهمت الموت باغتك موت أشياء لم تكن تعلم أنها تموت.
أريد أن أصف البيت بدقّة، هذه رغبتي، ألا أترك تفصيلاً فيه بلا ذِكر. لكني أشعر وكأن ذاكرتي تتلاشى رويداً رويداً، وأنني أحاول أن أرفع الأنقاض عن وقت مضى إلى غير رجعة.
عندما تموت البيوت تموت ألوانها، اكتشفت الأمر وأنا أدقّق النظر في تلك المشاهد. الجرّافات تفتح الطريق العام، هناك حيث كانت توجد شجرة أمام بوابة البيت. هناك حيث كنّا نسلّم على العالم ونرحّب بإخوتنا الغرباء. لكن لا غربة في القرى سوى غربة الحجارة. جميعنا أقارب، لذلك يسكن جيراننا في المقابر. أعرف أنني لن أتمكن ولو بعد عشرات السنين أن أميّز أن هذا البيت المهدم، يمكنه أن يكون أي بيت، ولكنه ليس أي بيت، يمكنها أن تكون أي أرض، لكنها ليست أي أرض.
أكتب لكي أُبقي على شيء من إرث عائلة جدّي أبو رضوان. الكلمات لا يمكن تدميرها أبداً ولا احتلالها، حتى لو فُقدت فإنها تعود لكي تروي الحكاية كلها. الموت لا يقتل الوصايا، بل يتركها تولد، مثل الإرث بعد عزاء. أكتب لكي أعمّر العالم من جديد، لكي أزرع الأشجار ولكي أضع الكتب المبعثرة في مكانها. ثمّة رواية لعبده الخال اسمها “الأيّام لا تخبّئ أحداً” موجودة تحت الردم، لا أريد لجندي الـ UN أن يسرقها. البيوت أيضاً لا تخبّئ أحداً، الجندي الإسرائيلي يعرف ذلك وحسين عبد النبي الذي لا يتذكره أحد يعرف ذلك.
لكل حجر قصة، ولكل قصة حجر. هذا هو السرد الذي يخشونه، هذا هو سبب رعبهم من الحجارة، تلك التي كانت تُقذف عليهم، والتي صارت بيوتاً وحصوناً لحياة شريفة تليق بقاطنيها.
ليت السرد يحرّرنا من هذا الدمار، ليت القصص ترفع السقف، وتكنّس الحرب أسفل السجاد، أو تطمر الأعداء في الرمال كما تفعل القطط مع فضلاتها.
عندما كنت صغيراً وساذجاً، كنت أظن أن بيت جدّي هو القرية، أي أننا عندما نصل إلى البيت يعني أننا قد وصلنا إلى “شقرا”. ها قد كبرت، وأتممت التاسعة والعشرين منذ أيّام ولا أزال ساذجاً، عندما دُمّر البيت ظننته مات. ماتت الحسينية وماتت المئذنة وماتت المقبرة… لم أجد كلمات أنسب من الموت لكي أصف بها هذه الخسارة. ماذا عساني أكتب في عزاء الأيام والحجارة إذاً؟ أنا الساذج الذي يبحث عن كلماته كمن يبحث بين الركام عن شخص يعرفه.
لا أريد أن أعمّر بيتاً آخر. لم يستطع أحد في التاريخ أن يُعرّف الحب، لكنّني أملك ذلك اليقين، أنّه بإمكاني أن أفعل ذلك الآن: الحب هو ألا نريد أشياء أخرى. أريد هذا البيت ولا أريد آخر جديد. حتى لو قاموا باختراع آلة زمن الآن، حتى لو أمكنني شراء اللحظات سأرفض هذا الأزل الزائف. أريد البيت الآن، أريده كما هو.
أعرف أن البيوت هي من يسكنها، وتحديداً هي في داخل من يسكنها. لكن هذه المرّة الأولى التي أشعر فيها بأنني بيت، وأن الحجارة التي في قلبي يمكنها أن تعمّر ألف بيت بعكس ذلك القاتل الذي لا يملك قلباً ولا حجارة.
كان الدرب ينتهي في قُرانا، عندما نصل إليها يعني أن الرحلة قد انتهت، نرحل إليها مثلما يرحل الكفيف إلى عناق لا يراه. عليك أن تنام فيها باكراً وأن تستيقظ باكراً دون عناء، هذا هو قانون القرى وقانون المقابر أيضاً. إنها الطفولة وقد رضيت بنا أخيراً، طفولة بلا عقاب ليس كمثلها شيء.
فيها تكمن الأرض التي يمكنك أن تحيا فوقها بلا قلق، هي التي تعرّي أمراض العالم بأسره: هذا مجنون وذاك حنون، هذا شاعر وذاك شهيد، هذا عدوٌّ وذاك عميل. لا تتحقّق الحقيقة إلا في القرى، وأنا الذي يريد الحقيقة من غير الواقع، والحب بلا خسارة، يريد الحزن لكن لا يريد أن يقتله الحزن.
اليوم أودّع بيت جدّي الذي سوّته إسرائيل بالأرض، بأرضنا. غداً عندما ينتهي كل شيء سأقود سيارتي إلى الجنوب وسأمرّ من القرى لا منتصراً ولا مهزوماً، بل مرهق ونعسان بنيّة النوم على سريري هناك. فقط لأن النوم في القرى مختلف عن النوم في أي مكان آخر.
إقرأوا أيضاً: