fbpx
ساهموا في دعم الإعلام المستقل و الجريء!
ادعموا درج

في ضرورة إسقاط الميثاقيّة الطائفيّة: حتى لا يُعاد إنتاج المأساة

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

تهتزّ أساسات نظام الطوائف في لبنان، ولم يعد على اللبنانيين سوى أن يدركوا أنه كلما ضاق الأفق أمامهم، اتسعت الحفرة الجحيمية التي سينتهي إليها كل ممسكٍ بأمنهم وعيشهم وأحلامهم باسم “الميثاقية”.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

تسارعت التطورات منذ التاسع من كانون الثاني/ يناير 2025، مع انتخاب العماد جوزاف عون رئيساً للجمهورية، ثم تكليف القاضي نواف سلام لتشكيل الحكومة. ارتفعت توقعات اللبنانيين وانتعشت آمالهم تحديداً بعد خطاب القسم للرئيس عون، ومن ثم خطاب التكليف للرئيس سلام الذي ينسجم بشكل شبه كامل مع خطاب القسم، إذ تفاءلوا بأن مرحلة جديدة قد بدأت حقاً، مرحلة تُتخذ فيها خطوات ملموسة باتجاه التغيير السياسي، وبسط الدولة سلطتها على الأراضي اللبنانية كافة، وترويض العدوانية الإسرائيلية بالتزامن مع تنفيذ القرار 1701، ومعالجة الأزمات الاقتصادية والاجتماعية المتراكمة.

تفاءل اللبنانيون الى درجة أن أعداداً كبيرة من المهاجرين والعاملين في الخارج بدأوا بالكلام حول نيّتهم العودة إلى لبنان للعمل والإقامة فيه. ربما يكون هذا التفاؤل ساذجاً، لكنه عكس توق اللبنانيين، في الداخل والخارج، الى الخلاص من مرحلة فاضت بالأزمات والمعاناة، وضُربت فيها مكتسبات اجتماعية وحقوقية ناضلت من أجلها أجيال من اللبنانيين واللبنانيات.

لإعادة تكوين السلطات، وانتظام المؤسسات الدستورية، أثرٌ من المفترض أن يكون إيجابياً على مستوى الاقتصاد اللبناني، مهما كانت معاناته من ضعف في تكوينه البنيوي وتخلّفٍ في السياسات المتبعة كبيرة، على الأقل من ناحية التخفيف من آثار الانهيار طويلة الأمد. لكن عملية إعادة التكوين السياسية تواجه عقبات خطيرة، إذ إنها، بشكلٍ أو بآخر، تحاول الإفلات من قبضة الثنائي الشيعي (حزب الله وحركة أمل)، لتسدل الستار على زمن الشيعية السياسية، حتى يبدأ زمنٌ آخر عبر عملية انتقالية سلمية.

فرص نجاح التشكيلة الحكومية بصيغة تضمن فكاك “منظومة الحكم” من هيمنة الثنائي الشيعي تتضاءل يومياً، بالتوازي مع اتساع هامش مناورته السياسية، على رغم ما يشكّله ذلك من خطر تجدد العدوان الإسرائيلي بذريعة عجز اللبنانيين عن إنتاج حكومة تملك الصلاحيات الكافية لوضع القرار 1701 موضع التنفيذ، أو تفاقم التوترات الداخلية، بخاصة بعد مشهد العراضات الحزبية وما رافقها من شعارات تحريضية وتعبوية في عدد من المناطق المعارضة لسياسة الثنائي أو المتنوعة سياسياً، أو خسارة فرصة إعادة الإعمار بعدما تجاوزت أضرار الحرب الأخيرة ضعفي ما نتج من حرب تموز/ يوليو 2006.

ولعل أخطر عقدة في مسار التشكيل الحكومي هي عقدة وزارة المالية، وقد كانت هذه الوزارة أحد المفاتيح الأساسية التي امتلكها الثنائي لتعطيل العمل الحكومي منذ عام 2014. غير أن الانتظام العام على مستوى السلطة التنفيذية العليا، من دون إجراء إصلاحات جذرية وشاملة في بنية النظام السياسي، لا يكفي للتغلب على الواقع المأزوم على جميع الأصعدة، كما أن “تسونامي” الدعم الخليجي والغربي المنتظر لن يصنع فرقاً كافياً ولن يعيد عقارب الساعة إلى ما قبل الانهيار. وبالطبع، فإن كل دعمٍ خارجي لن يكون بالمجان، وليس بإمكان لبنان أن يعيش عشرات السنوات الإضافية على أجهزة الإنعاش.

تحاول قوى النظام المأزوم، وعلى رأسها الثنائي الشيعي بما يرمز إليه مرحلياً، استغلال تداخل الأحداث السياسية وهشاشة الاستقرار الأمني للنهوض بصيغة الحكم الطائفي التحاصصي على حساب المجتمع والأجيال القادمة. إلا أن تجارب الطائفية السياسية لم تعد قابلة للحياة بعد الانهيار الاقتصادي والاجتماعي الكبير عام 2019. بمعنى أن الديناميات “التوافقية”، القائمة على تعزيز دور الطوائف وإعادة تموضعها ضمن الحكم السياسي على قاعدة توازن الرعب الداخلي بين الطوائف، لم تعد قادرة على إعادة إنتاج النظام اللبناني بالشكل الذي يضمن دخول لبنان في مرحلة من النمو ثم الاستقرار، كما حصل مثلاً بعد اتفاق الطائف عام 1989.

لم يعد ممكناً تجاهل ضرورة القيام بإصلاحات سياسية واقتصادية جذرية وطارئة، بعدما أصبحت حاجة موضوعية وتاريخية خلال السنوات الست الأخيرة. ولم يعد أيضاً من السهل إغراق عدد أكبر من اللبنانيين بكمٍّ هائل من الأكاذيب، بعدما ذاقوا كل ألوان الويلات، واختبروا كل أنواع الدعاية السياسية الكاذبة. ربما يكون “الميثاق الوطني” أكبر تلك الأكاذيب على الإطلاق، وهو في الحقيقة خنجر سامّ غُرِز في خاصرة المجتمع اللبناني، والسياسة اللبنانية، والدستور اللبناني، على مر التاريخ.

لا يزال المزاج الشعبي في لبنان يتغيّر، تارةً بفعل التدهور الاقتصادي والأوضاع المعيشية الخانقة، وطوراً بفعل التحولات الجيوسياسية الكبرى التي تشهدها المنطقة، وهو يزداد تشككاً في القوى السياسية الحاكمة التي فشلت في انتشال البلاد من الانهيار، مصحوباً بسخط متصاعد منذ عام 2019. كتلٌ بشرية جديدة تولّدها النقمات المتراكمة يوماً بعد يوم، قضاياها لم تُحلّ، ومطالبها لم تجد اهتماماً، وهي تعتمل داخل المجتمع اللبناني في بيئة مشحونة بالغضب الاجتماعي تنذر بانفجار شعبي جديد محتمل.

استنفد نظام الطوائف في لبنان كل مراحل الهيمنة الطائفية الأحادية الطابع، فمن تجربة المارونية السياسية التي أثمرت ثقافة الكراهية العنصرية وأنتجت صراعات داخلية مسلّحة بعدما حاولت إلحاق لبنان بـ”حلف بغداد”، ما أدى إلى نشوب حرب أهلية مصغرة عام 1958، قبل اندلاع الحرب الأهلية الكبرى عام 1975 بعد تراكم التوترات الطائفية وتأجيج الانقسام، مروراً بتجربة السنية السياسية تحت مظلة التوافق السعودي-السوري، والتي أنتجت مديونية ضخمة ووضعت حجر الأساس للانهيار الاقتصادي الشامل، بعدما وجّهت الاقتصاد بالكامل نحو القطاع المالي والمصرفي وزادت الاعتماد على التحويلات المالية في حين حاصرت القطاعات المنتجة، وصولاً إلى تجربة الشيعية السياسية التي أنتجت خراباً شاملاً وإلحاقاً كلياً للبنان بلعبة المحاور، ما أدى إلى عزله عربياً ودولياً.

وها هي تجربة الشيعية السياسية تلفظ أنفاسها الأخيرة بعدما فضّل الثنائي الشيعي رئيس الحكومة السابق الغارق في قضايا الفساد، نجيب ميقاتي، على نواف سلام. الأمر الذي يؤكد مدى انخراطهما العميق في منظومة الفساد، وهو ما يذكّر بدوره بترشيحهما الرئيس التنفيذي لبنك الموارد اللبناني، مروان خير الدين، في الانتخابات النيابية عام 2022، وهو المتورط، كغيره من المصرفيين، في قضية تبديد أموال المودعين. وفي مراحلها الأخيرة، ترفض هذه التجربة بدء فصل جديد من تاريخ البلد من دون إدخاله في حالة من الفوضى والارتباك، على رغم أن الثنائي الشيعي يدرك أن هذه التجربة لم تعد قادرة على إعادة إنتاج ذاتها بقوتها السابقة نفسها. وإن حاولت ذلك، فسيزداد المشهد الأمني تعقيداً، ما سيسرّع بدوره من تحلّلها، لكن على حساب اللبنانيين جميعاً.

لنكن واقعيين، فإن الشيعية السياسية تموت اليوم، وماتت قبلها المارونية السياسية والسنية السياسية، ولم يعد أمام الثنائي الشيعي بعد انحسار هيمنتهما السياسية من خيار سوى الدفع باتجاه “المثالثة”، أي محاولة إنتاج نسخة معدّلة من البنية السياسية الطائفية لاستعادة الهيمنة على القرار السياسي والاقتصادي، وذلك عبر عرقلة تنفيذ البرنامج الذي أعلن عنه الرئيس عون في خطاب القسم، وتعطيل الحياة السياسية مجدداً، إما من خلال الحصول على “الثلث المعطل” في الحكومة، أو القبض مجدداً على وزارة المالية، بالتالي تأخير أو منع المراسيم الحكومية من أن تصبح نافذة، إذ تتطلب موازنات خاصة على وزير المالية أن يوافق عليها.

بينما يرى اللبنانيون المحتاجون إلى التغيير، أن هذه البنية السياسية لم تأتِ سوى بالويلات، وهم يدركون، من خلال تجاربهم المريرة، أنه لم يعد بإمكانهم العودة إلى النمط نفسه من الحكم. لم تعد أدوات القوى الطائفية قادرة على تزييف الوعي السياسي لعامة اللبنانيين بسهولة، ولم تعد معادلة تجديد النظام واقعية، فالواقع يستلزم إعادة تشكيله، بدءاً بتحرير القضاء من الهيمنة السياسية، كما وعد الرئيس عون في خطابه، وصولاً إلى إعلان عدم دستورية “الميثاق الوطني”، وما هو في نهاية المطاف، إلا اتفاق شفهي ينتمي إلى زمنٍ غابر، منتهي الصلاحية ولا قيمة دستورية له، وذلك في حال اتخذ الرئيسان عون وسلام قراراً حاسماً في المواجهة. 

تجاوز “الميثاقية” لا يعني تجاوز هيمنة الشيعية السياسية فقط، بل تجاوز النظام السياسي الطائفي بأكمله، أي تجاوز نظام الجمهورية الثانية، بكل ما يختزنه من ترسبات الجمهورية الأولى، والتوقف عن اعتبار خرافة “الميثاق الوطني” عقداً اجتماعياً خاصاً بين اللبنانيين يشكل بديلاً عن الدستور الفعلي.

وفي خضم التحوّلات الجيوسياسية الكبيرة في المنطقة، وتصاعد الوعي السياسي المنبثق من آمالٍ كبيرة وآلام أكبر، وتعلّم اللبنانيين من التجربة السورية وسابقاتها، وانسداد الأفق السياسي أمام قوى النظام على رغم الرافعة الدولية والعربية، يجب أن يتحول طرح “إسقاط النظام الطائفي” إلى الطرح السياسي الأكثر جدية وواقعية. ولا بد أن ينتقل البعد الاجتماعي لهذا الطرح إلى مستوى جديد لا يعود الفصل فيه بين إزالة النظام السياسي الطائفي وتحقيق العدالة الاجتماعية، ممكناً. وعلى من يعتبرون أنفسهم ممثّلين في هذا الاتجاه السياسي، أن يتوقفوا عن الانزلاق إلى أفخاخ القوى الطائفية المتصارعة، معتقدين بذلك أنهم يمارسون دهاءً سياسياً، وأن يعلنوا الحرب على التحالفات الطائفية من موقع رفض النظام.

لا أقول بوجود وصفات سحرية تخرج لبنان من مآزقه، لكن اللبنانيين يستحقون أن يكون لديهم حكم جديد بعدما اختبروا حكم الطوائف على مدى أكثر من 80 عاماً. والفرصة التاريخية المتاحة للبنانيين تكمن في الانتفاض مجدداً بوجه النظام الذي يحاول تجديد نفسه بكل الأساليب الملتوية، والانقضاض على رموزه وتدمير الهيكل فوق كل رؤوسه. فالرياح الآتية من جميع الاتجاهات هزّت بالفعل أركان هذا النظام، على رغم بشاعة الرياح التي قدمت من الجنوب وتركت جرحاً مزمناً لن يلتئم لعشرات السنوات المقبلة، إلا أن الرياح الشرقية بعد سقوط نظام الأسد مفاعيلها أكبر بكثير من أن تقيّدها سلوكيات الانعزاليين الجدد، ولو اتّحدوا مع الانعزاليين القدامى في مسعى تجديد نظامهم بالتحاصص، تُضاف إليها الرياح الدولية والعربية الآتية من جميع الاتجاهات.

تهتزّ أساسات النظام اللبناني يومياً، ويتشبّث حكامه القدامى ببعضهم بعضاً تجنباً لوقوعهم جماعياً في حفرة الجحيم التي ثقبتها أصوات ملايين المعذبين من الخليج إلى المحيط منذ عام 2011، والتي ابتلعت عدداً من الطغاة العرب قبل بشار وماهر الأسد، ولن تتوقف عن ابتلاع المزيد منهم في المستقبل. 

تهتزّ أساسات نظام الطوائف في لبنان، ولم يعد على اللبنانيين سوى أن يدركوا أنه كلما ضاق الأفق أمامهم، اتسعت الحفرة الجحيمية التي سينتهي إليها كل ممسكٍ بأمنهم وعيشهم وأحلامهم باسم “الميثاقية”.

واليوم، لدى كل من الرئيسين عون وسلام خيار واحد من اثنين: إما أن يكونا جزءاً من مستقبل شعب لبنان وأحلامه، التي أصبحت على تعارض تام مع أي مستقبل مفترض للنظام الحالي والأحلام الوضيعة لرموزه، وأن يعلنا المواجهة ويرفضا كل محاولات الانقلاب بكل وضوح، حتى لو تطلب الأمر أن يدعوَا الشعب اللبناني إلى التظاهر، تزامناً مع استخدام أوراق قوتهما الدولية والعربية لفرض واقعٍ سياسي جديد، على رغم علّاته المحتملة، رغماً عن أنف الرافضين طي الصفحة القديمة، وإما أن يرضخا لمحاولات إغلاق الأبواب بوجه كل الأحلام، بدءاً بنقضهما عهودهما في خطابي القسم والتكليف، حيث أيقظا في اللبنانيين الأمل بتوقف المأساة التي تشمل كل جوانب حياتهم، وأن ينضما في المستقبل، قريباً كان أم بعيداً، إلى من سيمارسون كل أشكال السقوط الحر، باتجاه تلك الحفرة من الجحيم!

28.01.2025
زمن القراءة: 7 minutes

تهتزّ أساسات نظام الطوائف في لبنان، ولم يعد على اللبنانيين سوى أن يدركوا أنه كلما ضاق الأفق أمامهم، اتسعت الحفرة الجحيمية التي سينتهي إليها كل ممسكٍ بأمنهم وعيشهم وأحلامهم باسم “الميثاقية”.

تسارعت التطورات منذ التاسع من كانون الثاني/ يناير 2025، مع انتخاب العماد جوزاف عون رئيساً للجمهورية، ثم تكليف القاضي نواف سلام لتشكيل الحكومة. ارتفعت توقعات اللبنانيين وانتعشت آمالهم تحديداً بعد خطاب القسم للرئيس عون، ومن ثم خطاب التكليف للرئيس سلام الذي ينسجم بشكل شبه كامل مع خطاب القسم، إذ تفاءلوا بأن مرحلة جديدة قد بدأت حقاً، مرحلة تُتخذ فيها خطوات ملموسة باتجاه التغيير السياسي، وبسط الدولة سلطتها على الأراضي اللبنانية كافة، وترويض العدوانية الإسرائيلية بالتزامن مع تنفيذ القرار 1701، ومعالجة الأزمات الاقتصادية والاجتماعية المتراكمة.

تفاءل اللبنانيون الى درجة أن أعداداً كبيرة من المهاجرين والعاملين في الخارج بدأوا بالكلام حول نيّتهم العودة إلى لبنان للعمل والإقامة فيه. ربما يكون هذا التفاؤل ساذجاً، لكنه عكس توق اللبنانيين، في الداخل والخارج، الى الخلاص من مرحلة فاضت بالأزمات والمعاناة، وضُربت فيها مكتسبات اجتماعية وحقوقية ناضلت من أجلها أجيال من اللبنانيين واللبنانيات.

لإعادة تكوين السلطات، وانتظام المؤسسات الدستورية، أثرٌ من المفترض أن يكون إيجابياً على مستوى الاقتصاد اللبناني، مهما كانت معاناته من ضعف في تكوينه البنيوي وتخلّفٍ في السياسات المتبعة كبيرة، على الأقل من ناحية التخفيف من آثار الانهيار طويلة الأمد. لكن عملية إعادة التكوين السياسية تواجه عقبات خطيرة، إذ إنها، بشكلٍ أو بآخر، تحاول الإفلات من قبضة الثنائي الشيعي (حزب الله وحركة أمل)، لتسدل الستار على زمن الشيعية السياسية، حتى يبدأ زمنٌ آخر عبر عملية انتقالية سلمية.

فرص نجاح التشكيلة الحكومية بصيغة تضمن فكاك “منظومة الحكم” من هيمنة الثنائي الشيعي تتضاءل يومياً، بالتوازي مع اتساع هامش مناورته السياسية، على رغم ما يشكّله ذلك من خطر تجدد العدوان الإسرائيلي بذريعة عجز اللبنانيين عن إنتاج حكومة تملك الصلاحيات الكافية لوضع القرار 1701 موضع التنفيذ، أو تفاقم التوترات الداخلية، بخاصة بعد مشهد العراضات الحزبية وما رافقها من شعارات تحريضية وتعبوية في عدد من المناطق المعارضة لسياسة الثنائي أو المتنوعة سياسياً، أو خسارة فرصة إعادة الإعمار بعدما تجاوزت أضرار الحرب الأخيرة ضعفي ما نتج من حرب تموز/ يوليو 2006.

ولعل أخطر عقدة في مسار التشكيل الحكومي هي عقدة وزارة المالية، وقد كانت هذه الوزارة أحد المفاتيح الأساسية التي امتلكها الثنائي لتعطيل العمل الحكومي منذ عام 2014. غير أن الانتظام العام على مستوى السلطة التنفيذية العليا، من دون إجراء إصلاحات جذرية وشاملة في بنية النظام السياسي، لا يكفي للتغلب على الواقع المأزوم على جميع الأصعدة، كما أن “تسونامي” الدعم الخليجي والغربي المنتظر لن يصنع فرقاً كافياً ولن يعيد عقارب الساعة إلى ما قبل الانهيار. وبالطبع، فإن كل دعمٍ خارجي لن يكون بالمجان، وليس بإمكان لبنان أن يعيش عشرات السنوات الإضافية على أجهزة الإنعاش.

تحاول قوى النظام المأزوم، وعلى رأسها الثنائي الشيعي بما يرمز إليه مرحلياً، استغلال تداخل الأحداث السياسية وهشاشة الاستقرار الأمني للنهوض بصيغة الحكم الطائفي التحاصصي على حساب المجتمع والأجيال القادمة. إلا أن تجارب الطائفية السياسية لم تعد قابلة للحياة بعد الانهيار الاقتصادي والاجتماعي الكبير عام 2019. بمعنى أن الديناميات “التوافقية”، القائمة على تعزيز دور الطوائف وإعادة تموضعها ضمن الحكم السياسي على قاعدة توازن الرعب الداخلي بين الطوائف، لم تعد قادرة على إعادة إنتاج النظام اللبناني بالشكل الذي يضمن دخول لبنان في مرحلة من النمو ثم الاستقرار، كما حصل مثلاً بعد اتفاق الطائف عام 1989.

لم يعد ممكناً تجاهل ضرورة القيام بإصلاحات سياسية واقتصادية جذرية وطارئة، بعدما أصبحت حاجة موضوعية وتاريخية خلال السنوات الست الأخيرة. ولم يعد أيضاً من السهل إغراق عدد أكبر من اللبنانيين بكمٍّ هائل من الأكاذيب، بعدما ذاقوا كل ألوان الويلات، واختبروا كل أنواع الدعاية السياسية الكاذبة. ربما يكون “الميثاق الوطني” أكبر تلك الأكاذيب على الإطلاق، وهو في الحقيقة خنجر سامّ غُرِز في خاصرة المجتمع اللبناني، والسياسة اللبنانية، والدستور اللبناني، على مر التاريخ.

لا يزال المزاج الشعبي في لبنان يتغيّر، تارةً بفعل التدهور الاقتصادي والأوضاع المعيشية الخانقة، وطوراً بفعل التحولات الجيوسياسية الكبرى التي تشهدها المنطقة، وهو يزداد تشككاً في القوى السياسية الحاكمة التي فشلت في انتشال البلاد من الانهيار، مصحوباً بسخط متصاعد منذ عام 2019. كتلٌ بشرية جديدة تولّدها النقمات المتراكمة يوماً بعد يوم، قضاياها لم تُحلّ، ومطالبها لم تجد اهتماماً، وهي تعتمل داخل المجتمع اللبناني في بيئة مشحونة بالغضب الاجتماعي تنذر بانفجار شعبي جديد محتمل.

استنفد نظام الطوائف في لبنان كل مراحل الهيمنة الطائفية الأحادية الطابع، فمن تجربة المارونية السياسية التي أثمرت ثقافة الكراهية العنصرية وأنتجت صراعات داخلية مسلّحة بعدما حاولت إلحاق لبنان بـ”حلف بغداد”، ما أدى إلى نشوب حرب أهلية مصغرة عام 1958، قبل اندلاع الحرب الأهلية الكبرى عام 1975 بعد تراكم التوترات الطائفية وتأجيج الانقسام، مروراً بتجربة السنية السياسية تحت مظلة التوافق السعودي-السوري، والتي أنتجت مديونية ضخمة ووضعت حجر الأساس للانهيار الاقتصادي الشامل، بعدما وجّهت الاقتصاد بالكامل نحو القطاع المالي والمصرفي وزادت الاعتماد على التحويلات المالية في حين حاصرت القطاعات المنتجة، وصولاً إلى تجربة الشيعية السياسية التي أنتجت خراباً شاملاً وإلحاقاً كلياً للبنان بلعبة المحاور، ما أدى إلى عزله عربياً ودولياً.

وها هي تجربة الشيعية السياسية تلفظ أنفاسها الأخيرة بعدما فضّل الثنائي الشيعي رئيس الحكومة السابق الغارق في قضايا الفساد، نجيب ميقاتي، على نواف سلام. الأمر الذي يؤكد مدى انخراطهما العميق في منظومة الفساد، وهو ما يذكّر بدوره بترشيحهما الرئيس التنفيذي لبنك الموارد اللبناني، مروان خير الدين، في الانتخابات النيابية عام 2022، وهو المتورط، كغيره من المصرفيين، في قضية تبديد أموال المودعين. وفي مراحلها الأخيرة، ترفض هذه التجربة بدء فصل جديد من تاريخ البلد من دون إدخاله في حالة من الفوضى والارتباك، على رغم أن الثنائي الشيعي يدرك أن هذه التجربة لم تعد قادرة على إعادة إنتاج ذاتها بقوتها السابقة نفسها. وإن حاولت ذلك، فسيزداد المشهد الأمني تعقيداً، ما سيسرّع بدوره من تحلّلها، لكن على حساب اللبنانيين جميعاً.

لنكن واقعيين، فإن الشيعية السياسية تموت اليوم، وماتت قبلها المارونية السياسية والسنية السياسية، ولم يعد أمام الثنائي الشيعي بعد انحسار هيمنتهما السياسية من خيار سوى الدفع باتجاه “المثالثة”، أي محاولة إنتاج نسخة معدّلة من البنية السياسية الطائفية لاستعادة الهيمنة على القرار السياسي والاقتصادي، وذلك عبر عرقلة تنفيذ البرنامج الذي أعلن عنه الرئيس عون في خطاب القسم، وتعطيل الحياة السياسية مجدداً، إما من خلال الحصول على “الثلث المعطل” في الحكومة، أو القبض مجدداً على وزارة المالية، بالتالي تأخير أو منع المراسيم الحكومية من أن تصبح نافذة، إذ تتطلب موازنات خاصة على وزير المالية أن يوافق عليها.

بينما يرى اللبنانيون المحتاجون إلى التغيير، أن هذه البنية السياسية لم تأتِ سوى بالويلات، وهم يدركون، من خلال تجاربهم المريرة، أنه لم يعد بإمكانهم العودة إلى النمط نفسه من الحكم. لم تعد أدوات القوى الطائفية قادرة على تزييف الوعي السياسي لعامة اللبنانيين بسهولة، ولم تعد معادلة تجديد النظام واقعية، فالواقع يستلزم إعادة تشكيله، بدءاً بتحرير القضاء من الهيمنة السياسية، كما وعد الرئيس عون في خطابه، وصولاً إلى إعلان عدم دستورية “الميثاق الوطني”، وما هو في نهاية المطاف، إلا اتفاق شفهي ينتمي إلى زمنٍ غابر، منتهي الصلاحية ولا قيمة دستورية له، وذلك في حال اتخذ الرئيسان عون وسلام قراراً حاسماً في المواجهة. 

تجاوز “الميثاقية” لا يعني تجاوز هيمنة الشيعية السياسية فقط، بل تجاوز النظام السياسي الطائفي بأكمله، أي تجاوز نظام الجمهورية الثانية، بكل ما يختزنه من ترسبات الجمهورية الأولى، والتوقف عن اعتبار خرافة “الميثاق الوطني” عقداً اجتماعياً خاصاً بين اللبنانيين يشكل بديلاً عن الدستور الفعلي.

وفي خضم التحوّلات الجيوسياسية الكبيرة في المنطقة، وتصاعد الوعي السياسي المنبثق من آمالٍ كبيرة وآلام أكبر، وتعلّم اللبنانيين من التجربة السورية وسابقاتها، وانسداد الأفق السياسي أمام قوى النظام على رغم الرافعة الدولية والعربية، يجب أن يتحول طرح “إسقاط النظام الطائفي” إلى الطرح السياسي الأكثر جدية وواقعية. ولا بد أن ينتقل البعد الاجتماعي لهذا الطرح إلى مستوى جديد لا يعود الفصل فيه بين إزالة النظام السياسي الطائفي وتحقيق العدالة الاجتماعية، ممكناً. وعلى من يعتبرون أنفسهم ممثّلين في هذا الاتجاه السياسي، أن يتوقفوا عن الانزلاق إلى أفخاخ القوى الطائفية المتصارعة، معتقدين بذلك أنهم يمارسون دهاءً سياسياً، وأن يعلنوا الحرب على التحالفات الطائفية من موقع رفض النظام.

لا أقول بوجود وصفات سحرية تخرج لبنان من مآزقه، لكن اللبنانيين يستحقون أن يكون لديهم حكم جديد بعدما اختبروا حكم الطوائف على مدى أكثر من 80 عاماً. والفرصة التاريخية المتاحة للبنانيين تكمن في الانتفاض مجدداً بوجه النظام الذي يحاول تجديد نفسه بكل الأساليب الملتوية، والانقضاض على رموزه وتدمير الهيكل فوق كل رؤوسه. فالرياح الآتية من جميع الاتجاهات هزّت بالفعل أركان هذا النظام، على رغم بشاعة الرياح التي قدمت من الجنوب وتركت جرحاً مزمناً لن يلتئم لعشرات السنوات المقبلة، إلا أن الرياح الشرقية بعد سقوط نظام الأسد مفاعيلها أكبر بكثير من أن تقيّدها سلوكيات الانعزاليين الجدد، ولو اتّحدوا مع الانعزاليين القدامى في مسعى تجديد نظامهم بالتحاصص، تُضاف إليها الرياح الدولية والعربية الآتية من جميع الاتجاهات.

تهتزّ أساسات النظام اللبناني يومياً، ويتشبّث حكامه القدامى ببعضهم بعضاً تجنباً لوقوعهم جماعياً في حفرة الجحيم التي ثقبتها أصوات ملايين المعذبين من الخليج إلى المحيط منذ عام 2011، والتي ابتلعت عدداً من الطغاة العرب قبل بشار وماهر الأسد، ولن تتوقف عن ابتلاع المزيد منهم في المستقبل. 

تهتزّ أساسات نظام الطوائف في لبنان، ولم يعد على اللبنانيين سوى أن يدركوا أنه كلما ضاق الأفق أمامهم، اتسعت الحفرة الجحيمية التي سينتهي إليها كل ممسكٍ بأمنهم وعيشهم وأحلامهم باسم “الميثاقية”.

واليوم، لدى كل من الرئيسين عون وسلام خيار واحد من اثنين: إما أن يكونا جزءاً من مستقبل شعب لبنان وأحلامه، التي أصبحت على تعارض تام مع أي مستقبل مفترض للنظام الحالي والأحلام الوضيعة لرموزه، وأن يعلنا المواجهة ويرفضا كل محاولات الانقلاب بكل وضوح، حتى لو تطلب الأمر أن يدعوَا الشعب اللبناني إلى التظاهر، تزامناً مع استخدام أوراق قوتهما الدولية والعربية لفرض واقعٍ سياسي جديد، على رغم علّاته المحتملة، رغماً عن أنف الرافضين طي الصفحة القديمة، وإما أن يرضخا لمحاولات إغلاق الأبواب بوجه كل الأحلام، بدءاً بنقضهما عهودهما في خطابي القسم والتكليف، حيث أيقظا في اللبنانيين الأمل بتوقف المأساة التي تشمل كل جوانب حياتهم، وأن ينضما في المستقبل، قريباً كان أم بعيداً، إلى من سيمارسون كل أشكال السقوط الحر، باتجاه تلك الحفرة من الجحيم!