ساهموا في دعم الإعلام المستقل و الجريء!
ادعموا درج

في غزة نُحْرم من الحداد لأجل الإعمار

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

لكن إلى أن تُستعاد العدالة وتُفتح أبواب المحاسبة، سيظل العالم يطلب من غزة أن تكفّ عن الحداد وتستعدّ للإعمار المشروط، فيما هي ما زالت تبحث عن أبسط حقوقها: أن تدفن موتاها بكرامة، وأن تبني مستقبلها بيدها، وأن يُعامل مواطنوها كبشرٍ يستحقون الحياة لا كملفٍّ يُدار عن بُعد.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

في عالمٍ باتت فيه كلمة “العدالة” ترفاً لغوياً، تبدو غزة الجرح الأكثر عمقاً وصدقاً في فضح انهيار النظام الدولي. أكثر من عامين على حرب الإبادة التي نفذتها إسرائيل ضد الفلسطينيين في القطاع، ولم يتغير سوى الخطاب. تحوّلت المجازر إلى أرقام في نشرات الأخبار، وصارت الكارثة الإنسانية عنواناً مؤقتاً في مؤتمراتٍ تُدار بلغة باردة ومصطلحات تقنية، بينما لا أحد يجرؤ على تسمية الأشياء بأسمائها: ما حدث ويحدث في غزة هو إبادة جماعية، وما يغيب عنها هو العدالة.

من شرم الشيخ إلى نيويورك، ومن واشنطن إلى بروكسل، تُعقد المؤتمرات ويُعاد تدوير الكلام ذاته عن “إعادة الإعمار” و”اليوم التالي”، بينما يُطلب من الفلسطينيين أن يكفّوا عن البكاء وأن يتأهبوا للسلام. كأن الحداد ترفٌ سياسي، وكأن الحزن يجب أن يخضع للتقويم الدولي.

في مؤتمر شرم الشيخ الأخير تصدرت صور المصافحات والابتسامات نشرات الأخبار، كان المشهد يعكس الانفصال التام بين الخطاب والواقع. 

لم يتحدث أحد عن العدالة أو المحاسبة، بل عن “الفرص الاستثمارية” و”الاستقرار”، وعن “إعادة بناء غزة” من دون التطرق إلى من دمّرها. بدا المؤتمر كفيلمٍ سياسي مصقول الإخراج، يُراد له أن يطوي صفحة الإبادة بأناقةٍ دبلوماسية.

لكن كيف يمكن الحديث عن الإعمار من دون عدالة؟ وكيف يمكن مطالبة شعبٍ بالكف عن الحداد بينما لا يزال يبحث عن جثامين تحت الركام وما تبقى من عظام، ومكان يدفن فيه أبناءه؟

الولايات المتحدة التي ترفع شعار “الدفاع عن القانون الدولي”، هي نفسها التي قيدت وجرّمت العدالة بقراراتها. إذ فرضت إدارتها عقوبات على قضاة المحكمة الجنائية الدولية حين اقتربت المحكمة من التحقيق في جرائم الحرب الإسرائيلية. ثم وسّعت هذا النهج باستهداف منظمات حقوق الإنسان الفلسطينية — مركز الميزان، والمركز الفلسطيني لحقوق الإنسان، ومؤسسة الحق — عبر تجميد حساباتها وملاحقتها مالياً بذريعة “التحريض” أو “الارتباط بالإرهاب”. إنها رسالة واضحة: لا عدالة للفلسطينيين، ولا مساءلة للمجرمين.

بهذا الفعل، لم تكتف واشنطن بمنع العدالة، بل جرّمتها. وأصبح الدفاع عن الضحايا جريمة، بينما الإفلات من العقاب قاعدةً أخلاقية. فكيف يمكن لمجتمعٍ دوليٍّ بهذا الخلل أن يطالب غزة بالسكوت؟

في الوقت نفسه، تعمل الإدارة الأميركية على احتكار ملف الإعمار وتحويله إلى أداة سياسية. تتحدث عن “إدارة مدنية جديدة” و”رقابة مالية دولية”، وكأن الفلسطينيين غير مؤهلين لإعادة بناء مدنهم وحياتهم. بل أكثر من ذلك، تُمنع المؤسسات المحلية من إدارة المساعدات، وتُفرَض وصاية على كل تفصيل في الحياة اليومية، من الكهرباء إلى الوقود والمياه إلى المساعدات الغذائية. وكأن الهدف ليس فقط السيطرة على الأرض، بل أيضًا على الذاكرة والبقاء.

تعيش غزة اليوم أوضاعًا كارثية بلا أمل: أكثر من 80 في المئة من سكانها تحت خط الفقر، والبطالة تخنق الشباب الذين لم يعرفوا سوى الحصار والحرب. مئات آلاف العائلات ما زالت بلا مأوى، والمياه ملوثة، والهواء محمّل برائحة الرماد. لا مدارس كافية، لا مستشفيات عاملة بكامل طاقتها، ولا عمل ولا دخل. كل شيء في غزة معلّق بين حياةٍ مؤقتة وموتٍ مؤجل.

في ظل هذه الكارثة، يُطلب من الناس أن ينسوا، أن يتجاوزوا، أن يتحدثوا عن “المستقبل. لكن كيف يمكن للفلسطيني أن ينسى وهو ما زال يبحث عن جثمان ابنه تحت الركام؟ كيف يتحدث عن الغد وهو لم يدفن أمّه أو زوجته أو جاره؟ البيوت التي كانت تمثل “الوطن الصغير” تحولت إلى ركام، والوطن الكبير ما زال غائبًا خلف الأسوار والمعابر.

في غزة، الحزن ليس حالةً نفسية، بل فعل مقاومة. أن يحزن الفلسطيني يعني أنه يرفض أن يُمحى، وأن يتمسك بالذاكرة كأرضٍ أخيرة لم تُحتل. العالم يريد منه أن يستبدل الدموع بالخبز، وأن يبادل وجعه بمساعداتٍ مشروطة. لكن لا عدالة بلا حزن، ولا إعمار بلا كرامة.

أما الحديث والإعلان عن “السلام” الذي يروّج له ترامب وإدارته في شرم الشيخ، فهو سلام بلا ذاكرة ولا محاسبة. سلامٌ يقوم على إعادة تعريف القضية الفلسطينية باعتبارها “قضية غزة الإنسانية فقط”، في محاولة لفصلها عن الأرض والهوية والوطن. كل ما لا يمكن تسويقه ضمن مشروع “الاستقرار الاقتصادي الأمني” يُشطب من النقاش. تُختزل النكبة المستمرة في ملف إنساني تقني، بينما تتوارى خلف الأرقام حقيقة أن هناك شعباً يُحرم من تقرير مصيره.

في هذا السياق، تبدو العدالة الغائبة ليست مجرد فشلٍ قانوني، بل انهيار سياسي وأخلاقي شامل. العالم الذي تجمّد ضميره أمام مشهد الأطفال تحت الأنقاض، هو نفسه الذي يُعلن اليوم خططاً “لإعادة الحياة” في غزة، متجاهلاً أن هذه الحياة لا يمكن أن تقوم على النسيان.

غزة لا تحتاج إلى مشاريع إعمار بقدر ما تحتاج إلى من يطمئنها بأنها لم تُترك وحيدة، إلى صوتٍ يقول إن العدالة لم تُدفن بعد، وإن هناك من يراها ويرى جراحها.

لكن إلى أن تُستعاد العدالة وتُفتح أبواب المحاسبة، سيظل العالم يطلب من غزة أن تكفّ عن الحداد وتستعدّ للإعمار المشروط، فيما هي ما زالت تبحث عن أبسط حقوقها: أن تدفن موتاها بكرامة، وأن تبني مستقبلها بيدها، وأن يُعامل مواطنوها كبشرٍ يستحقون الحياة لا كملفٍّ يُدار عن بُعد.

العدالة ليست ترفاً لغوياً، بل حقّ غزة في أن تُشفى، وحق الفلسطيني في أن يعيش بلا إذلال، وحقّ الإنسان في ألا يُمحى من التاريخ. وحتى يتحقق ذلك، سيبقى هذا العالم ناقص العدالة، ناقص الإنسانية، ناقص الضمير.

إقرأوا أيضاً:

جنى بركات - صحافية لبنانية | 14.11.2025

“ستارلينك” لبنان: ما علاقتها بوزير الاتّصالات وبالشبهات المرتبطة بمعاقَب أميركياً؟ 

مع دخول "ستارلينك" إلى لبنان، برزت إشكالية حول مساعي الشركة الأميركية للتعاقد مع "Connect Services Liberia" كموزّع لخدمات "ستارلينك" في لبنان، من دون فتح باب المنافسة بين الشركات الأخرى، وهي الشركة التي سبق أن ترأّسها وزير الاتّصالات الحالي شارل الحاج. 
17.10.2025
زمن القراءة: 4 minutes

لكن إلى أن تُستعاد العدالة وتُفتح أبواب المحاسبة، سيظل العالم يطلب من غزة أن تكفّ عن الحداد وتستعدّ للإعمار المشروط، فيما هي ما زالت تبحث عن أبسط حقوقها: أن تدفن موتاها بكرامة، وأن تبني مستقبلها بيدها، وأن يُعامل مواطنوها كبشرٍ يستحقون الحياة لا كملفٍّ يُدار عن بُعد.

في عالمٍ باتت فيه كلمة “العدالة” ترفاً لغوياً، تبدو غزة الجرح الأكثر عمقاً وصدقاً في فضح انهيار النظام الدولي. أكثر من عامين على حرب الإبادة التي نفذتها إسرائيل ضد الفلسطينيين في القطاع، ولم يتغير سوى الخطاب. تحوّلت المجازر إلى أرقام في نشرات الأخبار، وصارت الكارثة الإنسانية عنواناً مؤقتاً في مؤتمراتٍ تُدار بلغة باردة ومصطلحات تقنية، بينما لا أحد يجرؤ على تسمية الأشياء بأسمائها: ما حدث ويحدث في غزة هو إبادة جماعية، وما يغيب عنها هو العدالة.

من شرم الشيخ إلى نيويورك، ومن واشنطن إلى بروكسل، تُعقد المؤتمرات ويُعاد تدوير الكلام ذاته عن “إعادة الإعمار” و”اليوم التالي”، بينما يُطلب من الفلسطينيين أن يكفّوا عن البكاء وأن يتأهبوا للسلام. كأن الحداد ترفٌ سياسي، وكأن الحزن يجب أن يخضع للتقويم الدولي.

في مؤتمر شرم الشيخ الأخير تصدرت صور المصافحات والابتسامات نشرات الأخبار، كان المشهد يعكس الانفصال التام بين الخطاب والواقع. 

لم يتحدث أحد عن العدالة أو المحاسبة، بل عن “الفرص الاستثمارية” و”الاستقرار”، وعن “إعادة بناء غزة” من دون التطرق إلى من دمّرها. بدا المؤتمر كفيلمٍ سياسي مصقول الإخراج، يُراد له أن يطوي صفحة الإبادة بأناقةٍ دبلوماسية.

لكن كيف يمكن الحديث عن الإعمار من دون عدالة؟ وكيف يمكن مطالبة شعبٍ بالكف عن الحداد بينما لا يزال يبحث عن جثامين تحت الركام وما تبقى من عظام، ومكان يدفن فيه أبناءه؟

الولايات المتحدة التي ترفع شعار “الدفاع عن القانون الدولي”، هي نفسها التي قيدت وجرّمت العدالة بقراراتها. إذ فرضت إدارتها عقوبات على قضاة المحكمة الجنائية الدولية حين اقتربت المحكمة من التحقيق في جرائم الحرب الإسرائيلية. ثم وسّعت هذا النهج باستهداف منظمات حقوق الإنسان الفلسطينية — مركز الميزان، والمركز الفلسطيني لحقوق الإنسان، ومؤسسة الحق — عبر تجميد حساباتها وملاحقتها مالياً بذريعة “التحريض” أو “الارتباط بالإرهاب”. إنها رسالة واضحة: لا عدالة للفلسطينيين، ولا مساءلة للمجرمين.

بهذا الفعل، لم تكتف واشنطن بمنع العدالة، بل جرّمتها. وأصبح الدفاع عن الضحايا جريمة، بينما الإفلات من العقاب قاعدةً أخلاقية. فكيف يمكن لمجتمعٍ دوليٍّ بهذا الخلل أن يطالب غزة بالسكوت؟

في الوقت نفسه، تعمل الإدارة الأميركية على احتكار ملف الإعمار وتحويله إلى أداة سياسية. تتحدث عن “إدارة مدنية جديدة” و”رقابة مالية دولية”، وكأن الفلسطينيين غير مؤهلين لإعادة بناء مدنهم وحياتهم. بل أكثر من ذلك، تُمنع المؤسسات المحلية من إدارة المساعدات، وتُفرَض وصاية على كل تفصيل في الحياة اليومية، من الكهرباء إلى الوقود والمياه إلى المساعدات الغذائية. وكأن الهدف ليس فقط السيطرة على الأرض، بل أيضًا على الذاكرة والبقاء.

تعيش غزة اليوم أوضاعًا كارثية بلا أمل: أكثر من 80 في المئة من سكانها تحت خط الفقر، والبطالة تخنق الشباب الذين لم يعرفوا سوى الحصار والحرب. مئات آلاف العائلات ما زالت بلا مأوى، والمياه ملوثة، والهواء محمّل برائحة الرماد. لا مدارس كافية، لا مستشفيات عاملة بكامل طاقتها، ولا عمل ولا دخل. كل شيء في غزة معلّق بين حياةٍ مؤقتة وموتٍ مؤجل.

في ظل هذه الكارثة، يُطلب من الناس أن ينسوا، أن يتجاوزوا، أن يتحدثوا عن “المستقبل. لكن كيف يمكن للفلسطيني أن ينسى وهو ما زال يبحث عن جثمان ابنه تحت الركام؟ كيف يتحدث عن الغد وهو لم يدفن أمّه أو زوجته أو جاره؟ البيوت التي كانت تمثل “الوطن الصغير” تحولت إلى ركام، والوطن الكبير ما زال غائبًا خلف الأسوار والمعابر.

في غزة، الحزن ليس حالةً نفسية، بل فعل مقاومة. أن يحزن الفلسطيني يعني أنه يرفض أن يُمحى، وأن يتمسك بالذاكرة كأرضٍ أخيرة لم تُحتل. العالم يريد منه أن يستبدل الدموع بالخبز، وأن يبادل وجعه بمساعداتٍ مشروطة. لكن لا عدالة بلا حزن، ولا إعمار بلا كرامة.

أما الحديث والإعلان عن “السلام” الذي يروّج له ترامب وإدارته في شرم الشيخ، فهو سلام بلا ذاكرة ولا محاسبة. سلامٌ يقوم على إعادة تعريف القضية الفلسطينية باعتبارها “قضية غزة الإنسانية فقط”، في محاولة لفصلها عن الأرض والهوية والوطن. كل ما لا يمكن تسويقه ضمن مشروع “الاستقرار الاقتصادي الأمني” يُشطب من النقاش. تُختزل النكبة المستمرة في ملف إنساني تقني، بينما تتوارى خلف الأرقام حقيقة أن هناك شعباً يُحرم من تقرير مصيره.

في هذا السياق، تبدو العدالة الغائبة ليست مجرد فشلٍ قانوني، بل انهيار سياسي وأخلاقي شامل. العالم الذي تجمّد ضميره أمام مشهد الأطفال تحت الأنقاض، هو نفسه الذي يُعلن اليوم خططاً “لإعادة الحياة” في غزة، متجاهلاً أن هذه الحياة لا يمكن أن تقوم على النسيان.

غزة لا تحتاج إلى مشاريع إعمار بقدر ما تحتاج إلى من يطمئنها بأنها لم تُترك وحيدة، إلى صوتٍ يقول إن العدالة لم تُدفن بعد، وإن هناك من يراها ويرى جراحها.

لكن إلى أن تُستعاد العدالة وتُفتح أبواب المحاسبة، سيظل العالم يطلب من غزة أن تكفّ عن الحداد وتستعدّ للإعمار المشروط، فيما هي ما زالت تبحث عن أبسط حقوقها: أن تدفن موتاها بكرامة، وأن تبني مستقبلها بيدها، وأن يُعامل مواطنوها كبشرٍ يستحقون الحياة لا كملفٍّ يُدار عن بُعد.

العدالة ليست ترفاً لغوياً، بل حقّ غزة في أن تُشفى، وحق الفلسطيني في أن يعيش بلا إذلال، وحقّ الإنسان في ألا يُمحى من التاريخ. وحتى يتحقق ذلك، سيبقى هذا العالم ناقص العدالة، ناقص الإنسانية، ناقص الضمير.

إقرأوا أيضاً:

17.10.2025
زمن القراءة: 4 minutes
|

اشترك بنشرتنا البريدية