في معظم الصيدليات المحلية خصوصاً تلك المنتشرة في الضواحي والقرى النائية، توجد أرفف مخصصة للفوط الصحية المخصصة لنزف الدورة الشهرية، وعلى الرف نفسه، توجد حقائب بلاستيكية سوداء، أو جوار الكاشير، بعد الحساب يدفع بعلبة الفوط الصحية داخل الكيس البلاستيك، ليداري “العيب” الذي ستحمله الفتاة أو السيدة في طريقها الى المنزل وهي تحاول مدارة هذا السرّ المخجل في الكيس الأسود.
هذا الكيس الأسود بات رمزاً تم تعميمه في التعامل مع الدورة الشهرية للنساء بوصفه شأناً يجب التعمية عليه وإبعاده وصاحبته عن المساحات العامة.
منذ أيام، أعلنت اللجنة الأولمبية المصرية سبب استبعاد الملاكِمة يمنى عياد من أولمبياد باريس 2024، فبسبب زيادة وزن اللاعبة 700 غرام عن الوزن القانوني للمنافسة، حُرمت من المشاركة في البطولة، وقال البيان إن زيادة وزن اللاعبة بسبب “تغيرات فيزيولوجية وهرمونية مفهومة لكل السيدات والآنسات والأطباء، ونتحفظ على ذكر التفاصيل طبقاً لأعرافنا وتقاليدنا المصرية، وحفاظاً على حقوق اللاعبة ونفسيتها”.
أشار البيان بشكل غير مباشر إلى الدورة الشهرية وكأنما يهدف للقول إن الحديث عن الدورة الشهرية بشكل واضح أمر معيب وتسميتها باسمها لا تليق.

مؤسسة “إدراك للتنمية والمساواة” قالت في بيان، إن صياغة اللجنة الأولمبية لأسباب الاستبعاد وتصريح رئيس البعثة المصرية “يعزز وصم الدورة الشهرية في المجتمع، ويجعل الإفصاح عنها مخالفاً للعادات والتقاليد، وهي العادات والتقاليد نفسها التي تزيد معاناة النساء والفتيات الشهرية، وتساعد على المزيد من العزلة في المجال العام”.
وعلى الرغم من منطقية تساؤلات الحملة، لكنها لن تجد إجابات منطقية لأمر طبيعي، فلماذا لا يزال الكلام عن الدورة الشهرية أمراً معيباً و”فضيحة” يجب مداراتها؟
على أرض الواقع وبين النساء الفتيات في المدن والقرى وبين الحارات الشعبية القديمة وبين ساكنات الكومباوندات، فالدورة الشهرية لا تزال أمراً يثير الخجل، ولا ينبغي الإعلان عنها أمام الرجال، كما أن لها مسميات عدة تختلف من جيل الى آخر ومن مستوى اجتماعي الى آخر، وهي تسميات تبدو كشفرة سرية بين الفتيات والنساء حتى لا يُشاع السرّ/”الفضيحة” علناً.
فمثلاً الحاجة أم السعد وهي امرأة ستينية وأم لأربع فتيات وولد وجدة لسبعة أحفاد، تعيش في إحدى قرى الدلتا في مصر، تشير الى المرأة في فترة الدورة الشهرية بـ “عليها ضهرها”، هكذا تشير الأمهات الريفيات إلى فترة النزف والتعب الشهري، فتربطها بديهياً بالآلام التي تصاحبها في منطقة فقرات الحوض والظهر.
أما السيدة فتحية التي تسكن حي الهرم في منطقة الجيزة منذ السبعينات، ولكنها ذات أصول ريفية، فهي كانت تُطلق على فترة الدورة الشهرية اسم “إكس”، وهو الإشارة المتداولة الى علامة خطأ التي تماثل شكلاً حرف “إكس” في اللغة الإنكليزية، وهو ما يعني ربط الفتاة التي جاءتها دورتها الطبيعية بحظرها وتأشيرها بعلامة خطأ حتى تنتهي هذه الفترة.

أما الآن، فقد تناست السيدة فتحية هذه الكلمة وأصبحت تقول بدلاً عنها “بيريوت” بتخفيف الحرف الأخير من دال إلى تاء في إشارة إلى كلمة دورة بالإنكليزية “بيريود”، التي اكتسبتها من الجيل الجديد من الفتيات، الذي اعتمد هذه الكلمة بشكل واضح من دون رموز أو شفرة، وربما كثيرات منهن لم يعدن يخجلن من الحديث عن الـ”بيريود” أمام أفراد الأسرة والأصدقاء المقربين.
من هذا الجيل الجديد الفنانة الشابة ياسمينا العبد، التي قدمت دوراً في المسلسل الرمضاني “مسار إجباري”، ودوراً آخر في المسلسل الأميركي IN BLOOM، والتي شاركت في حلقة من حلقاته بعنوان “Period”، بدور مراهقة تطلق حملة مطالبة بتوزيع فوط صحية مجانية على الفتيات.
لم يقتصر دورها فقط في المسلسل، بل في حوار لها مع موقع “في الفن” لفتت ياسمينا النظر إلى نقطة مهمة، وهي أن التوعية على النظافة والحرص على صحة المرأة هما خطوات مهمة لحماية الفتيات من الأمراض، بخاصة في مناطق الحروب مثل السودان وقطاع غزة، بسبب ما تعانيه النساء والفتيات من نقص أدوية وفوط صحية، وأيضاً صعوبة الوصول إلى الماء في المخيمات، التي قد تؤدي إلى الوفاة، بسبب الإصابة بالتسمم الناتج بدوره من نقص المستلزمات والماء.
هذا ما أكدته تفاصيل الفيلم القصير، الذي قالت عنه ياسمينا: “أهم حاجة الناس تكون فاهمة إن الست لو معندهاش الأدوات الصح، مش بس ممكن يجيلها أمراض، دي ممكن كمان تموت وبتحصل كتير في حالة الحروب زي ما بيحصل في غزة دلوقتي”.
ياسمينا التي تعبّر عن شريحة كبيرة من جيل ما تحت العشرين، تقول بشكل واضح مثل ما تقول بقية الفتيات في عمرها: “ليس عيباً أن نتحدث عن الدورة الشهرية، وكنت مدركة لما أقدمه في الحلقة، فهذه قضية تهم أي بنت في العالم، وليست لها علاقة بالثقافة… وأدرك أن في منطقتنا العربية لا نتحدث عن فقر الدورة الشهرية ولا نقص المستلزمات، ودائماً نسمع كلمة عيب، كما أن المنتجات بتتلف في ألف كيس أسود ونحن نشتريه من الصيدلية، على الرغم من أنه أمر طبيعي، إحنا اتخلقنا كدة”.
وفي الصيدليات وبين مستلزمات الدورة الشهرية، سنجد أن الحياء لا يزال يُصاحب عملية البيع والشراء، بتخصيص أكياس سوداء لتخفي علامات عبوات الفوط الصحية الملونة، وأيضاً ببحث بعض الفتيات والنساء فور دخولهن المكان عن فتاة عاملة سواء طبيبة بالصيدلية أو بائعة، ليستطعن الطلب من دون حرج.
يقول الطبيب والصيدلي مايكل لطيف في حديث مع “درج”: “كثيرات من الفتيات والسيدات يفضلن التعامل مع طبيبة أو بائعة عند شراء مسكنات الألم أو الفوط الصحية، ولكن ثمة أخريات لا يخجلن أن يطلبن مسكناً أو عبوة فوط صحية”.

كذلك، ثمة كثيرات من السيدات لا يزلن يخجلن من الدورة الشهرية، بخاصة في شهر رمضان، إذ يجدن أنفسهن مجبرات على تناول الطعام أو على الأقل شرب الماء، في الخفاء بعيداً عن أعين الزملاء، وحتى في منازلهن يختفين بعيداً عن زوج أو ابن أو أخ، لذا يلجأن الى تناول حبوب منع الحمل.
يشرح لطيف أنه يلاحظ “زيادة الطلب على أدوية منع حدوث نزف الدورة الشهرية قبل أيام من قدوم شهر رمضان، وعندما ألفت نظر السائلة إلى أن تناول هذه الأدوية من دون الرجوع إلى طبيب نساء متخصص مُضر، ومن الممكن أن يُسبب تغيرات في الهرمونات، تستدعي علاجاً في ما بعد… لا أجد تراجعاً من الفتاة أو السيدة”.
وحين سألنا هانم لاشين، طبيبة أمراض نساء وتوليد في إحدى الوحدات الصحية التابعة لوزارة الصحة، عن تأثير هذه الحبوب على معدل الهرمونات، تجيب: “حين تطلب مني سيدة أو فتاة أن أكتب لها نوع حبوب لتأخذها في شهر رمضان، لا أتناقش معها، فمن خبرتي، هي لن تتراجع مهما أخبرتها، ومن ناحية أخرى معدل الهرمونات لن يتغير في فترة قصيرة من تناول هذه الحبوب، ولكن ما سيتغير هو الحالة المزاجية والتقلبات العاطفية والنفسية التي ستحدث لجسد يحتجز بطانة الرحم بداخله لمدة شهرين… إذ تكون طبيعة الجسد كالحامل في أولى شهورها”.
تناول حبوب منع الحمل هو حل لـ”مشكلة” أوجدها المجتمع، بينما هي ليست بمشكلة حقيقية، فحل هذه المشكلة ليس بفتوى من شيخ، ولا بنصيحة من رجل في العائلة للفتاة.
أما في السينما والدراما، فيبدو أن الأمور تطورت في السنوات الأخيرة، فبدءاً من أفلام الستينات، التي كانت فيها الزوجة تهمس في أذن زوجها بأنها لن تستطيع ممارسة الجنس معه بسبب “وشوشوشوش”، على الرغم من أنهما وحدهما في المنزل، كما يبدو في المشهد، فلماذا تخجل من قولها بصوت عالٍ وتستعيض عن ذلك بالهمس؟
ولكن يبدو أن هذه تصريفة من المخرجين حينها، ليفهم المشاهد من دون أن يسمع، أن الزوجة في فترة دورتها الشهرية.
ومروراً بفيلم “أسرار البنات” 2001، الذي كان من أوائل الأفلام التي ظهرت فيه فوطة صحية على الشاشة السينمائية، فوطة تناولها أم لابنتها، من دون أي كلام ولا نصيحة ولا معلومات عن الصحة والنظافة وعدد الأيام التي تتوقع الفتاة أن يستمر النزف، هذه التفاصيل التي جاءت في الفيلم والتي صدمت شريحة من المشاهدين، هي واقع تعيشه كل أسرة، واقع الخجل والصمت وفقر المعلومات والألم المتكرر.
هذا الخجل الذي كان يحاصر الأمهات بدأ بالتبدد، حتى إن جيلا من الفتيات والنساء بدأن في إخبار بناتهن عن الدورة الشهرية، قبل أن تأتيهن، تفادياً لحالات الخوف المصاحبة لرؤية الفتاة الدماء، وهي لا تزال في طور التحوّل من طفلة إلى شابة.
“دورة شهرية… عندك إيه يعني؟” هو فيلم من إخراج رشا الديب، صحافية وكاتبة أفلام مستقلة، وتمثيل نيفين سراج الدين ومحمد جابر. يدور الفيلم حول فتاة تعاني آلام دورتها الشهرية، بينما يصر مديرها على حضورها إلى مقر العمل، حتى بعدما أعلمته بتعبها الشديد، ولم تستطع الإجابة عن سؤاله: “عندك إيه يعني؟”، فتضطر للذهاب إلى العمل.
وعلى الرغم من حضورها إلى المكتب، والأوراق بين يديها تحاول إتمام قدر ما يمكن من المهام، يصر مجدداً على استفزازها باللوم وتكرار سؤاله مُستهزِئاً وكأن الإجابة لديه مسبقة، ليفاجئه ردها ويجبره على الصمت…
هذا الفيلم يثير نقطة مهمة، وهي الحق في الحصول على يوم إجازة مدفوع من العمل كل شهر، لأن الكثير من الفتيات والسيدات يعانين من آلام شديدة قبل يوم من الدورة الشهرية، وفي اليوم الأول تحديداً.
عالمياً، وفي آذار/ مارس 2019، وفي حفل الأوسكار بدورته الـ91، فاز فيلمPeriod End of Sentence بجائزة أفضل فيلم وثائقي قصير، وهو من إخراج رايكة زهتابشي. يحكي الفيلم عن مجموعة من النساء في الهند يواجهن النظرة السلبية من المجتمع للدورة الشهرية، ويقمن بإنشاء مصنع منزلي لصناعة الفوط الصحية.
الفيلم متاح للمشاهدة على منصة نتفليكس، تقول مخرجته: “من كان ليصدق أن يفوز فيلم عن الدورة الشهرية بالأوسكار؟”.
إقرأوا أيضاً: