fbpx
ساهموا في دعم الإعلام المستقل و الجريء!
ادعموا درج

في معنى أن تكون كردياً

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

ما معنى أن أكون كردياً؟ شخصياً، لا أرى أيّ معنى لهذه الجملة. وُلدتُ كردياً، الكردية جزء من هوّيتي، كما العربية، كما الألمانية، كما كلّ الثقافات التي تعرّضت لها مذ وُلدت، أنا ابن هذا الكون الفسيح كلّه، ولا أقبل أن أُؤطر في قومية أو عرق أو دين. 

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

كتب الصديق دارا العبدالله مقالاً بديعاً عن الكرد في سوريا تحت عنوان “مقاومة النقص“. دفعني هذا المقال إلى التفكير في معنى أن أكون كردياً. في هذا النصّ أحاول أن أُجيب عن هذا التساؤل، مبتعداً عن المجتمع الكردي وتفاعله مع سوريا، غارقاً في التجربة الشخصية والعائلية.

ولدتُ في عائلة تستنشق السياسة مع الهواء، أمّي شيوعية عراقية عربية هاربة من موت محتّم تحت حكم بعث صدّام حسين، هربت في اللحظات الأخيرة قبل الاعتقال في نهاية السبعينيات، اعتُقل أخوها وقُتل في بداية الثمانينيات، وهي لم ترَ العراق إلى أن سقط نظام صدّام حسين. ساعدها الحزب الشيوعي العراقي بالوصول إلى إيران عن طريق كردستان، وساعدتها “منظّمة التحرير الفلسطينية” بالوصول إلى دمشق، ومن هناك، عن طريق الحزب الشيوعي العراقي، حصلت على منحة دراسية في الاتّحاد السوفييتي، والتقت والدي هناك، وعادت معه إلى دمشق لتقضي حياتها في سوريا، حتى حان وقت تهجير السوريين على يد نظام الأسد، فوصلت مع زوجها لاجئة إلى فرنسا.

والدي هو الابن الأكبر من بين ثمانية أولاد للسياسي الكردي ملّا محمد نيّو، كان جدّي – الذي كنّا نناديه أبي- من أوائل السياسيين الحزبيين الكرد في سوريا، انتسب إلى أوّل حزب سياسي كردي سوري في نهاية الخمسينيات، وصار عضواً في اللجنة المركزية لاحقاً، كما انضمّ إلى ثورة مصطفى البرزاني في كردستان العراق في الستينيات (كان في بيتنا صورة لجدّي مع جلال طالباني – الذي سيصير رئيس العراق بعد سقوط صدّام حسين- وهما محاطان بالثلج في جبال كردستان أثناء الثورة الكردية في الستينيات) كان جدّي ملاحقاً في سوريا منذ عهد الوحدة مع مصر وحكم جمال عبد الناصر، دخل السجن مرّات كثيرة، إلى أن اعتزل العمل السياسي المباشر في الثمانينيات، ووُضع تحت الإقامة الجبرية حتى بداية حكم بشار الأسد في بداية الألفينيات، حتى أثناء حكم الأسد الابن تمّ اعتقاله في فرع الهجرة والجوازات، حين أراد السفر لرؤية أولاده في أوروبا، وكان قد تجاوز السبعين من العمر، وحين مات سنة ٢٠٠٧ أُقيمت جنازته في القامشلي تحت إجراءات أمنية مشدّدة. 

أبي كان ماركسياً، ويقول إنه ما يزال كذلك، كانت له بعض النشاطات السياسية أثناء دراسته في جامعة حلب، ومن ثمّ في الاتّحاد السوفييتي، منذ بداية التسعينيات عاش في سوريا، بين دمشق والقامشلي والدرباسية والحسكة، بعد أن أتمّ دراسة الطب، مُنع في كثير من المرات من العمل وممارسة المهنة. يذكر أخي أن رجل أمن كان يقف أمام عيادته في بلدة الدرباسية، ويمنع المرضى من الدخول لمراجعة الطبيب. أذكر أنه في دمشق، في بداية الألفينيات لاقى صعوبة في إيجاد عمل، وأذكر بالتحديد ورقة أُعطيت له من أحد المستشفيات تقول بصريح العبارة إنه غير مرغوب فيه أمنياً. 

عشنا بالقرب من عائلة جدّي (أبو والدي) أعمامي وعمّاتي كانوا مثل أبي وأمّي، كلّهم شاركوا في تربيتي، ومعظمهم كان مشغولاً سياسياً إلى حدّ ما. أحد أعمامي هرب من سوريا في بداية التسعينيات بسبب الملاحقات الأمنية، لأنه كان عضواً ناشطاً في حزب كردي ممنوع. أخي الأكبر هرب من سوريا في العام ٢٠٠٤ بسبب الملاحقات الأمنية. استُدعيت أنا للتحقيق في فرع الأمن في العام ٢٠١٠، وبعد الثورة هربت خارج البلاد بسبب الملاحقات الأمنية. لم يستطع أخي الآخر الحصول على عمل خلال سنوات ٢٠٠٨ – ٢٠١١، بعد تخرّجه في كليّة الاقتصاد لعدم حصوله على الموافقة الأمنية. عمي الآخر استُدعي للتحقيق مرّات عديدة بسبب نشاطه في الترجمة والكتابة.

تحت هذا الثقل السياسي وُلدت وترعرعت، وتشكّل وعيي الاجتماعي والثقافي والسياسي.

وُلدتُ في دمشق، لا ذكريات لي مع والدي في طفولتي، لا أذكره. بُعيد ولادتي كان عليه أن يخدم في الجيش السوري، أرسلوه إلى أحد مستشفيات لبنان حين كان الجيش السوري يحتلّ لبنان، وكان يعود لفترات قصيرة إلى البيت، كنّا نعيش في بيت جدّي في دمشق آنذاك. في الرابعة من عمري، وبعد أن أنهى والدي الخدمة العسكرية الإلزامية، ذهبنا إلى القامشلي، “لنكون بين أهلنا الكرد”، حسب والدي.

عشنا في القامشلي، لكن والدي لم يستطع العمل فيها بسبب الصعوبات الأمنية، ففتح عيادة في الدرباسية، لم يستطع العمل كذلك، فأغلقها بعد سنة أو اثنتين، ثمّ انتقل إلى الحسكة وعمل في أحد المستشفيات، كان يزورنا مرّة في الأسبوع، عشنا في تلك السنوات في فقر مدقع. 

حين بلغت العاشرة عدنا إلى دمشق، وبقينا فيها حتى تهجّرنا مع من تهجّر من السوريين. 

ما تعلّمته من كوني كردياً، ومن نشأتي في عائلة كردية سياسية، أن ما يجمعنا كبشر أكثر بكثير ممّا يفرّقنا، ولا معنى لقومية، أو دين، أو طائفة، أو دولة، أو حدود تفرّق بين البشر، وأننا سواسية في الولادة والموت.

لم تكن الكردية شيئاً غريباً علينا، كنّا كرداً، هكذا فقط. نحكي الكردية في البيت، نسمع الأغنيات الكردية، نرقص رقصات كردية، نلبس ثياباً كردية في المناسبات – باستثناء جدّتي التي كانت ترتدي الثياب الكردية طوال الوقت- نحكي الحكايات الكردية، ونستنشق الهواء الكردي.

وُلد جدّي في قرية خالد المجاورة لمدينة عامودا في الجزيرة السورية. زوجته؛ جدّتي، وكانت ابنة خالته، وُلدت في قرية الصالحية، بالقرب من الدرباسية، جزء من عائلتها يعيش في قرية ترَيْ، وجزء آخر في بلدة قزل تَبه، الواقعتين في جنوب تركيا اليوم.

حين وُلد جدّي سنة ١٩٣٠، لم تكن حدود سوريا تُشبه حدودها اليوم، ولم تكن مغلقة مثلما هي اليوم، كان الناس يسافرون بين طرفي الحدود كيفما أرادوا، خطّ سكّة القطار، خطّ برلين بغداد، صار الحدّ الفاصل بين الدولتين، سوريا وتركيا، والعائلات كانت تعيش على طرفي الخطّين، وصار الناس يقولون فوق الخطّ، في إشارة إلى العائلات الكردية التي تعيش في الدولة التركية، وتحت الخطّ، في إشارة إلى أولئك الذين يعيشون في الدولة السورية. 

عند تنفيذ المشاريع الفاشية العربية والتركية، وعند إغلاق الحدود، تفرّقت العائلات الكردية، هكذا لم تستطع جدّتي أن تتعرّف على عائلتها حتى بداية الألفينيات، بعد توقيع اتفاقية ما بين تركيا وسوريا سُمح للعائلات بزيارة بعضها بعضاً، أتذكّر خالة جدّتي تزورنا في دمشق، وجدّتي تزور أبناء عمومتها وأخوالها في تركيا.

في القامشلي فتحت عيني على الدنيا، ورأيت كم نحن (الكرد) مقموعون، في المدرسة مثلاً لم يكن يُسمح لنا بالتحدّث بالكردية، رغم أن كثيراً من الأطفال لا يعرف كلمة عربية واحدة، كانوا يتلقّون الضرب في المدرسة التي كان المدير والأساتذة والعاملون فيها كرداً. 

كنّا نخبّئ صحف الأحزاب الكردية خلف الكتب العربية، ونحرقها فوق الأسطح بعد أن ننتهي من قراءتها، كنّا نخبّئ الكتب الكردية القليلة خلف الكتب العربية، وحين يراها أحد أصدقائنا العرب، نكذب بشيء ما، وقد نقول إنها كتب روسية.

أتذكّر كتابين بالتحديد، أحدهما يُعلّم الكلمات باللغة الكردية، فيه أسماء أشياء مثل سيّارة وطائرة وشوكة، والآخر كان يحتوي كلمات أغنيات الفنان محمد شيخو، الملك الكردي غير المتوّج. 

في الشارع وأثناء اللعب، كنّا نحكي مع الأطفال الآخرين بالكردية، كان هذا أصل الأشياء، حتى أصدقاؤنا العرب كانوا يحكون معنا بالكردية، أمّي العربية كانت تحكي الكردية مع الجيران والأهل. كانت الكردية هي الأصل والعربية هي اللغة الثانية، ثمّ صارت العربية هي اللغة الأفضل، لغة القراءة والكتابة والتفكير، والكردية لغة الأشياء الشخصية الخاصة الحميمية. 

كبرنا مع قصص ظلم الكرد، مع حكايات ملاحقات جدّي وسجنه وتعذيبه، مع مصادرة الأراضي الكردية وإنشاء الحزام العربي وتجريد الكرد من جنسيتهم، مع أولاد عمّتي الذين لا يستطيعون إكمال تعليمهم لأنهم مكتومو القيد، مع تسمية القرى الكردية بأسماء عربية، مع الشوفينية العربية والتركية التي تقتل وتعتقل الكرد، مع حكايات مقاومة الظلم، مع قصص الثورات السابقة والحالية.

مرّة أخرى أُعيد جملة سابقة: تحت هذا الثقل السياسي وُلدت وترعرعت، وتشكّل وعيي الاجتماعي والثقافي والسياسي.

تحت هذا الثقل السياسي أفكّر وأتفاعل مع قضايا المنطقة، أو بالأخصّ مع قضايا سوريا، لكن أحاول بكلّ جهد تنحية انتمائي الكردي، أفكّر في عدالة القضية الكردية والمظلومية الكردية، مثلما أفكّر في قضايا شعوب أخرى. عاطفياً، بالتأكيد القضية الكردية تعني ظلماً تاريخياً واقعاً على أهلي، ونضالاً مستمراً من مئات السنوات، من أجل الحصول على الحقوق الأساسية، لكن سياسياً وحياتياً، لا أرفع ظلماً فوق ظلم، بل على العكس، فإن الحكايات والظلم الذي كبرت معهما، خلقا عندي حساسيّة مرتفعة نحو قضايا شعوب أخرى مظلومة.

من ناحية أخرى، أُواجه تهماً دائمة من أفراد من عائلتي أو من أصدقاء كرد، بأنني ابتعد عن القضية الكردية، بخاصّة أنني حفيد سياسي كردي كبير، وأنني لا أهتمّ بـ”قوميتي” بالشكل الذي أهتمّ فيه بـ”العرب”، وذلك لأنني أتفاعل مع الكثير من القضايا العربية، مثل ما يحدث في مصر، أو بسبب كتابتي المستمرّة عن اليمن، وغيرها من القضايا “العربية”. 

من الصعب على من وُلد في عائلة مثل عائلتي أن يقول إنه لا يؤمن بالدول القومية، ومن الصعب ألّا يُقابل تهماً بالتخلّي عن هوّيته، إن قال إن الدول القائمة على أساس قومي هي دول فاشلة بالضرورة، ويكاد يكون مستحيلاً أن يستطيع القول إن كردستان بالنسبة إليه، هي شيء آخر غير الدولة الكردية الحلم. 

ماذا يعني أن أكون كرديا؟ ما الذي تعنيه كردستان بالنسبة لي؟  لكن هذا السؤال ينطبق على الجميع: ما معنى أن تكون ألمانياً؟ ما معنى أن تكون برازيلياً؟ ما معنى أن تكون هندياً؟ من ناحية يبدو سؤالاً بلا معنى، ومن ناحية أخرى يبدو جبلاً يحمله المرء معه أينما حلّ وارتحل، فأنت لستَ أنت، أنت لغتك وثقافتك وجغرافيتك وتاريخك، وكلّ شيء يحمّلونك إيّاه عند الولادة.

لكن، كما قلت في البداية، إن هذا النصّ، نصّ ذاتي، لذا أعود وأسأل نفسي عن معنى كوني كردياً؟ هل الاستماع إلى أغنيات جوان حاجو ومحمد شيخو ورشيد صوفي، تعني شيئاً أكثر من الاستماع إلى بوب مارلي وتشايكوفسكي وصباح فخري وإديث بياف؟ هل الحديث مع ابنتي (أمها- شريكتي ألمانية وابنتنا وُلدت في برلين والألمانية هي لغتها الأم) بالكردية وإخبارها قصصاً عن عائلة والدها، تعني أكثر من أن أحكي معها بالألمانية؟ 

وما الذي تعنيه كردستان؟ هل هي دولة تشبه دول المنطقة بفسادها؟ أم دولة دكتاتورية مثل كلّ دول الشرق؟ لماذا أصلاً نفترض شيئاً لم يحدث بعد؟ حلم كردستان الذي رضعناه مع حليب أمهاتنا، هل يعني لي شيئاً؟ 

قبل سنوات في جلسة في البرلمان التركي، وعندما نطق النائب الكردي أوصمان بايدمير كلمة كردستان، سخرت منه رئيسة المجلس وسألته: أين تقع كردستان؟ فوضع النائب الكردي يده على قلبه قائلاً: هنا تقع كردستان… هنا تقع كردستان. 

هذه قصّة أحبّها، وتعبّر عمّا يخالج نفسي. كردستان هي مكان في القلب، لا جغرافيا ضيّقة تُحيط بها حدود مصطنعة تفرّق بين البشر. النائب بايدمير هرب من تركيا لاحقاً، بسبب الملاحقات الأمنية الأردوغانية، لكنه حمل كردستانه معه أينما حلّ وارتحل، مثلي. أحمل كردستان هذه في قلبي، كردستان التي هي مرادفة لمقاومة الظلم والطغيان، المرادفة للرقص في الطبيعة، المرادفة للحكايات. أعرف أن هذا الكلام يُثير الكثير من التحفّظات، فالناس يقولون إن بناء الدول وأخذ الحقوق لا يتمّ بهذه الرومنسية، فأقول لهم: لكم كردستانكم ولي كردستاني.

ما معنى أن أكون كردياً؟ شخصياً، لا أرى أيّ معنى لهذه الجملة. وُلدتُ كردياً، الكردية جزء من هوّيتي، كما العربية، كما الألمانية، كما كلّ الثقافات التي تعرّضت لها مذ وُلدت، أنا ابن هذا الكون الفسيح كلّه، ولا أقبل أن أُؤطر في قومية أو عرق أو دين. 

في نظرتي “المثالية” إلى الحياة (وقد يقول المرء إنها نظرة غبيّة خاصّة في فترات زمنية مثل التي نعيشها، حيث يقتل الناسُ الناسَ بناء على هوّياتهم القومية والدينية) أرى العالم مكاناً واحداً فيه ثقافات محلية مختلفة، لا تطغى فيه ثقافة على أخرى، لا حدود تفرّق بينهم، لا دول ولا ممالك، عالم واحد حرّ كريم، لا اختلاف فيه بيني وبين آخر يعيش في منغوليا أو في توغو أو في النرويج، كلّنا أبناء هذه الأرض وفي عروقنا دماء حمراء. 

ما تعلّمته من كوني كردياً، ومن نشأتي في عائلة كردية سياسية، أن ما يجمعنا كبشر أكثر بكثير ممّا يفرّقنا، ولا معنى لقومية، أو دين، أو طائفة، أو دولة، أو حدود تفرّق بين البشر، وأننا سواسية في الولادة والموت، وأن ما تفرضه علينا الحياة من قوانين وامتيازات وحقوق وواجبات، هي أشياء متغيّرة بتغيّر الزمن، وليست من أصل الحياة.

04.04.2025
زمن القراءة: 8 minutes

ما معنى أن أكون كردياً؟ شخصياً، لا أرى أيّ معنى لهذه الجملة. وُلدتُ كردياً، الكردية جزء من هوّيتي، كما العربية، كما الألمانية، كما كلّ الثقافات التي تعرّضت لها مذ وُلدت، أنا ابن هذا الكون الفسيح كلّه، ولا أقبل أن أُؤطر في قومية أو عرق أو دين. 

كتب الصديق دارا العبدالله مقالاً بديعاً عن الكرد في سوريا تحت عنوان “مقاومة النقص“. دفعني هذا المقال إلى التفكير في معنى أن أكون كردياً. في هذا النصّ أحاول أن أُجيب عن هذا التساؤل، مبتعداً عن المجتمع الكردي وتفاعله مع سوريا، غارقاً في التجربة الشخصية والعائلية.

ولدتُ في عائلة تستنشق السياسة مع الهواء، أمّي شيوعية عراقية عربية هاربة من موت محتّم تحت حكم بعث صدّام حسين، هربت في اللحظات الأخيرة قبل الاعتقال في نهاية السبعينيات، اعتُقل أخوها وقُتل في بداية الثمانينيات، وهي لم ترَ العراق إلى أن سقط نظام صدّام حسين. ساعدها الحزب الشيوعي العراقي بالوصول إلى إيران عن طريق كردستان، وساعدتها “منظّمة التحرير الفلسطينية” بالوصول إلى دمشق، ومن هناك، عن طريق الحزب الشيوعي العراقي، حصلت على منحة دراسية في الاتّحاد السوفييتي، والتقت والدي هناك، وعادت معه إلى دمشق لتقضي حياتها في سوريا، حتى حان وقت تهجير السوريين على يد نظام الأسد، فوصلت مع زوجها لاجئة إلى فرنسا.

والدي هو الابن الأكبر من بين ثمانية أولاد للسياسي الكردي ملّا محمد نيّو، كان جدّي – الذي كنّا نناديه أبي- من أوائل السياسيين الحزبيين الكرد في سوريا، انتسب إلى أوّل حزب سياسي كردي سوري في نهاية الخمسينيات، وصار عضواً في اللجنة المركزية لاحقاً، كما انضمّ إلى ثورة مصطفى البرزاني في كردستان العراق في الستينيات (كان في بيتنا صورة لجدّي مع جلال طالباني – الذي سيصير رئيس العراق بعد سقوط صدّام حسين- وهما محاطان بالثلج في جبال كردستان أثناء الثورة الكردية في الستينيات) كان جدّي ملاحقاً في سوريا منذ عهد الوحدة مع مصر وحكم جمال عبد الناصر، دخل السجن مرّات كثيرة، إلى أن اعتزل العمل السياسي المباشر في الثمانينيات، ووُضع تحت الإقامة الجبرية حتى بداية حكم بشار الأسد في بداية الألفينيات، حتى أثناء حكم الأسد الابن تمّ اعتقاله في فرع الهجرة والجوازات، حين أراد السفر لرؤية أولاده في أوروبا، وكان قد تجاوز السبعين من العمر، وحين مات سنة ٢٠٠٧ أُقيمت جنازته في القامشلي تحت إجراءات أمنية مشدّدة. 

أبي كان ماركسياً، ويقول إنه ما يزال كذلك، كانت له بعض النشاطات السياسية أثناء دراسته في جامعة حلب، ومن ثمّ في الاتّحاد السوفييتي، منذ بداية التسعينيات عاش في سوريا، بين دمشق والقامشلي والدرباسية والحسكة، بعد أن أتمّ دراسة الطب، مُنع في كثير من المرات من العمل وممارسة المهنة. يذكر أخي أن رجل أمن كان يقف أمام عيادته في بلدة الدرباسية، ويمنع المرضى من الدخول لمراجعة الطبيب. أذكر أنه في دمشق، في بداية الألفينيات لاقى صعوبة في إيجاد عمل، وأذكر بالتحديد ورقة أُعطيت له من أحد المستشفيات تقول بصريح العبارة إنه غير مرغوب فيه أمنياً. 

عشنا بالقرب من عائلة جدّي (أبو والدي) أعمامي وعمّاتي كانوا مثل أبي وأمّي، كلّهم شاركوا في تربيتي، ومعظمهم كان مشغولاً سياسياً إلى حدّ ما. أحد أعمامي هرب من سوريا في بداية التسعينيات بسبب الملاحقات الأمنية، لأنه كان عضواً ناشطاً في حزب كردي ممنوع. أخي الأكبر هرب من سوريا في العام ٢٠٠٤ بسبب الملاحقات الأمنية. استُدعيت أنا للتحقيق في فرع الأمن في العام ٢٠١٠، وبعد الثورة هربت خارج البلاد بسبب الملاحقات الأمنية. لم يستطع أخي الآخر الحصول على عمل خلال سنوات ٢٠٠٨ – ٢٠١١، بعد تخرّجه في كليّة الاقتصاد لعدم حصوله على الموافقة الأمنية. عمي الآخر استُدعي للتحقيق مرّات عديدة بسبب نشاطه في الترجمة والكتابة.

تحت هذا الثقل السياسي وُلدت وترعرعت، وتشكّل وعيي الاجتماعي والثقافي والسياسي.

وُلدتُ في دمشق، لا ذكريات لي مع والدي في طفولتي، لا أذكره. بُعيد ولادتي كان عليه أن يخدم في الجيش السوري، أرسلوه إلى أحد مستشفيات لبنان حين كان الجيش السوري يحتلّ لبنان، وكان يعود لفترات قصيرة إلى البيت، كنّا نعيش في بيت جدّي في دمشق آنذاك. في الرابعة من عمري، وبعد أن أنهى والدي الخدمة العسكرية الإلزامية، ذهبنا إلى القامشلي، “لنكون بين أهلنا الكرد”، حسب والدي.

عشنا في القامشلي، لكن والدي لم يستطع العمل فيها بسبب الصعوبات الأمنية، ففتح عيادة في الدرباسية، لم يستطع العمل كذلك، فأغلقها بعد سنة أو اثنتين، ثمّ انتقل إلى الحسكة وعمل في أحد المستشفيات، كان يزورنا مرّة في الأسبوع، عشنا في تلك السنوات في فقر مدقع. 

حين بلغت العاشرة عدنا إلى دمشق، وبقينا فيها حتى تهجّرنا مع من تهجّر من السوريين. 

ما تعلّمته من كوني كردياً، ومن نشأتي في عائلة كردية سياسية، أن ما يجمعنا كبشر أكثر بكثير ممّا يفرّقنا، ولا معنى لقومية، أو دين، أو طائفة، أو دولة، أو حدود تفرّق بين البشر، وأننا سواسية في الولادة والموت.

لم تكن الكردية شيئاً غريباً علينا، كنّا كرداً، هكذا فقط. نحكي الكردية في البيت، نسمع الأغنيات الكردية، نرقص رقصات كردية، نلبس ثياباً كردية في المناسبات – باستثناء جدّتي التي كانت ترتدي الثياب الكردية طوال الوقت- نحكي الحكايات الكردية، ونستنشق الهواء الكردي.

وُلد جدّي في قرية خالد المجاورة لمدينة عامودا في الجزيرة السورية. زوجته؛ جدّتي، وكانت ابنة خالته، وُلدت في قرية الصالحية، بالقرب من الدرباسية، جزء من عائلتها يعيش في قرية ترَيْ، وجزء آخر في بلدة قزل تَبه، الواقعتين في جنوب تركيا اليوم.

حين وُلد جدّي سنة ١٩٣٠، لم تكن حدود سوريا تُشبه حدودها اليوم، ولم تكن مغلقة مثلما هي اليوم، كان الناس يسافرون بين طرفي الحدود كيفما أرادوا، خطّ سكّة القطار، خطّ برلين بغداد، صار الحدّ الفاصل بين الدولتين، سوريا وتركيا، والعائلات كانت تعيش على طرفي الخطّين، وصار الناس يقولون فوق الخطّ، في إشارة إلى العائلات الكردية التي تعيش في الدولة التركية، وتحت الخطّ، في إشارة إلى أولئك الذين يعيشون في الدولة السورية. 

عند تنفيذ المشاريع الفاشية العربية والتركية، وعند إغلاق الحدود، تفرّقت العائلات الكردية، هكذا لم تستطع جدّتي أن تتعرّف على عائلتها حتى بداية الألفينيات، بعد توقيع اتفاقية ما بين تركيا وسوريا سُمح للعائلات بزيارة بعضها بعضاً، أتذكّر خالة جدّتي تزورنا في دمشق، وجدّتي تزور أبناء عمومتها وأخوالها في تركيا.

في القامشلي فتحت عيني على الدنيا، ورأيت كم نحن (الكرد) مقموعون، في المدرسة مثلاً لم يكن يُسمح لنا بالتحدّث بالكردية، رغم أن كثيراً من الأطفال لا يعرف كلمة عربية واحدة، كانوا يتلقّون الضرب في المدرسة التي كان المدير والأساتذة والعاملون فيها كرداً. 

كنّا نخبّئ صحف الأحزاب الكردية خلف الكتب العربية، ونحرقها فوق الأسطح بعد أن ننتهي من قراءتها، كنّا نخبّئ الكتب الكردية القليلة خلف الكتب العربية، وحين يراها أحد أصدقائنا العرب، نكذب بشيء ما، وقد نقول إنها كتب روسية.

أتذكّر كتابين بالتحديد، أحدهما يُعلّم الكلمات باللغة الكردية، فيه أسماء أشياء مثل سيّارة وطائرة وشوكة، والآخر كان يحتوي كلمات أغنيات الفنان محمد شيخو، الملك الكردي غير المتوّج. 

في الشارع وأثناء اللعب، كنّا نحكي مع الأطفال الآخرين بالكردية، كان هذا أصل الأشياء، حتى أصدقاؤنا العرب كانوا يحكون معنا بالكردية، أمّي العربية كانت تحكي الكردية مع الجيران والأهل. كانت الكردية هي الأصل والعربية هي اللغة الثانية، ثمّ صارت العربية هي اللغة الأفضل، لغة القراءة والكتابة والتفكير، والكردية لغة الأشياء الشخصية الخاصة الحميمية. 

كبرنا مع قصص ظلم الكرد، مع حكايات ملاحقات جدّي وسجنه وتعذيبه، مع مصادرة الأراضي الكردية وإنشاء الحزام العربي وتجريد الكرد من جنسيتهم، مع أولاد عمّتي الذين لا يستطيعون إكمال تعليمهم لأنهم مكتومو القيد، مع تسمية القرى الكردية بأسماء عربية، مع الشوفينية العربية والتركية التي تقتل وتعتقل الكرد، مع حكايات مقاومة الظلم، مع قصص الثورات السابقة والحالية.

مرّة أخرى أُعيد جملة سابقة: تحت هذا الثقل السياسي وُلدت وترعرعت، وتشكّل وعيي الاجتماعي والثقافي والسياسي.

تحت هذا الثقل السياسي أفكّر وأتفاعل مع قضايا المنطقة، أو بالأخصّ مع قضايا سوريا، لكن أحاول بكلّ جهد تنحية انتمائي الكردي، أفكّر في عدالة القضية الكردية والمظلومية الكردية، مثلما أفكّر في قضايا شعوب أخرى. عاطفياً، بالتأكيد القضية الكردية تعني ظلماً تاريخياً واقعاً على أهلي، ونضالاً مستمراً من مئات السنوات، من أجل الحصول على الحقوق الأساسية، لكن سياسياً وحياتياً، لا أرفع ظلماً فوق ظلم، بل على العكس، فإن الحكايات والظلم الذي كبرت معهما، خلقا عندي حساسيّة مرتفعة نحو قضايا شعوب أخرى مظلومة.

من ناحية أخرى، أُواجه تهماً دائمة من أفراد من عائلتي أو من أصدقاء كرد، بأنني ابتعد عن القضية الكردية، بخاصّة أنني حفيد سياسي كردي كبير، وأنني لا أهتمّ بـ”قوميتي” بالشكل الذي أهتمّ فيه بـ”العرب”، وذلك لأنني أتفاعل مع الكثير من القضايا العربية، مثل ما يحدث في مصر، أو بسبب كتابتي المستمرّة عن اليمن، وغيرها من القضايا “العربية”. 

من الصعب على من وُلد في عائلة مثل عائلتي أن يقول إنه لا يؤمن بالدول القومية، ومن الصعب ألّا يُقابل تهماً بالتخلّي عن هوّيته، إن قال إن الدول القائمة على أساس قومي هي دول فاشلة بالضرورة، ويكاد يكون مستحيلاً أن يستطيع القول إن كردستان بالنسبة إليه، هي شيء آخر غير الدولة الكردية الحلم. 

ماذا يعني أن أكون كرديا؟ ما الذي تعنيه كردستان بالنسبة لي؟  لكن هذا السؤال ينطبق على الجميع: ما معنى أن تكون ألمانياً؟ ما معنى أن تكون برازيلياً؟ ما معنى أن تكون هندياً؟ من ناحية يبدو سؤالاً بلا معنى، ومن ناحية أخرى يبدو جبلاً يحمله المرء معه أينما حلّ وارتحل، فأنت لستَ أنت، أنت لغتك وثقافتك وجغرافيتك وتاريخك، وكلّ شيء يحمّلونك إيّاه عند الولادة.

لكن، كما قلت في البداية، إن هذا النصّ، نصّ ذاتي، لذا أعود وأسأل نفسي عن معنى كوني كردياً؟ هل الاستماع إلى أغنيات جوان حاجو ومحمد شيخو ورشيد صوفي، تعني شيئاً أكثر من الاستماع إلى بوب مارلي وتشايكوفسكي وصباح فخري وإديث بياف؟ هل الحديث مع ابنتي (أمها- شريكتي ألمانية وابنتنا وُلدت في برلين والألمانية هي لغتها الأم) بالكردية وإخبارها قصصاً عن عائلة والدها، تعني أكثر من أن أحكي معها بالألمانية؟ 

وما الذي تعنيه كردستان؟ هل هي دولة تشبه دول المنطقة بفسادها؟ أم دولة دكتاتورية مثل كلّ دول الشرق؟ لماذا أصلاً نفترض شيئاً لم يحدث بعد؟ حلم كردستان الذي رضعناه مع حليب أمهاتنا، هل يعني لي شيئاً؟ 

قبل سنوات في جلسة في البرلمان التركي، وعندما نطق النائب الكردي أوصمان بايدمير كلمة كردستان، سخرت منه رئيسة المجلس وسألته: أين تقع كردستان؟ فوضع النائب الكردي يده على قلبه قائلاً: هنا تقع كردستان… هنا تقع كردستان. 

هذه قصّة أحبّها، وتعبّر عمّا يخالج نفسي. كردستان هي مكان في القلب، لا جغرافيا ضيّقة تُحيط بها حدود مصطنعة تفرّق بين البشر. النائب بايدمير هرب من تركيا لاحقاً، بسبب الملاحقات الأمنية الأردوغانية، لكنه حمل كردستانه معه أينما حلّ وارتحل، مثلي. أحمل كردستان هذه في قلبي، كردستان التي هي مرادفة لمقاومة الظلم والطغيان، المرادفة للرقص في الطبيعة، المرادفة للحكايات. أعرف أن هذا الكلام يُثير الكثير من التحفّظات، فالناس يقولون إن بناء الدول وأخذ الحقوق لا يتمّ بهذه الرومنسية، فأقول لهم: لكم كردستانكم ولي كردستاني.

ما معنى أن أكون كردياً؟ شخصياً، لا أرى أيّ معنى لهذه الجملة. وُلدتُ كردياً، الكردية جزء من هوّيتي، كما العربية، كما الألمانية، كما كلّ الثقافات التي تعرّضت لها مذ وُلدت، أنا ابن هذا الكون الفسيح كلّه، ولا أقبل أن أُؤطر في قومية أو عرق أو دين. 

في نظرتي “المثالية” إلى الحياة (وقد يقول المرء إنها نظرة غبيّة خاصّة في فترات زمنية مثل التي نعيشها، حيث يقتل الناسُ الناسَ بناء على هوّياتهم القومية والدينية) أرى العالم مكاناً واحداً فيه ثقافات محلية مختلفة، لا تطغى فيه ثقافة على أخرى، لا حدود تفرّق بينهم، لا دول ولا ممالك، عالم واحد حرّ كريم، لا اختلاف فيه بيني وبين آخر يعيش في منغوليا أو في توغو أو في النرويج، كلّنا أبناء هذه الأرض وفي عروقنا دماء حمراء. 

ما تعلّمته من كوني كردياً، ومن نشأتي في عائلة كردية سياسية، أن ما يجمعنا كبشر أكثر بكثير ممّا يفرّقنا، ولا معنى لقومية، أو دين، أو طائفة، أو دولة، أو حدود تفرّق بين البشر، وأننا سواسية في الولادة والموت، وأن ما تفرضه علينا الحياة من قوانين وامتيازات وحقوق وواجبات، هي أشياء متغيّرة بتغيّر الزمن، وليست من أصل الحياة.

04.04.2025
زمن القراءة: 8 minutes
|

اشترك بنشرتنا البريدية