fbpx

“في مكان ما” هكذا تفكّر الطوائف اللبنانيّة بالحرب 

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

الحال أن الطوائف كائنات جماعية خبيثة، لا تفصح عما تشعر به، وما تشهره في السجال هو ليس كل ما تسعى إليه أو تتمناه لنفسها ولغيرها. والمضمر والضمني من مشاعرها قد لا ينسجم مع مصالحها. الحرب، مثلاً، ليست خياراً ومصلحة لأي من الجماعات المذهبية في لبنان. الطوائف  تعي ذلك، لكنها تنقسم على ما هي متفقة عليه!

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

يعكس ما شهدته السوشل ميديا اللبنانية في أعقاب الغارة الإسرائيلية على القنصلية الإيرانية في دمشق يوم الإثنين الفائت، شيئاً مما يشغل “لا وعي” الجماعات الأهلية اللبنانية من اضطراب وانقسام، وهو غير منسجم مع ما يشهده “وعي” هذه الجماعات وما تعتقده أنه مصالحها وطموحاتها، ولا يشبه ما تشهره من مواقف حيال انخراط حزب الله في هذه الحرب. 

فبين الحانق من صمت حزب الله وإيران على الاستهداف ومتطلب للرد، وبين شامت من “ضعف إيران” ومشير إلى “اقتصار استقوائها علينا”، شهدت ساحات السجال المذهبي في اليوم الذي أعقب الغارة صمتاً شيعياً بدا وكأن صاحبه يقول “في فمي ماء”!

والحال أن الطوائف كائنات جماعية خبيثة، لا تفصح عما تشعر به، وما تشهره في السجال هو ليس كل ما تسعى إليه أو تتمناه لنفسها ولغيرها. والمضمر والضمني من مشاعرها قد لا ينسجم مع مصالحها. الحرب، مثلاً، ليست خياراً ومصلحة لأي من الجماعات المذهبية في لبنان. الطوائف  تعي ذلك، لكنها تنقسم على ما هي متفقة عليه!

المواقف المعلنة من الانخراط في الحرب لا تعكس بدقة ما يجول في وجدان الجماعات وفي تطلعاتها لنفسها. الشامتون بحزب الله في أعقاب الغارة، بدوا وكأنهم يطلبون منه أن يرد بأعنف منها، لكنهم في الوقت ذاته يأخذون عليه انخراطه في حرب غير متكافئة من دون استشارة أحد من اللبنانيين!

هذه الفوضى تقول الكثير عما يجوب في “لا وعي” اللبنانيين، أكثر مما تقول عن وعيهم.

مشهد الانقسام حول الحرب واضح، ويمكن استسهال رسمه على النحو التالي: المسيحيون بقواهم السياسية والاجتماعية ضد انخراط حزب الله في الحرب. السنة خائفون أيضاً من حرب تأتي على ما تبقى لهم من حضور، ولا يثقون بحزب الله، لأسباب غير فلسطينية، على رغم ارتباطهم “العاطفي” بالمأساة التي تشهدها غزة. الشيعة “ليسوا ضد الحرب”، خلافاً للـ”سلوغونات” الإعلانية الغامضة التي انتشرت في بيروت وكُتبت عليها عبارة: “الشيعة ضد الحرب”.

إنه التوزيع البديهي للمواقف والمشاعر اللبنانية حيال ما يجري على الحدود الجنوبية، وهو صحيح إلى حد كبير، إلا أن في موازاته الكثير مما لا يقال من الممارسات المذهبية اللبنانية. ففي موازاته “شماتة” في حزب الله تنطوي على تطلّب للانخراط في الحرب، وما يجرّه هذا الانخراط من احتمالات هزيمة الحزب. نتحدث هنا عن المسيحيين. وفي موازاته أيضاً، شعور لدى الجماعة السنية بالحاجة إلى الانخراط في الحرب بوصفها حرب الأكثرية الأهلية في المنطقة. وفي هذه المنطقة الشعورية (أو اللاشعورية)، يفترق الشيعة عن أقرانهم من المذاهب اللبنانية الأخرى، لا بل يفترقون عن أنفسهم، فالحرب هم من سيدفع ثمنها بالدرجة الأولى، وهي قد تأتي على عنصر تفوّقهم المذهبي الراهن، أي حزب الله، وهم إذ يصدون الهجمات الأهلية عن الحزب عبر إبداء حماسة لما تشهده الجبهة في الجنوب من مواجهات، يمارسون تقية حيال مخاوفهم من احتمالاتها، ويتمنون “أن لا يفعلها السيد”. 

هذه الخريطة المختلفة والمتخيّلة لمشاعر اللبنانيين حيال ما يجري على حدودهم الجنوبية، ليست تصديقاً لشعار “الشيعة ضد الحرب”، ذاك أن صاحب هذا الشعار أراده افتراقاً شيعياً عن الحزب، وفي هذا مبالغة لطالما وقع خصوم حزب الله المذهبيون فيها. هم ضد الحرب بمعية الحزب، وهذا الأخير هو علامة تفوّقهم وهيمنتهم التي لا يرغبون في أن يحرموا منها، تماماً مثلما أن طبقة من مشاعر الكثيرين غير الشيعة يرون في الحرب فرصة لتأديب مذهبي موازٍ.

ينطوي هذا العرض على الكثير الكثير من “اليأس الوطني”، وعلى تسرّع وتعميم وتنميط، إلا أن اللبنانيين يعرفون أن قسطاً وافراً من الواقعية يتخلله، وهي واقعية ثقيلة وتُرى، ولا موازيَ سياسيٌّ لها، باستثناء عبارة “في مكان ما”، التي أدخلها وليد جنبلاط إلى قاموس التداول اليومي إلى حد الابتذال، فـ”في مكان ما” هكذا تفكر الطوائف في لبنان.   

04.04.2024
زمن القراءة: 3 minutes

الحال أن الطوائف كائنات جماعية خبيثة، لا تفصح عما تشعر به، وما تشهره في السجال هو ليس كل ما تسعى إليه أو تتمناه لنفسها ولغيرها. والمضمر والضمني من مشاعرها قد لا ينسجم مع مصالحها. الحرب، مثلاً، ليست خياراً ومصلحة لأي من الجماعات المذهبية في لبنان. الطوائف  تعي ذلك، لكنها تنقسم على ما هي متفقة عليه!

يعكس ما شهدته السوشل ميديا اللبنانية في أعقاب الغارة الإسرائيلية على القنصلية الإيرانية في دمشق يوم الإثنين الفائت، شيئاً مما يشغل “لا وعي” الجماعات الأهلية اللبنانية من اضطراب وانقسام، وهو غير منسجم مع ما يشهده “وعي” هذه الجماعات وما تعتقده أنه مصالحها وطموحاتها، ولا يشبه ما تشهره من مواقف حيال انخراط حزب الله في هذه الحرب. 

فبين الحانق من صمت حزب الله وإيران على الاستهداف ومتطلب للرد، وبين شامت من “ضعف إيران” ومشير إلى “اقتصار استقوائها علينا”، شهدت ساحات السجال المذهبي في اليوم الذي أعقب الغارة صمتاً شيعياً بدا وكأن صاحبه يقول “في فمي ماء”!

والحال أن الطوائف كائنات جماعية خبيثة، لا تفصح عما تشعر به، وما تشهره في السجال هو ليس كل ما تسعى إليه أو تتمناه لنفسها ولغيرها. والمضمر والضمني من مشاعرها قد لا ينسجم مع مصالحها. الحرب، مثلاً، ليست خياراً ومصلحة لأي من الجماعات المذهبية في لبنان. الطوائف  تعي ذلك، لكنها تنقسم على ما هي متفقة عليه!

المواقف المعلنة من الانخراط في الحرب لا تعكس بدقة ما يجول في وجدان الجماعات وفي تطلعاتها لنفسها. الشامتون بحزب الله في أعقاب الغارة، بدوا وكأنهم يطلبون منه أن يرد بأعنف منها، لكنهم في الوقت ذاته يأخذون عليه انخراطه في حرب غير متكافئة من دون استشارة أحد من اللبنانيين!

هذه الفوضى تقول الكثير عما يجوب في “لا وعي” اللبنانيين، أكثر مما تقول عن وعيهم.

مشهد الانقسام حول الحرب واضح، ويمكن استسهال رسمه على النحو التالي: المسيحيون بقواهم السياسية والاجتماعية ضد انخراط حزب الله في الحرب. السنة خائفون أيضاً من حرب تأتي على ما تبقى لهم من حضور، ولا يثقون بحزب الله، لأسباب غير فلسطينية، على رغم ارتباطهم “العاطفي” بالمأساة التي تشهدها غزة. الشيعة “ليسوا ضد الحرب”، خلافاً للـ”سلوغونات” الإعلانية الغامضة التي انتشرت في بيروت وكُتبت عليها عبارة: “الشيعة ضد الحرب”.

إنه التوزيع البديهي للمواقف والمشاعر اللبنانية حيال ما يجري على الحدود الجنوبية، وهو صحيح إلى حد كبير، إلا أن في موازاته الكثير مما لا يقال من الممارسات المذهبية اللبنانية. ففي موازاته “شماتة” في حزب الله تنطوي على تطلّب للانخراط في الحرب، وما يجرّه هذا الانخراط من احتمالات هزيمة الحزب. نتحدث هنا عن المسيحيين. وفي موازاته أيضاً، شعور لدى الجماعة السنية بالحاجة إلى الانخراط في الحرب بوصفها حرب الأكثرية الأهلية في المنطقة. وفي هذه المنطقة الشعورية (أو اللاشعورية)، يفترق الشيعة عن أقرانهم من المذاهب اللبنانية الأخرى، لا بل يفترقون عن أنفسهم، فالحرب هم من سيدفع ثمنها بالدرجة الأولى، وهي قد تأتي على عنصر تفوّقهم المذهبي الراهن، أي حزب الله، وهم إذ يصدون الهجمات الأهلية عن الحزب عبر إبداء حماسة لما تشهده الجبهة في الجنوب من مواجهات، يمارسون تقية حيال مخاوفهم من احتمالاتها، ويتمنون “أن لا يفعلها السيد”. 

هذه الخريطة المختلفة والمتخيّلة لمشاعر اللبنانيين حيال ما يجري على حدودهم الجنوبية، ليست تصديقاً لشعار “الشيعة ضد الحرب”، ذاك أن صاحب هذا الشعار أراده افتراقاً شيعياً عن الحزب، وفي هذا مبالغة لطالما وقع خصوم حزب الله المذهبيون فيها. هم ضد الحرب بمعية الحزب، وهذا الأخير هو علامة تفوّقهم وهيمنتهم التي لا يرغبون في أن يحرموا منها، تماماً مثلما أن طبقة من مشاعر الكثيرين غير الشيعة يرون في الحرب فرصة لتأديب مذهبي موازٍ.

ينطوي هذا العرض على الكثير الكثير من “اليأس الوطني”، وعلى تسرّع وتعميم وتنميط، إلا أن اللبنانيين يعرفون أن قسطاً وافراً من الواقعية يتخلله، وهي واقعية ثقيلة وتُرى، ولا موازيَ سياسيٌّ لها، باستثناء عبارة “في مكان ما”، التي أدخلها وليد جنبلاط إلى قاموس التداول اليومي إلى حد الابتذال، فـ”في مكان ما” هكذا تفكر الطوائف في لبنان.