لا يكفي شهر واحد لتحرير سوريا من متلازمة الأسد، تلك التي لخّصها مرّة وزير الدفاع السابق مصطفى طلاس بعبارة “كلّ السوريين هم حافظ الأسد”، فتحطيم “كلّ” تماثيل الأسدين لا يعني أن الطاغية رحل من رؤوسنا، هو الذي زرع في الكثيرين فينا “القدرة على قول ما لا نعنيه” وإنكار الواقع ولو كان أمام أعيننا واقعاً، والارتياب والشكّ في كلّ الكلام والخطابات الرسمية وغير الرسمية، والأهم، الارتياب والشك في بعضنا البعض، لا شيء بريء في أعين السوريين، وربما هذه “اللعنة” بالضبط، ما يجب أن نحافظ عليه الآن أمام حكومة الأمر الواقع.
شكّل انهيار نظام الأسد لحظة ولادة الفضاء العام في سوريا بمعناه التقليدي، واستعاد السوريون المساحات العامة واحتلوها بأجسادهم، لم يعد الحديث السياسي أسير المنتديات التي لم تكن سوى بيوت معارضين للنظام قبل الثورة وبعدها، امتلك السوريون الساحات والأنفاق والزنازين وسماء سوريا وما تحت ترابها.
لا فضاء ممنوع على السوريين اليوم، أو حتى هذه اللحظة، وهنا أهمية الارتياب، أمام سلطة تعمل وفق منطق “المسايرة” وتعيين شخصيات من “البطانة” أو “فريق عمل منسجم” حسب تعبير أحمد الشرع، “قائد” السلطة الجديدة التي تخاطب عموم السوريين عبر تلغرام (شركة روسية) أو ميتا (شركة أميركيّة) أو وسائل إعلام عربية (قطرية، سعوديّة، إماراتيّة).
هذه المنصات التي تختار وتقدّم “الواقع”، تنقل لنا الجموع التي تهلل وترقص في الساحات، في تجاهل للريبة السوريّة من الجموع والأعلام التي ترفرف لأيام، لكنها في الوقت ذاته تتجاهل واقعاً آخر، كالاحتجاجات ضد “الجولاني” التي تطالب بإطلاق سراح الجهاديين المساجين في سجن المعصرة، أو احتجاجات عائلات الجنود والضباط المعتقلين لدى الإدارة الجديدة، الذين ما زال مصيرهم مجهولاً.
أخبار متفرقة ومتناثرة تواجه بماكينات تكذيب أو نفي، وحين لا يمكن الإنكار، كما في حال وزير العدل شادي الويسي الذي أشرف على إعدام امرأتين، يأتينا الرد على لسان مجهول أن الفيديو”وثّق عملية إنفاذ القانون في فترة زمنية ومكان محددين… وأن هذه العملية تعكس مرحلة تجاوزناها في ظل التحولات القانونية والإجرائية الراهنة”، أي علينا أن نصدّق أن الزمن مضى والبشر تغيروا بكل حسن نيّة، متجاهلين كل الدلائل الأخرى! ونراهن على طيبة القلب، نحن السوريين الذين تعلّمنا ألا نثق بأيّ أحد، حليقاً كان أو ذا ذقن!
إعلاء قيمة الارتياب
الريبة الآن محطّ المديح، خصوصاً أن السلطات الجديدة تراهن على غياب المؤسسات الرسمية، فاسحة المجال أمام الاجتهاد الفرديّ، إن أردنا تبني حسن النيّة، مرة تعدل المناهج المدرسية ثم تتراجع، مستفيدة من فوضى المعلومات وجدلية الخبر الصحيح والخبر المنفيّ، للتهرب من إجابات بسيطة لا تحتاج الى جدل، بل ابتداع مفاهيم متحذلقة كـ”دولة مدنية شرعيّة”!.
وعوضاً عن تطمين السواد الأعظم من السوريين الذين لا تمثلهم الهيئة، يظهر علينا رجالات الهيئة بعبارات الطمأنة والتربيت وحقوق الأقليات و”الطوائف الكريمة” ووعود بمستقبل أجمل وأفضل وأغنى، في إصرار واضح على تجنّب ما يجب قوله.
المريب والخطير هو قناعة الكثيرين من الفرحين بـ”التحرير”، بـ”رسائل الطمأنة”وتقنيات التربيت على الكتف، والقدرة على الإنكار، التي يبدو أنها لم تتلاشَ مع انهيار نظام الأسد، القدرة التي تمرّس بها السوريون لعشرات السنين، قدرة يحركها الخوف إلى حد إنكار الانتهاكات ومحاولات الهيمنة على الفضاء العام، وإنكار الأثر السياسي لكل الأطراف التي تلعب في سوريا، بل يصل الأمر حتى تخوين من يطرح أسئلة مثل “ما مصير الذين تعتقلهم الهيئة؟”، أو “هل نحاسب كل الشبيحة على أنهم قتلة؟”.
أسئلة كثيرة لا إجابات عنها حالياً، لكن يبقى الارتياب هو حقنا كسوريين، حقنا بأن نشكّ في كلّ شيء، وكل ما نراه ونسمعه، فلا دستور للبلاد ولا قوانين واضحة للمحاسبة والعدالة، إلا عدالة الشارع، عدالة كرنفالية كأن يجرّ رجال الهيئة أحدهم وهو يصرخ “أنا لطشت بنت” أو إذلال مجموعة تصرخ من أعلى شاحنة “نحن حراميّة”، مسيرات العار هذه ليست إلا ترسيخاً للانتقام الفرديّ والتأديب العلنيّ، أسلوب ينسحب على الكثير من التهم والشبهات، وهذا ما رأيناه بإذلال أحدهم وهو يمشي شبه عار صارخاً “أنا شبيح”، السؤال إذاً، وبكل حسن نيّة، كيف لا نرتاب من كل ماسبق؟
أزمة “الأخطاء الفرديّة”
ترددت عبارة “أخطاء فردية” لوصف كل انتهاك يقوم به أفراد وعناصر من هيئة تحرير الشام، من إحراق شجرة الميلاد حتى “دعوسة” المتهمين بأنهم من “مجرمي النظام”، من دون أي آلية واضحة للاتهام، عمليات نعرف بعضها وبعضها لا نعرفه بهدف الحفاظ على الأمن وملاحقة “فلول النظام”، التهمة الغامضة حتى الآن، والتي تتجلى نهايةً بتسجيلات لإعدامات وإذلال علنيّ للجثث كما في تسجيل مختار حيّ دمر في دمشق، الذي يظهر فيها أطفال يضربون الجثة المقيدة إلى جذع شجرة !.
“أخطاء فردية” تتراكم لتتحول إلى سرديّة لاحقاً تنفيها مراراً وسائل الإعلام المقربة من الهيئة والهيئة نفسها، لكن وصف ممارسات كهذه بـأنها “فرديّة” يعني أننا أمام إدارة عاجزة عن ضبط العناصر، أو سعي عشوائي الى الانتقام أو تطبيق المعتقدات الشخصيّة، لكن في اللحظة التي يوجه فيها الانتقاد، يفقد المُنتقد، وللمفارقة، فرديته، ليتحول إلى “المُحرر من عبودية الأسد”، وجزء من جماعات هي “شبيحة سابقين” و”فلول النظام”.
المُخطئون إذاً أفراد والمنتقدون أيضاً أفراد، ينفون من الجماعات رمزياً لتهديدهم “التحرير” ومكارم الأخلاق التي للغرابة من المفترض أن يتمتع بها كلّ السوريين، وكأن لا سفلة بيننا من الطرفين!
مع أخبار عن تأنيب “القيادة” وتوبيخها مرتكبي “الأخطاء الفرديّة” التي تسوّى ضمن منطق “تبويس الشوارب” لا الصلح الأهلي مثلاً، أي بعد كل خطأ بحق الأقليات على الخصوص، يسارع عناصر من الهيئة الى الاعتذار، وتقديم حجج مثل “ازرعوها بدقنا” و “حقكم على راسنا”، ضمن ريلات وفيديوهات المؤثرين المنتشرين في كلّ سوريا، بل والحجة الأكثر إثارة للريبة (والخوف) هي: “هؤلاء ليسوا سوريين”!
تعطل عبارة “الأخطاء الفردية” مجال النقاش و الاتهام، خصوصاً بعدما تليها استراتيجيّة تبويس الشوارب، فـ”خطأ فردي” أي أن المؤسسة بريئة ولا دور لها، كلّ يتصرّف حسب قناعاته، تلك التي يكفي الاطلاع على تواريخ الفصائل وأفرادها لنكتشفها، هذه الكلمة “خطأ فردي” تنزع السياسة عن مرتكب الانتهاك، وتعطل المحاسبة في رهان خاسر حكماً على حسنّ النيّة و “أخلاق الشعب السوريّ”!
خطورة “المبادرات الفرديّة”
ترافق “التحرير” مع سلسلة من المبادرات الفرديّة، تقف وراءها مؤسسات وأحياناً تجمعات لا علاقة لها بأحد، ففيما نشاهد مجموعة تنظف مقر شرطة دمشق، تظهر مبادرات فرديّة، كمحاضرات في الشريعة في أحد مقاهي اللاذقية، و لصاقات عن فصل النساء عن الرجال في الباصات، والأخطر، بناء “مصلى” في منتصف ساحة جامعة دمشق، مبادرة تقضي ببساطة على حياد الجامعة العلمي، الجامعة التي تحوي أماكن عدة للصلاة، لكن إن سارع أحدهم الى جمع التبرعات وبناء جامع، هل ستقام كنيسة؟
الكثير ما يمكن قوله عن خطورة بناء مسجد في منتصف الجامعة، لا بلاغة وحجة قادرة على جعلنا نتفادى الغضب الشعبي من الاعتراض على موضوع كهذا، خصوصاً أمام أسئلة من نوع، هل هو متاح للطلاب فقط أم للجميع؟ هل هو مصلى أم مسجد؟ هل يمكن بناء كنيسة أيضاً؟.
الجامعة مساحة اللعب والتجريب والاكتشف، هي مسوّرة لحماية الطلاب، الطلاب أنفسهم الذين تظاهر الكثير منهم في 2011 والذين صلّوا فيها 2025، تتصارع الأيديولوجيات داخل أسوارها كمساحة محميّة، فردوس للشباب وطيشه وأفكاره، ووجود مصلى في المنتصف علامة لا ريب فيها، مع ذلك، كما قلنا في البداية القدرة على الإنكار و حسن النية تحكم الآن، فهل يوجد من يجرأ على الوقوف بوجه مضخّة الإسمنت التي تصبّ الدعامات؟
لحظة استقلال الفضاء العام والدخول إلى السياسة، تحاول المبادرات الفردية والمجتمعية استغلالها لصالح خطاب إسلاموي واضح، تحت حجة ألا قيود ولا رقابة، لتظهر المبادرة هنا والترويج الذي يتم لها كحامل أيديولوجي على رغم ادّعائه البراءة وتبني سردية بناء سوريا، ما يحرر “القيادة” من المسؤولية، بوصف ما يحصل تصرفات من أفراد ولا شيء رسميّ وراءها، بصورة ما، المبادرة الفردية تشبه الخطأ الفردي في مفهومها، تعبر عن معتقدات من ينفذّها وتفتح الباب أمام التهرب من المسؤولية.
أسلوب غسل اليد هذا معروف عن هيئة تحرير الشام، التي “تسمح” بمبادرات إنسانية ومدنية ثم تستولي عليها كما يحصل في إدلب، أو تحاصص على جزء منها، بصورة ما المبادرات تكرس انسحاب “الدولة” على حساب مكارم أخلاق المبادرين والتحويل الأجنبي، والجهود المدنيّة، ما يحرر الدولة من مسؤولية “العمل”، إذ لا يعود مصدر الخدمات هو الدولة المشغلة، بل المتبرع / المبادر، لتعمل السلطة القائمة كميسر لتدفق الأموال، لا ضامن للتشغيل والخدمات.
ربما أكثر العلامات وضوحاً على خطورة المبادرات الفرديّة هي الدعوى التي قام بها المؤثر “الشيف أبو عمر الدمشقي” وذبح عشرات الخواريف أمام المسجد الأموي في وليمة عارمة، انتهت بوفاة عدد من النساء وإصابة عدد من الأطفال بسبب “التدافع”، نحن أمام استعراض للمال والشفقة يشابه بورنوغرافيا الفقراء، لحم مسلوخ معلق على جدران المسجد الأموي بينما يتدافع الجياع من دون تنظيم من أحد، لحم عار وآخر جائع أمام تحديقة الكاميرا التي تحشد الإعجابات.
أعلن محافظ دمشق “تحمل كامل المسؤولية عما حدث في الجامع الأموي، ونعمل على اتخاذ تدابير عاجلة لضمان عدم تكرار مثل هذه الحوادث في الأماكن العامة مستقبلاً”، لكن عادة مبادرات كهذه لا بد من تنظيمها وضبطها قبل أن يدهس الأطفال تحت أرجل الجياع، لكن وبعد “الجريمة” والأوساخ التي تركت على أسوار المسجد، قام البعض بعد ساعات بـ”مبادرة فرديّة” لتنظيف المكان ليعود لامعاً.
نعم الفضاء العام ملك للجميع، لكن يضبط هذا “الملكية” الدستور، المعلق حالياً، لتتحول المساحات العامة إلى خشبة لاستعراض العدالة الشعبية، مكارم الأخلاق الفرديّة، الجوع بعد سنين طويلة من الحرب، والأهم المبادرات الفردية والمجتمعية كهذه تكسب”القيادة” شرعية أنها تفتح الفضاء العام لـ”جميع” الفضاء العام ذاته الذي تنتشر فيه دعوات الفصل بين الجنسين!