ساهموا في دعم الإعلام المستقل و الجريء!
ادعموا درج

فُقمة شواطئ عمشيت عالقة بين دولة اللاقانون وورشة الباطون

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

يرى الناشط فريد أبي يونس أن “على الدولة استملاك العقار 345 وتحويله إلى معلم بيئي وسياحي بدلاً من فقدانه لصالح فيلا مساحتها 500 متر”. وأضاف ” نحن أمام خيارين: إما الاستمرار في نهج التدمير الذي فرضته الدولة العميقة وإما حماية شواطئنا والفقمة”.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

في عمشيت، فوق مغارة فقمة الراهب، يتقاطع منذ الأسبوع الماضي صوت البحر مع ضجيج الحفّارات والجرافات. تحوّل محيط المغارة التي اعتادت فقمة الراهب، وهي نوع من الفقمة المهدّدة بالانقراض، الاختباء فيها بحثًا عن الهدوء كشرط للبقاء، إلى ورشة بناء بفعل رخصة إنشاء فيلا على العقار رقم 345.

يكشف الموقع الذي شوهدت فيه الفقمة للمرة الأولى في خمسينات القرن الماضي، وصنّفته بعثة علماء أتراك من مجموعة أبحاث فقمة البحر المتوسط (SAD-AFAG) كـ”أهم موئل لفقمة الراهب على الساحل المشرقي”، عن ثغرات قانونية و”تواطؤ” إداري سمحا بتحويل موئل طبيعي نادر إلى مشروع خاص. وتحولت قضية الفقمة من جدل قانوني وبيئي إلى رمز للدولة الغارقة في الفساد والفوضى.

الفيلا في مواجهة الدولة

فوجئ أبناء بلدة عمشيت باستئناف أعمال الحفر والتجريف في العقار رقم 345 المحاذي لموقع مغارة فقمة الراهب، موئل الفقمة المتوسطية. وعلى رغم أن وزيرة البيئة تمارا الزين كانت طلبت وقف الأعمال في العقار، إثر شكوى تقدّم بها الناشط البيئي فريد أبي يونس، وبعد التثبّت من أن المشروع يُقام فوق المغارة المصنّفة “موقعًا حساسًا بيئيًا”، إلا أنّ العمل في الورشة لا يزال مستمرًا.

 وأوضح المحامي علي عباس، وهو من المتابعين لملف مغارة الفقمة، لـ”درج” أن “النيابة العامة التمييزية أحالت الملف إلى المباحث الجنائية للاستعانة بخبير من وزارة الأشغال العامة والنقل لإجراء فحصٍ ميداني، وما زلنا ننتظر منذ ثلاثة أيام، بينما تتواصل أعمال الحفر وصبّ الباطون في تحدٍّ لقرار وزارة البيئة”. 

 حاول رئيس بلدية عمشيت جوزيف خوري خلال زيارته الموقع، تبرير عدم اتخاذه قرار بوقف الأعمال، متذرعًا بأن كتاب وزارة البيئة تضمّن عبارة “نتمنّى عليكم إيقاف الأعمال”، وبالتالي “لم يكن قرارا ملزماً”. وأشار خوري إلى احتمال أن تطالب صاحبة المشروع بتعويضٍ مالي من البلدية في حال تمّ إيقاف الأشغال، “وهو أمرٌ لن يحصل استنادًا إلى أحكام المادة الرابعة من قانون البناء رقم 646/2004، التي تجيز للبلدية سحب الرخصة أو وقف الأعمال عند وجود مخالفات من دون التعويض على أصحاب العقار”.

يشرح  الناشط فريد أبي يونس، أحد أبناء عمشيت، لـ “درج”  أن قصة حماية مغارة فقمة الراهب بدأت عام 2021 حين فوجئ الأهالي بأعمال حفر وتكسير في محيطها  لبناء فيلا على عقار خاص. “بدأنا بالتحرّك ووقّعنا عريضة معارضة للمشروع، وتواصلنا مع وزارة الثقافة ووزارة البيئة التي تدخّلت حينها وأوقفت الأعمال لأن الموقع يقع ضمن منطقة بيئية حساسة”، يقول أبي يونس. لكن بعد أشهر، عادت وزارة البيئة السابقة وسمحت باستئناف المشروع بناءً على خطة إدارة بيئية تقتضي تقليص حجم الآليات ووضع أجهزة لرصد الاهتزازات فوق المغارة”، وفقاً ليونس.  هذا الإجراء وصفه رئيس جمعية الأرض- لبنان، بول أبي راشد، في حديثه إلى “المفكرة القانونية”، بأنه “هرطقة”، معتبرًا أن “الخطة لا تعفي من إعداد دراسة تقييم أثر بيئي شامل كما يفرض المرسوم 8633/2012”.

بالعودة الى عام 2024، وبعد إجازة استئناف أعمال الحفر، قدّمت جمعية الأرض- لبنان شكوى أمام مجلس شورى الدولة طالبت فيها بوقف تنفيذ وإبطال رخصة البناء الصادرة في 2 تشرين الأول/ أكتوبر 2020، والقرار الصادر في 24 تشرين الأول/ أكتوبر 2022 عن وزير البيئة السابق ناصر ياسين. لم يبحث مجلس شورى الدولة في مضمون الطلب بل اكتفى برده شكلاً لتقديمه بعد انقضاء المهل القانونية، وهو الأمر الذي يتذرع به أصحاب العقار وفقاً لجمعية “الأرض- لبنان” لاستكمال المشروع. لكن، وفقًا للمحامي علي عباس، فإنّ الأهالي فوجئوا عام 2021 بوجود رخصة قديمة منحتها البلدية السابقة في عمشيت، ولم يكونوا على دراية بها آنذاك لتقديم اعتراض عليها”. ويؤكد أبي يونس لـ “درج” أن جمعية الأرض-لبنان “تقدمت بطلب إعادة محاكمة أمام مجلس شورى الدولة”.

في المقابل، وجهت وزيرة البيئة تمارة الزين كتاباً إلى رئيس محكمة التمييز الجزائية القاضي جمال الحجار، “تتمنى فيه الطلب من الأجهزة المعنية وقف كافة الأعمال على العقار 345/عمشيت على أن تراسل وزارة البيئة صاحبة المشروع للطلب منها إعداد دراسة تقييم أثر بيئي شامل بموجب ما يقتضيه مرسوم أصول الأثر البيئي 8633/2012 للمناطق الحساسة بيئياً، على أن تبقى الأعمال متوقفة لحين إتمام الدراسة والبت بنتائجها من قبل وزارة البيئة”.

وأشارت الوزارة إلى وجود “خطأ إجرائيّ يتعارض مع مرسوم تقييم الأثر البيئي للمناطق الحساسة بيئياً والمناطق التي تشكل موطناً للأصناف المهددة بالانقراض”. وأضافت أن “وزارة البيئة في العهد السابق، وافقت على متابعة أعمال البناء وفق الخطة البيئية التي تقدم بها صاحب المشروع من دون انتظار التعديلات التي أوصت بها لجنة المراجعة في الوزارة”.

وفي سياق قضية مغارة الفقمة أصدر وكيل صاحبة العقار المحامي مارك حبقة بياناً يتهم فيه الناشطين البيئيين بترويج مزاعم حول “مغارة الفقمة”، مؤكدًا أن “تقارير الخبراء وقرارات مجلس شورى الدولة نفت وجود مغارة حقيقية تبيت فيها الفقمة، بل تجويفات صخرية فقط، معتبرًا أن الوزارة تجاهلت أحكام القضاء لصالح آراء ناشطين”.

قانون على الورق

تتجاوز المؤسسات الخاصة القوانين والأنظمة لبناء منتجعات ومشاريع خاصة على طول الشاطئ اللبناني، مستفيدة من ضعف الرقابة والثغرات القانونية. وفي ظل ضعف الرقابة وتضارب الصلاحيات، يتحوّل كثير من القوانين البيئية وتلك المخصصة لحماية البيئة في لبنان إلى حبر على ورق، ووسيلة لإرضاء الجهات المانحة أو لإرضاء نافذين. ويلفت المحامي علي عباس إلى أن “بعض الأشخاص النافذين يتمكّنون من تحويل الإجراءات القانونية، مثل دراسة تقييم الأثر البيئي، إلى “مجرّد إجراء شكلي، لتمرير المشاريع التي يريدونها”.

ووفقاً للمرسوم المتعلق بتقييم الأثر البيئي، “تصدر الإدارة الرسمية المختصة ترخيصاً لمشروع خاص في ضوء إبداء وزارة البيئة موقفها حيال “الفحص البيئي المبدئي””. وزير البيئة ناصر ياسين قال في مقابلة مع “درج”، إن ما يشار إليه في الإعلام عن خطأ إداري هو “معلومات مغلوطة، فوزارة البيئة لم تكن على دراية بالمشروع عندما تلقت شكوى في صيف 2022 عن أعمال حفر وبناء في منطقة عمشيت”.

 وتابع: “طلبنا من البلدية والمدعي العام البيئي إيقاف المشروع لأنه تبين أنه لا توجد دراسة تقييم أثر بيئي أو تصنيف للأثر البيئي للمشروع في سجلات الوزارة”.

تكشف قضية الفقمة غياب التنسيق بين الوزارات واعتبار المسائل البيئية قضايا ثانوية. “في حالة عمشيت، كان المشروع قد بدأ فعليًا، لأن أصحاب العقار كانوا حصلوا على رخص من البلدية والتنظيم المدني ووزارات الأشغال والطاقة والمياه والثقافة والسياحة، من دون العودة إلى وزارة البيئة للاستحصال على تصنيفٍ للعقار تمهيدًا لإجراء دراسة تقييم أثرٍ بيئي بموجب المرسوم، وهو ما يشكّل الخطأ التقني”، يقول ياسين، مضيفاً أنه تبعاً لذلك، طالبت وزارته “الجهة المنفذة إعداد خطة الإدارة البيئية بموجب نص المادة 12( ب) من مرسوم الأثر البيئي، واستغرقت العملية عامًا كاملًا”.

 وأضاف ياسين “خلال هذه الفترة، فرضنا تعديلات إضافية مرتبطة بطرق الحفر لتقليل الضرر، والحفاظ على الوصول إلى البحر، وعدم المساس بالمغارة”. ولفت ياسين إلى أن وزارته كانت راسلت جميع الوزارات  والبلديات طالبة الإيعاز إلى أصحاب المشاريع بضرورة استحصالهم على تصنيف الأراضي من وزارة البيئة التي تحدد بدورها ما إذا كان يحتاج المشروع إلى دراسة تقييم أثر بيئي أم لا”.

في المقابل، يقول الناشط فريد أبي يونس إن الوزير “لم يكن أمام أمر واقع لأن المشروع كان في بداية أعمال الحفر وكان عليه إيقافه بدلاً من تمريره وفقاً لـ “خطة إدارة بيئية”. بدوره يشرح المحامي علي عباس أن دراسة تقييم الأثر البيئي تُجرى عادة في المواقع التي يُحتمل أن تسبّب فيها الأعمال ضرراً بيئيًا أو تهديدًا لتراث طبيعي أو موئل نادر”. ويضيف عباس أن “الأمر ينطبق على مغارة فقمة الراهب، ذلك أن الفقمة موجودة وتتخذ منها موئلًا تاريخيًا، ما يستوجب بالضرورة إجراء دراسة أثر بيئي قبل أي عمل إنشائي، لأن أي خطأ في الحفر فوق الموقع يمكن أن يؤدي إلى انهيار المغارة وتدميرها”. 

 يشير الوزير السابق ناصر ياسين الى أن الدستور اللبناني يكفل حقّ الملكية الخاصة، ما يفرض تحقيق توازنٍ دقيق بين الحقّ العام في البيئة والحقّ الفردي في الملكية. بدوره يقول المحامي علي عباس إنه “كان على الوزير إيقاف المشروع في حينها، على أن تصنّف المنطقة ضمن الأملاك العامة البحرية”.

في هذا السياق، قال ياسين: “نحن نوازي بين حماية الموائل البحرية وحماية حقوق الملكية، تمامًا كما تفعل الوزارات الأخرى، وربما بشغفٍ أكبر تجاه البيئة. لكن في الوقت نفسه، يجب احترام أن أصحاب العقارات يملكون أراضيهم. فماذا يُفترض أن نفعل بها؟ كيف يمكن إعلان موقع محمية إذا كان على أرض خاصة؟ هذا يتطلّب أن تشتريها البلدية أو الدولة، وهو أمرٌ يكاد يكون مستحيلًا بسبب غياب الموارد المالية”.

يؤكد ناشطون أن بلدية عمشيت السابقة كان عليها استملاك العقار وتصنيفه ضمن الأملاك العامة البحرية. وبناءً على خطاب القسم والبيان الوزاري اللذين تطرّقا إلى موضوع حماية البيئة، دعا الناشطون رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة ووزير البيئة وبلدية عمشيت الحالية إلى اتخاذ قرارٍ فوري بتحويل مغارة فقمة الراهب إلى محميةٍ طبيعية، والمباشرة بإجراءات استملاك العقار رقم 345 لحماية الموقع من أيّ أعمال جديدة.

في هذا السياق، ذكّر الوزير ناصر ياسين بمشروع قانون الإدارة المتكاملة للساحل اللبناني، المقدّم إلى مجلس النواب منذ عام 2012، مشيرًا إلى أن الساحل اللبناني ما زال يحتاج إلى إدارة متكاملة وتنسيق فعّال بين جميع الوزارات المعنية.

منزل الفقمة منذ العام 1968

في رسالتها إلى جمعية الأرض- لبنان قالت جمعية أبحاث الأعماق – مجموعة أبحاث فقمة البحر المتوسط (SAD-AFAG)، “إن استمرار أعمال البناء مباشرة فوق هذه المنطقة البيئية الحساسة والهشة جيولوجيًا يشكّل تهديدًا غير مقبول لأحد أكثر الثدييات البحرية المهددة بالانقراض في المنطقة”. 

خلافاً لما يشاع، وثقت الدراسات وجود فقمة الراهب المتوسطية في لبنان منذ العام 1968 تحديداً في منطقتي الروشة في العاصمة بيروت وعمشيت في قضاء جبيل شمالاً. لكن منذ العام 1996، لم تُجر أي دراسات حول وجود فقمة الراهب المتوسطي أو أعدادها أو أنماط توزيعها في المياه اللبنانية. إلّا أنّ تسجيلات وجودها اقتصرت على بعض الصور أو مقاطع الفيديو التي التقطها غواصون وصيادون وبحّارة. وبذلك، سُجِّل ما مجموعه 47 مشاهدة لفقمة الراهب المتوسطية بين عامَي 2003 و2020 في مناطق مختلفة من لبنان منها بيروت في مغارة الروشة، وحول محمية جزر النخل الطبيعية وجزيرة البلانة في طرابلس، سلعاتا، ضبية، أنفة، شكا، البترون، وطبرجا، وفقًا لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة والمركز الإقليمي للنشاطات المتعلقة بالمناطق المحمية الخاصة (SPA/RAC).

وتشير المشاهدات المسجّلة منذ عام 2003 على السواحل اللبنانية والفلسطينية والسورية، إلى أن فقمة الراهب المتوسطية ليست زائرة عابرة، بل تظهر بشكل مستمر في شرق البحر الأبيض المتوسط. ومع ذلك لم تكن هذه المشاهدات كافية لتحديد العدد الإجمالي لحيوان الفقمة على الساحل اللبناني. 

عام 2017، قُدر عدد فقمة الراهب عالمياً بنحو 700 فقمة. وأدرجت فقمة الراهب المتوسطية على  القائمة الحمراء للاتحاد الدولي لحماية الطبيعة (IUCN) بين عامي 1986 و1994 ضمن لائحة الحيوانات المهددة بالانقراض، ثم مهدّدة بالانقراض الشديد بين عامي 1996 و2013، ثم خُفِّض تصنيفها إلى “مهددة بالانقراض” منذ العام 2015. 

يبلغ العدد الإجمالي للفقمات البالغة من نوع فقمة الراهب المتوسطي في حوض البحر الأبيض المتوسط ما يتراوح بين 350 و450 فقمة فقط. ووقّع لبنان على اتفاقية برشلونة وبروتوكولها الخاص بالمناطق المحمية والتنوّع البيولوجي في البحر المتوسط (SPA/BD Protocol)، ما يجعله ملزماً قانونياً بحماية الأنواع المهدَّدة المدرجة في الملحق الثاني من البروتوكول، ومنها فقمة الراهب المتوسطية. وتتحمّل الدولة اللبنانية مسؤولية مباشرة في منع أي نشاط يهدّد موائل هذا النوع أو يؤدي إلى تدمير بيئته الطبيعية، ومنها مغارة فقمة الراهب في عمشيت.

في هذا السياق، يرى الناشط فريد أبي يونس أن “على الدولة استملاك العقار 345 وتحويله إلى معلم بيئي وسياحي بدلاً من فقدانه لصالح فيلا مساحتها 500 متر”. وأضاف ” نحن أمام خيارين: إما الاستمرار في نهج التدمير الذي فرضته الدولة العميقة وإما حماية شواطئنا والفقمة”.

جنى بركات - صحافية لبنانية | 14.11.2025

“ستارلينك” لبنان: ما علاقتها بوزير الاتّصالات وبالشبهات المرتبطة بمعاقَب أميركياً؟ 

مع دخول "ستارلينك" إلى لبنان، برزت إشكالية حول مساعي الشركة الأميركية للتعاقد مع "Connect Services Liberia" كموزّع لخدمات "ستارلينك" في لبنان، من دون فتح باب المنافسة بين الشركات الأخرى، وهي الشركة التي سبق أن ترأّسها وزير الاتّصالات الحالي شارل الحاج. 
24.10.2025
زمن القراءة: 8 minutes

يرى الناشط فريد أبي يونس أن “على الدولة استملاك العقار 345 وتحويله إلى معلم بيئي وسياحي بدلاً من فقدانه لصالح فيلا مساحتها 500 متر”. وأضاف ” نحن أمام خيارين: إما الاستمرار في نهج التدمير الذي فرضته الدولة العميقة وإما حماية شواطئنا والفقمة”.

في عمشيت، فوق مغارة فقمة الراهب، يتقاطع منذ الأسبوع الماضي صوت البحر مع ضجيج الحفّارات والجرافات. تحوّل محيط المغارة التي اعتادت فقمة الراهب، وهي نوع من الفقمة المهدّدة بالانقراض، الاختباء فيها بحثًا عن الهدوء كشرط للبقاء، إلى ورشة بناء بفعل رخصة إنشاء فيلا على العقار رقم 345.

يكشف الموقع الذي شوهدت فيه الفقمة للمرة الأولى في خمسينات القرن الماضي، وصنّفته بعثة علماء أتراك من مجموعة أبحاث فقمة البحر المتوسط (SAD-AFAG) كـ”أهم موئل لفقمة الراهب على الساحل المشرقي”، عن ثغرات قانونية و”تواطؤ” إداري سمحا بتحويل موئل طبيعي نادر إلى مشروع خاص. وتحولت قضية الفقمة من جدل قانوني وبيئي إلى رمز للدولة الغارقة في الفساد والفوضى.

الفيلا في مواجهة الدولة

فوجئ أبناء بلدة عمشيت باستئناف أعمال الحفر والتجريف في العقار رقم 345 المحاذي لموقع مغارة فقمة الراهب، موئل الفقمة المتوسطية. وعلى رغم أن وزيرة البيئة تمارا الزين كانت طلبت وقف الأعمال في العقار، إثر شكوى تقدّم بها الناشط البيئي فريد أبي يونس، وبعد التثبّت من أن المشروع يُقام فوق المغارة المصنّفة “موقعًا حساسًا بيئيًا”، إلا أنّ العمل في الورشة لا يزال مستمرًا.

 وأوضح المحامي علي عباس، وهو من المتابعين لملف مغارة الفقمة، لـ”درج” أن “النيابة العامة التمييزية أحالت الملف إلى المباحث الجنائية للاستعانة بخبير من وزارة الأشغال العامة والنقل لإجراء فحصٍ ميداني، وما زلنا ننتظر منذ ثلاثة أيام، بينما تتواصل أعمال الحفر وصبّ الباطون في تحدٍّ لقرار وزارة البيئة”. 

 حاول رئيس بلدية عمشيت جوزيف خوري خلال زيارته الموقع، تبرير عدم اتخاذه قرار بوقف الأعمال، متذرعًا بأن كتاب وزارة البيئة تضمّن عبارة “نتمنّى عليكم إيقاف الأعمال”، وبالتالي “لم يكن قرارا ملزماً”. وأشار خوري إلى احتمال أن تطالب صاحبة المشروع بتعويضٍ مالي من البلدية في حال تمّ إيقاف الأشغال، “وهو أمرٌ لن يحصل استنادًا إلى أحكام المادة الرابعة من قانون البناء رقم 646/2004، التي تجيز للبلدية سحب الرخصة أو وقف الأعمال عند وجود مخالفات من دون التعويض على أصحاب العقار”.

يشرح  الناشط فريد أبي يونس، أحد أبناء عمشيت، لـ “درج”  أن قصة حماية مغارة فقمة الراهب بدأت عام 2021 حين فوجئ الأهالي بأعمال حفر وتكسير في محيطها  لبناء فيلا على عقار خاص. “بدأنا بالتحرّك ووقّعنا عريضة معارضة للمشروع، وتواصلنا مع وزارة الثقافة ووزارة البيئة التي تدخّلت حينها وأوقفت الأعمال لأن الموقع يقع ضمن منطقة بيئية حساسة”، يقول أبي يونس. لكن بعد أشهر، عادت وزارة البيئة السابقة وسمحت باستئناف المشروع بناءً على خطة إدارة بيئية تقتضي تقليص حجم الآليات ووضع أجهزة لرصد الاهتزازات فوق المغارة”، وفقاً ليونس.  هذا الإجراء وصفه رئيس جمعية الأرض- لبنان، بول أبي راشد، في حديثه إلى “المفكرة القانونية”، بأنه “هرطقة”، معتبرًا أن “الخطة لا تعفي من إعداد دراسة تقييم أثر بيئي شامل كما يفرض المرسوم 8633/2012”.

بالعودة الى عام 2024، وبعد إجازة استئناف أعمال الحفر، قدّمت جمعية الأرض- لبنان شكوى أمام مجلس شورى الدولة طالبت فيها بوقف تنفيذ وإبطال رخصة البناء الصادرة في 2 تشرين الأول/ أكتوبر 2020، والقرار الصادر في 24 تشرين الأول/ أكتوبر 2022 عن وزير البيئة السابق ناصر ياسين. لم يبحث مجلس شورى الدولة في مضمون الطلب بل اكتفى برده شكلاً لتقديمه بعد انقضاء المهل القانونية، وهو الأمر الذي يتذرع به أصحاب العقار وفقاً لجمعية “الأرض- لبنان” لاستكمال المشروع. لكن، وفقًا للمحامي علي عباس، فإنّ الأهالي فوجئوا عام 2021 بوجود رخصة قديمة منحتها البلدية السابقة في عمشيت، ولم يكونوا على دراية بها آنذاك لتقديم اعتراض عليها”. ويؤكد أبي يونس لـ “درج” أن جمعية الأرض-لبنان “تقدمت بطلب إعادة محاكمة أمام مجلس شورى الدولة”.

في المقابل، وجهت وزيرة البيئة تمارة الزين كتاباً إلى رئيس محكمة التمييز الجزائية القاضي جمال الحجار، “تتمنى فيه الطلب من الأجهزة المعنية وقف كافة الأعمال على العقار 345/عمشيت على أن تراسل وزارة البيئة صاحبة المشروع للطلب منها إعداد دراسة تقييم أثر بيئي شامل بموجب ما يقتضيه مرسوم أصول الأثر البيئي 8633/2012 للمناطق الحساسة بيئياً، على أن تبقى الأعمال متوقفة لحين إتمام الدراسة والبت بنتائجها من قبل وزارة البيئة”.

وأشارت الوزارة إلى وجود “خطأ إجرائيّ يتعارض مع مرسوم تقييم الأثر البيئي للمناطق الحساسة بيئياً والمناطق التي تشكل موطناً للأصناف المهددة بالانقراض”. وأضافت أن “وزارة البيئة في العهد السابق، وافقت على متابعة أعمال البناء وفق الخطة البيئية التي تقدم بها صاحب المشروع من دون انتظار التعديلات التي أوصت بها لجنة المراجعة في الوزارة”.

وفي سياق قضية مغارة الفقمة أصدر وكيل صاحبة العقار المحامي مارك حبقة بياناً يتهم فيه الناشطين البيئيين بترويج مزاعم حول “مغارة الفقمة”، مؤكدًا أن “تقارير الخبراء وقرارات مجلس شورى الدولة نفت وجود مغارة حقيقية تبيت فيها الفقمة، بل تجويفات صخرية فقط، معتبرًا أن الوزارة تجاهلت أحكام القضاء لصالح آراء ناشطين”.

قانون على الورق

تتجاوز المؤسسات الخاصة القوانين والأنظمة لبناء منتجعات ومشاريع خاصة على طول الشاطئ اللبناني، مستفيدة من ضعف الرقابة والثغرات القانونية. وفي ظل ضعف الرقابة وتضارب الصلاحيات، يتحوّل كثير من القوانين البيئية وتلك المخصصة لحماية البيئة في لبنان إلى حبر على ورق، ووسيلة لإرضاء الجهات المانحة أو لإرضاء نافذين. ويلفت المحامي علي عباس إلى أن “بعض الأشخاص النافذين يتمكّنون من تحويل الإجراءات القانونية، مثل دراسة تقييم الأثر البيئي، إلى “مجرّد إجراء شكلي، لتمرير المشاريع التي يريدونها”.

ووفقاً للمرسوم المتعلق بتقييم الأثر البيئي، “تصدر الإدارة الرسمية المختصة ترخيصاً لمشروع خاص في ضوء إبداء وزارة البيئة موقفها حيال “الفحص البيئي المبدئي””. وزير البيئة ناصر ياسين قال في مقابلة مع “درج”، إن ما يشار إليه في الإعلام عن خطأ إداري هو “معلومات مغلوطة، فوزارة البيئة لم تكن على دراية بالمشروع عندما تلقت شكوى في صيف 2022 عن أعمال حفر وبناء في منطقة عمشيت”.

 وتابع: “طلبنا من البلدية والمدعي العام البيئي إيقاف المشروع لأنه تبين أنه لا توجد دراسة تقييم أثر بيئي أو تصنيف للأثر البيئي للمشروع في سجلات الوزارة”.

تكشف قضية الفقمة غياب التنسيق بين الوزارات واعتبار المسائل البيئية قضايا ثانوية. “في حالة عمشيت، كان المشروع قد بدأ فعليًا، لأن أصحاب العقار كانوا حصلوا على رخص من البلدية والتنظيم المدني ووزارات الأشغال والطاقة والمياه والثقافة والسياحة، من دون العودة إلى وزارة البيئة للاستحصال على تصنيفٍ للعقار تمهيدًا لإجراء دراسة تقييم أثرٍ بيئي بموجب المرسوم، وهو ما يشكّل الخطأ التقني”، يقول ياسين، مضيفاً أنه تبعاً لذلك، طالبت وزارته “الجهة المنفذة إعداد خطة الإدارة البيئية بموجب نص المادة 12( ب) من مرسوم الأثر البيئي، واستغرقت العملية عامًا كاملًا”.

 وأضاف ياسين “خلال هذه الفترة، فرضنا تعديلات إضافية مرتبطة بطرق الحفر لتقليل الضرر، والحفاظ على الوصول إلى البحر، وعدم المساس بالمغارة”. ولفت ياسين إلى أن وزارته كانت راسلت جميع الوزارات  والبلديات طالبة الإيعاز إلى أصحاب المشاريع بضرورة استحصالهم على تصنيف الأراضي من وزارة البيئة التي تحدد بدورها ما إذا كان يحتاج المشروع إلى دراسة تقييم أثر بيئي أم لا”.

في المقابل، يقول الناشط فريد أبي يونس إن الوزير “لم يكن أمام أمر واقع لأن المشروع كان في بداية أعمال الحفر وكان عليه إيقافه بدلاً من تمريره وفقاً لـ “خطة إدارة بيئية”. بدوره يشرح المحامي علي عباس أن دراسة تقييم الأثر البيئي تُجرى عادة في المواقع التي يُحتمل أن تسبّب فيها الأعمال ضرراً بيئيًا أو تهديدًا لتراث طبيعي أو موئل نادر”. ويضيف عباس أن “الأمر ينطبق على مغارة فقمة الراهب، ذلك أن الفقمة موجودة وتتخذ منها موئلًا تاريخيًا، ما يستوجب بالضرورة إجراء دراسة أثر بيئي قبل أي عمل إنشائي، لأن أي خطأ في الحفر فوق الموقع يمكن أن يؤدي إلى انهيار المغارة وتدميرها”. 

 يشير الوزير السابق ناصر ياسين الى أن الدستور اللبناني يكفل حقّ الملكية الخاصة، ما يفرض تحقيق توازنٍ دقيق بين الحقّ العام في البيئة والحقّ الفردي في الملكية. بدوره يقول المحامي علي عباس إنه “كان على الوزير إيقاف المشروع في حينها، على أن تصنّف المنطقة ضمن الأملاك العامة البحرية”.

في هذا السياق، قال ياسين: “نحن نوازي بين حماية الموائل البحرية وحماية حقوق الملكية، تمامًا كما تفعل الوزارات الأخرى، وربما بشغفٍ أكبر تجاه البيئة. لكن في الوقت نفسه، يجب احترام أن أصحاب العقارات يملكون أراضيهم. فماذا يُفترض أن نفعل بها؟ كيف يمكن إعلان موقع محمية إذا كان على أرض خاصة؟ هذا يتطلّب أن تشتريها البلدية أو الدولة، وهو أمرٌ يكاد يكون مستحيلًا بسبب غياب الموارد المالية”.

يؤكد ناشطون أن بلدية عمشيت السابقة كان عليها استملاك العقار وتصنيفه ضمن الأملاك العامة البحرية. وبناءً على خطاب القسم والبيان الوزاري اللذين تطرّقا إلى موضوع حماية البيئة، دعا الناشطون رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة ووزير البيئة وبلدية عمشيت الحالية إلى اتخاذ قرارٍ فوري بتحويل مغارة فقمة الراهب إلى محميةٍ طبيعية، والمباشرة بإجراءات استملاك العقار رقم 345 لحماية الموقع من أيّ أعمال جديدة.

في هذا السياق، ذكّر الوزير ناصر ياسين بمشروع قانون الإدارة المتكاملة للساحل اللبناني، المقدّم إلى مجلس النواب منذ عام 2012، مشيرًا إلى أن الساحل اللبناني ما زال يحتاج إلى إدارة متكاملة وتنسيق فعّال بين جميع الوزارات المعنية.

منزل الفقمة منذ العام 1968

في رسالتها إلى جمعية الأرض- لبنان قالت جمعية أبحاث الأعماق – مجموعة أبحاث فقمة البحر المتوسط (SAD-AFAG)، “إن استمرار أعمال البناء مباشرة فوق هذه المنطقة البيئية الحساسة والهشة جيولوجيًا يشكّل تهديدًا غير مقبول لأحد أكثر الثدييات البحرية المهددة بالانقراض في المنطقة”. 

خلافاً لما يشاع، وثقت الدراسات وجود فقمة الراهب المتوسطية في لبنان منذ العام 1968 تحديداً في منطقتي الروشة في العاصمة بيروت وعمشيت في قضاء جبيل شمالاً. لكن منذ العام 1996، لم تُجر أي دراسات حول وجود فقمة الراهب المتوسطي أو أعدادها أو أنماط توزيعها في المياه اللبنانية. إلّا أنّ تسجيلات وجودها اقتصرت على بعض الصور أو مقاطع الفيديو التي التقطها غواصون وصيادون وبحّارة. وبذلك، سُجِّل ما مجموعه 47 مشاهدة لفقمة الراهب المتوسطية بين عامَي 2003 و2020 في مناطق مختلفة من لبنان منها بيروت في مغارة الروشة، وحول محمية جزر النخل الطبيعية وجزيرة البلانة في طرابلس، سلعاتا، ضبية، أنفة، شكا، البترون، وطبرجا، وفقًا لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة والمركز الإقليمي للنشاطات المتعلقة بالمناطق المحمية الخاصة (SPA/RAC).

وتشير المشاهدات المسجّلة منذ عام 2003 على السواحل اللبنانية والفلسطينية والسورية، إلى أن فقمة الراهب المتوسطية ليست زائرة عابرة، بل تظهر بشكل مستمر في شرق البحر الأبيض المتوسط. ومع ذلك لم تكن هذه المشاهدات كافية لتحديد العدد الإجمالي لحيوان الفقمة على الساحل اللبناني. 

عام 2017، قُدر عدد فقمة الراهب عالمياً بنحو 700 فقمة. وأدرجت فقمة الراهب المتوسطية على  القائمة الحمراء للاتحاد الدولي لحماية الطبيعة (IUCN) بين عامي 1986 و1994 ضمن لائحة الحيوانات المهددة بالانقراض، ثم مهدّدة بالانقراض الشديد بين عامي 1996 و2013، ثم خُفِّض تصنيفها إلى “مهددة بالانقراض” منذ العام 2015. 

يبلغ العدد الإجمالي للفقمات البالغة من نوع فقمة الراهب المتوسطي في حوض البحر الأبيض المتوسط ما يتراوح بين 350 و450 فقمة فقط. ووقّع لبنان على اتفاقية برشلونة وبروتوكولها الخاص بالمناطق المحمية والتنوّع البيولوجي في البحر المتوسط (SPA/BD Protocol)، ما يجعله ملزماً قانونياً بحماية الأنواع المهدَّدة المدرجة في الملحق الثاني من البروتوكول، ومنها فقمة الراهب المتوسطية. وتتحمّل الدولة اللبنانية مسؤولية مباشرة في منع أي نشاط يهدّد موائل هذا النوع أو يؤدي إلى تدمير بيئته الطبيعية، ومنها مغارة فقمة الراهب في عمشيت.

في هذا السياق، يرى الناشط فريد أبي يونس أن “على الدولة استملاك العقار 345 وتحويله إلى معلم بيئي وسياحي بدلاً من فقدانه لصالح فيلا مساحتها 500 متر”. وأضاف ” نحن أمام خيارين: إما الاستمرار في نهج التدمير الذي فرضته الدولة العميقة وإما حماية شواطئنا والفقمة”.

24.10.2025
زمن القراءة: 8 minutes
|

اشترك بنشرتنا البريدية