تزامن وصول وزير الخارجية السعودي، فيصل بن فرحان، إلى إيران، بعد سنوات قطيعة دامت لسبعة أعوام، مع وصول وفد من قيادات حركتي “حماس” و”الجهاد” الفلسطينيتين، للقاء المسؤولين في إيران.
التقى الرئيس والمرشد الإيرانيّ كلاً من رئيس المكتب السياسي لـ”حماس”، إسماعيل هنية، ثم في غضون أيام قليلة، الأمين العام لحركة الجهاد الإسلامي، زياد نخالة.
أشارت وسائل الإعلام الإيرانية إلى أنّ الزيارة الفلسطينية كانت استجابة لدعوة، ربما، عاجلة، من إيران لبحث “آخر التطورات السياسية والميدانية المتعلقة بفلسطين”، مع المسؤولين السياسيين والعسكريين في طهران. فيما لم تخلُ الزيارة، كما هي العادة، من خطاب “الممانعة” السياسي والمفخخ، واستدعى المرشد الإيراني، علي خامنئي، مقولات “تركيع” إسرائيل وضرورة “توحيد جبهة المقاومة”.
لنّ تتخلى إيران عن قواعدها الاستراتيجية في المنطقة، من خلال القوى والعناصر الميليشياوية الولائية، الممتدة من الخليج وحتى البحر الأبيض
ومع التصعيد العسكري الإسرائيلي، غير المسبوق، في الضفة الغربية، ثمّن المرشد الإيراني دور الفصائل و”المقاومة” و”الجهاد”، قائلاً إنّ “الضفة الغربية هي ساحة معركة رئيسية للفصائل الفلسطينية ضد إسرائيل”، وتابع: “تقاعس العدو، اليوم، يظهر أنّ فصائل المقاومة تعرف الطريق الصحيح. قوة فصائل المقاومة الفلسطينية والجهاد الإسلامي ومصداقيتها تزدادان، يوماً بعد يوم، الأمر الذي أكدته الهزيمة الأخيرة للاحتلال الإسرائيلي في معركة غزة الأخيرة”، مؤكداً “ضرورة استمرار هذا المسار”، كما شدد خامنئي على استمرار دعم إيران “لشعب فلسطين وفصائل المقاومة”.
في رسالة للرئيس الإيراني، قال الأمين العام لحركة الجهاد الإسلامي، إنّ “لدعم إيران وتأييدها المستمر للشعب الفلسطيني ومقاومته، الدور الأبرز والأهم في صمود الشعب الفلسطيني واستمرار جهاده”.
بعيداً من نبرة الهجوم، المتكررة والتقليدية، ضد إسرائيل، فإنّ للقاءات الإيرانية بقيادة الفصائل الفلسطينية في ظل تأزم الوضع بالضفة الغربية، تقاطعات سياسية وإقليمية عدة، منها حديث التطبيع الإسرائيلي – السعودي، المتزامن مع انفتاح “آيات الله” على المملكة والخليج، وكذا التهدئة الإقليمية التي وصلت حد التقارب مع مصر، ثم تلميحات المرشد الإيراني، أخيراً، القبول بصيغة اتفاق نووي محدود مع الولايات المتحدة بعد محادثات “سرية” بينهما في مسقط.
هاجم الرئيس الإيراني إسرائيل خلال لقائه الأمير فيصل بن فرحان، الأمر الذي بدا مقصوداً ومتعمداً، لا سيما في ظل معارضتها المفاوضات النووية، والاستقطاب الهائل بين رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو والرئيس السابق يائير لابيد على خلفية احتمال التوصل الى اتفاق نووي، والذي اعتبره الأخير “فشلاً” إضافياً لحكومة نتنياهو. فضلاً عن الانفتاح السعودي للتطبيع مع إسرائيل، والحديث، علناً، عن تقارب محتمل بين الطرفين، آخرها عند وصول وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلنكن، جدة، الشهر الحالي، خلال اجتماع التحالف الدولي لمكافحة تنظيم “داعش” الإرهابي.
بل إنّ موقع “أكسيوس” الأميركي، كشف قبل أيام، عن تحركات أميركية مكثفة في المنطقة لجهة حسم مسألة التقارب السعودي – الإسرائيلي. إذ يفاوض آموس هوكستين، مستشار بايدن للطاقة والبنية التحتية، الموجود في السعودية، حالياً، قادة المملكة (لم يحددهم) على مطالبهم بشأن التطبيع، ومنها دعم برنامج نووي سعودي يشمل تخصيب اليورانيوم. وفي الآن ذاته، تخوض باربرا ليف، مساعدة وزير الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأدنى، مهمة “اندماج إسرائيل بالمنطقة”، وتوسيع دائرة اتفاقات إبراهام، خلال زيارتها إسرائيل وفلسطين والأردن، وهي الزيارة التي انتهت في 25 من هذا الشهر.
إقرأوا أيضاً:
وفق بيان رسمي صادر عن وزارة الخارجية الأميركية، فإنّ ليف ستتولى مناقشة توسيع نطاق اتفاقات إبراهام مع القادة السياسيين والعسكريين في منطقة الشرق الأوسط، وكذا ممارسات إيران العدائية وسبل مواجهتها.
لم يعد الحديث عن تطبيع سعودي – إسرائيلي خفياً، أو محل حرج لقادة المملكة، إنّما يجري التصريح به مباشرة، ومن دون تلميح. فقبل عام، وصف ولي العهد السعودي، في حوار له، مع مجلة ” أتلانتيك مغازين” الأميركية، إسرائيل بأنّها “حليف” ونفى تصنيفها باعتبارها “عدواً”. لكنّه اشترط حل بعض الملفات قبل أيّ تطبيع. كما صرح وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان في نيسان/ أبريل الماضي، بأنّ تدشين علاقات دبلوماسية مع إسرائيل “سيحقق فوائد هائلة للمنطقة. وستنعكس آثاره على النواحي الاقتصادية والاجتماعية والأمنية”. ثم عاود وأكد الأمر ذاته، مطلع الشهر الحالي، في لقاء مشترك مع وزير الخارجية الأميركي.
كشف جون هانا، الذي تولى منصب مستشار الأمن القومي الأميركي في الفترة بين عامي 2005 و2009، أنّه في تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، ترأس وفداً من المعهد اليهودي لشؤون الأمن القومي، بينما التقى مع مسؤولين سعوديين في الرياض، منهم ولي العهد محمد بن سلمان، للحديث عن أفق التطبيع السعودي – الإسرائيلي، وكان شرط السعودية هو ضمانات أميركية اقتصادية وأمنية لحماية المملكة من تهديدات إيران. فضلاً عن إنهاء التوترات مع واشنطن بعد اتهام بايدن ولي العهد بأنّه “قاتل” على خلفية أزمة الصحافي جمال خاشقجي.
بالتالي، فإنّ طهران في سعيها المحموم الى تحقيق مصالحها، المرحلية والموقتة، بالتقارب مع الخليج والسعودية، تؤكد على رهاناتها الاستراتيجية من خلال ورقة “المقاومة” واستدعاء عسكرة الملفات الإقليمية وتطويق سياساتها الخارجية بالوكلاء المحليين في غزة ولبنان وسوريا والعراق واليمن.
الجواب الإيراني بخصوص احتمالية ضبط نشاط ميليشياتها، والتراجع عن سياساتها العدوانية في سبيل إنهاء العزلة الدبلوماسية والسياسية، وتخفيف العقوبات، واضح. فيما ستظل ورقة الفصائل الفلسطينية، كما “حزب الله” في لبنان، مثلاً، خياراً استراتيجياً لمواجهة هذه البيئة السياسية القلقة التي تباغت القوى الإقليمية بتحولات معقدة، بينما تبدو الضمانات محدودة. ففي حال انضمام الرياض الى اتفاقيات إبراهام ستنتقل الأعباء الأمنية التي تتخوف منها المملكة إلى إيران، سواء إذا قدمت الولايات المتحدة (حسب شروط السعودية للتطبيع) الغطاء الأمني الكامل، ودعم مشروعها النووي (المدني) أو لا.
نقلت وكالة أنباء “إرنا” الرسمية عن رئيسي، خلال محادثاته مع الأمير السعودي، قوله إنّ “أعداء الإسلام فقط، بقيادة النظام الصهيوني، منزعجون من التقدم في التعاون الثنائي والإقليمي بين إيران والسعودية “. فيما شدد الرئيس الإيراني على معارضته جهود التطبيع بين الدول العربية وإسرائيل. الأمر الذي يتجاوز إحراج الضيف السعودي، إنّما توجيه رسائل واضحة ومزدوجة بشأن آليات العمل التكتيكي، ومساحة المناورة، في ظل سيولة إقليمية تجعل الأجسام السياسية مرنة وحذرة.
وهنا، كانت المسافة والتباين واضحين بين مهام الأمير السعودي ووزير خارجية المملكة، وأهداف النخبة الحاكمة، في إيران، التي باشرت في توضيحها برسائل صلبة. فاللقاء بين الطرفين تصدر بعنوان: “تحقيق الأمن والسلام في المنطقة”. وبينما عرج الوزير السعودي على ضرورة أن تكون المنطقة “خالية من أسلحة الدمار الشامل والأمن البحري في منطقة الخليج والتأكيد على ضرورة عدم التدخل في الشؤون الداخلية”، فإنّ الرئيس الإيراني صرح برفضه العلاقات والتطبيع مع إسرائيل، جملة وتفصيلًا، وقال إنّ “النظام الصهيوني ليس فقط عدواً للفلسطينيين، إنّه خطر على جميع المسلمين. تطبيع العلاقات مع إسرائيل لا يفشل فقط في تعزيز الأمن بل يتعارض مع آراء الأمة الإسلامية”.
المسعى الأميركي لتطبيع سعودي – إسرائيلي، تبدو شروطه مكتملة، بخاصة مع الحاجة الملحة لرئيس الحكومة الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، الى عمل خرق بالسياسة الخارجية بعد أزمة الإصلاح القضائي، بما أفضى إلى توتر جديد مع واشنطن، وقد سبق لنتنياهو الإعلان عن “تعليق” الاستيطان في الضفة والقدس مقابل هذه الخطوة. فضلاً عن اعتبار بلينكن هذه الخطوة “مهمة للأمن القومي الأميركي”، لا سيّما في نواح جيواستراتيجية عدة، وتمتين التحالفات الإقليمية بالمنطقة، لمواجهة نفوذ روسيا والصين.
تتحرى إيران نقطة تصنع لها التوازن أمام المعادلات الجديدة، ولمواجهة هذه الانعطافة المحتملة والاستراتيجية، مع الأخذ في الاعتبار أنّ الزيارات التي جرت خلال الأيام الماضية لطهران (سعودية وفلسطينية)، سبقتها تحضيرات، هي الأخرى، لافتة، تتصل بزيارة بن سلمان للعاصمة الفرنسية، باريس، على خلفية حفل استقبال رسمي تقيمه المملكة على خلفية ترشحها لاستضافة معرض “إكسبو” 2030. وقد تلقت إسرائيل دعوة رسمية لحضور الحفل وفق هيئة البث الإسرائيلية “كان 11”. فضلاً عن دعم تل أبيب هذا الترشح السعودي الذي تتنافس عليه ثلاث مدن أخرى، روما وبوسان وأوديسا.
وفي المحصلة، لنّ تتخلى إيران عن قواعدها الاستراتيجية في المنطقة، من خلال القوى والعناصر الميليشياوية الولائية، الممتدة من الخليج وحتى البحر الأبيض، فضلاً عن مساعيها للسيطرة على القرن الإقليمي وممرات الملاحة الدولية في البحر الأحمر للهيمنة على عمليات الشحن الدولي وسفن النفط وتهريب الأسلحة. هذا إلى جانب سيطرتها على ممرات برية جيواستراتيجية، مثل البوكمال في شرق سوريا، والذي يربط عناصرها في سوريا بالعراق ولبنان.
إقرأوا أيضاً: