لسنوات تحول قاسم سليماني إلى شبح تطارده شائعات الاستهداف والاغتيال، فيما هو تمرّس في التنقل بمرونة وخفاء بين شبكة مدن دول “الهلال الشيعي” الممتد من كرمان – مسقط رأسه في إيران – حتى كفركلا في أقصى الجنوب اللبناني وميادينها المشتعلة.
وغالباً ما كان مناصروه ومحبوه يسخرون من هذه الأخبار متغنين بقدراته على التخفّي وساخرين من مطلقي الشائعات الذين ساهموا بشكل أو آخر بنسج أسطورة القائد الظل، الذي تُرى نتائج تكتيكاته العسكرية ولا يفصح عن مشاهد خاصة مصورة محبوكة بماكينة الإعلام الحربي لـ”فيلق القدس”، إلا بما يخدم أهدافها التعبوية والدعائية والأسطورية. لكن الأمر اختلف في الثاني من كانون الثاني/ يناير 2020، حين استهدفت طائرة مسيّرة أميركية موكباً على أطراف مطار بغداد، ليتبين لاحقاً أن سليماني كان هو الهدف وأن الخبر هذه المرة لم يكن إشاعة وأن “فتى الكاراتيه الكرماني” (في شبابه كان سليماني رياضياً بامتياز ويمتهن الفنون القتالية)، رحل قبل أن يكمل الكاتا الأخيرة.
في تشرين الثاني/ نوفمبر 2020، وبعد أقل من سنة على رحيله، صدر كتاب بعنوان: The Shadow Commander Soleimani, the US, and Iran’s Global Ambitions، أو ما ترجمته “قائد الظل: سليماني، الولايات المتحدة وطموح إيران العالمي”، للكاتب والباحث من أصول إيرانية آراش عزيزي. فكان لنا في الذكرى السنوية الأولى لاستهداف سليماني لقاء حواري مع عزيزي حول المحاور الأساسية للكتاب، وتفاصيل حول مختلف مراحل سيرة القائد الإيراني الذي أثّر في الشرق الأوسط في العقود الثلاثة الماضية.
بداية، يوضح عزيزي أن سليماني نفسه لم يكن محور الكتاب بقدر ما كان الهدف تسليط الضوء على طبيعة العلاقة بين الدول العربية والجمهورية الإسلامية في العقدين الأخيرين. إلا أن تصفية سليماني فتحت أبواباً لم يكن يحلم بها عزيزي، وبما أن قائد فيلق القدس لم يعد موجوداً وافق أشخاص كثر عرفوه على الحديث عنه ومشاركة قصصهم أو معلوماتهم. ما دفع بالكاتب إلى إعادة توجيه مشروعه البحثي نحو شخصية سليماني وتركيبتها الاجتماعية والسياسية ليقدم محاولة من السيرة النقدية لتجربة هذا القائد العسكري الذي لم يغادر الميدان، حتى بعد الإصابة التي تعرض لها خلال الحرب العراقية- الإيرانية. وثابر على لبس البزة العسكرية ولم تغره فرص التجارة أو دهاليز السياسة. سليماني، القائد العسكري اختار هو جبهاته بدءاً من مطلع التسعينات. لا بل يمكن القول إنه هندسها وصنعها.
“حجي قاسم”
في هذا الإطار، يشير الكاتب آراش عزيزي، إلى أن “حجي قاسم” – كما يُسميه مريدوه – اكتسب في سنواته الأخير الكثير من الثقة بالنفس لدرجة اعتقاده بأنه أصبح خارج دائرة الاستهداف، نظراً إلى محورية دوره السياسي والعسكري في الإقليم وما يمكن أن يترتب على هكذا استهداف. بالتالي، أصبح يقلل من إجراءاته الأمنية. ويتابع عزيزي أن الاستهداف نفسه كان أمراً غير متوقع بتاتاً وخطوة لم يكن بالإمكان استشرافها من قبل الرئيس الأميركي دونالد ترامب. لكن لا تفوته الإشارة إلى فداحة الخروقات الأمنية في البنيان الأمني للنظام الإيراني والتي لم تتسبب فقط بسلسلة الاغتيالات التي قتلت مجموعة من العلماء الإيرانيين وكان العالم النووي محسن فخري زاده آخرهم بل يذكرنا بالعملاء الإسرائيليين الذين تمكنوا من الولوج إلى الأرشيف النووي الإيراني، ليخرجوا منه محملين بالوثائق على دراجتين ناريتين. في الوقت الذي تنشط فيه الأجهزة الأمنية الإيرانية بتوقيف الفنانين والناشطين السياسيين والصحافيين بتهمة العمالة لإسرائيل مما سهّل على العملاء الاسرائيليين اختراق البلاد والمجتمع. هنا، يسأل عزيزي، حول مدى فعالية هذه الأجهزة في مواجهة العملاء الحقيقيين وكيف أنها بتكتيكاتها هذه تجعل البلاد من أسهل ميادين العمل للعملاء المعادين.
قناة مُلك والحياة على الهامش
في كتابه، يقدم آراش عزيزي قراءة سياسية اجتماعية لنشأة سليماني الذي ولد في عائلة متواضعة لأب– حسن سليماني- يعمل في الزراعة والتي لم يغادرها أبداً حتى بعدما تحول قاسم لواحد من أكبر الشخصيات القيادية في البلاد. وكغيره من فلاحي المناطق الريفية، استفاد حسن سليماني من “الثورة البيضاء” التي أطلقها شاه إيران محمد رضا بهلوي والتي ملّكته بعض من الأراضي التي يزرعها. لكن تعثر الإصلاحات دفع بالمُلاك المستجدين نحو الغرق في دوامة الاستدانة. هكذا، نشأ قاسم سليماني في كنف عائلة عانت من الفقر والتهميش ما دفعه للعمل في أيام مراهقته في اعمال الانشاءات ليتمكن من تأمين بعض مستلزمات العائلة وحياته.
لكن هذا لم يحُل دون استكماله دراسته الثانوية وتخرجه، ليجد وظيفة في قسم العلاقات العامة في الإدارة المحلية للشركة المياه في كرمان. في المدينة اكتشف قاسم الحياة خارج القرية. ويوثق عزيزي تجربة سليماني الأولى في مراكز المدن حيث شاهد للمرة الأولى العلاقات الاجتماعية والاختلاط بين الرجال والنساء في الأماكن العامة. ولربما تعرف أكثر إلى مدينة بندر عباس والحياة الاجتماعية فيها. لم تكن كرمان كطهران بكوزموبوليتيها او أصفهان بسحرها كما يصفها عزيزي، ولكنها كانت بالتأكيد نقطة تحول كبرى في حياة قاسم. هي كانت نافذته التي اكتشف منها في العشرين من عمره العالم ما لم يعرفه سابقاً. وهناك تعلّم الكاراتيه وواظب على التدريب. وللكاراتيه في حياة “قائد الظل” دور مستقبلي سنلحظه لاحقاً. وهناك وعلى يد ابن عمه أحمد – المتديّن بعكسه – يسرد عزيزي كيف تقرب سليماني الشاب من البيئة الدينية وتعرف إلى مجريات الأحداث في إيران واقترب أكثر، وان لم ينخرط مباشرةً، من جو الاعتراض العام على سياسات الشاه. لكن بدايات التسييس لم تأتِ إلا من خلال خطب “شهيد قمياب” رجل الدين البارز الذي أجبره السافاك – جهاز المخابرات في زمن الشاه – كغيره من رجال الدين، على الانتقال القسري فاستقر في كرمان.
يشير آراش عزيزي إلى أن قاسم سليماني العشريني لم يساهم كثيراً في مسار الثورة الإيرانية بقدر ما ساهمت هي بتغيير مستقبله وإعادة توجيه مساره الحياتي. وللمفارقة أو ربما سخرية القدر، أنه وبعد أربعين سنة من الثورة الإسلامية في إيران، وقف سليماني سداً منيعاً في وجه ملايين الشباب المنتفضين على أنظمة الاستبداد في لبنان وسوريا والعراق وحتى في إيران، ودعم ماكينة القمع والبروباغندا بحجة مواجهة المؤامرات الخارجية.
لربما لم يكن سليمان قادراً على هضم واقع أن شباباً في العشرين من العمر غير مؤدلجين، يمكنهم الخروج عفوياً ومن خارج منظومات القوة السياسية والدينية والعسكرية، ومحاولة مواجهة الاستبداد. فكيف ذلك إن كان هؤلاء يخرجون ضد نظام يشكل هو نفسه أحد أبرز قياداته؟ وإلى اليوم ما زال مناصرو سليماني وفي معرض سخريتهم من قدرات الشباب المنتفضين في بيروت وبغداد غير قادرين على ملاحظة أن هؤلاء غير الموائمين لمعاييرهم “الثورية” هم أكثر تسييساً مما كان عليه سليماني نفسه في مطلع عشريناته وفي لحظة إيران الثورية مع التاريخ.
طريق القدس تمر بكربلاء
“أشخاص كسليماني، انخرطوا في الثورة لأنها كانت حدثاً مميزاً في حياتهم” يقول عزيزي. ويضيف أنهم كانوا شباناً وكان أمامهم فرصة للعب دور في عملية تغيير التاريخ مذكّراً بالبيئة العالمية الداعمة لمسار التغيير السياسي والتحرر في الستينات والسبعينات من القرن الماضي. لكن الموضوع في شقه الإيراني يتخطى هذا الأمر ليصل، ودائماً بحسب عزيزي، إلى مسألة الدفاع عن الوطن في وجه اعتداء خارجي كما حدث حين هاجم صدام حسين الأراضي الإيرانية. كان عليهم أن يدافعوا عن وطنهم بشكل أساسي وهذه كانت فرصة أساسية للنظام الناشئ في إيران لاستقطاب الشباب حول المسألة الوطنية والنفخ فيها. ولكنهم كانوا أيضاً، أي الشباب كسليماني وأقرانه، سيحظون بفرصة في “المعركة التي ستنتهي بتحرير القدس” مشيراً إلى مقولة الإمام الخميني حين قال، في معرض التعبئة للحرب، إن طريق القدس تمر حتماً في كربلاء التي ذكرها لأكثر من مرة في الكتاب.
في هذا السياق، يفصل عزيزي كيف اندفع سليماني الشاب للانخراط في الحرس ولكنه فشل في محاولته الأولى ولم يستطع الانضمام إلا في أيار/ مايو 1980. فبملامحه الخجولة وبنيته الجسدية القوية كلاعب كاراتيه، ربما لم يكن قاسم ذاك الثوري المديني الذي ألفته التظاهرات والمقاهي، لكنه بالتأكيد كان ذاك الذي تريد أن يكون إلى جانبك في الميدان، يقول عزيزي في كتابه. ويكمل متحدثاً عن بدايات سليماني الذي أوكلت اليه من ضمن مجموعات الحرس المحلية في كرمان مهمة حماية المطار المحلي، الهامشي، للمدينة الداخلية. مهمة لم تكن لتطفئ حاجة “حجي قاسم” للانخراط المباشر في الحرب. وجهته كانت واضحة: الجبهة. خطوطها الأمامية تحديداً بحسب ما يشرح عزيزي في كتابه. وهذا ما تحقق بعد أقل من عام حين انضم لمجموعة من 300 مقاتل من كرمان تم إرسالهم إلى الخطوط الأمامية في الحرب مع صدّام.
في خط النار، تمكن سليماني سريعاً من لفت أنظار كبار القادة مستفيداً من بنيته الجسدية وانضباطه العسكري واندفاعه. وفي تشرين الأول/ أكتوبر 1980 أرسل إلى طهران، تحديداً إلى منشأة الإمام علي التدريبية، حيث خضع لدورة تدريبية مكثفة في الميادين الأيدولوجية والسياسية والعسكرية. هناك، يشير عزيزي إلى أن المدربين هم من الإيرانيين الشباب نسبياً والذين سبق أن خضعوا لتدريبات وشاركوا في العمل “الثوري” والعسكري في لبنان عبر انضمامهم إلى المجموعات العسكرية الفلسطينية الناشطة في ذلك الوقت وعلى رأسها “فتح”. استمر سليماني في لباسه الكاكي، الثياب العسكرية لـ8 سنوات متواصلة، تعرض خلالها للإصابة مرات كثيرة وكان دوماً ما يعود سريعاً إلى ميادين القتال. لكن أكثر ما يلفت في مسيرة سليماني القيادية ليست عبقريته العسكرية، بقدر ما هي قدرته الاستثنائية على التعبئة والاستقطاب وإرسال مئات الشبان إلى الجبهات.
مع الوقت، أظهر الجنود خريجو تدريبات سليماني مستوى عالياً من الانضباط والأداء وكان هذا عاملاً بارزاً في الدفع به نحو قيادة كتيبة بحسب أوامر القيادة، ولكن الأمر انتهى به ليقود كتيبتين من الجنود الكرمانيين بمعظمها. رواية يفصلها عزيزي في كتابها ويشير إلى كونها تحوّلاً نوعياً في مسيرة “قائد الظل” الذي وإن أسس لانطلاقته عبر حشد الإيرانيين للدفاع عن وطنهم في معركة تحرير القدس، انطلاقاً من كربلاء، فإنه وبعد أربعة عقود أنهاها وهو يحشد عشرات الآلاف من بلدان أخرى طوّع سيادتها الوطنية بما يتماشى مع مصلحة النظام الذي بقي وفياً له حتى النفس الأخير. في هذا الإطار، يشير عزيزي، في معرض سؤالنا عن احتمالات تمكّن النظام الإيراني من لعب دور الرافعة الإقليمية لدول كان لسليماني دورٌ بارز فيها، إلى فشل النظام في تسجيل نجاحات كبرى في الداخل الإيراني فكيف به في دول المشرق العربي حيث تتنوع المجتمعات اتنياً ودينياً.
يوضح آراش عزيزي، أن النفوذ الإيراني في هذه الدول كان عملياً مرادفاً للنزاع مع الدول المجاورة والغرب عموماً من دون الحصول على مقابل نوعي. فيسأل، هل يمكن اعتبار روسيا صديقة لإيران؟ هل ستدعمها في نزاعها مع إسرائيل؟ الجواب، بنيامين نتانياهو هو من تمت دعوته إلى احتفالات النصر في روسيا في أيار 2018 وليس “حجي قاسم”. وهل ستختار الصين، مصالح إيران على مصالحها مع الولايات المتحدة الأميركية؟ ينهي عزيزي، حديثه في هذا المجال مشدداً على أنه من الواضح جداً ما ستخسره الدول التي تدور في الفلك الجيوسياسي الإيراني، ولكنه من غير الواضح ما الذي ستربحه من هذه العلاقات. في الوقت عينه، يشير إلى استعمال المسؤولين الايرانيين، سليماني ضمناً، للتدخل الايراني في الدول المجاورة كوسيلة أو رافعة اقتصادية ومالية أساسية. فتبرير الدور الإقليمي لم يكن دوماً عقائدياً دينياً محصوراً فقط بتمهيد الطريق نحو القدس بل كان أيضاً يمر، كأي قوى استعمارية تقليدية، بالمردود الاقتصادي.
الحجي وعلاقة الكره والتعاون مع أميركا
يمثل العداء لأميركا أحد أبرز محددات المشروعية للنظام الإيراني بحسب آراش عزيزي. لا بل يضيف أن شيطنة أميركا تمثل أحد أعمدة الخمينية السياسية. لكن حالة العداء هذه والكره المطلق لم يقفا عائقاً أمام احتمالات التعاون حين تدعو مصالح الطرفين. يعود عزيزي إلى ما قبل إيران- كونترا ويتحدث عن الرسالة السرية التي بعث بها الخميني إبان ثورة 1979، ليطمئن الأميركيين إلى أن الثورة إذا ما نجحت فهي حُكماً لن تكون في المعسكر الشيوعي. فلا داعي للقلق منها. ويشير عزيزي إلى واقع أن الشيوعية كانت في البدء العدو الأول للطرفين، وأن العداء لأميركا كان لاحقاً لعداء الخمينية واستهدافها للشيوعيين. هنا يذكر عزيزي كيف دفع المئات لا بل الآلاف من المعتقلين السياسيين الإيرانيين حياتهم ثمناً لكأس السم التي تجرعها الخميني بعد الهزيمة في الحرب العراقية- الايرانية.
في أواخر عام 2001، وبعد الاعتداء الإرهابي في 11 أيلول/ سبتمبر، وفي خضم التحضيرات لاجتثاث حكم طالبان من أفغانستان جمعت الولايات المتحدة الأميركية مجموعة من القادة الأفغان في فندق بترسبورغ في مدينة بون في محاولة تأسيس حكومة انتقالية. هنا يذكر عزيزي الدور البارز لديبلوماسي إيراني شاب، خريج أعرق الجامعات الأميركية وأمضى أكثر سني عمره فيها، في تأمين موافقة الأطراف الشيعية الأفغانية على حميد كرزاي كالرئيس الأفغاني الجديد. هذا الديبلوماسي لم يكن سوى محمد جواد ظريف وزير الخارجية الحالي. لكن في خلفية المشهد، كان هناك القائد الميداني الذي يمتلك اليد الطولى في التأثير في الجماعات الشيعية الأفغانية والذي سهل مهمة ظريف. هذا القائد بدوره، ودائما بحسب كتاب قائد الظل، لم يكن سوى حجي قاسم.
حين انتهت الحرب الإيرانية العراقية، لم تنتهِ حرب سليماني الذي انتقل إلى محاربة تجار المخدرات في المناطق المحاذية لأفغانستان حيث نشطت عمليات التهريب. هناك، تحوّل سليماني من العسكري المتمرس الذي لا يعلم إلا بما تقتضيه أمور الميدان، إلى الحجي الذي وسّع معرفته بشؤون القبائل الأفغانية الإيرانية والعلاقات القبلية العابرة للحدود وتمرس بنوع من أنواع الدبلوماسية اللانظامية. أصبح الخبير الإيراني الأول بالشأن الأفغاني والقدير على بناء جسور التواصل وتوثيق العلاقات مع السكان المحليين واكتساب ثقة زعماتهم. وهناك أيضاً نشأ العداء بينه وبين طالبان. عام 1996، وحين كانت “طالبان” على أبواب كابول، يورد عزيزي في كتابه كيف ظهر سليماني فجأة في قلب المدينة مجتمعاً بأعضاء الحكومة الأفغانية المتهاوية وحاثاً إياهم على الصمود. في التاسعة والثلاثين من عمره، كفارسي من خارج أفغانستان ومن دون أي صفة رسمية واضحة، كان سليماني يتنقل بين صفات “الحجي” و”قائد الظل” والممثل للنظام الإيراني ليقنع قيادات أفغانية تاريخية كبرهان الدين ربّاني وشاه مسعود بأنه سيدعمهم وبأنهم سينتصرون وإن كان عليهم المغادرة لاحقاً.
بالعودة إلى عام 2001، كان قاسم، ابن حسن سليماني، الطفل الذي نشأ في عائلة غارقة في الديون والذي عاش على هامش الأحداث في السبعينات حتى ما بعد الثورة، قد أصبح ورقة إيران الرابحة التي منحتها، مرة أخرى، فرصة مشاركة أميركا – عدوها اللدود – في التخلص من “طالبان” العدو المشترك وتحقيق مصالح الطرفين وإن بأشكال وأوزان مختلفة. في هذا السياق، والتعبير لعزيزي، مارس سليماني ديبلوماسية العسكر التي واكبت الديبلوماسية الإيرانية النظامية واخترقتها، مفصلاً في كتابه كيف أن رجال سليماني قدموا الخدمات الاستخباراتية الأبرز للمجهود الحربي الأميركي في الحرب على “طالبان”، مرتكزاً على ما كشفه ريان كروكر – الديبلوماسي الأميركي المتقاعد – في كتابه. بمعنى آخر، هناك في أفغانستان، أسس قاسم سليماني، في الميدان، لإيران الدولة الإقليمية ذات النفوذ العابر للحدود والحكومات ونظّر بالممارسة لفكرة الجيش اللانظامي المتعدد الاتنيات والموحد المرجعية تحت قيادة الولًي الفقيه. لكن هذا كله لم يكن كافياً لمنع تصنيف إيران كإحدى دول محور الشر في خطاب الرئيس الأميركي جورج بوش في كانون الثاني 2002. وهذا ما أسس لمرحلة جديدة من علاقة الكره والتعاون بين الاثنين، سيكون العراق ساحتها الرئيسة. يذكر عزيزي في كتابه تفاصيل شيقة عن الأهمية الكبرى لقناة التواصل الخلفية التي كان سليماني يقودها من الجانب الإيراني.
إقرأوا أيضاً:
تعايش أميركي- إيراني
في بغداد، تعايش الأميركيون والإيرانيون لا بل تماهوا مع بعضهم بعضاً بشكل غير مسبوق. ففيما كانت أميركا تعيد بناء الدولة والجيش والأجهزة الأمنية للإمساك بزمام الأمور بعد القرارات التعسفية التي اعتمدت في الفترة الأولى التي تلت سقوط نظام البعث، كان حجي قاسم يؤسس للبنية التحتية المادية للنفوذ الإيراني في العراق. استند سليماني إلى مقولة الخميني الأساسية حول حتمية المرور بكربلاء في الطريق نحو القدس قبل أكثر من عقد من الزمن ليهندس طريق القدس من طهران، أو بعبارة أخرى نفوذ إيران المتمثّل بالهلال الشيعي. هكذا أنشأت إيران مؤسسة خاصة لرعاية المراقد المقدسة في النجف وكربلاء وترميمها، فأثقلتها برجالات فيلق القدس الذين اختلطوا مع الفنانين والمعماريين الذين عملوا على ترميم المراقد. في الوقت عينه، كان قياديو “حزب الدعوى” وأعضاء “فيلق بدر”– الفصيل العراقي الذي قاتل إلى جانب الإيرانيين في الحرب مع العراق – يتحولون إلى رجال الدولة في عراق ما بعد صدام.
لم يكن قائد فيلق القدس بحاجة للكثير من الجهد لبناء موطئ قدم في السياسة العراقية. فمنذ دخول المالكي إلى مكتب رئاسة الحكومة في بغداد حتى بات سليماني متواجد في القلب النابض للسلطة التنفيذية في العراق لينسحب بعدها نفوذه إلى بنيانها المؤسساتي الأمني والسياسي والعسكري. في الوقت نفسه، كان يرفع شعار مقاومة الإمبريالية، وينشط أحمدي نجاد في بناء صورة إيران المعادية للامبريالية والصديقة للشعوب في أميركا اللاتينية، كانت إيران وأميركا تتعاملان كأي دولتين كولونيتين في العراق وتتفقان على التعايش بالحد الأدنى الذي يضمن مصالح الطرفين كما يشير عزيزي. إيران لم تكن تحتاج إلى التفاوض المباشر مع الأميركيين، إذ كانت للحجي قاسم الكلمة الأخيرة في أذن المالكي. لكن للعراق في مسيرة قاسم سليماني رواية أخرى، فهناك، التحوّل الذي شهده الرجل، من حيث ارتكازه أكثر على المكوّن الطائفي في عملية الحشد والتعبئة، كان واضحاً.
في هذا المجال، يوضح عزيزي أن السبب ليس ذاتياً فقط! بل إنه ولدرجة كبيرة يعود إلى ما أنتجه مسرح الاحتراب العراقي، مما يعرف “بالجيل الثاني من القاعدة” والذي كان الزرقاوي أحد أبرز رموزه. هنا يقول عزيزي، كان على سليماني وإيران التعاطي مع استهداف مباشر للشيعة ومقاماتهم الدينية. يوضح آراش عزيزي، أن الجو كان مثقلاً بالخطاب الطائفي في منطقة الشرق الأوسط وبالأحداث التي أججت السعور الطائفي من تفجير المرقدين لاغتيال رئيس وزراء لبنان رفيق الحريري ومشهدية إعدام صدام حسين صباح عيد الأضحى. الطائفية في خطاب سليماني وإن لم تكن كثيرة الظهور، يتابع عزيزي، ولكنها واضحة في ممارسات رجاله على الأرض وفي البروباغندا التي تنشرها الآلة الحربية التي بناها. لكنه يلفت إلى الاستعمال الأدواتي للطائفية في خدمة المصالح التوسعية للنظام الإيراني. فلربما لم تكن هي الدافع الأول ولكنها بالتأكيد تحولت إلى عامل قوّة أساسي في أيدي الإيرانيين.
إقرأوا أيضاً:
حاكم العراق شريك الأميركيين
هكذا أصبح سليماني حاكماً غير معلن للعراق وشريكاً مضارباً للأميركيين في الحكم في إحدى أكبر الدول العربية وأكثرها ثراءً. يذكر عزيزي في كتابه كيف خاطب سليماني، عام 2008، الجنرال بيترايوس (عبر الرئيس العراقي الراحل جلال طالباني) قائلاً إنه هو بنفسه، أي سليماني، من يحدد سياسة إيران في كل من العراق ولبنان وسوريا وأفغانستان وقطاع غزة. نجح في إنشاء ممر بري يجمع أقصى نقطة في جنوب لبنان بالعمق الإيراني وصولاً إلى كابول. لكن أقسى التحولات كانت تلك التي فرضها الظهور المتسارع لـ”داعش: في العراق وانهيار القوات النظامية العراقية بسرعة والذي منح الحجي فرصة تاريخية كان يستحيل أن يضيعها وهو قنّاص فرص كهذه. فأنشئ “الحشد الشعبي العراقي”، وهو جيش لا نظامي موازٍ – على رأسه هادي العامري وأبو مهدي المهندس، أحد رجال العمليات الخارجية للحرس الثوري والمتهم سابقاً في تفجيرات الكويت بجانب عماد مغنية ومصطفى بدرالدين. وسخرت له الإمكانات المتاحة في العراق وإيران، مستفيداً من الغطاء الجوي للتحالف الدولي لمحاربة “داعش”، بقيادة واشنطن ليحقق النصر على “داعش”. وهذا ما حصل بالفعل. لكن الحشد لم يكن جسماً واحداً متراصاً، بل كان على سليماني أن يتأقلم مع مراكز قوّة أساسية في المجتمع الشيعي العراقي، الذي لطالما كان عصياً على التطويع. فكان أن نشأت للحشد فروع، فرع المرجعية وفرع الصدر وفرع سليماني (كتائب “حزب الله” والتي يمكن اعتبارها النسخة العراقية من “حزب الله” اللبناني)، إضافة إلى قوات من طوائف أخرى، كالسنة والمسيحيين والإيزيديين، وإن كان وجودها رمزياً ولإضفاء مشروعية وطنية. هُزم “داعش”، وكحال “طالبان”، كان للتعاون الأميركي الإيراني الدور الأبرز في هزيمته. إلا أن العراق لم ينتصر. فالبلاد خرجت غارقة في النزاع الطائفي، شبه مفلسة وبعد أكثر من عقد ونصف العقد من سقوط استبداد البعث لم تقم لها قائمة. جيشها جيشان وأكثر، وشعبها شعوب وسيادتها سيادات منتقصة بالجملة وخزينتها شبه خالية. لكن ظل سليماني كان الرابح الأبرز فقد تمكن من إعادة إنتاج تجربة “حزب الله” اللبناني في العراق، وإن بأشكال مختلفة، محوّلاً بنيان الدولة العراقية إلى ما يشبه البنية التحتية لفيلقه في المعركة على طريق القدس.
“حزب الله”، في الطريق نحو القدس
في الحديث عن “حزب الله” اللبناني، يذكّر آراش بأن تأسيس الحزب كان بدافع مباشر من الايرانيين، ويحدد أن المخطط التنفيذي للحزب وجسمه القيادي التأسيسي، عكسا بشكل كبير الحضور الإيراني المباشر ونفوذ الحرس الثوري. لكن عزيزي يدعو إلى عدم تحييد المكون المحلي الاساسي الذي تشكّل من مواطنين لبنانيين شيعة أرادو أن يكون لهم تنظيماً يعبر عنهم بشكل مباشر وأن يكون على علاقة مباشرة مع نظام ولاية الفقيه الناشىء في إيران. إضافة إلى الاجتياح الإسرائيلي لبيروت وتقهقر قوات منظمة التحرير واحتلال الجنوب. وفي كتابه، يذكر عزيزي كيف أن العلاقة بين الحزب والجمهورية الإسلامية كانت تحكم من خلال مثلثي لعلاقات القوة؛ مثلث ميداني مباشر يجمع بين سليماني وعماد مغنية وحسن نصرالله ومثلث آخر يجمع بين سليماني وحسن نصرالله والمرشد خامنئي. يذكر عزيزي، كيف أسس سليماني للعلاقة المميزة التي جمعته بالقادة اللبنانيين – وبمباركة ودعم مباشرين من المرشد الذي وثق العلاقة مع سليماني الذي اعتبره الناطق باسمه والمكلف بتطوير القدرات القتالية للحزب في اجتماع عام 1999 ضم حوالى 50 قيادياً من “حزب الله” كما يذكر عزيزي – وبنى عليها ليتحوّل فيلق القدس إلى الجيش العابر للحدود الذي أصبح عليه عام 2020.
في العقدين الأخيرين كان سليماني حاضراً في مختلف المناسبات المفصلية في تاريخ لبنان، في أيار 2000، كان له القرار وبمشاركة مغنية ونصرالله باعتماد منطق “الصبر الاستراتيجي” والذي ركن إليه ليرفض الهجوم على القوات الإسرائيلية المنسحبة من أراضي لبنان المحتلّة حتى لو كان لآخرين داخل مجلس شورى الحزب رأي مغاير. في تموز/ يوليو 2006، كان في دمشق ويشير عزيزي كيف أنه توجه إلى لبنان بشكل مفاجئ ومناقض للتقديرات الأمنية ليقود ومن الخطوط الأمامية المعركة ويقدم الدعم المعنوي والذهني للمقاتلين. يذكر آراش عزيزي، أنه عام 2007، وبعد عودته إلى بغداد توجه سليماني برسالة إلى القيادة الأميركية ليعلمها بعودته بعد أن كان مشغولاً في بيروت.
هل كان قاسم سليماني، القائد الفعلي لـ”حزب الله” اللبناني؟ لا يمكننا أن نعطي جواباً مطلقاً ولكن بالتأكيد أن “حزب الله”، الموجود في لبنان وذو الانتماء المركب الذي يجمع بين الهوية الطائفية المحلية والانتماء المرجعي الديني عابر الحدود، شكل ذراعاً وحجر أساس لمشروع سليماني على مساحة الهلال الشيعي. فالحزب تحوّل بعد عام 2006 لما يشبه الرافعة التنظيمية والعسكرية والتواصلية في منظومة “فيلق القدس”. هكذا، تصبح علينا إعادة قراءة مواقف الحزب وأمينه العام، تحديداً من زاوية موقعهما في منظومة القوة والنفوذ التي أرساها سليماني عبر فيلق القدس خصوصاً والحرس الثوري عموماً وليس فقط من كونهم حزباً لبنانياً تحدد حركته بحسب الحراك السياسي اللبناني. هنا يصبح من غير ذي فائدة أن يُسأل الحزب عن دوافع مشاركته في الحرب في سوريا ودعم نظام البعث أو الذهاب لليمن ودعم الحوثيين ولعب دور مقدم الخدمات التقنية والاستشارية عبر سفيره محمد كوثراني في العراق. فحزب الله جزء من منظومة تمتد مساحة أعمالها المباشرة على خمس دول. وكما يردد أمينه العام، “أينما توجب أن يكونوا فسيكونون”! والذي يحدد هذا الوجوب ليس سوى هيئة أركان حرب “فيلق القدس”، والتي كان يقودها سليماني سابقاً وتتبع مباشرة لمنظومة القيادة والقرار في مؤسسة الحرس الثوري وتحت إشراف المرشد نفسه.
هكذا أيضاً، يسأل عزيزي في معرض الحديث معه، أليس “حزب الله” حزباً ثورياً تغييرياً ينصر المستضعفين؟ فكيف له أن ينصر زعماء محليين طائفيين تحوم حولهم شبهات فساد ويذكر تحديداً الوزير السابق جبران باسيل والرئيس اللبناني ميشال عون، مذكراً أن الحزب قد أصبح الحامي الأساس لما يسميه “نظام الزعماء”، في إشارة إلى نظام المحاصصات الطائفية المتحكم بالدولة اللبنانية. ومن هنا نستطيع أن نفهم خلفية دور الحزب في قمع الاحتجاجات التي تلت 17 تشرين الأول 2019 ونصرة منظومة الحكم في لبنان على حساب المنتفضين. فـ”حزب الله” الذي من يفترض أن تكون عقيدته ثورية، هو عملياً خط دفاع أول عن قوّة مهيمنة ليس في لبنان فقط بل في كل المنطقة من كابول إلى حارة حريك. فحين يكون التغيير لمصلحة هذه القوّة، يخرج متضامناً رافعاً شعار نصرة المستضعفين كما في اليمن والبحرين ومصر (في بداية ثورة يناير) وحين يصطدم مسار الحراك الثوري مع مصالح هذه القوّة يخرج الحزب وبزخم مضاعف شاهراً سيف التخوين ويشكل ذراع قمع تنفيذية غليظة لهذه القوّة كما في لبنان والعراق وسوريا. بالعودة إلى المصطلح الذي يستعمله عزيزي لتوصيف نظام ما بعد ثورة 1979، فعلينا ألا نسقط من حساباتنا، أن “حزب الله” هو جزء من ثورة حقيقية تحولت إلى “ديكتاتورية رأسمالية”.
إقرأوا أيضاً:
رحل الحجي، فماذا عن ظله؟
لم تكن حياة سليماني أقل غموضاً من موته، فقائد الظل أطلق برحيله مجموعة من الأسئلة حول رد النظام الإيراني على الاستهداف والفراغ الذي سيخلفه رحيله. لكن الثابت الوحيد أن الرجل الذي عاش كأسطورة بلا ظل تحول كعشرات الآلاف من الشبان الذين تأثروا به إلى مادة للتعبئة والحشد والتجييش، ربما للمزيد من الحروب والجبهات التي قد تفتح في المنطقة. وفي واقع الأمر، للحجي اليوم عشرات لا بل مئات الظلال – لصور ويافطات وتماثيل – موزعة بين لبنان وسوريا والعراق وإيران منصوبة للتذكير، بعد سنة من رحيله، بأنه ما زال مصدراً أساسياً لرفع المعنويات وشد العزيمة في نظام يواجهة أزمات وجودية كبيرة من حيث حالة الخنق المالي الذي فرضتها إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب ومن حيث اتساع الهوة بين النظام ومنتظميه وعموم الشباب الإيراني الذي، وبعد 40 عاماً من الثورة، قد لا يعني له ظلم الشاه أو عدائية صدام وحتى “غطرسة الغرب”، كثيراً.
في إيران ما بعد سليماني، يقول آراش عزيزي إن النظام وامتداداته الإقليمية ورجاله أيقنوا سريعاً أنه لا يوجد سليماني آخر، حتى أمين عام “حزب الله” أعرب عن عدم رغبته وتمكنه من القيام بهذا الدور بسبب العقبات اللوجستية والمخاطر الأمنية. فكان اسماعيل قاآني بديلاً إدارياً معنياً بملفات المنطقة، ولكن ليس بالصلاحيات أو الحضور والزخم التي تمتع بها “حجي قاسم”. عملياً هذا يعني، دائماً بحسب عزيزي، مزيداً من الاستقلالية للأذرع المحلية خصوصاً في العراق. هو يعتبر أن الحاكم الحالي الفعلي هو المرشد نفسه فهو الذي يوازن بين مختلف مراكز ومجموعات القوة داخل النظام وداخل المحافظين وحتى داخل الحرس نفسه. يُذكرنا عزيزي بأن إيران لم تكن يوماً جمهورية الحزب الواحد، بل إن الاختلاف بين مجموعات مكونة للنظام كان دوماً موجوداً ولعب لمصالح تمكين الحكم وليس تقويضه. هكذا يشرح كيف أن الإمام المؤسس – الخميني – تدخل عام 1987 سامحاً بالاختلاف ما بين مجموعة رجال الدين التي تدعمه وتشكل بطانة حكمه. كان الاختلاف وقتها حول التوجهات الاقتصادية للبلاد بين معسكرين واحد يميل للسياسات اليمينية والليبرالية الاقتصادية، وآخر أكثر تحفظاً وميلاً نحو السياسات الاجتماعية. كان رد فعل الخميني لافتاً بحسب عزيزي، إذ قرر المضي بالوجهتين مستثمراً هذا التنوع والثنائية بما يمتّن نظام الحكم. في هذا السياق، يشير إلى الدور الذي مثله المرشد في ضبط العلاقة ما بين محمد جواد ظريف وسليماني وكيف وازن بين حماية دبلوماسية ظريف من الهجوم المضاد الإعلامي الذي تعرض له من قبل مؤسسات الحرس ومباركة المجهود التوسعي لسليماني.
لكن عزيزي يعتبر أن إيران قد تنتقل من ثيوقراطية رأسمالية إلى ديكتاتورية عسكرية، حيث يسيطر الحرس أكثر فأكثر على مفاصل الجمهورية. فهو يسيطر اليوم على البرلمان بوجود محمد باقر قاليباف على رأسه – وهو من المقربين لسليماني – فيما يعتبر ابراهيم رئيسي الرئيس الحالي للسلطة القضائية من المقربين للحرس. في المقابل، وعلى رغم قوته اللامتناهية في النظام، فإن المرشد الحالي يعاني من وضع صحي دقيق وبدأ الحديث عن مرشحين للمنصب علماً أن رئيسي نفسه يعتبر من أبرز المرشحين للمنصب. لكن عزيزي يوضح أن الثابت الوحيد وباختلاف الأسماء أن الحرس الثوري ستكون له اليد الطولى في عملية تزكية مرشد جديد وهذا ما يزيد من احتمالات التوجه نحو دكتاتورية عسكرية، تشكل مرحلة جديدة من العلاقة ما بين العسكر ورجال الدين الذين حكموا إيران في العقود الأربعة الماضية.
يختم آراش عزيزي حديثه بالإشارة إلى الأزمة الوجودية التي تواجه النظام الإيراني وحالة التأزم التي يواجهها إن في المركز أو في الأطراف، حيث يخيم شبح الإفلاس والانهيار المالي واتساع الفجوة بين الناس والمنظومة الحاكمة. يذكر أن التحدي الأبرز في مسار سليماني لربما كان التظاهرات التي اجتاحت شوارع بغداد وبيروت مطالبة بإسقاط الأنظمة التي يقودها في الظل، عبر أذرع “فيلق القدس” المحلية في البلدين، والتي يأتي “حزب الله” وأمينه العام السيد حسن نصرالله على رأسها. فاحترام سيادة الدول وبناء علاقات ندية، هو المسار نحو تحقيق النمو والازدهار الاقتصادي وليس الاقتصاد السياسي للمجموعات العسكرية الموازية والتي تشكل عملياً رافداً لتحقيق مصالح النظام الإيراني السياسية والاقتصادية. الناس في هذه الدول يطمحون إلى علاقات طبيعية آمنة، لا أن تحكمهم ميليشيات تتبع لأنظمة خارجية، يقول عزيزي مؤكداً أن الرهان الأسلم هو هذا الذي يبقى على احتمالات قيام الشعوب بتقرير مصيرها وتغيير مشهد الاستبداد الذي يتحكم بها. كيف؟ ربما بالمزيد من الحوارات والتواصل ما بين الناس وبناء جسور الثقة.
أما ظل قاسم سليماني فدوامه من دوام الإمبراطورية المتعثرة التي ساهم ببنائها بالحديد والنار وحيوات عشرات آلاف الشبان. قد يتحول إلى ذكرى، قد تترسّخ الأسطورة، قد يُقدس وقد يُشيطن. لا أحد يستطيع الجزم بما سيكون عليه ظل حجي على النظام الإيراني في المستقبل، لكن الثابت أن الناس في بيروت وبغداد وغيرها بدأوا يخرجون من الظلال، كاسرين حاجز الخوف إلى غير رجعة.
*ربيع فخري باحث لبناني في علم الاجتماع وبشار الحلبي باحث أكاديمي في العلوم السياسية
إقرأوا أيضاً: