يوم وفاته في 27 تموز/ يوليو عام 2018، وبّخ ميخائيل خاتشاتوريان بناته المراهقات الثلاث، كريستينا وأنجلينا وماريا وأخبرهن أن الشقة التي يعيشون فيها معه تعجّ بالفوضى، وأنه سيُعاقبهنّ لتركها في هذه الحال. خاتشاتوريان، وهو رجل ضخم سريع الغضب في أواخر الخمسينات من عمره وذو إيمان أورثوذكسي راسخ، أدار أمور منزله بتعنّت مذ أجبر زوجته على المغادرة عام 2015.
أخبرت بناته المحققين لاحقاً أنه في ظهيرة ذلك اليوم عاقبهنّ بطريقته السادية المعتادة. استدعى خاتشاتوريان بناته الواحدة تلو الأخرى إلى غرفته وظلّ يلعنهنّ ويصرخ فيهنّ، ثم رشّ وجه كل واحدة منهن برذاذ الفلفل. بدأت الابنة الكُبرى، كريستينا (19 سنة)، في الاختناق من أثر الرذاذ، ثم انسحبت إلى غرفة نومها التي تتشاركها مع أخواتها، لتنهار فوق السرير وتفقد الوعي. لاحقاً، وصفت الأخت الصُغرى، ماريا (17 سنة)، هذه اللحظة بأنها “القشة التي قصمت ظهر البعير”.
استيقظت كريستينا على صوت صراخ يأتي من خلف باب غرفة النوم. ركضت مسرعة إلى غرفة المعيشة لتجد أختيْها واقفتيْن أمام الأب الذي كان جالساً على مقعده يعاني بشدّة. انتزعت كريستينا زجاجة رذاذ الفلفل من الطاولة المجاورة ثم رشّتها في وجه أبيها بجنون، ظناً منها أن أختيْها كانتا في خطر.
لكنّ ما شاهدته كريستينا لم يكن اعتداء آخر من خاتشاتوريان على بناته. فبينما كانت تفيق في غرفة النوم، يقول المحققون إن ماريا وأنجلينا هاجمتا خاتشاتوريان بسكّين صيد ومطرقة جلبتاها من سيارته. مضطرباً من أثر رذاذ الفلفل، هرع الأخير خارجاً، وهو ينزف، ليتعثّر ثم يسقط على بهو السلّم خارج الشقة، ولحقته الابنة الوسطى، أنجلينا البالغة من العمر 18 عاماً، وغرزت السكين في قلبه، وفق المحقّقين.
بعد دقائق، اتصلت إحدى الأخوات بالشرطة، وعرّفت نفسها باسم أنجلينا، ثم شرحت وهي تذرف الدموع أن أباها هاجمها بينما كان تحت تأثير جرعة قوية من المهدّئات، وأنها قتلته دفاعاً عن النفس. وجدت الشرطة جثة الأب، وقُبِض على الشقيقات بتهمة القتل واحتجزن في سجن النساء الاحتياطيّ جنوب شرقي موسكو.
انتشرت أنباء جريمة القتل سريعاً في روسيا، وخلال الأشهر التالية، تباينت الآراء في البلاد حول ما دفع الأخوات المراهقات الثلاث لقتل أبيْهن.
وعلى رغم تاريخ الأب في سوء معاملة بناته، وجّه المدّعون في حزيران/ يونيو عام 2019 إلى الفتيات الثلاث تهمة القتل العمد مع سبق الإصرار والترصّد. أُطلق سراحهن عقب شهرين من الجريمة بعدما قدّم محاموهنّ طلب استئناف، ومع استمرار التحقيق في الجريمة، مكثت الفتيات لدى أقاربهنّ في انتظار المحاكمة. أوضح تشخيص نفسي أُجري بعد ارتكاب الجريمة بوقت قليل أن ماريا كانت غير سليمة ذهنياً وقت ارتكاب الجريمة بسبب اضطراب إجهاديّ حادّ أصابها من جراء انتهاكات أبيها، وأوصى التشخيص بحاجتها إلى العلاج. لكن بالنظر إلى خطورة التهم الموجّهة لهنّ، تواجه ماريا وأختاها عقوبة تتراوح بين 8 و20 عاماً في السجن جرّاء ما وصفنه بأنه دفاع مستميت عن النفس.

نقاش وطني
في غضون ذلك، تجد روسيا نفسها في عمق نقاش وطني حول العنف المنزلي. أدت قضية الشقيقات الثلاثة إلى تعبئة المعارضة ضد النظام القانوني العقابي والثقافة السياسية المحافظة. ففي الوقت الحالي، ليس لدى روسيا تشريع محدد لتعريف العنف المنزلي ومنعه وملاحقة مرتكبيه قضائياً. ويدشن المدافعون عن حقوق المرأة حملةً لإسقاط قانون مثير للجدل يعود لعام 2017 حول الاعتداء بالضرب، تسبب في تخفيف العقوبات وتشجيع الجناة على الإفلات من العقاب.
خرج المئات إلى الشوارع منذ إصدار لائحة الاتهام للمطالبة بالإفراج عن الشقيقات واعتصموا أمام المباني الحكومية احتجاجاً على محاكمتهن. ونُظمت حفلات وعروض مسرحية لجمع التبرعات للأتعاب القانونية لقضيتهن والمطالبة بتمرير قانون يمكن أن يساعد في منع حدوث اعتداءات في المستقبل. وجمعت عريضة على الإنترنت تطالب بإطلاق سراحهن أكثر من 370 ألف توقيع. قالت أليونا بوبوفا، الناشطة في مجال حقوق المرأة التي أطلقت العريضة وساعدت في صياغة مشروع قانون حول العنف المنزلي يُناقَش الآن في البرلمان الروسي: “يتضح أن هذه مشكلة ذات أبعاد كارثية لا يمكن تجاهلها. ويجب أن نفعل شيئاً”.
ولكن في ظل تكثيف النشطاء جهودهم لإصلاح النظام القانوني، يواجه هؤلاء حملة مدعومة من الكنيسة الأرثوذكوسية القوية تدعو إلى تعزيز “القيم التقليدية” وتصوير تعرّض وحدة الأسرة الروسية للتهديد.
يظهر القساوسة الأرثوذوكس على قنوات التلفاز الحكومية ويشجبون بشدة القوى الخبيثة للعولمة، فيما تُنظَم وقفات احتجاجية حول روسيا احتجاجاً على التقدمية الغربية. وتروج مئات حسابات التواصل الاجتماعي، التي تمثل الحركات المحافظة، الرواية الكارثية التي تزعم أن أي خطوات تتخذ نحو تقنين الشؤون العائلية ستؤدي إلى تفكك الأسر الروسية، بل وربما إلى تفكيك روسيا نفسها.
تهديد جنسي؟
في رسائل على تطبيق واتساب سُربت إلى الصحافة، كان خاتشاتوريان غالباً يهدد أنجلينا بالعنف الجنسي. وفي كانون الثاني/ يناير 2018، بينما كان في رحلة الحج في إسرائيل، هدد باغتصاب ابنتيه وزوجته المنفصلة عنه بعد علمه أن أنجلينا لم تكن في المنزل مثلما أمر. وبعد ثلاثة أشهر، أرسل إليها سلسلة من الرسائل الصوتية البذيئة. قال في إحدى هذه الرسائل الصوتية: “سوف تفعلين هذا إلى ما لا نهاية يا أنجلينا. وإذا غادرتِ، سوف أعثر عليكِ”. وبعد ثلاثة أشهر، حذر قائلاً: “سوف أضربكِ من أجل كل شيء. سوف أقتلكِ. غادري، غادري، لا توصليني إلى الخطيئة”.
كان العنف، أو التهديد بارتكابه، حاضراً دائماً في منزلهم. وكان خاتشاتوريان مؤمناً بشدة بالخرافات، وقيل إنه منع عائلته من التفوه بكلمات يومية محددة في وجوده لاعتقاده بأنها تجلب الحظ السيئ. ووضع كاميرا أمام شقتهم ليسجل دخول وخروج بناته. وخلال عملية تفتيش العقار بعد مقتله، صادرت الشرطة مطرقة، وسكيناً، وبندقيتين هوائيتين، وقوس ونشاب، ومسدس مطاط، ومسدس دوار، وبندقية صيد، و16 خرطوشة، و16 رمحاً. وعثروا في سيارة خاتشاتوريان كذلك على بطاقات عمل عليها شعار جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، تشير إلى أن صاحب الـ 57 عاماً أحد موظفي الجهاز.
في تسجيلات استجواب الشرطة، وصفت أنجلينا المأزق الذي واجهته الشقيقات قبل جريمة القتل. إذ قالت في حديثها عن أبيها: “سئمنا أنا وشقيقتي هذه الحياة، لكننا كنا خائفات من اللجوء إلى أي شخص طلباً للمساعدة لأنه يحظى بعلاقات في كل مكان”. بعد أن أُجبرت أمهن على الفرار، كانت الشقيقات خائفات من أن أي شخص يحاول مساعدتهن كان سيواجه مشكلات. وأضافت: “لم يكن إبلاغ أقاربنا أيضاً حلاً للمشكلة، لأنهم ربما ما كانوا سيصدقوننا”.

وفي التصريحات التي أدليا بها، تذكرت ماريا وأنجلينا واقعة تعود إلى بدايات 2016، عندما كانت الشقيقات الثلاث في عطلة مع أبيهن في أدلر، وهو منتجع يقع على ساحل البحر الأسود في روسيا. بعد أن خرجت كريستينا من غرفة كانت فيها وحدها مع أبيها، ابتلعت حفنة من أقراص دروتافيرين، وهو دواء مضاد للتشنج، فيما يبدو محاولة انتحار، وتوجّب الإسراع بها إلى المستشفى.
أخبرني أليكسي ليبستر، محامي كريستينا، إن خوف شقيقتيها من أن تحاول كريستينا الانتحار ثانية قادهما إلى تولي الأمور بأيديهما. (وأضاف أن كريستينا لم تشارك في القتل). في رسالة على تطبيق واتساب بينها وبين إحدى صديقاتها قبل شهر من قتل أبيها، قالت كريستينا إنه هددها مرة ثانية باغتصابها وإنها ربما لن تتحمل الموقف أكثر من هذا.
كتبت كريستينا: “فقدت وعيي خلال الليلة. بدأ ملاحقتي في الواحدة صباحاً لأنه لم يقبل أن أحد قمصانه لم يكن مكوياً”. وتابعت: “ارتبكت وداهمني القلق والاضطراب وبدأت في البكاء ثم بدأت في الاختناق وسقطت على الأرض. بدأت (شقيقتاي) الصغيرتان في البكاء وفي إنعاشي، كان الأمر جنونياً. وفوق ذلك، ضربهما على رأسيهما بالبندقية… إنه يزداد سوءاً كل يوم”. ردت الصديقة: “وهل الأمر هكذا كل يوم؟”. فأجابت كريستينا: “تقريباً”.
في كانون الأول، سافرتُ إلى الضواحي الشمالية لموسكو لمقابلة أوريليا دوندوك، والدة الشقيقات الثلاث والشاهدة الرئيسية في قضيّتهن. التقت دوندوك بميخائيل خاتشاتوريان في عام 1996 بموسكو، عقب عامين من هجرتها إليها قادمة من مولدوفا بصحبة والديْها. إبّان ذلك، كان عمر دوندوك 17 عاماً، بينما بلغ عمر خاتشاتوريان 35 عاماً، وينحدر من أسرة أرمينيّة الأصل كانت تقيم في آذربيجان، الجمهوريّة السوفياتيّة السابقة، ثم اضطُرت إلى مغادرتها عام 1988.
تواعَدَت دوندوك وخاتشاتوريان بضعة أشهر عقب لقائهما الأول، ثمّ انفصلا لاحقاً. صار الرجل عنيفاً وشرع في تهديد عائلتها كما قالت، لذلك قرّرت الانتقال خارج المدينة والبقاء بصحبة أقرباء لها لتكون بمنأى عنه. بيد أنه أجبرها على العودة في النهاية عبر سلسلة من التهديدات والضغوط القسرية التي بلغت ذروتها -بحسب قولها- حين احتجزها في شقته عقب حضورها احتفال نظّمه بمناسبة العام الميلاديّ الجديد.
في مقهى ليس ببعيد عن الشقة التي اغتيل خاتشاتوريان داخلها، قالت لي دوندوك البالغة من العمر 40 سنة الآن: “بقيت معه رغماً عن إرادتي، لم يترك لأحد منّا خياراً آخر، لا أنا ولا أقاربي”.
في حزيران 1997، أنجبت دوندوك ابنها سيرغي، ثم أنجبت كريستينا بعدها بعامين. إبّان تلك الفترة، دأب خاتشاتوريان على ضربها بصفة دوريّة، كانت أتفه الأشياء تثير غضبه، وفق قولها.
وذكر سيرغي ابن خاتشوريان البكر أنه تعرّض بدوره لعنف مستمرّ. عام 2013، وحين كان بعمر 16 سنة، طرده خاتشاتوريان من المنزل، واضطُر إلى النوم في العراء لأسابيع قبل أن يستقبله أحد أصدقائه الذي بات يعيش معه منذ ذلك الحين. بعد ذلك وفي عام 2015، أجبر خاتشاتوريان دوندوك على المغادرة أيضاً.
لم تعد دوندوك أبداً للعيش مع عائلتها، إذ تكفّل بها أحد أصدقائها في موسكو، ثم انتقلت إلى مولدوفا لتنضمّ إلى والدتها. عقب ذلك بعام، عادت إلى موسكو لتبقى على مقربة من أطفالها ومجدداً لجأت إلى أصدقائها. إلا أنّها لم تحظَ سوى بفرص ضئيلة للالتقاء ببناتها، التي قالت إنهن خشين من انتقام خاتشاتوريان. لم تعلم دوندوك قصة اعتداء خاتشاتوريان جنسياً على بناتها إلا من خلال المُحقّقين، نتيجة ضآلة تواصلها معهنّ، وبفعل الخوف الذي كان الدافع وراء ذلك، وعندما علمت بالأمر قالت: “أردت أن أقتله من جديد”.
في أعقاب مقتله، دخلت عائلة خاتشاتوريان في معركة علنية دفاعاً عنه. ذلك أن أرسين -وهو ابن أخ القتيل ويبلغ عمره 21 سنة- شرع في التردّد على استوديوات قنوات موسكو مدافعاً عن سمعة الرجل الذي دعاه بـ”أبي”. ووصف دوندوك بـ “العاهر”، واتّهمها بتحريض بناتها على القتل.

العنف الأسري في روسيا
حتى قبل حادثة القتل، كان لموضوع العنف الأُسريّ حضوره في ساحة الجدل العام في روسيا. في عام 2012، أجرت الحكومة الروسيّة دراسة استقصائيّة على الصعيد المحليّ كشفت عن تعرّض امرأة من كل خمس نساء للعنف الجسدي من قِبَل الزوج أو الشريك. بعد أربعة أعوام، وفي تموز/ يوليو من عام 2016، استثنى البرلمان الروسيّ، بموافقة بوتين، الإيذاء البدنيّ الواقع ضد “الأشخاص المقرّبين”، من قانون يُضفي الشرعيّة على أشكال أخرى من الإيذاء البدنيّ. يعني هذا التعديل أنه وللمرة الأولى في التاريخ الروسي، بات هناك قانون ينطبق بالتحديد على حالات العنف الأُسريّ.
بيد أن الأمر سرعان ما استفزّ ردة فعل قويّة من المحافظين. ففي تشرين الثاني/ نوفمبر عام 2016، قدّمت مجموعة من المُشرّعين بزعامة إيلينا ميزولينا، رئيسة اللجنة المعنيّة بالأسرة في البرلمان، مشروع قانون يزيل صفة الجُرم عن حالات العنف الأُسريّ التي لا تتكرّر أكثر من مرة واحدة في العام ولا تتسبّب في أضرار بدنيّة دائمة. أعدّت ميزولينا القانون بوصفه وسيلة لحماية الأُسر الروسيّة من التدخّل الخارجي، مُشيرة إلى التمويل الأجنبيّ الذي تتلقاه المنظمات غير الحكوميّة المناهضة لمقترحها.
دعم بوتين المحافظين هذه المرّة، وحذّر في كانون الأول/ ديسمبر عام 2016 من أن “التدخّل في شؤون الأسرة هو أمر غير مقبول”. في نهاية عام 2016، وبالتوازي مع تحرّك المُشرّعين إلى تمرير المُقترح في البرلمان، شنّ التلفزيون الحكومي الروسي حملة دعائيّة تهدف إلى تسهيل الأمر. ذلك أن القنوات الاتحاديّة بثّت تقارير مفادها أن الرجال لا ينبغي أن يكونوا عرضة للمساءلة القانونية إذا ضربوا زوجاتهم من دون قصد “بدافع الحب الشديد” أو “بما يخدم مصلحة التربية”. وأشاعت تلك التقارير أن الأطفال الأوروبيين يهجرون عائلاتهم بصفة دوريّة من جرّاء الشكاوى الكيديّة المتعلقة بالعنف الأُسريّ التي يقدّمها الغرباء. في السياق ذاته، قالت أولغا باتالينا، وهي واحدة من النوّاب المدافعين عن المقترح: “إننا نوازن بين حقوق الناس وبين إلغاء القوانين المناهضة للأسرة”.
بموجب القانون الجديد، الذي وقّع بوتين عليه في شباط/ فبراير عام 2017، بات العنف الأُسريّ الذي لا يتسبّب في إصابات بالغة يُعاقَب عليه بغرامة قدرها 30 ألف روبل (360 جنيهاً استرلينياً) -وهي تماثل الغرامة الموقّعة بسبب التدخين أو بسبب مخالفة وقوف السيّارات- أو بالحبس 15 يوماً. كما بات من شأن الاعتداء الثاني أن يؤدي إلى السجن لثلاثة شهور، لكن في حال مرّ عام كامل على مرة الاعتداء الأولى، تُطبّق الغرامة الزهيدة مرّة أخرى.
تعد أسباب الانقلاب الكامل في موقف بوتين إزاء العنف الأُسريّ متشابكة، ذلك أن التيّار المحافظ في روسيا يشترك نسبياً في المخاوف ذاتها المناهضة للعولمة التي تؤجّج المدّ الشعبويّ في مختلف أرجاء أوروبا. بيد أن روسيا، إضافة إلى ذلك، تعاني منذ انهيار الامبراطورية السوفياتيّة عام 1991 من انخفاض في النمو السكاني. والحال أن بوتين كان كشف النقاب عن حوافز ماليّة متعددة للأمهات اللاتي يلدنَ لأول مرة فضلاً عن اعتباره زيادة معدّل المواليد سياسة ذات أولويّة طوال 20 عاماً كان خلالها في سُدّة السلطة في روسيا. برغم ذلك فشل فشلاً ذريعاً في قلب المسار.
ارتمى بوتين في حضن الأكثرية القوميّة التي تُشكّل قاعدته الاجتماعية، واستنهض دعمها له عبر الخطب الرنّانة بشأن “القيم التقليدية” فضلاً عن العديد من المبادرات المحافظة. أدّى قانون صدر عام 2013 يحظر “ترويج المثلية الجنسية” في وجود الأطفال الروس إلى ردّ فعل عنيف تجاه مجتمع الميم في شتى أنحاء البلاد. ووطّد بوتين سلطة الكنيسة الأرثذوكسية في روسيا، وهي مؤسسة تناهض العولمة والتأثير الغربيّ وتدافع عن القيم التقليديّة بوصفها السبيل إلى حماية الهويّة الروسيّة.
عقب تمرير مشروع قانون ميزولينا الذي يُضفي الشرعيّة على بعض حالات العنف الأُسريّ عام 2017، أفاد ناشطون في مجال حقوق المرأة بارتفاع حادّ في وتيرة العنف الأُسريّ. وسجّل الخط الساخن للأزمات التابع لـ Anna Centre، وهي منظمة معنيّة بحقوق المرأة كانت حكومة بوتين وصفتها بـ”العميلة الأجنبية”، ارتفاعاً في أعداد الشكاوى من 20 ألف حالة عام 2016 إلى أكثر من 31 ألف حالة خلال عام 2018.

حادثة مروّعة!
بعد مرور عشرة أشهر من تفعيل القانون، اُستدرجت مارجريتا جريتشافا في كانون الأول عام 2017 من زوجها إلى غابة قريبة من المدينة التي تقطن بها والتي تبعد 60 ميلاً عن موسكو، قطع زوجها يديها بفأس. لقد كانت نهاية مروّعة لشهور من الإساءة المستمرة، على رغم لجوء جريتشافا إلى الشرطة التي رفضت توجيه الاتهامات للزوج. في كانون الثاني 2018، وفي إحدى المدن التابعة لموسكو، طُعنت عاملة صالون تجميل تُدعى إلينا فيربا 57 طعنة على يد زوجها، الذي ذهب إلى العمل بعد جريمته وترك جثة زوجته المشوّهة ليكتشفها ابنهما ذو السبع سنوات. كانت فيربا تقدمت للشرطة ببلاغ عن واقعة عنف منزلي بحقها قبل 6 أشهر من مقتلها، ولكن الضباط المناوبين حينئذٍ أقنعوها بالعدول عن البلاغ بسبب عمل زوجها في جهة قانونية وقد يعرضه البلاغ لخسارة وظيفته. أيضاً في أيلول/ سبتمبر الماضي، وفي مدينة تشيبوكساري الواقعة على بعد 400 ميل شرق موسكو، شُنقت آنا أوفتشينيكوفا، البالغة 38 سنة، بحبلٍ على يد زوجها الذي وضع جثتها في حقيبة سفر ودفنها في غابة مجاورة. كانت آنا تقدمت بثلاثة بلاغات عنف منزلي على الأقل. في نهاية الأمر، حُكم على الأزواج الثلاثة بالسجن لمدد تتراوح بين 9 و15 سنة.
تشير إحصاءات الحكومة أن واحدة من بين كل 10 نساء روسيات يعانين من العنف المنزلي يتقدمن ببلاغ إلى الشرطة- وهو ما يواكب تقريباً المعدل العالمي بحسب تقارير الأمم المتحدة- ويلجأ فقط 2 في المئة إلى الاستشارة القانونية. وفقاً للتحليل الأخير الذي أجرته الجهة الإعلامية المستقلة “ميديا زونا” على آلاف الأحكام الصادرة من المحاكم ضد نساء روسيات سُجنّ لارتكابهن جرائم قتل بين عامي 2016 و2018، وُجد أن 79 في المئة منهن ارتكبن الجرائم دفاعاً عن النفس ضد أزواجهن أو شركائهن.
أصدرت محكمة في أوريول ، الواقعة على بعد 200 ميل جنوب موسكو، في تموز الماضي حكماً بحق الضابطة المناوبة ناتاليا باشكتوفا بالحبس سنتين بتهمة الإهمال. جاء هذا الحكم على خلفية واقعة في تشرين الثاني 2016 حين تلقت باشكتوفا اتصالاً من امرأة هددها صديقها بالقتل. ردت باشكتوفا على المرأة قائلة “لا تتصلي مرة أخرى، لن نأتي إليك”، وسألتها المرأة المُتصلة “ماذا لو وقع أمر ما؟” لتجيبها باشكتوفا “إذا قتلك، سنأتي لفحص الجثة، لا تقلقي”. في غضون 40 دقيقة من هذه المكالمة، التي سجتلها المرأة المُتصلة، انهال عليها صديقها بالضرب في ساحة منزلها حتى لفظت أنفاسها الأخيرة.
جاء هنا دور المحكمة الأوربية لحقوق الإنسان لتصبح الملاذ الأخير لبعض الضحايا. فقد أصدرت المحكمة الأوربية لحقوق الإنسان في تموز قرارها الأول بشأن وقائع العنف المنزلي في روسيا، مُقرةً بعجز الشرطة عن حماية فاليريا فولودينا ضد الاعتداءات المتكررة من قرينها السابق الذي ظل يطاردها ويعتدي عليها بعدما هجرته عام 2015. وقد صدر عن المحكمة تقييم انتقادي قاس لأداء الحكومة الضعيف الذي سمح “بوجود مناخ أفضى إلى العنف المنزلي”.
ردت وزارة العدل الروسية، في تشرين الثاني، على أسئلة أرسلتها المحكمة الأوربية لحقوق الإنسان بشأن قضايا العنف المنزلي التي تقدمت بها نساء روسيات. سردت جريدة “كومرسانت” الروسية مقتطفات لرد الوزارة والتي جاء فيها أن مستوى العنف المنزلي في روسيا “مُبالغ فيه” ورفضت الوزارة الحاجة إلى تشريع منفصل في هذا الشأن. فالضحية لها اختيار التصالح مع خصمها من أجل، كما تقول الوزارة، “الحفاظ على العلاقات الأسرية” وأن النساء الروسيات اللاتي لجأن إلى المحكمة الأوربية لحقوق الإنسان “يحاولن تقويض جهود الحكومة لحل المسألة”.
لتصل إلى مكتب أوكسانا بوشكينا، أحد أعضاء هيئة التشريع في مجلس الدوما التابع للبرلمان الروسي، عليك المرور بأجهزة كواشف معدنية ومنطقة معارض و مجموعة من المصاعد التي توصلك إلى الطابق التاسع. ظهيرة يوم زيارتي في شهر تشرين الثاني، عُرضت البنادق الفتاكة وأسلحة أخرى روسية الصنع في صناديق زجاجية ضمن احتفالات الهيئة التشريعية والمدارس والمؤسسات الأخرى في الدولة بمرور 100 عام على ميلاد مُصمم الأسلحة الروسي ميخائيل كلاشينكوف.
تعتبر بوشكينا واحدة من 73 مُشرّعة قانونية ضمن المجلس التشريعي المكون من 450 مقعداً، إذ تنفرد بمكانتها بين المسؤولين القوميين الذين يصيغون القوانين المعتمدة من الكرملين.
تحاول الناشطة بوشكينا تقديم مشروع قانون جديد حول العنف المنزلي. بمساعدة المحاميان المشاركان في قضية الأخوات خاتشاتوران دافتيان وبارشين، وأليونا بوبوفا. يشمل مشروع القانون منع الشريك الذي يمارس الاعتداء من الوصول إلى الضحية لشهر على الأقل، وإمكان طرده من بيت العائلة المشترك، مع اشتراط تحملهم رسوم الإجراءات القانونية عن ضحاياهم أو المأوى البديل أثناء فترات العنف. ويقترح مشروع القانون إنشاء بنية تحتية لدعم الضحايا، إضافة إلى الخدمات الاستشارية وملاجئ إيواء تنتشر في جميع أنحاء روسيا. ويضع تعريفاً للعنف المنزلي والأشكال -المادية والمعنوية والاقتصادية- التي قد يتخذها.
هيمن رجال الدين الأرثوذكس على الجلسة المعنونة بـ”الجوانب التشريعية للدفاع عن القيم الروحية والأخلاقية كعامل رئيسي في تطوير المجتمع المدني” والتي امتدت لثلاث ساعات. ساد النقاش حول مشروع قانون بوشكينا للعنف المنزلي الجلسة. قال أحد الكهنة، إن العائلة شيء مقدس. وبالتالي لا يمكن أن تنظم من قبل دولة علمانية.
وجهت حركة فورتي فورتيز مواردها ضد مشروع قانون بوشكينا المتعلق بالعنف المنزلي، ونظمت احتجاجات تحت شعار “من أجل العائلة”. شارك كورمخين في تشرين الأول/ أكتوبر في كتابة رسالة مفتوحة إلى بوتين تدين مشروع القانون. وقع على النص المكون من 1700 كلمة، والذي ذكرت فيه كلمة “عائلة” أكثر من 50 مرة، أكثر من 180 منظمة منتشرة في جميع أنحاء روسيا.
بالنسبة لبوشكينا، تقوض الحملات القذرة التي تشنها مجموعات مثل فورتي فورتيز. تقول ، “نتحدث عن الوقاية من العنف، لكنهم يسموننا نسويات متطرفات ومدمرات للنظام العائلي الأبوي في الواقع لقد كان الأمر على هذا النحو لوقت طويل لكن الزمن يتغير”.
يبدو أن الأخوات خاشاتوريان لا يدركن الحرب الثقافية الشرسة التي أججتها قضيتهن. فبسبب منعنهن من استخدام شبكة الإنترنت ومن التواصل فيما بينهن، فضلاً عن التحدث مع الشهود أو الصحافة، أصبحن بالكاد يعرفن ما يحدث، ولا يدرين أنهن صرن في طليعة الحركة النسائية في روسيا وأهدافاً لردود الأفعال العنيفة المحافظة.
أعلن المحققون في 3 كانون الأول، أنهم سيقدمون النسخة النهائية من عريضة الاتهام إلى مكتب المدعي العام للمحاكمة. وخلصوا إلى أن الشقيقات الثلاث ماريا، وأنجلينا، وكريستينا أقدمن على هذا الفعل مع سبق الإصرار والترصد، بدافع من “عداوة شخصية قوية تجاه والدهن” نتيجة اعتدائه البدني والجنسي عليهن لفترة طويلة. ولكن بعد مضي أسبوعين، أصدر مكتب المدعي العام قراراً مذهلاً، جاء فيه: يتعين على المحققين أن يعيدوا تقييم القضية، والنظر في إعادة تصنيف تصرفات الشقيقات الثلاث باعتبارها دفاعاً عن النفس – وهو ما كان يُطالب به المحامون منذ البداية. وبما أن القتل دفاعاً عن النفس ليس بجريمة، لذا إذا أُسقطت تهمة القتل، فسوف يُطلق سراح الفتيات الثلاث.
أختا ميخائيل خاشاتوريان، نايرا ومارينا ــ اللتان برزتا كأكثر المدافعين عنه منذ وفاته ــ طعنا في القرار، بزعم أن بناته اتسمت حياتهن بالفجور فضلاً عن تعاطي المخدرات، وقتلن والدهن للاستيلاء على أمواله. كما وجها أيضاً اتهامات إضافية ضد دوندوك، وزعما أنها كذبت في مناسبات عديدة خلال المقابلات التي أجريت معها بشأن علاقات زوجها الجنسية خارج إطار الزواج. في حين صرحت المحامية يوليا نيتشينكو التي تمثلهما، أن أي إشاعة تشير إلى إسقاط التهم الموجهة إلى الفتيات هي “أنباء زائفة”، فهي تتوقع أن تُحال القضية إلى المحاكمة في الأسابيع المقبلة وأن تُدان الأخوات الثلاث في غضون عام. وقالت، “إن المحكمة ستضع السجل الكامل لوقائع القضية في نصابها الصحيح. ولن يتهرب أحد من العدالة”.
في المقابل، أجرى “مركز أبحاث الرأي العام الروسي” المدعوم من الدولة استطلاعاً للرأي في كانون الأول 2019، أعرب فيه 40 في المئة من المشاركين أنهم يعرفون عائلات يسودها العنف، في حين قال 70 في المئة منهم إنهم يؤيدون سن قانون افتراضي بشأن العنف المنزلي. وفي استطلاع آخر أجرته مؤسسة “مركز ليفادا” المستقلة في آب/ أغسطس 2019، أعرب 14 في المئة فقط من الذين شملهم الاستطلاع أن العنف المنزلي شأن عائلي يجب أن يبقى ضمن نطاق الأسرة.
هذا المقال مترجم عن theguardian.com ولقراءة الموضوع الرابط التالي.