fbpx
ساهموا في دعم الإعلام المستقل و الجريء!
ادعموا درج

قراءة في الإعلان الدستوري السوري

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

يتيح الإعلان الدستوري للسلطة الحاكمة في حال جنوحها نحو الأخذ بالنظام الشمولي، حقّ تمديد العمل بنصوصه، حتى يتسنّى لرئيس السلطة القائمة حقّ السيطرة على مفاصل الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية في البلد، بعد إخضاعه سلطات الدولة الثلاث لسطوته، وإعطائه حقّ التصرف المطلق بشؤون الدولة وثرواتها ومواردها، بعيداً عن أية رقابة أو محاسبة، وهو ما سيؤدّي حتماً، إلى إعادة إنتاج النظام الشمولي…

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

كان السقوط المُهين لنظام الأسد الدكتاتوري الدموي المُغرق في استبداده، الذي استمرّ ما يزيد على خمسين عاماً، فرحة عارمة وحّدت مكونات المجتمع السوري جميعها، ودفعت بهم/ن الى الاحتفال في الشوارع والحارات. فبعد حرب أهلية استمرّت أربعة عشر عاماً، دُمّرت خلالها كل معالم الحياة في سوريا، بان للشعب السوري باب أمل ببدء مرحلة جديدة لا استبداد فيها ولا طغيان.

كان هذا حلم الجميع وأملهم بالحياة في دولة الكرامة والحرية والمساواة التامّة غير المنقوصة، وكان الجميع بانتظار أن يصدر الإعلان الدستوري الذي سيضع النواظم للانتقال إلى هذه الحياة التي يحلمون/يحلمن بها. 

أجهضت لجنة الصياغة، كحال لجنة الحوار الوطني التي سبقتها، فرحة السوريين  بإعلانها نصوص الإعلان الدستوري، لما اشتمل عليه من مسائل دستورية خلافية، فما هي أبرز النقاط الإشكالية؟

بداية لم تحظَ لجنة الصياغة بثقة شريحة واسعة من السوريين، لافتقارها إلى معايير الشفافية والتشاركية مع ممثلي المجتمع وقواه السياسية والمدنية، ممن يتوافق عليهم الشعب، الأمر الذي شكّل مساساً بمبدأ أساسي في النظم الدستورية، ألا وهو مبدأ الديمقراطية.

 وأدى افتقار اللجنة إلى جهابذة القانون وأساتذته المشهود لهم بالخبرة الدستورية والفقه القانوني، سواء في القانون الدستوري، أو المدني، أو الجزائي، أو الشرعي، إلى وضع اللجنة في موقع الريبة والشكّ في قدرتها على صياغة إعلان دستوري جامع وموحّد لجميع أبناء البلد الواحد، بكل أطيافهم وتنوّعهم في هذه المرحلة العصيبة والدقيقة من تاريخ سوريا.

وهنا من المفيد الإشارة إلى أن الإعلان الدستوري ليس دستوراً مؤقتاً أو دستوراً دائماً، إنما هو مجموعة نصوص قانونية ذات طبيعة دستورية، يُلجأ إليها بشكل استثنائي في البلدان الخارجة حديثاً من ظروف استثنائية، كالانقلابات العسكرية أو الحرب الأهلية أو النظام الاستبدادي الدكتاتوري، حيث يُعمَل بنصوص الإعلان الدستوري كخطوة انتقالية، بهدف إضفاء الصبغة القانونية على أفعال السلطة الحاكمة وقراراتها، في معرض تنظيمها أوجه الحياة كافة في البلد، ريثما يتم إصدار دستور جديد.

ولهذا، فإن خطورة الإعلان الدستوري لا تكمن في قلّة نصوصه، إنما في مقاصده ومضامينه، كونه يشرّع نظام الحكم في المرحلة الانتقالية، ويشرّع في الوقت ذاته عمل السلطة القائمة في هذه المرحلة. بمعنى آخر، يتيح الإعلان الدستوري للسلطة الحاكمة في حال جنوحها نحو الأخذ بالنظام الشمولي، حقّ تمديد العمل بنصوصه، حتى يتسنّى لرئيس السلطة القائمة حقّ السيطرة على مفاصل الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية في البلد، بعد إخضاعه سلطات الدولة الثلاث لسطوته، وإعطائه حقّ التصرف المطلق بشؤون الدولة وثرواتها ومواردها، بعيداً عن أية رقابة أو محاسبة، وهو ما سيؤدّي حتماً، إلى إعادة إنتاج النظام الشمولي من دون تحقيق الهدف المرجو من اللجوء إلى الإعلان الدستوري، ألا وهو التحوّل الديمقراطي الحقيقي المنشود.

في المقابل، بإمكان النخبة الحاكمة السير باتجاه الانتقال بالبلاد من دولة العنف والإقصاء والاقتتال، إلى دولة الديمقراطية والقانون، من خلال النصّ، بشكل واضح وصريح لا لبس فيه ولا غموض، على إعمال مبادئ دستورية عدة، أهمها:  

 أولاً: النصّ على مبادئ الديمقراطية القائمة على حق الشعب في الاحتكام إلى صناديق الاقتراع لاختيار من يحكمه، وحقّه في المشاركة في آلية الحكم، عبر اختيار من يمثّله في عملية صياغة القوانين والرقابة على تنفيذها وطلب إلغائها، في حال تعارضها مع مقتضيات الحياة الدستورية.

ثانيا: النصّ دستورياً على مبدأ المواطنة المتساوية، التي تُفيد بتنظيم العلاقة بين سلطات الدولة الثلاث وبين الأفراد في الدولة، والمتمثّلة بمعناها الحقوقي بالجنسية التي تمنحها الدولة لهم/ن، بكل ما تتضمّنه هذه العلاقة من حقوق وحريات أساسية تُعطي الفرد الواحد التمتّع بالحقوق المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية كافة، كما وردت في الشرعة الدولية لحقوق الإنسان، وعلى حد سواء مع باقي الأفراد ممن يحملون جنسية الدولة، بغضّ النظر عن الدين أو المذهب أو القومية أو الجنس أو العرق أو اللغة أو الحالة الصحية أو الاجتماعية أو الانتماءات الأيديولوجية.

في المقابل، يترتّب على الفرد القيام بالواجبات كافة التي ينصّ عليها دستور الدولة. الأمر الذي يعزّز حسّ المساواة والانتماء الى الوطن، والتعايش السلمي في المجتمع، وفي ذلك ترميم للنسيج الاجتماعي الممزّق حالياً.

لذا، فإن عدم تضمين الإعلان الدستوري مبادئ المواطنة المتساوية، وعدم النصّ على ذلك صراحة، بذريعة النصّ على احترام التنوّع الديني والثقافي داخل المجتمع، لا يعني سوى إلغاء هذه الحقوق وضماناتها دستورياً، وهو الأمر الذي خبره السوريون والسوريات لأكثر من نصف قرن، بسبب فرض قانون الطوارئ طيلة تلك الفترة.

كذلك، قضت المادة 52 من الإعلان على أن “يستمرّ العمل بنصوص الإعلان الدستوري، طيلة المرحلة الانتقالية المحدّدة بخمس سنوات والقابلة للتجديد، حتى يُقرّ دستور دائم للبلاد”، وهنا أيضاً لم يحدّد أعضاء اللجنة الفترة الزمنية النهائية لإعداد الدستور الدائم، أو حتى المبادئ التي سيُبنى عليها وطرق إقراره، وهل هي المبادئ ذاتها التي عُمل بها وفق نصوص الإعلان الدستوري، أم ثمة مبادئ مختلفة للدستور المؤقّت أو الدائم؟ هذه الضبابية وعدم الوضوح في الحياة الدستورية، يخلقان لدى المجتمع حالة من القلق وعدم اليقين بالسويّة الدستورية للنظام وانعدام الثقة بديمقراطيته، بخلاف ما تقتضيه الأعراف الدستورية في العالم أجمع.

وبالعودة إلى نصوص الإعلان الدستوري، نجد أنه أكّد في المادة الثالثة أن “الفقه الإسلامي هو المصدر الرئيس للتشريع”، الأمر الذي يُفيد بقطع الطريق على المشرّع، ومنعه من اللجوء إلى مصادر أخرى لاستقاء أحكامه، كمبادئ الشرعة الدولية لحقوق الإنسان والاتفاقيات الدولية ذات الصلة، والبناء على تلك المبادئ في صياغة النصوص الناظمة للحقوق والحريات في المجتمع، والقائمة على مبدأ المساواة والعدالة والكرامة الإنسانية.

وعليه، فإن غياب هذا الأمر يُخلّ بمبدأ المساواة، الذي هو مبدأ أساسي في الشريعة الإسلامية، إذ على رغم أن غالبية المجتمع السوري من المسلمين، فإنه مجتمع متنوّع دينياً وعرقياً وإثنياً وطائفياً، وبالتالي يصبح من غير الجائز دستورياً، إخضاع بعض مكونات المجتمع من أتباع الديانات غير المسلمة إلى أحكام الفقه الإسلامي، سنداً لذريعة احترام خصوصية المجتمع السوري.

التمييز والتفضيل هذان بين أبناء المجتمع الواحد، سيزيدان من تعقيدات الحالة السورية، ويعمّقان شعور أبناء المجتمع السوري الواحد من غير المسلمين بالتهميش والأقصاء، بخاصة أن إعمال هذا النصّ سيؤدّي إلى إخضاع القوانين الوضعية كافة لأحكام الفقه الإسلامي، سواء منها قانون العقوبات أو القانون المدني أو قانون الجنسية، سواء في صياغتها أو تفسيرها كما في تطبيقها، وهو الأمر الذي سيشكّل مساساً دستورياً بمبدأ المساواة بين أفراد المجتمع الواحد، كما سيشكّل مساساً دستورياً بمبدأ حيادية الدولة تجاه مواطنيها ومعتقداتهم، وسيزيد في الوقت ذاته، من حدّة الانقسام الطائفي والديني، وسيرفع من مستوى الاحتقان المجتمعي، من دون أن يمنع ذلك مضمون المادة العاشرة التي تنصّ: “المواطنون متساوون أمام القانون بالحقوق والواجبات من دون تمييز…”، فهذا النصّ على رغم أهميته لن يمنع وحده، عودة الاحتقان المجتمعي الذي عانى منه المجتمع السوري لأكثر من نصف قرن، وأودى به إلى حرب أهلية استمرّت لأكثر من 14 عاماً، دُمّرت خلالها علاقاته الإنسانية ومُزّقت لحمته المجتمعية، وزادت من حدّة الاستبداد الدموي بمواجهته. 

وهنا لا بد من التأكيد، أن الكثير من الدول الإسلامية تنازلت عن كون الشريعة الإسلامية مصدراً للتشريع، مكتفية بأن دين الدولة الإسلام، لكن لا تطبّق الشريعة في محاكمها، كتجربة تونس مثلاً، حيث أقرّت “حركة النهضة” دستور 2011 المتضمّن النصّ على حيادية الدولة تجاه الدين، والنصّ على ضمان حرية الاعتقاد ورفض التكفير والحضّ على الكراهية.

وبالعودة ثانية إلى ما نصّ عليه الإعلان الدستوري، من نصوص تتعلّق بمسائل دستورية وثيقة الارتباط بآليات الحكم ونُظمه، وانعكاس ذلك على الحياة المجتمعية، منها تلك الناظمة لصلاحيات رئيس الجمهورية، إذ ورد في نصّ المادة الثانية أن “الدستور يؤسّس لنظام سياسي يرتكز على مبدأ الفصل بين السلطات”، وهذا يفيد: 

أولاً: عدم تحديد شكل نظام الحكم، وهل هو نظام رئاسي أم برلماني أم مختلط، على رغم أهمية هذا التحديد في تحديد معالم نظام الحكم وشكله، وآليات عمل سلطات الدولة الثلاث، وعلاقتها مع مواطني الدولة من حيث الواجبات والحقوق المتبادلة.

وثانياً، النصّ على عبارة “الأخذ بمبدأ الفصل بين السلطات”، التي تمسّكت بها لجنة الصياغة، يتعارض كلياً مع نصّ اللجنة ذاتها، من تجميع للسلطات الثلاث في يد رئيس الجمهورية، فهو رئيس السلطة التنفيذية والقائد الأعلى للجيش والقوّات المسلحة، وهو من يُعيّن رئيس الوزراء وأعضاء الحكومة ويُقيلهم، وهو أيضاً من يُعيّن ثلث أعضاء السلطة التشريعية (مجلس الشعب)، وهو من يُعيّن اللجنة التي سيكلّفها باختيار الثلثين الباقيين من أعضاء (مجلس الشعب)، وهذا يعني أن رئيس السلطة التنفيذية هو أيضاً رئيس السلطة التشريعية، لكونها تتبع مباشرة لسيطرته بصفته رئيس الجمهورية. 

والأخطر من ذلك، هو خضوع السلطة القضائية لرئيس الجمهورية، وذلك وفق ما نصّت عليه المادة 47 من الإعلان الدستوري، التي تمنح رئيس الجمهورية حقّ حلّ المحكمة الدستورية، وحقّ تعيين قضاة المحكمة الدستورية الجديدة… ومعروف أن المحكمة الدستورية تتمتّع بخصوصية عالية نظراً الى طبيعة مهامها، وأولها الرقابة على دستورية القوانين وتفسيرها وتطبيقها، ولها الحق في إلغاء القوانين وما يترتّب عليها في حال مخالفتها النصّ الدستوري، ومهمّتها الأساسية الثانية تتجلّى في كونها الجهة الوحيدة المخوّلة بمساءلة رئيس الجمهورية ومحاسبته، في حال ارتكابه مخالفة للدستور والقانون. 

لذا فإن منح رئيس الجمهورية الحقّ في تعيين قضاة المحكمة الدستورية، يُفيد بفقدانها استقلاليتها وحياديتها ونزاهتها، بسبب تابعيتها لمن عيّن قضاتها، ألا وهو رئيس الجمهورية، الأمر الذي تفقد معه المحكمة قدرتها على القيام بصلاحياتها، سواء ما تعلّق منها بالرقابة على دستورية القوانين، الذي يفسح المجال للعمل بقوانين غير دستورية، أو ما تعلّق بمهامها من محاسبة رئيس الجمهورية في حال ارتكابه أعمالاً غير قانونية، أو أعمالاً تتضمّن مخالفات قانونية أو دستورية في معرض قيامه بواجباته ومهام عمله، الأمر الذي سيؤدّي إلى النصّ دستورياً على حالة الإفلات من العقاب، وهو ما كانت عليه حال المحكمة الدستورية السورية لأكثر من نصف قرن، استطاع خلالها الأسد الأب والأسد الابن النجاة من أية مساءلة قانونية، عما أقدما عليه من جرائم ومذابح بحقّ الشعب السوري.

أكّد أعضاء لجنة الصياغة عبر عشرة نصوص، صون الدولة للحقوق والحريات الفردية، لكنهم عادوا وأكّدوا في المادة 23 حقّ الدولة في” إخضاع هذا الحقّ للضوابط المتعلّقة بالأمن الوطني، أو سلامة الأراضي أو السلامة العامة أو حماية النظام العام، ومنع الجريمة أو لحماية الصحة أو الآداب العامة”، الأمر الذي يُفيد برجوع الدولة عن التزامها بصون هذه الحقوق والحريات وحمايتها، من خلال إعمال أي من هذه الضوابط، الكثيرة حقاً.

وعليه، فإن إقرار الإعلان الدستوري هذا، بناء على الواقع السوري، وبكل ما تضمّنه من قصور في تبنّي مبدأ الديمقراطية، وحقوق المواطنة المتساوية، وما اشتمل عليه أيضاً، من تناقض بيّن ولبس واضح، عند النصّ على صلاحيات السلطة التنفيذية في الحدّ من الحريات والحقوق الأساسية، كما أن تمكين شخص الرئيس من إحكام سيطرته على سلطات الدولة الثلاث، والنصّ على تفرّد “الفقه الإسلامي بصفته المصدر الرئيس للتشريع”، ذلك كله سيحول دون تحقيق الهدف المرجوّ من الإعلان الدستوري، وهو اعتباره الناظم الدستوري لهذه المرحلة الانتقالية من تاريخ سوريا، الذي سيسمح للنخبة السياسية الحاكمة، بالسير بالمجتمع نحو إعادة بناء الثقة بين مكوّناته المجتمعية، ونحو مجتمع ديمقراطي تسوده مبادئ العدالة والمساواة التامّة والكرامة الإنسانية، بل يمكن القول إن الإعلان الدستوري هذا جاء على النقيض تماماً، إذ سيحول العمل به من دون بناء دولة القانون والمؤسسات، وسينحو حتماً إلى عودة النظام الدكتاتوري، وإن كان تحت مسمّى مختلف. 

ربما والحال هذه، يمكننا القول بضرورة تعطيل هذا الإعلان الدستوري، والعودة إلى العمل بدستور 1950 كدستور مؤقّت، على رغم ما يشوبه من تحفّظات، ريثما يتمّ إقرار دستور جديد لسوريا الجديدة، يلبّي طموحات الشعب السوري وتطلّعاته الى حياة تسودها الحرية والمساواة والكرامة الإنسانية.

18.03.2025
زمن القراءة: 8 minutes

يتيح الإعلان الدستوري للسلطة الحاكمة في حال جنوحها نحو الأخذ بالنظام الشمولي، حقّ تمديد العمل بنصوصه، حتى يتسنّى لرئيس السلطة القائمة حقّ السيطرة على مفاصل الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية في البلد، بعد إخضاعه سلطات الدولة الثلاث لسطوته، وإعطائه حقّ التصرف المطلق بشؤون الدولة وثرواتها ومواردها، بعيداً عن أية رقابة أو محاسبة، وهو ما سيؤدّي حتماً، إلى إعادة إنتاج النظام الشمولي…

كان السقوط المُهين لنظام الأسد الدكتاتوري الدموي المُغرق في استبداده، الذي استمرّ ما يزيد على خمسين عاماً، فرحة عارمة وحّدت مكونات المجتمع السوري جميعها، ودفعت بهم/ن الى الاحتفال في الشوارع والحارات. فبعد حرب أهلية استمرّت أربعة عشر عاماً، دُمّرت خلالها كل معالم الحياة في سوريا، بان للشعب السوري باب أمل ببدء مرحلة جديدة لا استبداد فيها ولا طغيان.

كان هذا حلم الجميع وأملهم بالحياة في دولة الكرامة والحرية والمساواة التامّة غير المنقوصة، وكان الجميع بانتظار أن يصدر الإعلان الدستوري الذي سيضع النواظم للانتقال إلى هذه الحياة التي يحلمون/يحلمن بها. 

أجهضت لجنة الصياغة، كحال لجنة الحوار الوطني التي سبقتها، فرحة السوريين  بإعلانها نصوص الإعلان الدستوري، لما اشتمل عليه من مسائل دستورية خلافية، فما هي أبرز النقاط الإشكالية؟

بداية لم تحظَ لجنة الصياغة بثقة شريحة واسعة من السوريين، لافتقارها إلى معايير الشفافية والتشاركية مع ممثلي المجتمع وقواه السياسية والمدنية، ممن يتوافق عليهم الشعب، الأمر الذي شكّل مساساً بمبدأ أساسي في النظم الدستورية، ألا وهو مبدأ الديمقراطية.

 وأدى افتقار اللجنة إلى جهابذة القانون وأساتذته المشهود لهم بالخبرة الدستورية والفقه القانوني، سواء في القانون الدستوري، أو المدني، أو الجزائي، أو الشرعي، إلى وضع اللجنة في موقع الريبة والشكّ في قدرتها على صياغة إعلان دستوري جامع وموحّد لجميع أبناء البلد الواحد، بكل أطيافهم وتنوّعهم في هذه المرحلة العصيبة والدقيقة من تاريخ سوريا.

وهنا من المفيد الإشارة إلى أن الإعلان الدستوري ليس دستوراً مؤقتاً أو دستوراً دائماً، إنما هو مجموعة نصوص قانونية ذات طبيعة دستورية، يُلجأ إليها بشكل استثنائي في البلدان الخارجة حديثاً من ظروف استثنائية، كالانقلابات العسكرية أو الحرب الأهلية أو النظام الاستبدادي الدكتاتوري، حيث يُعمَل بنصوص الإعلان الدستوري كخطوة انتقالية، بهدف إضفاء الصبغة القانونية على أفعال السلطة الحاكمة وقراراتها، في معرض تنظيمها أوجه الحياة كافة في البلد، ريثما يتم إصدار دستور جديد.

ولهذا، فإن خطورة الإعلان الدستوري لا تكمن في قلّة نصوصه، إنما في مقاصده ومضامينه، كونه يشرّع نظام الحكم في المرحلة الانتقالية، ويشرّع في الوقت ذاته عمل السلطة القائمة في هذه المرحلة. بمعنى آخر، يتيح الإعلان الدستوري للسلطة الحاكمة في حال جنوحها نحو الأخذ بالنظام الشمولي، حقّ تمديد العمل بنصوصه، حتى يتسنّى لرئيس السلطة القائمة حقّ السيطرة على مفاصل الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية في البلد، بعد إخضاعه سلطات الدولة الثلاث لسطوته، وإعطائه حقّ التصرف المطلق بشؤون الدولة وثرواتها ومواردها، بعيداً عن أية رقابة أو محاسبة، وهو ما سيؤدّي حتماً، إلى إعادة إنتاج النظام الشمولي من دون تحقيق الهدف المرجو من اللجوء إلى الإعلان الدستوري، ألا وهو التحوّل الديمقراطي الحقيقي المنشود.

في المقابل، بإمكان النخبة الحاكمة السير باتجاه الانتقال بالبلاد من دولة العنف والإقصاء والاقتتال، إلى دولة الديمقراطية والقانون، من خلال النصّ، بشكل واضح وصريح لا لبس فيه ولا غموض، على إعمال مبادئ دستورية عدة، أهمها:  

 أولاً: النصّ على مبادئ الديمقراطية القائمة على حق الشعب في الاحتكام إلى صناديق الاقتراع لاختيار من يحكمه، وحقّه في المشاركة في آلية الحكم، عبر اختيار من يمثّله في عملية صياغة القوانين والرقابة على تنفيذها وطلب إلغائها، في حال تعارضها مع مقتضيات الحياة الدستورية.

ثانيا: النصّ دستورياً على مبدأ المواطنة المتساوية، التي تُفيد بتنظيم العلاقة بين سلطات الدولة الثلاث وبين الأفراد في الدولة، والمتمثّلة بمعناها الحقوقي بالجنسية التي تمنحها الدولة لهم/ن، بكل ما تتضمّنه هذه العلاقة من حقوق وحريات أساسية تُعطي الفرد الواحد التمتّع بالحقوق المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية كافة، كما وردت في الشرعة الدولية لحقوق الإنسان، وعلى حد سواء مع باقي الأفراد ممن يحملون جنسية الدولة، بغضّ النظر عن الدين أو المذهب أو القومية أو الجنس أو العرق أو اللغة أو الحالة الصحية أو الاجتماعية أو الانتماءات الأيديولوجية.

في المقابل، يترتّب على الفرد القيام بالواجبات كافة التي ينصّ عليها دستور الدولة. الأمر الذي يعزّز حسّ المساواة والانتماء الى الوطن، والتعايش السلمي في المجتمع، وفي ذلك ترميم للنسيج الاجتماعي الممزّق حالياً.

لذا، فإن عدم تضمين الإعلان الدستوري مبادئ المواطنة المتساوية، وعدم النصّ على ذلك صراحة، بذريعة النصّ على احترام التنوّع الديني والثقافي داخل المجتمع، لا يعني سوى إلغاء هذه الحقوق وضماناتها دستورياً، وهو الأمر الذي خبره السوريون والسوريات لأكثر من نصف قرن، بسبب فرض قانون الطوارئ طيلة تلك الفترة.

كذلك، قضت المادة 52 من الإعلان على أن “يستمرّ العمل بنصوص الإعلان الدستوري، طيلة المرحلة الانتقالية المحدّدة بخمس سنوات والقابلة للتجديد، حتى يُقرّ دستور دائم للبلاد”، وهنا أيضاً لم يحدّد أعضاء اللجنة الفترة الزمنية النهائية لإعداد الدستور الدائم، أو حتى المبادئ التي سيُبنى عليها وطرق إقراره، وهل هي المبادئ ذاتها التي عُمل بها وفق نصوص الإعلان الدستوري، أم ثمة مبادئ مختلفة للدستور المؤقّت أو الدائم؟ هذه الضبابية وعدم الوضوح في الحياة الدستورية، يخلقان لدى المجتمع حالة من القلق وعدم اليقين بالسويّة الدستورية للنظام وانعدام الثقة بديمقراطيته، بخلاف ما تقتضيه الأعراف الدستورية في العالم أجمع.

وبالعودة إلى نصوص الإعلان الدستوري، نجد أنه أكّد في المادة الثالثة أن “الفقه الإسلامي هو المصدر الرئيس للتشريع”، الأمر الذي يُفيد بقطع الطريق على المشرّع، ومنعه من اللجوء إلى مصادر أخرى لاستقاء أحكامه، كمبادئ الشرعة الدولية لحقوق الإنسان والاتفاقيات الدولية ذات الصلة، والبناء على تلك المبادئ في صياغة النصوص الناظمة للحقوق والحريات في المجتمع، والقائمة على مبدأ المساواة والعدالة والكرامة الإنسانية.

وعليه، فإن غياب هذا الأمر يُخلّ بمبدأ المساواة، الذي هو مبدأ أساسي في الشريعة الإسلامية، إذ على رغم أن غالبية المجتمع السوري من المسلمين، فإنه مجتمع متنوّع دينياً وعرقياً وإثنياً وطائفياً، وبالتالي يصبح من غير الجائز دستورياً، إخضاع بعض مكونات المجتمع من أتباع الديانات غير المسلمة إلى أحكام الفقه الإسلامي، سنداً لذريعة احترام خصوصية المجتمع السوري.

التمييز والتفضيل هذان بين أبناء المجتمع الواحد، سيزيدان من تعقيدات الحالة السورية، ويعمّقان شعور أبناء المجتمع السوري الواحد من غير المسلمين بالتهميش والأقصاء، بخاصة أن إعمال هذا النصّ سيؤدّي إلى إخضاع القوانين الوضعية كافة لأحكام الفقه الإسلامي، سواء منها قانون العقوبات أو القانون المدني أو قانون الجنسية، سواء في صياغتها أو تفسيرها كما في تطبيقها، وهو الأمر الذي سيشكّل مساساً دستورياً بمبدأ المساواة بين أفراد المجتمع الواحد، كما سيشكّل مساساً دستورياً بمبدأ حيادية الدولة تجاه مواطنيها ومعتقداتهم، وسيزيد في الوقت ذاته، من حدّة الانقسام الطائفي والديني، وسيرفع من مستوى الاحتقان المجتمعي، من دون أن يمنع ذلك مضمون المادة العاشرة التي تنصّ: “المواطنون متساوون أمام القانون بالحقوق والواجبات من دون تمييز…”، فهذا النصّ على رغم أهميته لن يمنع وحده، عودة الاحتقان المجتمعي الذي عانى منه المجتمع السوري لأكثر من نصف قرن، وأودى به إلى حرب أهلية استمرّت لأكثر من 14 عاماً، دُمّرت خلالها علاقاته الإنسانية ومُزّقت لحمته المجتمعية، وزادت من حدّة الاستبداد الدموي بمواجهته. 

وهنا لا بد من التأكيد، أن الكثير من الدول الإسلامية تنازلت عن كون الشريعة الإسلامية مصدراً للتشريع، مكتفية بأن دين الدولة الإسلام، لكن لا تطبّق الشريعة في محاكمها، كتجربة تونس مثلاً، حيث أقرّت “حركة النهضة” دستور 2011 المتضمّن النصّ على حيادية الدولة تجاه الدين، والنصّ على ضمان حرية الاعتقاد ورفض التكفير والحضّ على الكراهية.

وبالعودة ثانية إلى ما نصّ عليه الإعلان الدستوري، من نصوص تتعلّق بمسائل دستورية وثيقة الارتباط بآليات الحكم ونُظمه، وانعكاس ذلك على الحياة المجتمعية، منها تلك الناظمة لصلاحيات رئيس الجمهورية، إذ ورد في نصّ المادة الثانية أن “الدستور يؤسّس لنظام سياسي يرتكز على مبدأ الفصل بين السلطات”، وهذا يفيد: 

أولاً: عدم تحديد شكل نظام الحكم، وهل هو نظام رئاسي أم برلماني أم مختلط، على رغم أهمية هذا التحديد في تحديد معالم نظام الحكم وشكله، وآليات عمل سلطات الدولة الثلاث، وعلاقتها مع مواطني الدولة من حيث الواجبات والحقوق المتبادلة.

وثانياً، النصّ على عبارة “الأخذ بمبدأ الفصل بين السلطات”، التي تمسّكت بها لجنة الصياغة، يتعارض كلياً مع نصّ اللجنة ذاتها، من تجميع للسلطات الثلاث في يد رئيس الجمهورية، فهو رئيس السلطة التنفيذية والقائد الأعلى للجيش والقوّات المسلحة، وهو من يُعيّن رئيس الوزراء وأعضاء الحكومة ويُقيلهم، وهو أيضاً من يُعيّن ثلث أعضاء السلطة التشريعية (مجلس الشعب)، وهو من يُعيّن اللجنة التي سيكلّفها باختيار الثلثين الباقيين من أعضاء (مجلس الشعب)، وهذا يعني أن رئيس السلطة التنفيذية هو أيضاً رئيس السلطة التشريعية، لكونها تتبع مباشرة لسيطرته بصفته رئيس الجمهورية. 

والأخطر من ذلك، هو خضوع السلطة القضائية لرئيس الجمهورية، وذلك وفق ما نصّت عليه المادة 47 من الإعلان الدستوري، التي تمنح رئيس الجمهورية حقّ حلّ المحكمة الدستورية، وحقّ تعيين قضاة المحكمة الدستورية الجديدة… ومعروف أن المحكمة الدستورية تتمتّع بخصوصية عالية نظراً الى طبيعة مهامها، وأولها الرقابة على دستورية القوانين وتفسيرها وتطبيقها، ولها الحق في إلغاء القوانين وما يترتّب عليها في حال مخالفتها النصّ الدستوري، ومهمّتها الأساسية الثانية تتجلّى في كونها الجهة الوحيدة المخوّلة بمساءلة رئيس الجمهورية ومحاسبته، في حال ارتكابه مخالفة للدستور والقانون. 

لذا فإن منح رئيس الجمهورية الحقّ في تعيين قضاة المحكمة الدستورية، يُفيد بفقدانها استقلاليتها وحياديتها ونزاهتها، بسبب تابعيتها لمن عيّن قضاتها، ألا وهو رئيس الجمهورية، الأمر الذي تفقد معه المحكمة قدرتها على القيام بصلاحياتها، سواء ما تعلّق منها بالرقابة على دستورية القوانين، الذي يفسح المجال للعمل بقوانين غير دستورية، أو ما تعلّق بمهامها من محاسبة رئيس الجمهورية في حال ارتكابه أعمالاً غير قانونية، أو أعمالاً تتضمّن مخالفات قانونية أو دستورية في معرض قيامه بواجباته ومهام عمله، الأمر الذي سيؤدّي إلى النصّ دستورياً على حالة الإفلات من العقاب، وهو ما كانت عليه حال المحكمة الدستورية السورية لأكثر من نصف قرن، استطاع خلالها الأسد الأب والأسد الابن النجاة من أية مساءلة قانونية، عما أقدما عليه من جرائم ومذابح بحقّ الشعب السوري.

أكّد أعضاء لجنة الصياغة عبر عشرة نصوص، صون الدولة للحقوق والحريات الفردية، لكنهم عادوا وأكّدوا في المادة 23 حقّ الدولة في” إخضاع هذا الحقّ للضوابط المتعلّقة بالأمن الوطني، أو سلامة الأراضي أو السلامة العامة أو حماية النظام العام، ومنع الجريمة أو لحماية الصحة أو الآداب العامة”، الأمر الذي يُفيد برجوع الدولة عن التزامها بصون هذه الحقوق والحريات وحمايتها، من خلال إعمال أي من هذه الضوابط، الكثيرة حقاً.

وعليه، فإن إقرار الإعلان الدستوري هذا، بناء على الواقع السوري، وبكل ما تضمّنه من قصور في تبنّي مبدأ الديمقراطية، وحقوق المواطنة المتساوية، وما اشتمل عليه أيضاً، من تناقض بيّن ولبس واضح، عند النصّ على صلاحيات السلطة التنفيذية في الحدّ من الحريات والحقوق الأساسية، كما أن تمكين شخص الرئيس من إحكام سيطرته على سلطات الدولة الثلاث، والنصّ على تفرّد “الفقه الإسلامي بصفته المصدر الرئيس للتشريع”، ذلك كله سيحول دون تحقيق الهدف المرجوّ من الإعلان الدستوري، وهو اعتباره الناظم الدستوري لهذه المرحلة الانتقالية من تاريخ سوريا، الذي سيسمح للنخبة السياسية الحاكمة، بالسير بالمجتمع نحو إعادة بناء الثقة بين مكوّناته المجتمعية، ونحو مجتمع ديمقراطي تسوده مبادئ العدالة والمساواة التامّة والكرامة الإنسانية، بل يمكن القول إن الإعلان الدستوري هذا جاء على النقيض تماماً، إذ سيحول العمل به من دون بناء دولة القانون والمؤسسات، وسينحو حتماً إلى عودة النظام الدكتاتوري، وإن كان تحت مسمّى مختلف. 

ربما والحال هذه، يمكننا القول بضرورة تعطيل هذا الإعلان الدستوري، والعودة إلى العمل بدستور 1950 كدستور مؤقّت، على رغم ما يشوبه من تحفّظات، ريثما يتمّ إقرار دستور جديد لسوريا الجديدة، يلبّي طموحات الشعب السوري وتطلّعاته الى حياة تسودها الحرية والمساواة والكرامة الإنسانية.

18.03.2025
زمن القراءة: 8 minutes
|

اشترك بنشرتنا البريدية