fbpx
ساهموا في دعم الإعلام المستقل و الجريء!
ادعموا درج

قراءة في قوائم مفقودي الزلزال… بحثاً عن راكان

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

مرّت أيام غدونا فيها مهووسين بالبحث، بتتبع كل قناة للمفقودين على “التيلغرام”، وكل منشور صغير على “فيسبوك”، هوس انهرتُ على إثره مرتين وأُصبت بنوبات هلع، من دون الوصول إلى أي معلومة، تخيلت عائلات المفقودين، إذ كنا نحن البعيدين عاجزين عن التحمّل، فكيف أولئك الذين ينتمون إلى المأساة؟.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

تابعتُ قوائم المفقودين بعد الزلزال، قرأتُ كل اسم في كل قائمة صادرة عن المستشفيات. يجب أن نصل إلى اسم ذلك الطفل، راكان، أخ صديقي، كانت التجربة جديدة عليَّ وعلى كثيرين، البحث بين أسماء المفقودين والضحايا والمصابين، عن اسمٍ بعينه، عن ابن\ة أم، أب، أو صديق\ة. الأمر مرعب، إذ تستمر الأسماء في الظهور، القوائم تطول، والاسم الذي تبحث عنه لا يظهر. والأصعب هو البحث في قوائم الموتى، في البداية تتجاهلها وتؤجل البحث فيها، تقول سأبحث في قوائم الأحياء فقط. تتجاهل قوائم الموتى إلى أن تشعر بالعجز، تستسلم وتبدأ في تصفحّ قوائم الضحايا الطويلة والصعبة. تتمنى لو كنت أميّاً لتعجز عن قراءة أسماء أحبائك، تدرك أن الإصابات والمفقودين بالملايين، وأرقام الموتى تتضاعف بشكل مرعب وأنت تبحث عن شخص واحد، عن اسم واحد فقط، لتنتهي قائمة تلو أخرى من دون أن تصل إلى شيء.

عمّت فوضى أسماء المفقودين وسائل التواصل الاجتماعي، صورٌ لعائلات، لشابات وشبان، ولأطفال، أسماءُ المفقودين وعناوين المنازل المدمّرة، تحتها أرقامٌ للاتصال في حال التعرف إلى المفقود، سلسلة بشرية صنعها السوريون لنقل الأخبار، بين بلدان العالم، فالكارثة أكبر وأقسى من أن تجد من تبحث عنه بسؤال واحد.

ربطتْ الشبكة البشرية في البحث عن المفقودين بلداناً عدة، كأن يكون أخ المفقود في دبي وأنت في بيروت وصديقك في السويد (عائلته في أنطاكيا ونجت)، فتسأله، ليتواصل مع أحد أصدقائه في أنطاكيا، الذي يتواصل بدوره مع عائلته التي لا تملك هاتفاً محمولاً، ربما تصل إلى معلومة عن أخ المفقود. هناك سلاسل بشرية للبحث، أكثر تعقيداً، تضم عشرات البلدان والمدن والمناطق، والكثير منها أتى بنتائج في إيجاد المفقودين. على رغم الكارثة، إلا أن شبكات البحث البشرية منحتنا نحن الباحثين في قوائم الزلزال، بعض الأمان والانتماء.

لا قواعد أو خطوات للبحث عن المفقودين، كل شيء فوضوي، هناك قوائم مكتوبة بالتركية، ستأخذ منك وقتاً أطول في تهجئة الأسماء والمدن والمستشفيات، يستغيث البعض مِمَن لا يتقنون قراءة الحروف الأعجمية، وهذا عجز من نوعٍ آخر أمام الفقدان.

ستجد عشرات المجموعات التي أسسها الباحثون عن أحبائهم، مثل “عيلة ضايعة بأنطاكيا”، “ولادي تحت الأنقاض”، و”مفقودو زلزال تركيا”، دخلتُ إليها الواحدة تلو الأخرى، أكتب على ورقة اسمها كي لا أخطئ وأبحث فيها مرة أخرى. داخل المجموعة، لن تجد سوى الاستغاثات وصور أطفال تائهين، يبحث ناشروها عن عائلاتهم. مهمة تبدو أنها لن تنتهي، الكثير من الصور والقليل من الأمل. “كنت عارفة أنو رح نلاقيه”، تقول والدة صديقي، التي ما زال يخيفها صوت عجلات العربات في المستشفى لأنه يذكّرها بالزلزال. 

البحث عن مفقودي الزلزال يشبه حرفياً البحث عن إبرة في كومة قش، للمصادفة الإبرة هي أحد أحبائك والقش هو ركام الزلزال. في تلك اللحظة، يبدو البحث عن الإبرة أكثر سهولة من البحث عن شخص يحمل غيابه هذه الاحتمالات كلها، أسأل صديقي: “هل خرج راكان من تحت الأنقاض”، فيقول: “لا أعلم”. هكذا هو المفقود إذاً، لا تعلم إن خرج أو ما زال تحت الأنقاض، إن كان في ثلاجة الموتى أو مستلقياً على سرير في مستشفى، أو غائباً عن الوعي، إن كان يبحث عنك أيضاً وله أسبابه في العجز عن الاتصال بك، احتمالات لا تنتهي للغياب، وليس أمامك سوى قوائم (تصلّي أن تكون ناقصة) للمفقودين.

لكثرة ما قرأ السوريون قوائم المفقودين والموتى، باتوا حين مرور اسم مفقود على “فيسبوك” أمامهم، يتذكرون أنهم قرأوا الاسم في إحدى القوائم، فهل يخبرون شخصاً لا يعرفونه، أنهم قرأوا اسم المفقود في قائمة الموتى منذ ساعة؟ أم يتركونه لأمله بعض الوقت؟! ومأساة السوريين في هذه الكارثة تحديداً، كانت مضاعفة، في ظل الشتات الذي تعيشه العائلات، البعض في الداخل والبعض الآخر في تركيا وآخرون في أوروبا.

تتشابه الأسماء ووجوه المصابين، كانت وجوه الأطفال الموجودين في المستشفيات شديدة التشابه، بقع زرقاء وعيونٌ منتفخة وبنفسجية، وبسبب هذا التشابه كنتُ أفتح صورة راكان على حاسوبي، وصورة الطفل المصاب على هاتفي المحمول، لأتمكن من المعاينة بشكل دقيق، والتأكد مما إذا كانت الصورتان للطفل ذاته، لكن التأكد كان شبه مستحيل في كل مرة. ففي الصورة الأولى طفل يبتسم بخجل، وفي الصورة الثانية طفل مصدوم. في الصورة الأولى، طفل شعره مصفف، وفي الثانية طفل يغطي الدم شعره، كان الأمر مرعباً. ترددتُ، في كل مرة، أردت فيها إرسال صورة طفل مصاب لصديقي، وكلما قال: “لا مش هو” شعرت بالألم، أولاً “لأنه ليس هو”، وثانياً لأنني شككتُ في أنه ليس هو، لكني خشيت تجاوز الصورة، خفت أن أتجاوزه  فيكون هو. ملامح الأطفال متشابهة، ولجميعهم نظرة تسأل: “ولكن لماذا يحصل هذا كله؟”.

مرّت أيام غدونا فيها مهووسين بالبحث، بتتبع كل قناة للمفقودين على “التيلغرام”، وكل منشور صغير على “فيسبوك”، هوس انهرتُ على إثره مرتين وأُصبت بنوبات هلع، من دون الوصول إلى أي معلومة، تخيلت عائلات المفقودين، إذ كنا نحن البعيدين عاجزين عن التحمّل، فكيف أولئك الذين ينتمون إلى المأساة؟.

في اليوم السابع وحين بدأتُ أشعر باليأس، وصل صديقي خبر عن أخيه، راكان بخير، ويبعد منه 1000 كلم. وسط الفوضى، نُقل المصابون إلى مدن ومناطق أخرى، وكان الطفل من بينهم، كل تلك القوائم وآلاف الأسماء التي قرأناها مراراً وتكراراً، لم تحوِ اسمه الصغير. كنت أحتاج الى أن نجده لأجله ولأجل عائلته ولأجلي أنا، وكأن المأساة ستكون أقل وطأة لو وجدناه، حينها أدركتُ وأنا أبكي فرحاً بإيجاده، أن تلك القوائم كلها لم تكن له، كانت لنا، نحن الذين صنعنا مئات الشبكات من البحث عن المفقودين كي لا ننهار أمام اليأس، ونعتقد أن الكارثة أقل مأساوية مما يحدث على الأرض.

22.02.2023
زمن القراءة: 4 minutes

مرّت أيام غدونا فيها مهووسين بالبحث، بتتبع كل قناة للمفقودين على “التيلغرام”، وكل منشور صغير على “فيسبوك”، هوس انهرتُ على إثره مرتين وأُصبت بنوبات هلع، من دون الوصول إلى أي معلومة، تخيلت عائلات المفقودين، إذ كنا نحن البعيدين عاجزين عن التحمّل، فكيف أولئك الذين ينتمون إلى المأساة؟.

تابعتُ قوائم المفقودين بعد الزلزال، قرأتُ كل اسم في كل قائمة صادرة عن المستشفيات. يجب أن نصل إلى اسم ذلك الطفل، راكان، أخ صديقي، كانت التجربة جديدة عليَّ وعلى كثيرين، البحث بين أسماء المفقودين والضحايا والمصابين، عن اسمٍ بعينه، عن ابن\ة أم، أب، أو صديق\ة. الأمر مرعب، إذ تستمر الأسماء في الظهور، القوائم تطول، والاسم الذي تبحث عنه لا يظهر. والأصعب هو البحث في قوائم الموتى، في البداية تتجاهلها وتؤجل البحث فيها، تقول سأبحث في قوائم الأحياء فقط. تتجاهل قوائم الموتى إلى أن تشعر بالعجز، تستسلم وتبدأ في تصفحّ قوائم الضحايا الطويلة والصعبة. تتمنى لو كنت أميّاً لتعجز عن قراءة أسماء أحبائك، تدرك أن الإصابات والمفقودين بالملايين، وأرقام الموتى تتضاعف بشكل مرعب وأنت تبحث عن شخص واحد، عن اسم واحد فقط، لتنتهي قائمة تلو أخرى من دون أن تصل إلى شيء.

عمّت فوضى أسماء المفقودين وسائل التواصل الاجتماعي، صورٌ لعائلات، لشابات وشبان، ولأطفال، أسماءُ المفقودين وعناوين المنازل المدمّرة، تحتها أرقامٌ للاتصال في حال التعرف إلى المفقود، سلسلة بشرية صنعها السوريون لنقل الأخبار، بين بلدان العالم، فالكارثة أكبر وأقسى من أن تجد من تبحث عنه بسؤال واحد.

ربطتْ الشبكة البشرية في البحث عن المفقودين بلداناً عدة، كأن يكون أخ المفقود في دبي وأنت في بيروت وصديقك في السويد (عائلته في أنطاكيا ونجت)، فتسأله، ليتواصل مع أحد أصدقائه في أنطاكيا، الذي يتواصل بدوره مع عائلته التي لا تملك هاتفاً محمولاً، ربما تصل إلى معلومة عن أخ المفقود. هناك سلاسل بشرية للبحث، أكثر تعقيداً، تضم عشرات البلدان والمدن والمناطق، والكثير منها أتى بنتائج في إيجاد المفقودين. على رغم الكارثة، إلا أن شبكات البحث البشرية منحتنا نحن الباحثين في قوائم الزلزال، بعض الأمان والانتماء.

لا قواعد أو خطوات للبحث عن المفقودين، كل شيء فوضوي، هناك قوائم مكتوبة بالتركية، ستأخذ منك وقتاً أطول في تهجئة الأسماء والمدن والمستشفيات، يستغيث البعض مِمَن لا يتقنون قراءة الحروف الأعجمية، وهذا عجز من نوعٍ آخر أمام الفقدان.

ستجد عشرات المجموعات التي أسسها الباحثون عن أحبائهم، مثل “عيلة ضايعة بأنطاكيا”، “ولادي تحت الأنقاض”، و”مفقودو زلزال تركيا”، دخلتُ إليها الواحدة تلو الأخرى، أكتب على ورقة اسمها كي لا أخطئ وأبحث فيها مرة أخرى. داخل المجموعة، لن تجد سوى الاستغاثات وصور أطفال تائهين، يبحث ناشروها عن عائلاتهم. مهمة تبدو أنها لن تنتهي، الكثير من الصور والقليل من الأمل. “كنت عارفة أنو رح نلاقيه”، تقول والدة صديقي، التي ما زال يخيفها صوت عجلات العربات في المستشفى لأنه يذكّرها بالزلزال. 

البحث عن مفقودي الزلزال يشبه حرفياً البحث عن إبرة في كومة قش، للمصادفة الإبرة هي أحد أحبائك والقش هو ركام الزلزال. في تلك اللحظة، يبدو البحث عن الإبرة أكثر سهولة من البحث عن شخص يحمل غيابه هذه الاحتمالات كلها، أسأل صديقي: “هل خرج راكان من تحت الأنقاض”، فيقول: “لا أعلم”. هكذا هو المفقود إذاً، لا تعلم إن خرج أو ما زال تحت الأنقاض، إن كان في ثلاجة الموتى أو مستلقياً على سرير في مستشفى، أو غائباً عن الوعي، إن كان يبحث عنك أيضاً وله أسبابه في العجز عن الاتصال بك، احتمالات لا تنتهي للغياب، وليس أمامك سوى قوائم (تصلّي أن تكون ناقصة) للمفقودين.

لكثرة ما قرأ السوريون قوائم المفقودين والموتى، باتوا حين مرور اسم مفقود على “فيسبوك” أمامهم، يتذكرون أنهم قرأوا الاسم في إحدى القوائم، فهل يخبرون شخصاً لا يعرفونه، أنهم قرأوا اسم المفقود في قائمة الموتى منذ ساعة؟ أم يتركونه لأمله بعض الوقت؟! ومأساة السوريين في هذه الكارثة تحديداً، كانت مضاعفة، في ظل الشتات الذي تعيشه العائلات، البعض في الداخل والبعض الآخر في تركيا وآخرون في أوروبا.

تتشابه الأسماء ووجوه المصابين، كانت وجوه الأطفال الموجودين في المستشفيات شديدة التشابه، بقع زرقاء وعيونٌ منتفخة وبنفسجية، وبسبب هذا التشابه كنتُ أفتح صورة راكان على حاسوبي، وصورة الطفل المصاب على هاتفي المحمول، لأتمكن من المعاينة بشكل دقيق، والتأكد مما إذا كانت الصورتان للطفل ذاته، لكن التأكد كان شبه مستحيل في كل مرة. ففي الصورة الأولى طفل يبتسم بخجل، وفي الصورة الثانية طفل مصدوم. في الصورة الأولى، طفل شعره مصفف، وفي الثانية طفل يغطي الدم شعره، كان الأمر مرعباً. ترددتُ، في كل مرة، أردت فيها إرسال صورة طفل مصاب لصديقي، وكلما قال: “لا مش هو” شعرت بالألم، أولاً “لأنه ليس هو”، وثانياً لأنني شككتُ في أنه ليس هو، لكني خشيت تجاوز الصورة، خفت أن أتجاوزه  فيكون هو. ملامح الأطفال متشابهة، ولجميعهم نظرة تسأل: “ولكن لماذا يحصل هذا كله؟”.

مرّت أيام غدونا فيها مهووسين بالبحث، بتتبع كل قناة للمفقودين على “التيلغرام”، وكل منشور صغير على “فيسبوك”، هوس انهرتُ على إثره مرتين وأُصبت بنوبات هلع، من دون الوصول إلى أي معلومة، تخيلت عائلات المفقودين، إذ كنا نحن البعيدين عاجزين عن التحمّل، فكيف أولئك الذين ينتمون إلى المأساة؟.

في اليوم السابع وحين بدأتُ أشعر باليأس، وصل صديقي خبر عن أخيه، راكان بخير، ويبعد منه 1000 كلم. وسط الفوضى، نُقل المصابون إلى مدن ومناطق أخرى، وكان الطفل من بينهم، كل تلك القوائم وآلاف الأسماء التي قرأناها مراراً وتكراراً، لم تحوِ اسمه الصغير. كنت أحتاج الى أن نجده لأجله ولأجل عائلته ولأجلي أنا، وكأن المأساة ستكون أقل وطأة لو وجدناه، حينها أدركتُ وأنا أبكي فرحاً بإيجاده، أن تلك القوائم كلها لم تكن له، كانت لنا، نحن الذين صنعنا مئات الشبكات من البحث عن المفقودين كي لا ننهار أمام اليأس، ونعتقد أن الكارثة أقل مأساوية مما يحدث على الأرض.