تبدو قلعة صلاح الدين الأيوبي بارزة كأشهر معالم القاهرة التاريخية، فمن أي موقع فيها، تظهر قباب مسجد محمد علي باشا الفضية لامعة في الأفق، كأنها بوصلة المدينة الأبدية التي لا تختلف مهما تغيرت الأزمنة والسلطة فيها.
لكن القلعة التي تمركزت فيها سلطة مصر على مدار أكثر من سبعة قرون كاملة، منذ أن أسسها قراقوش حتى نقل الخديوي إسماعيل مقر الحكم إلى قصر عابدين، لم تقف وحيدة في المشهد، بل كانت هناك مؤثرات عمرانية عززت مكانتها وأثرت موضعها التاريخي على مدار فترات تاريخية مختلفة.
أسفل القلعة وتحديداً في الجهة القبلية منها، توجد منطقة مكتظة بعدد من القباب المتفردة في الشكل والهيئة، حتى أنها تميزت دون غيرها بنمط معماري مميز وغير مألوف عن القاهرة، يعكس فترة تاريخية كانت سمة التقليد والاقتباس من الخارج الأبرز فيها.
أسفل القلعة أيضاً، مآذن متعددة علقت بين مئات الشواهد الصغيرة لأناس عاديين، لم يدونوا أسماءهم في التاريخ كما حال أصحاب تلك المنشآت المعمارية. عرفت تلك المنطقة بقرافة جلال الدين السيوطي نسبة الى القطب الصوفي الأشهر الذي دفن فيها تحت قبة بيضاء اللون لا تنقطع الزيارات إليها. لكنها ترد دائماً في المصادر التاريخية باسم “قرافة المماليك القبلية”، كونها الامتداد الطبيعي لقرافة المماليك الشمالية الكائنة الآن في محاذاة شارع صلاح سالم.
مفهوم القرافة المتناقض!
تمتد “مدينة الموتى” إجمالاً في القاهرة من أول حدود منطقة العباسية الحالية حتى صحراء المعادي أو ما يعرف بالبساتين، اشتملت تلك المنطقة على أسماء متعددة لجبانات القاهرة المختلفة، فرقت بينها حدود عينية عرفها السكان وربطوا معالمها بأحداث معينة عاينوها في حياتهم. بداية من قرافة المماليك الشمالية التي تقع بمحاذاة شارع صلاح سالم، والتي تقسم عادة بين السكان إلى ترب الغفير وقرافة المجاورين وغيرها من المسميات الأخرى. ثم قرافة باب الوزير التي تقع بجانب القلعة من الناحية الشمالية الغربية في حي بابا الوزير الشهير، فضلاً عن مقابر باب النصر التي تقع في الجهة المقابلة لسور القاهرة الشمالي عند باب النصر، والتي ارتبطت بأهالي حي الجمالية.
أما المنطقة التي يطلق عليها القرافة الكبرى، فهي تلك المنطقة التي تقع خلف مسجد عمرو بن العاص حتى جبل المقطم، وتلك المنطقة كانت أولى المدن التي أسست لتكون قرافة لأهل مصر منذ دخول العرب إليها، لكن معالمها اندثرت وتغيرت بشكل كبير.
تلي ذلك القرافة الصغرى أو قرافة الإمام الشافعي، وهي تلك المنطقة التي تضم ضريح الإمام الشافعي وما حوله من قباب وأحواش وترب أنشئت على شرفه. وقرافة السيدة نفيسة التي كان للسيدة نفيسة فضل معنوي في تأسيسها. ثم قرافة جلال الدين السيوطي، وهي تلك المنطقة المحصورة بين ميدان السيدة عائشة الآن ومقابر الإباحية ناحية المقطم.
لم تكن القرافة مجرد منطقة دفن عادية في مصر، بل تعامل معها المصريون على مدار سنوات طويلة كمتنزه ومكان للطرب والغناء واللهو واللعب أحياناً. وربما توضح لنا تجربة ابن سعيد المغربي الذي زار القاهرة أواخر القرن الثالث عشر الميلادي في كتابه “المغرب في حلى المغرب”، إذ يقول: “بت ليالي كثيرة بقرافة الفسطاط، وهي في شرقيها بها منازل الأعيان بالفسطاط والقاهرة، وقبور عليها مبان مُعتنى بها. وفيها القبة العالية المزخرفة التي فيها قبر الإمام الشافعي. وبها مسجد جامع، وترب كثيرة عليها أوقاف للفقراء، ومدرسة كبيرة للشافعية. ولا تكاد تخلو من طرب ولا سيما في الليالي المقمرة. وهي معظم مجتمعات أهل مصر وأشهر متنزهاتهم”.
يتحدث المقريزي هو الآخر في كتابه “الخطط” بقوله: “والإجماع على أنه ليس في الدنيا مقبرة أعجب منها ولا أبهى ولا أعظم ولا أنظف من أبنيتها وقبابها وحُجرها، ولا أعجب تربة منها، كأنها الكافور والزعفران، مقدسة في جميع الكتب، وحين تُشرف عليها تراها مدينة بيضاء، والمقطّم عالٍ عليها كأنه حائط من ورائها”.
تداولت المصادر التاريخية عدداً من الأبيات التي تعبر عن هذا المفهوم المتناقض في قرافة القاهرة، والتي ميزتها دون غيرها بقولهم:
إن القرافة قد حوت ضدين معاً
دنيا وأخرى فهي نعم المنزلُ
كم ليلة بتنا بها ونديمنا
لحنٌ يكاد يذوب منه الجندلُ
والبدر قد ملأ البسيطة نوره
فكأنما قد فاض منه جدول
وبدا يضاحك أوجــهاً حاكــــيْنه
لما تكامل وجهه المتهللُ
نحن أمام تجربة فريدة من مدن الموتى في مدينة أكبر تعج بطبقات التاريخ المتراكم والمزدحم في كل ركن فيها، تتشابك بتعقيد دقيق يجعل من الصعب جداً تفكيكها أو العبث في مكوناتها.
تبدو قلعة صلاح الدين الأيوبي بارزة كأشهر معالم القاهرة التاريخية، فمن أي موقع فيها، تظهر قباب مسجد محمد علي باشا الفضية لامعة في الأفق، كأنها بوصلة المدينة الأبدية التي لا تختلف مهما تغيرت الأزمنة والسلطة فيها.
قرافة سيدي جلال!
الجزء الخاص بقرافة جلال الدين السيوطي، بدأت قصته في عصر الناصر محمد بن قلاوون الذي حكم السلطنة المصرية منذ سنة 1293 حتى سنة 1341 ميلادي، بثلاث فترات مختلفة، عندما اتخذها السلطان المملوكي كامتداد عمراني طبيعي للقرافة الصغرى -قرافة الإمام الشافعي- عندما ضاقت على الناس.
شجع السلطان الذي أحب العمارة الى درجة عميقة على البناء فيها، حتى أن المصادر تتحدث عن أنه كان يُقرض أمراءه الأموال شريطة بناء الترب والخوانق فيها. ولفظ التربة كما يظهر من نصوص المقريزي لا يعني المدفن بل القصور التي تتكون من أكثر من منشأة ووحدة معمارية، مثل القبة والمئذنة والاستراحة وغيرها من المنشآت التي تخدم الأمير نفسه صاحب المنشأة والمارة وزائرو القرافة. وهي تلك المسميات التي عبر عنها الرحالة الذين زاروا القرافة. لذا كان من البديهي أن يتنافس أمراء الناصر محمد على بناء المجمعات المعمارية، حتى أنها وفي غضون سنوات سلطنته، عمرت بشكل غير مسبوق.
تتكون قرافة جلال الدين السيوطي من منشآت عدة ترجع إلى فترات تاريخية مختلفة، كانت أهم تلك المنشآت تربة الأمير قوصون، كان قوصون -أمير الناصر محمد- من أوائل أمرائه الذين بنوا في تلك المنطقة تربة كاملة مكونة من قبة ومئذنة وخانقاة ومسجداً. وأقر فيها الطعام والزيت وسائر ما يحتاجه الناس وفق ما عبرت به المصادر التاريخية المختلفة، لم يتبق من تلك الوحدات المعمارية الآن سوى قبة الضريحية ومئذنة فقط.
تقع بجانبها التربة السلطانية التي شيدتها خوند سمرا، زوجة الناصر محمد بن قلاوون نفسه ووالدة السلطان حسن الذي حكم مصر بعد وفاة والده، لم يتبق من تلك التربة التي بنيت قبابها على نمط قباب سمرقند، إلا قبتين فقط ومئذنة تقع بالقرب منهما.
بالإضافة إلى مسجد المسيح باشا الذي يقع على رأس القرافة والذي يرجع تاريخ بنائه إلى العصر العثماني، تحديداً سنة 1575، وهو من بناء الوالي العثماني مسيح باشا الخادم، إذ بناه على ضريح الشيخ نور الدين القرافي الذي دفن في الموضع نفسه، اعتقاداً فيه، تحول اسم المسيح باشا بين الناس إلى لفظ المسبح باشا، إذ تجنب المعتقد الشعبي عند الناس نطق لفظ المسيح على صاحب مسجد.
ولا غنى بالتأكيد عن ضريح جلال الدين السيوطي نفسه، والذي يقوم على هيئة قبة مضلعة بيضاء، ويرجع تاريخ بنائه إلى فترة قريبة مختلفة عن تاريخ وفاته.
ناهيك بوجود مهم للأمير سودون الأشرفي أتابك السلطان قنصوة الغوري أي القائد العام للعساكر وأمير مجلس الديار المصرية، الذي قتل أثناء معركته في مرج دابق هو الآخر، إذ بنى تربته في الموقع نفسه، بجانب قبة الصوابي، أقدم القباب في تلك المنطقة، والتي أنشئت في عصر السلطان المنصور قلاوون والد الناصر محمد أواخر القرن الثالث عشر الهجري.
أما القصة الأكثر إثارة في القرافة، فهي باب القرافة الذي يقع بمحاذاة التربتين (قوصون والتربة السلطانية)، وهو الباب الذي استغلته الحملة الفرنسية لإنشاء موقع مدافع تجاه الثوار الآتين من منطقة القلعة وعرب اليسار. كان موقع هذا المدفع حيوياً للغاية، بخاصة أن أهالي الذين لاقوا حتفهم جراء الثورة على الفرنسيين كانوا يتوجهون عادة إلى القرافة لدفن موتاهم، ثم يستغلون تلك التجمعات في الثورة على الفرنسيين أكثر وأكثر.
تلك هي التركيبة التي أنشأت قرافة جلال الدين السيوطي وكونتها على مدار سنوات طويلة منذ أن بدأ الأمراء المماليك يتنافسون فيها ويعبر كل واحد منهم عن فلسفته الخاصة في الحياة وعلاقته بالناس. وهي تعاني اليوم من أزمة مكان، إذ تعترض طريق الكباري والمحاور التي تراها المحافظة واجبة في عملية التطوير أو التغيير العمراني في القاهرة.
منشآت قرافة السيوطي كما صورها آرثوس-بيرتراند ضمن مشروع تصوير مصر من أعلى الذي ابتدأه نهاية القرن العشرين حتى عام 2011
حاضر متأزّم!
في قرافة جلال الدين السيوطي، لم يعد المشهد كما كان منذ سنة واحدة حتى. إذ سُويت مئات الشواهد بالأرض، ونُقلت مئذنتان في المنطقة، ويجري العمل على نقل مئذنتين أخريين. فضلاً عن تجريف للتربة يصل إلى خمسة أمتار بعمق الأرض، ما جعل العاملين في المشروع يصطدمون بآثار قديمة في المنطقة، وهو ما أعلنت عنه وزراة السياحة والآثار والصحف المحلية من اكتشاف بئر مياه في منطقة قرافة جلال الدين السيوطي، والذي يعود غالباً إلى العصر المملوكي. اكتُشف هذا البئر من دون ترتيب علمي أو بعثة أثرية بل عن طريق المصادفة، إذ اصطدمت سنون الجرافة بالمصادفة في عارض حجري نتج منه هذا الاكتشاف الأثري المهم.
بدأت معالم تلك الأزمة تتضّح عندما أعلنت محافظة القاهرة عن مشروع تطوير منطقة السيدة نفيسة والسيدة عائشة، وتوسيع الميدانين الحاليين في المنطقة. على إثر هذا، بدأت وزارة السياحة والآثار في مستهل سنة 2023، خطة فك مئذنة مسجد المسيح باشا التي تعترض طريق الميدان الجديد، يقع هذا المسجد على طريق صلاح سالم وتحديداً على رأس قرافة جلال الدين السيوطي. ظل المسجد في موقعه من نشأته حتى يومنا هذا، لكن المئذنة، أقدم الأجزاء المعمارية فيه، والتي بنيت على النمط العثماني، كان لها نصيب في أن تختفي عن المشهد الآن.
تشير الخرائط إلى أن الميدان ستتم توسعته بشكل يستوجب إزالة مسجد المسيح باشا ومسجد السيدة عائشة ومسجد قنصوة الغوري، فيما سيقام طريق سريع في المنطقة نفسها القائمة فيها مئذنتا التربة السلطانية وقوصون.
رسم الباحث العمراني / عمرو عصام بناءً على خطة محافظة القاهرة
لم تتوقف الخطة عند هذا الحد، بل طاولت كذلك مئذنة مسجد قنصوة الغوري، السلطان المملوكي الذي تولى السلطنة سنة 1500 ميلادياً الى حين القضاء عليه من قبل الحملة العثمانية في مرج دابق. بني هذا المسجد بالقرب من مقر السلطنة (القلعة) وعلى رأس حي عرب اليسار التاريخي. طاولت خطة الدولة مئذنة الغوري كذلك وقامت بتفكيكها تماماً، حتى أنه لم يعد له شاهد الآن. أما مئذنتا التربة السلطان وقوصون فتمت تغطيتهما بستارة خضراء وسقالات مرتفعة تلتف على كل نقطة في المئذنتين، وبدأت عملية ترقيم الحجارة تمهيداً لعملية نقلهما إلى مكان آخر.
مستقبل غامض وتصريحات مضطربة!
يبدو مستقبل تلك المآذن غامضاً حتى الآن، بخاصة مع ندرة المعلومات التي تدلي بها الجهة المنوطة، وهي وزارة السياحة والآثار، إذ جاء تصريح صحافي وحيد من قبل المستشار الإعلامي لوزارة السياحية والآثار نيفين العارف، تدلي فيه بأنه لا نية لفك المئذنتين، وأن الهدف من إقامة السقالات هو ترميمها فقط. فيما لم تتحدث الوزارة مثلاً عن مستقبل المئذنتين اللتين تم فكهما بالفعل (الغوري والمسيح باشا).
توصل “درج” إلى معلومة من مصدر مسؤول مقرب من دائرة اتخاذ القرار بمكتب وزير السياحة والآثار، تؤكد مسألة فك المئذنتين الباقيتين، وتؤكد أيضاً أن الوزارة لا تمتلك حتى الآن خطة مستقبلية لوضع المآذن المفككة. إذ سيتم تفكيكها وتشوين الأحجار المكونة للمئذنتين في مخازن مخصصة لذلك. فيما سيتم بحث الخطط والبدائل المستقبلية لهذا الأمر.