ساهموا في دعم الإعلام المستقل و الجريء!
ادعموا درج

 قصّتي مع فضل شاكر

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

تبقى تكويعة فضل من ألطف التكويعات، لا سيما وأنها لا تتعدى انعطافة عما كنا غارقين به جميعنا من حماقات.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

إلى ريان ماجد

علمت بخبر تسليم المغني فضل شاكر نفسه إلى الجيش اللبناني بينما كنت في مقهى القشلة في وسط دمشق. شابان وشابة كانوا يتحدثون عنه على الطاولة المجاورة لطاولتنا. وعلى طاولة أخرى كانت شابة تعبر عن خوفها مما قد يؤدي إليه تسليم شاكر نفسه من احتمالات. 

عندما عدت إلى الفندق ورحت أقلّب في السوشيل ميديا، لا سيما السورية منها، اكتشفت أن خبر فضل شاكر يتقدم أخبار الانتخابات التي باشر السوريون “صمتهم الانتخابي” التزاماً بما حدده لهم قانونها. أعتقد أن السوريين يحبون فضل شاكر أكثر من اللبنانيين، مثلما هم يحبون فيروز أكثر  من اللبنانيين. وفي دمشق اكتشفت أن فيروز غنت لهم ولشامهم، أكثر مما غنت لبيروت… ربما.  

التقيت فضل شاكر مرتين في منزله عند المدخل الغربي لمخيم عين الحلوة بعد أشهر من أحداث عبرا، التي أدت الى هروبه بعدها ولجوئه الى المخيم. هناك على بعد نحو مئتي متر من حاجز للجيش اللبناني، حيث يرتفع منزل من طابقين في منطقة قيل لنا إنها تخضع لنفوذ جماعة إسلامية فلسطينية، كان فضل بانتظارنا أنا وصديقنا الصيدواي، ومرحباً بنا بصوتٍ استعان لدفعه إلى أسماعنا بطبقات الصوت الخفيضة والعريضة.

آنذاك، لم يدفعني سماعي كلمات الترحيب التي استقبلنا بها، إلى التفكير بما شرعت بسماعه لاحقاً من الأصدقاء عن رخامة صوته، أنا الذي لا تربطني علاقة بالأصوات والأغاني، وصولاً إلى الرحابنة وضجيجهم، والذين لطالما كنت أضجر ما أن يهم الناس بالحديث عنهم. أنا الذي لم أتمكن من متابعة أي فيديو للصديق رامي الأمين إلى نهايته، إذا ما كان موضوع الفيديو فيروز أو فضل شاكر أو حتى خالد الهبر.

قصدت فضل شاكر في حينها لأتقصى قصة فنان “جهادي”، أو قصة رجل من صيدا كنت أعرفها من ألفها إلى يائها، بمعزل عن الكفاءة الفنية والصوتية للرجل. قصة صيداوي عادي. 

قبل ذلك كنت أنا وزميلتي ريان ماجد قد كتبنا سيرة فضل الصيداوية. زرنا صيدا مرات عدة، والتقينا أكثر من عشرة أشخاص من محيطه، وتجولنا في تعمير عين الحلوة، حيث نشأ الفنان، وتخيلناه معاً متجولاً على أسطح مباني الفقراء هناك يغني  في الأعراس في فرقة شعبية، قبل أن تعبر نجوميته المشرق البائس إلى مغارب الأرض.

 لكن في حينها لم نلتق به، فهو كان متوارياً، وكان أشقاؤه متوارين، وانقسم معارفه وأصدقاؤه الذين التقيناهم بين آسفين على خياراته (أعضاء في فرقته الموسيقية) وبين متحمسين لهذه الخيارات (ما تبقى من أنصار الشيخ أحمد الأسير).

إنها قصة صيداوي عادي، ابن سائق تاكسي فقير انتهى به الأمر حارساً أمام أحد مراكز التنظيم الشعبي الناصري. نحن هنا نتحدث عن والد فضل شاكر. والده الذي أرسله إلى دار للأيتام من دون أن يصاب الفتى باليتم. 

فضل وافق على استقبالي في منزله في مخيم عين الحلوة بعدما قرأ السيرة التي كتبناها ريان وأنا له، وشعر بأن فيها شيئاً من التعاطف معه. وللأمانة فإن الجانب “الشعوري” من القصة تولّته ريان خلال تحريرنا لها، وهي أشارت في أكثر من مكان من السيرة إلى حزن ما في صوته. أما أنا فقد توليت رصد الانعطافات العنيفة التي تخللتها سيرته وارتباطه بالشيخ أحمد الأسير.

فضل الذي قرأ السيرة وأحبها، على ما قال لنا نجله محمد في حينها، أحب ما كتبته ريان في السيرة. وبما أننا كتبنا التحقيق باسمنا، ريان وأنا، فهو لم يعرف بهذا التفصيل، وأراد خلال لقائي به أن يستعرض الطبقات الحزينة في صوته. فبعد دقائق قليلة من وصولي، انتقل إلى كرسي خلف آلة موسيقية تشبه البيانو وراح يعزف ويغني. وأذكر أنني سرعان ما ضجرت، فأنا كنت قادماً للقائه لأسباب أخرى تماماً. في حينها، وجدت أمامي رجلاً صيداوياً عادياً، طيباً وصوته جميل على ما يرددون، ويشعر بالظلم. ويقول إنه أخطأ ولا يبدي إعجاباً بأحمد الأسير.

كان فضل حريصاً على استعادة صورة الفنان، قال إنه بصدد الاستثمار بابنه، ولم يكن في ذلك الوقت معولاً على احتمالات التفاوض على مصيره. كان ثنائي حزب الله وميشال عون يحكم لبنان، وهو ما جعل “التوبة” مستحيلة في حينها. قال إن ابنه يحتاج الى الكثير من العمل على طبقات صوته لكي يستأنف طريق والده وإرثه. وقال أيضاً أنه لم يشارك في القتال، وأن الفيديو الشهير الذي ظهر فيه متحدثاً عن “جيف”، اقتُطع من سياقه لكي يُفهم منه أنه قصد جنود الجيش اللبناني، وهو لم يقصدهم ولم يقاتلهم.

وبماأننا في زمن صار فيه لـ”التكويع” مكان في الشأن العام، أصبح بإمكاننا ضم انعطافة فضل شاكر إلى ظاهرة التكويع التي تعم المشرق. 

وتبقى تكويعة فضل من ألطف التكويعات، لا سيما وأنها لا تتعدى انعطافة عما كنا غارقين به جميعنا من حماقات.

في دمشق، تشعر أن زمن “تواري” فضل شاكر قد انقضى. أما ما رتبته سنوات التواري، فليس من السهل تجاوزه. كل شيء في دمشق ينعقد على هذه المعادلة. انقضى زمن الأسد، لكنّ أثقالاً رهيبة خلفها هذا الزمن لا يمكن تجاوزها. ومثلما تعول دمشق على الأشقاء لانتشالها من زمن الأسد، فإن لفضل “أشقاء”، يبدو أنهم طلبوا منه تسليم نفسه للجيش اللبناني كمعبر للعودة العامة… 

06.10.2025
زمن القراءة: 4 minutes

تبقى تكويعة فضل من ألطف التكويعات، لا سيما وأنها لا تتعدى انعطافة عما كنا غارقين به جميعنا من حماقات.

إلى ريان ماجد

علمت بخبر تسليم المغني فضل شاكر نفسه إلى الجيش اللبناني بينما كنت في مقهى القشلة في وسط دمشق. شابان وشابة كانوا يتحدثون عنه على الطاولة المجاورة لطاولتنا. وعلى طاولة أخرى كانت شابة تعبر عن خوفها مما قد يؤدي إليه تسليم شاكر نفسه من احتمالات. 

عندما عدت إلى الفندق ورحت أقلّب في السوشيل ميديا، لا سيما السورية منها، اكتشفت أن خبر فضل شاكر يتقدم أخبار الانتخابات التي باشر السوريون “صمتهم الانتخابي” التزاماً بما حدده لهم قانونها. أعتقد أن السوريين يحبون فضل شاكر أكثر من اللبنانيين، مثلما هم يحبون فيروز أكثر  من اللبنانيين. وفي دمشق اكتشفت أن فيروز غنت لهم ولشامهم، أكثر مما غنت لبيروت… ربما.  

التقيت فضل شاكر مرتين في منزله عند المدخل الغربي لمخيم عين الحلوة بعد أشهر من أحداث عبرا، التي أدت الى هروبه بعدها ولجوئه الى المخيم. هناك على بعد نحو مئتي متر من حاجز للجيش اللبناني، حيث يرتفع منزل من طابقين في منطقة قيل لنا إنها تخضع لنفوذ جماعة إسلامية فلسطينية، كان فضل بانتظارنا أنا وصديقنا الصيدواي، ومرحباً بنا بصوتٍ استعان لدفعه إلى أسماعنا بطبقات الصوت الخفيضة والعريضة.

آنذاك، لم يدفعني سماعي كلمات الترحيب التي استقبلنا بها، إلى التفكير بما شرعت بسماعه لاحقاً من الأصدقاء عن رخامة صوته، أنا الذي لا تربطني علاقة بالأصوات والأغاني، وصولاً إلى الرحابنة وضجيجهم، والذين لطالما كنت أضجر ما أن يهم الناس بالحديث عنهم. أنا الذي لم أتمكن من متابعة أي فيديو للصديق رامي الأمين إلى نهايته، إذا ما كان موضوع الفيديو فيروز أو فضل شاكر أو حتى خالد الهبر.

قصدت فضل شاكر في حينها لأتقصى قصة فنان “جهادي”، أو قصة رجل من صيدا كنت أعرفها من ألفها إلى يائها، بمعزل عن الكفاءة الفنية والصوتية للرجل. قصة صيداوي عادي. 

قبل ذلك كنت أنا وزميلتي ريان ماجد قد كتبنا سيرة فضل الصيداوية. زرنا صيدا مرات عدة، والتقينا أكثر من عشرة أشخاص من محيطه، وتجولنا في تعمير عين الحلوة، حيث نشأ الفنان، وتخيلناه معاً متجولاً على أسطح مباني الفقراء هناك يغني  في الأعراس في فرقة شعبية، قبل أن تعبر نجوميته المشرق البائس إلى مغارب الأرض.

 لكن في حينها لم نلتق به، فهو كان متوارياً، وكان أشقاؤه متوارين، وانقسم معارفه وأصدقاؤه الذين التقيناهم بين آسفين على خياراته (أعضاء في فرقته الموسيقية) وبين متحمسين لهذه الخيارات (ما تبقى من أنصار الشيخ أحمد الأسير).

إنها قصة صيداوي عادي، ابن سائق تاكسي فقير انتهى به الأمر حارساً أمام أحد مراكز التنظيم الشعبي الناصري. نحن هنا نتحدث عن والد فضل شاكر. والده الذي أرسله إلى دار للأيتام من دون أن يصاب الفتى باليتم. 

فضل وافق على استقبالي في منزله في مخيم عين الحلوة بعدما قرأ السيرة التي كتبناها ريان وأنا له، وشعر بأن فيها شيئاً من التعاطف معه. وللأمانة فإن الجانب “الشعوري” من القصة تولّته ريان خلال تحريرنا لها، وهي أشارت في أكثر من مكان من السيرة إلى حزن ما في صوته. أما أنا فقد توليت رصد الانعطافات العنيفة التي تخللتها سيرته وارتباطه بالشيخ أحمد الأسير.

فضل الذي قرأ السيرة وأحبها، على ما قال لنا نجله محمد في حينها، أحب ما كتبته ريان في السيرة. وبما أننا كتبنا التحقيق باسمنا، ريان وأنا، فهو لم يعرف بهذا التفصيل، وأراد خلال لقائي به أن يستعرض الطبقات الحزينة في صوته. فبعد دقائق قليلة من وصولي، انتقل إلى كرسي خلف آلة موسيقية تشبه البيانو وراح يعزف ويغني. وأذكر أنني سرعان ما ضجرت، فأنا كنت قادماً للقائه لأسباب أخرى تماماً. في حينها، وجدت أمامي رجلاً صيداوياً عادياً، طيباً وصوته جميل على ما يرددون، ويشعر بالظلم. ويقول إنه أخطأ ولا يبدي إعجاباً بأحمد الأسير.

كان فضل حريصاً على استعادة صورة الفنان، قال إنه بصدد الاستثمار بابنه، ولم يكن في ذلك الوقت معولاً على احتمالات التفاوض على مصيره. كان ثنائي حزب الله وميشال عون يحكم لبنان، وهو ما جعل “التوبة” مستحيلة في حينها. قال إن ابنه يحتاج الى الكثير من العمل على طبقات صوته لكي يستأنف طريق والده وإرثه. وقال أيضاً أنه لم يشارك في القتال، وأن الفيديو الشهير الذي ظهر فيه متحدثاً عن “جيف”، اقتُطع من سياقه لكي يُفهم منه أنه قصد جنود الجيش اللبناني، وهو لم يقصدهم ولم يقاتلهم.

وبماأننا في زمن صار فيه لـ”التكويع” مكان في الشأن العام، أصبح بإمكاننا ضم انعطافة فضل شاكر إلى ظاهرة التكويع التي تعم المشرق. 

وتبقى تكويعة فضل من ألطف التكويعات، لا سيما وأنها لا تتعدى انعطافة عما كنا غارقين به جميعنا من حماقات.

في دمشق، تشعر أن زمن “تواري” فضل شاكر قد انقضى. أما ما رتبته سنوات التواري، فليس من السهل تجاوزه. كل شيء في دمشق ينعقد على هذه المعادلة. انقضى زمن الأسد، لكنّ أثقالاً رهيبة خلفها هذا الزمن لا يمكن تجاوزها. ومثلما تعول دمشق على الأشقاء لانتشالها من زمن الأسد، فإن لفضل “أشقاء”، يبدو أنهم طلبوا منه تسليم نفسه للجيش اللبناني كمعبر للعودة العامة…