انطلقت في الرابع من آذار/ مارس الجاري في تونس، أولى جلسات المحاكمة في ما يُعرف “بقضية التآمر على أمن الدولة”، بعد أكثر من سنتين من سجن عدد من المتّهمين في القضية.
وفي خطوة مفاجئة، قررت السلطات القضائية أن تتمّ المحاكمة عن بُعد، ومن دون حضور المتّهمين، لتثير بذلك جدلاّ كبيراّ، وتجدّد المخاوف حول ضمانات المحاكمة العادلة، وتُثير الشكوك حول مدى جدّية الملف برمته وفراغه، لا سيما في ظل إصرار السلطات التونسية على فرض التعتيم على القضية، وعدم تمكين الرأي العام التونسي من الوقوف على جميع حيثياتها، رغم أنه الملف الأهم والأخطر منذ تفرّد الرئيس قيس سعيد بالحكم منذ 21 تموز/ يوليو 2021.
وجّهت رئاسة المحكمة الابتدائية في تونس، في 26 من شباط/ فبراير الماضي مراسلة إلى “هيئة المحامين” في تونس، تخبرها فيها بأنه سيتم إجراء محاكمة المتّهمين في قضية “التآمر على أمن الدولة” عن بُعد، وأنه لن يتمّ جلب المتّهمين إلى مقرّ المحكمة، مبرّرة ذلك بـ”وجود خطر حقيقي”، على أن يشمل القرار كذلك القضايا الجنائية المنشورة والمعينة خلال شهر آذار/ مارس الجاري، أمام القطب القضائي لمكافحة الإرهاب.
مراسلة تبيّن من خلالها أن هناك نيّة رسمية لحرمان المتّهمين، الذين ينتمي أكثرهم إلى قوى المعارضة، ولهم نشاطهم السياسي الممتدّ لسنوات، من فرصة الحضور الجسدي، ومواجهة التهم الخطيرة الموجّهة إليهم، التي يصل بعضها إلى عقوبة الإعدام، والدفاع عن أنفسهم.
أثار القرار جدلاً واسعاً، خاصة في صفوف “هيئة الدفاع عن المعتقلين وعائلاتهم”، وبعض المنظّمات غير الحكومية، التي اعتبرت أن ما يجري يضرب ضمانات المحاكمة العادلة، لا سيما وأنه الفترة الأخيرة أثبت القضاء أنه غير مستقلّ وأنه موظّف من قِبل السلطة، كما أن القانون الذي تمّ اعتماده لتمرير هذا القرار يعود لسنة 2020، وقد اعتُمد آنذاك تحديداً لظرف استثنائي حينها، وهي جائحة كورونا حصراً.
لِمَ المحاكمة عن بُعد؟
إجراء المحاكمة عن بُعد في تونس، اعتُمد بمقتضى المرسوم عدد 12 المؤرّخ في 27 نيسان/ أبريل 2020، الذي أصدره حينها رئيس الحكومة الياس الفخفاخ بتفويض من مجلس النواب، لمواجهة أزمة كورونا، ولضمان عدم تفشّي العدوى بين المواطنين والموظّفين، ولضمان السير العادي للمرافق المهمّة في البلاد.
وقد أجاز المرسوم لأول مرة في تاريخ العدالة الجزائية التونسية، عقد المحكمة جلساتها باعتماد وسائل التواصل عن بُعد، مع ضمان التواصل بين هيئة المحكمة المنتصبة بمقرّها والمتّهم المودع في السجن، وجعل المرسوم موافقة المتّهم شرطاً أولياً للمضي في الإجراءات والمحاكمة عن بُعد.
لكن السلطات القضائية لم تجد حرجاً في استدعاء هذا القانون، رغم غياب الظروف الاستثنائية التي تدفع لاستخدامه، حيث لا تعيش البلاد على وقع أية تهديدات خطرة للأمن، ولا تواجه وباءً أو مرضاً يهدّد صحة المواطنين وسلامتهم، كما أن المتّهمين هم مجموعة من السياسيين ورجال الأعمال، ولا يشكّلون بأي شكل من الأشكال “خطراً حقيقياً” كما تمّ تبرير ذلك، علاوة على أنه لم يتمّ التشاور مع المتّهمين كما يقتضي الأمر، ولم تتمّ مراعاة رفضهم لهذا الإجراء.
يبدو أن السلطة التي لا تثق بصلابة ملف “التآمر على أمن الدولة”، قد استنجدت بهذا المرسوم لتستخدمه كبوابة هروب من المواجهة، وعدم إتاحة الفرصة للرأي العام لتبيّن حقيقة هذه القضية، التي تُعتبَر الأهم والأبرز منذ تفرّد سعيد بالسلطة. وهذا ما تبيّنته “هيئة الدفاع عن المتّهمين وعائلاتهم”، الذين رفضوا بشدّة هذا القرار، وتمسّكوا بطلبهم بأن تكون المحاكمة علنية، وأن تنقلها إحدى القنوات التلفزية الحكومية، وألحّوا على ذلك في مرافعاتهم أثناء سير الجلسة، التي شهدت حضور عدد كبير من المحامين والصحافيين والمنظّمات التونسية والأجنبية. ولكن تغيّب عنها أغلب المتّهمين الذين رفضوا أن يُحاكَموا عن بُعد، وأن يُحرَموا حقّهم في مواجهة التهم مباشرة، والدفاع عن أنفسهم حضورياً، وعلى مرأى ومسمع كل التونسيين. ولم يحضر غرفة البث سوى متّهمين، لتُرفع الجلسة مع قرار رفض الإفراج على المتّهمين، وتأجيلها إلى شهر نيسان/ أبريل المقبل.
“أكبر مهزلة قضائية”
يقول القيادي في حزب “التيار الديمقراطي” لـ”درج”: “لقد كانت أولى جلسات محاكمة المتّهمين في قضية التآمر على أمن الدولة، أكبر مهزلة قضائية في تاريخ تونس، وأكبر وصمة عار على جبين القضاء التونسي، أستطيع القول إنها قضية لتآمر الدولة على أمن مواطنيها ومواطناتها. قضية تسبّبت في سلب حرية مناضلين ورجال دولة مارسوا السياسة طيلة عقود بوجه مكشوف، وعارضوا عديد الأنظمة، ولم يدعوا يوماً إلى ممارسة العنف ولم يتآمروا يوماً على بلادهم”.
ويضيف: “إن كانت السلطة واثقة من تحقيقاتها واختباراتها وقرائنها وشهودها، فلتقم بفضح المتآمرين عبر بث المحاكمة على أي منبر إعلامي تختاره، في حضور المتّهمين. ولكنها لن تفعل ذلك لأن البث المباشر للمحاكمات ومرافعات المحامين، وتدخّلات المتّهمين للدفاع عن أنفسهم أمام القاضي، سيُثبت للرأي العام زيف الادّعاءات والتهم وفراغ الملفات من أية قرائن جدية للإدانة، وستنقلب الجلسات إلى محاكمة سياسية وقانونية وأخلاقية للسلطة القائمة”.
أن “قضية التآمر على أمن الدولة” قد بدأت منذ أكثر من سنتين، وتحديداً في فبراير/شباط 2023، عندما تمّ تنفيذ سلسلة من الاعتقالات طالت عشرات السياسيين ورجال الأعمال، وبعض المسؤولين السابقين في الدولة، ومسؤولين في مؤسسات إعلامية من أجل تهم تتعلّق بـ”تكوين وفاق بغاية التآمر على أمن الدولة الداخلي والخارجي”، وتمّ إلحاق قضايا عديدة أخرى معروضة على قطب الإرهاب ودوائر مكافحة الفساد، من بينها إجراء اتصالات تُعتبَر مشبوهة مع دبلوماسيين.
إقرأوا أيضاً:
حملة اعتقالات
وفي فجر 11 شباط/ فبراير 2023، في منطقة سيدي بوسعيد في الضاحية الشمالية لتونس العاصمة، تمّت مداهمة منزل الناشط السياسي خيام التركي العضو السابق في حزب “التكتّل” المنحلّ، وأُلقي القبض عليه، وفي اليوم نفسه، أُوقف رجل الأعمال أو رجل الظلّ المُثير للجدل والمعروف بتأثيره الكبير في العمل السياسي كمال لطيف، والمدير التنفيذي السابق ل”حركة النهضة” عبد الحميد الجلاصي على خلفية التهم نفسها.
وبعد يومين اعتًقل نور الدين بوطار مدير إذاعة “موزاييك أف إم”، والوزير السابق وعضو حزب “نداء تونس” لزهر العكرمي، وفي 22 من الشهر نفسه، تمّ توقيف القيادية في “جبهة الخلاص” المعارضة للرئيس شيماء عيسى، والأمين العام لـ”الحزب الجمهوري” عصام الشابي، وفي 24 شباط/ فبراير 2023، لحق بالقائمة زعيم “جبهة الخلاص” جوهر بن مبارك، ثم الأمين العام ل”التيار الديمقراطي” غازي الشواشي، والمدير التنفيذي لـ”نداء تونس” رضا بلحاج بعد ذلك بيوم واحد.
مع نهاية فبراير/شباط 2023 كان مجموع الموقوفين/ات قد بلغ عشرة أشخاص، لم يمثلوا أمام القاضي إلا مرة واحدة في 25 من الشهر نفسه، كما تؤكّد “هيئة الدفاع عن المتهمين”.
وفي الثاني من أيار/ مايو 2023، قرّرت دائرة الاتّهام المختصّة بالنظر في قضايا الإرهاب في محكمة الاستئناف في تونس، إحالة 40 متهماً في قضية “التآمر على أمن الدولة” على الدائرة الجنائية المختصّة بالنظر في قضايا الإرهاب، ورفضت مطالب الإفراج عن الموقوفين، حتى بعد انقضاء آجال التوقيف التحفّظي، التي أقرّها المشرّع التونسي بمدة لا تتجاوز 14 شهراّ.
لم يتمّ الإفراج سوى عن ثلاثة أشخاص، هم نور الدين بوطار في أيار/ مايو 2023، لأنه كان محتجزاً بقضية تتعلّق بغسيل أموال برأت ذمته منها، ثم شيماء عيسى ولزهر العكرمي في 13 تموز/ يوليو 2023.
ويقول محامو الدفاع عن المتّهمين، إن التحقيق قد ركّز على إثبات وجود تفاهم مسبق بين المتهمين/ات، لتأكيد وقوع التواطؤ بينهم من أجل قلب نظام الحكم، وإن ملفّ القضية مبني أساساّ على إفادات شهود، بعضهم مجهولو الهوية، تلقّاها قاضي التحقيق، وذكروا فيها أن جميع المتّهمين/ات كانوا على تواصل قبل بدء القضية.
ويُذكر أن المتّهمين قد أُحيلوا على القضاء على معنى فصول من المجلة الجزائية، يعود تاريخها إلى فترة الاستعمار الفرنسي. إذ إن التنصيص على جريمة التآمر على أمن الدولة قد وضعه المستعمر سنة 1926، وبعد الاستقلال نقلت هذه الأحكام والفصول من القانون الفرنسي إلى القانون التونسي.
إذ سارع الحبيب بورقية الذي كان الوزير الأكبر حينها، ولم يصبح بعد رئيساً للبلاد، وقبل إصدار دستور البلاد سنة 1959 وإعلان الجمهورية، بإصدار أمر جديد في العاشر من كانون الثاني/ يناير 1957، متعلّقاً بالجرائم الواقعة على أمن الدولة الخارجي. وأرسى في تموز/ يوليو 1968، محكمة أمن الدولة “للنظر في الجنايات والجُنح المرتكبة ضد أمن الدولة الداخلي والخارجي، أو في التحريض بأي وسيلة كانت على تلك الجنح والجنايات”. ومنذ ذلك التاريخ أُدخلت عدّة تنقيحات في عهدي بورقيبة وبن علي، واستُخدمت في عدّة أزمات سياسية، وأدّت إلى سنّ قرابة 20 فصلاً مجرّماً للاعتداءات على أمن الدولة الخارجي والداخلي في المجلة الجزائية، بخاصة الفصول 68 و69 و70.
منع التداول الإعلامي!
ولم يكن خيار المحاكمة عن بُعد، القرار الأول الذي اتّخذته السلطة من أجل التعتيم على القضية، بل سبقته قرارات أخرى كان هدفها جعل الملف بعيداً عن متناول التونسيين. ففي 17 حزيران/ يونيو 2023، أصدر قاضي التحقيق الأول في القطب القضائي لمكافحة الإرهاب في تونس، قرار منع التداول الإعلامي في قضية “التآمر على أمن الدولة”.
وقد تمّ تبرير القرار بأنه “يأتي للحفاظ على حُسن سير الأبحاث وسرية التحقيق، وحماية المعطيات الشخصية للأطراف موضوع البحث حسب نصّ القرار”، ولكن الواقع أن القرار صدر أساساً لمنع عائلات الموقوفين وأعضاء هيئة الدفاع من التصريح للإعلام، وكشف مدى فراغ الملف من الأدلّة والقرائن، فضلاّ عن الإخلالات الإجرائية التي شابت القضية، وكان لها أثرها على مسار التحقيق، وهو ما تمّ فعلاً طيلة فترة توقيفهم.
وأمام إصرار السلطة على رفض محاكمة المتّهمين في حالة سراح، وإصرارها على إيداعهم السجن لسنتين متواصلتين، من دون محاكمة أو تحقيق باستثناء مرة واحدة، خاض عدد من الشخصيات حركات احتجاجية للضغط على السلطة، ومحاولة كسب الرأي العام إلى صفهم.
كانت البداية في أواخر شهر أيلول/ سبتمبر 2023، عندما نفّذ الموقوفون إضراباً عن الطعام، احتجاجاً على توقيفهم الذي اعتبروه تعسفياً وبلا قرائن إدانة، وبدأ هذا التحرّك جوهر بن مبارك 26 أيلول/ سبتمبر، لغاية 5 تشرين الأول/ أكتوبر 2023. وفي الثاني من تشرين الأول/ أكتوبر من السنة نفسها، انضمّت شخصيات أخرى، ممن وُجهت إليهم تهم في قضية التآمر على أمن الدولة، وخاضوا إضراباً عن الطعام، منهم عصام الشابي وغازي الشواشي ونور الدين البحيري ورضا بلحاج وخيام تركي، وجدّدوا الإضراب في شباط/ فبراير 2024، بعد مرور سنة على إيداعهم في السجن.
وكان لهذه الأعمال الاحتجاجية والتوقيفات آثار وخيمة على صحة بعض الموقوفين. إذ تعرض جوهر بن مبارك لوعكات صحية متتالية، ما اضطرّه لإنهاء إضرابه عن الطعام، كما حذّرت “هيئة الدفاع” في أكثر من مناسبة، من تدهور الحالة الصحية لعبد الحميد الجلاصي المصاب بالسرطان، في ظلّ عدم حصوله على الرعاية الصحية الكافية، كما تؤكّد الهيئة، ثم في شهر تشرين الأول/ أكتوبر، اضطُر جوهر بن مبارك إلى إنهاء إضرابه عن الطعام، بعد وعكات صحية متتالية، وبدوره انتقل غازي الشواشي، الذي يعاني من مرض مزمن، إلى المستشفى بعد إضرابه عن الطعام، وتتالي وعكاته الصحية، حتى بات غير قادر على المشي، فضلاً عن آلام حادّة في الظهر والرقبة وفي المعدة، التي سبق وأجرى بها عملية جراحية حسب تصريحات نجله، ولكن لم تدفع هذه التحرّكات السلطات إلى تغيير موقفها وإنهاء توقيفه.
إقرأوا أيضاً: