اتخذت جماعة الحوثي منذ سيطرتها على صنعاء في أيلول/ سبتمبر 2014، سلسلة قرارات أثرت بشكل كبير على عمل المنظمات غير الحكومية في اليمن، سواء كانت محلية أو دولية. فقد فرضت سيطرتها على المنظمات الإنسانية من خلال مجموعة من الإجراءات القمعية، شملت إلزامها بتسجيل أنشطتها والحصول على موافقتها المسبقة على أي مشروع. كما دقّقت حساباتها البنكية ومصروفاتها، وأجبرت الكثير منها على تعيين موظّفين من صفوفها في إداراتها. علاوة على ذلك، وزّعت المساعدات الإنسانية بشكل انتقائي، مستهدفة المناطق الخاضعة لسيطرتها، وفي بعض الحالات، استولت مباشرة على المساعدات المقدّمة من المنظمات.
تصاعدت وتيرة القرارات التي من شأنها التضييق وتقييد عمل المجتمع المدني بشكل كبير، عقب قرار الحكومة اليمنية آخر شهر مايو/ أيار 2024، بنقل البنوك الكبرى إلى خارج الأراضي التي يسيطر عليها الحوثيون، وبعد رفضها رد البنك المركزي في صنعاء بوقف التعامل مع 12 بنكاً تعمل في مناطق نفوذ الحكومة.

في اليوم نفسه وكرد فعل على أزمة الحوثيين الاقتصادية الناتجة من قرار البنك المركزي، اعتقلت قوات الأمن التابعة للحوثيين وأخفت قسراً منذ 31 أيار 2024، عشرات الأشخاص، بينهم 13 موظفاً على الأقل في “الأمم المتحدة” والكثير من موظفي المنظمات غير الحكومية العاملة في المناطق التي يسيطر عليها الحوثيون. ويفترض أن الاعتقالات التعسفية تستند إلى عمل المحتجزين الحالي أو السابق -حسب هيومن رايتس ووتش.
في بادئ الأمر، لم يوجه الحوثيون أي اتهامات إلى المحتجزين. مع ذلك، لدى سلطات الحوثيين تاريخ طويل في توجيه اتهامات مشكوك فيها إلى الأشخاص المحتجزين، بما فيها التجسس، وهذا ما حدث بالفعل. ففي حزيران/ يونيو، أصدرت سلطات الحوثيين سلسلة من الفيديوهات ومنشورات منسقة على وسائل التواصل الاجتماعي في قناة “المسيرة” التلفزيونية التابعة للحوثيين، ومنصات التواصل الاجتماعي المرتبطة بها، تُظهر عشرة رجال يمنيين احتُجزوا بين 2021 و2023 وهم يعترفون بأنهم كانوا يتجسسون لصالح الولايات المتحدة وإسرائيل.
وفي 17 تموز/ يوليو، أصدر الحوثيون قراراً جديداً يفرض على المنظمات العاملة في مناطق سيطرتهم مشاورة واستصدار موافقة على توظيف أي أحد سواء كان يمنياً أو أجنبياً.

وفي 5 آب/ أغسطس، نقل الصحافي فارس الحميري عن مصادر خاصة، “أن جماعة الحوثي أصدرت قراراً بحظر سفر جميع الموظفين الدوليين الأجانب العاملين في المنظمات الأممية والدولية التي تتخذ من صنعاء مقرات لها، وسيظل هذا القرار سارياً حتى إصدار تعميم آخر يلغيه. يتزامن هذا القرار مع طلب الجماعة من المنظمات الأممية والدولية حضور جميع مسؤوليها وموظفيها اجتماعاً سيعقد بعد أيام في صنعاء مع المجلس الأعلى لإدارة وتنسيق الشؤون الإنسانية والتعاون الدولي (سكمشا)”.
وعلى رغم عدم وجود تصريح رسمي من الحوثيين، إلا أن حقوقيين أفادو بوجود قيود فعلية على السفر.
إقفال أو تجميد
في حديثنا مع بعض الحقوقيين والعاملين في منظمات المجتمع المدني المحلية في صنعاء، والذين يعيشون مخاوف كثيرة خصوصاً بعد القرارات المتتالية والعالية الحدة، قال لنا أحمد (إسم مستعار، وهو رئيس منظمة تنموية) إن للتضييقات التي يفرضها الحوثيون شكلين، أمنية وإجرائية، وبالطبع التضييقات الأمنية هي الأسوأ لأنها بمثابة إعدام لعمل المنظمة تماماً.
يضيف، أنه في ما يتعلق بإجراءات الحصول على تصريحات للعمل مفهي معقّدة للغاية، وغالباً ما تخضع لابتزاز كبير أو عرقلة غير مبررة، مشيراً الى أن العمل في خضم محاربة القيود الأمنية والعراقيل العملية مرهق للغاية ويسبب مشاكل صحية للأفراد العاملين في المنظمات عدا عن أولئك الذين لم يتحملوا ذلك واضطروا إلى الإغلاق لعدم إمكانية انتقالهم إلى الجنوب حيث المناطق الشرعية.
ولفت أحمد الى أنهم واجهوا تحديات في العمليات المالية بسبب انقسام البنوك والعملة بين الشمال والجنوب، فهم يعملون في محافظات مختلفة من الجهتين، وفي أحيان كثيرة اضطروا إلى سحب مبالغ كبيرة وتركها في منزل أحد الموظفين، ما يعد شأناً غير آمن ومهني لأنهم واجهوا سابقاً المنع من سحب مبالغ مالية أو إجبارهم على سحبها بالعملة المحلية بقيمة أقل.
وأضاف أن قرار البنوك الذي تزامن مع الاعتقالات “لم يكن سهلاً علينا، خصوصاً أن زملاء لنا تعاونوا معنا في تقارير وغطينا نحن جانباً حساساً منها، تم اعتقالهم وعرفنا أن احتمالية اعتقالنا كبيرة، ما اضطر بعضنا للتخفي والبعض الآخر حالفه الحظ بالفرار.
يحاول أحمد دائماً تقييم المخاطر وعمل خطط لتقليل الخسائر، خصوصاً من خلال التدابير التقنية حسب قوله، لأن كل الأجهزة والإيميلات تتم مصادرتها واعتقال أصحابها، وحتى لحظة نشر هذا التحقيق لا يزال الحوثيون مستمرين بحملة التوقيف.
على رغم أن القانون الإنساني الدولي يفرض على جميع أطراف النزاع المسلح احترام العاملين في المجال الإنساني وحمايتهم، ويمنع المضايقات وسوء المعاملة والاعتقال أو الاحتجاز غير القانوني، إلا أن الانتهاكات تطاولهم بدرجات وأساليب مختلفة.
وقد أدت الممارسات القمعية ضدهم إلى تدهور حالة المجتمع المدني في اليمن، وتقويض قدرة المنظمات على القيام بدورها في التنمية والدفاع عن حقوق الإنسان وبناء مجتمع ديمقراطي، في ظل غياب تدابير حمايــة من الانتهاكات والقيود والإجراءات التعسفية القامعة لعملها، والتي أضعفت قدرتها علــى العمــل وفــق خطط سنوية، وأجبرت الكثير منها علــى تقليــص أنشــطته.
في دراسة ميدانية لفضاء المجتمع المدني في اليمن نشرت في 2023، فإن ممارسات القمع المرتكبة ضد المجتمع المدني أدت إلى تدهور أداء 65.7 في المئة من المنظمات المشاركة في الدراسة، إذ أُجبر جزء كبير منها على التوقف بشكل مؤقت أو كامل عن العمل، وتقليص أنشطة ميدانية لـ 21.4 في المئة من هذه المنظمات.
ووفق معلومات داخلية لعاملين في المجال، فإن عدداً من المنظمات الدولية يستعد لإيقاف مشاريعه في اليمن.
الأزمة الأسوأ
تواجه اليمن أزمة إنسانية حادة ومتفاقمة، إذ يعيش ملايين اليمنيين في ظروف إنسانية صعبة نتيجة للصراع المستمر والنزوح والفقر. وتشير التقديرات إلى أن 18.2 مليون يمني، أي أكثر من نصف السكان، يحتاجون إلى مساعدات إنسانية عاجلة، ويعاني 17.6 مليون شخص من انعدام الأمن الغذائي، فيما يعاني نصف الأطفال دون سن الخامسة من سوء التغذية. كما أن النزوح الداخلي لا يزال يشكل تحدياً كبيراً، إذ يقدر عدد النازحين بأكثر من 4.5 مليون شخص.
أدى الصراع المستمر في اليمن إلى تدمير البنية التحتية وتعطيل الخدمات الأساسية، ما فاقم الأزمة الإنسانية وأدى إلى انتشار الأمراض والعنف ضد المدنيين، وتدهور الأوضاع الاقتصادية بشكل كبير.
بالإضافة إلى ذلك، فإن انهيار الدولة وهياكلها أدى إلى تعطيل العمل بالقوانين السائدة، ما شجع على انتشار العنف وانتهاكات حقوق الإنسان.
على الرغم من حجم الكارثة الإنسانية في اليمن، إلا أن خطة الاستجابة الإنسانية لعام 2024 لم تحصل سوى على تمويل جزئي، إذ لم تتم تغطية سوى27.7 في المئة من إجمالي التمويل المطلوب. وهذا النقص الحاد في التمويل بالإضافة إلى البيئة القمعية، يعيق جهود المنظمات الإنسانية في تقديم المساعدات اللازمة.
إقرأوا أيضاً: