منذ سقوط نظام الأسد، لا تزال قناة “العربية” تسلّط الضوء على الحدث عبر تغطيات واسعة ومقابلات مع شخصيات سورية بارزة، سواء كانت مؤيدة أو معارضة للنظام خلال الثورة السورية التي امتدت الى أكثر من عقد.
هذه المقابلات تكشف أحياناً عن حقائق تلقي بظلالها على الواقع السعودي. فعلى سبيل المثال، تصريحات الفنان باسل خياط حول كونه مطلوباً من النظام السوري وحرمانه من تجديد جواز سفره، رغم صمته وعدم إعلان موقف معارض طوال سنوات الثورة، تشبه قصص سعوديين يعيشون في الخارج. هؤلاء السعوديون لا يزالون صامتين وغير قادرين على العودة، رغم التغيرات الاجتماعية التي تتفاخر بها السلطات السعودية.
أصوات مؤيدي نظام الأسد الذين انقلبوا عليه بعد سقوطه تفسرها أسباب تتعلق بالخوف أو الضغط، لا الاستفادة من النظام نفسه، كاستقبال القناة دريد لحام، المعروف بولائه المطلق للسلطة، والذي يتناقض مع تاريخه الفنيّ، وجدناه على قناة “العربية” يقول: “لو تماديت في انتقاد الأسد لوجدتم عظامي في صيدنايا والنظام حول سوريا…”، لكن متى انتقد دريد لحام الأسد الابن؟
هذه السياسة السعوديّة تنطبق على سوريا لا المعارضين السعوديين المهددين دوماً، سواء كانوا معارضة سياسية، أو ناشطين غرّدوا بما لا يعجب محمد بن سلمان، وهذا يعكس صمت المواطنين السعوديين إزاء قضايا محورية في المنطقة مثل القضية الفلسطينية، والتي تقلّصت أهميتها في الخطاب السعودي المعاصر، ناهيك بتهديد كل من يحاول الوقوف إلى جانب فلسطين بالمنع والإلغاء في المهرجانات والاحتفالات التي تنظّمها هيئة الترفيه.
إلى جانب ذلك، يبدو أن التغيرات الاجتماعية والاقتصادية، مثل الضرائب وارتفاع تكاليف المعيشة، جعلت حياة المواطن السعودي أكثر صعوبة. ومع ذلك، فكرة الثورة مستبعدة تماماً، في مجتمع مُنع فيه حق التظاهر منذ تأسيس الدولة الحديثة.
الكتل البشرية في السعودية تجتمع وتحتشد للاحتفال بمنجزات محمد بن سلمان، أصبح استهلاك المواد الترفيهية علامة على الطاعة، وقبول التغيرات في المملكة، ولا نعني أنها تغيرات سلبية، لكن هذا الانفتاح قابله صمت وترهيب حيال جوانب الحياة الأخرى، تلك التي ممنوع الاجتماع احتجاجاً عليها.
بالتزامن مع سقوط نظام الأسد، تم تداول صورة الناقد السينمائي السعودي فهد الأسطا على منصة “إكس”، وسط ترحيب من الوسط الفني بعودته من دون ذكر سبب غيابه. هذه الظاهرة تُبرز مدى الحذر في تناول موضوعات الاعتقال بالسعودية.
في الوقت نفسه، ظهر صوت معارض جديد، وهو فرحان العطوي، الذي أعلن معارضته للنظام السعودي عبر فيديو على “إكس”، في خطوة أثارت الاهتمام وسط تهديدات قيل إنه تعرّض لها.
السعودية في سوريا
منذ سقوط الأسد، تسعى السعودية الى تسويق نفسها كطرف فاعل في هذا التغير المفاجئ، رغم أنها أعادت العلاقات مع النظام السوري في الآونة الأخيرة، بما في ذلك فتح السفارة واستئناف الرحلات بين البلدين، واستقبال بشار الأسد في القمة العربية بالرياض. هذا يثير تساؤلات حول حسابات ولي العهد السعودي، التي إما خذلته حينما ظن باستمرار نظام الأسد، أو أنه كان يؤدي دوراً لصالح حلفائه، بخاصة الولايات المتحدة وإسرائيل، بإعطاء الأسد شعوراً بالأمان قبل سقوطه. ومع ذلك، يبقى الاحتمال الثاني ضعيفاً بسبب التناقض مع الدور التركي المفاجئ في إطاحة نظام الأسد.
لا ننسى أيضاً أن السعودية إحدى أبرز الدول التي “تستقبل” كبتاغون النظام السوري، النظام ذاته حليف إيران التي تهدد أمن المنطقة، مع ذلك هناك ما يتعلق بـ”صورة” المملكة وإنتاجها الثقافي، كونها تمول المسلسلات المدبلجة وتلك التي تعيد إنتاج الحكايات التركيّة، وتعمل مع ممثلين مؤيدين للنظام، وهنا تظهر سطوة الترفيه السعودي مرّة أخرى، ذاك القادر على التحرر من “السياسة” لأجل “الصناعة الثقافيّة”.
تجاهل السياسي على حساب الفني تحت شروط الصمت يتضح مثلاً في حالة أصالة نصري، التي وقفت ضد نظام الأسد خلال الثورة، ومُنحت الجنسية البحرينية، لكنها تحظى بقبول واسع وتتصدر الاحتفالات الباذخة في السعودية رغم انتشار أخبار القمع الممارسة هناك في وسائل الإعلام العربية والدولية، ومن ضمنها قناة “العربيّة” نفسها.
خشبات الاستعراض السعودية وشاشاتها تحولت إلى مساحات تنتصر للترفيه على حساب السياسة، نحن أمام ترفيه خال من أي مرجعية، أو أي انتقاد للوضع القائم سواء في السعودية أو خارجها، ما يهم هو إرضاء أبو ناصر، صاحب الجوائز ومقدم الهدايا، ووسيط “الصلحة الفنيّة”، نحن أمام ماكينة لإنتاج محتوى وسائل التواصل الاجتماعي، والأهم هي مخصصة لمن هم في السعوديّة فقط، كمواطنين مطيعين، مستهلكين للمنتجات الثقافية وممنوعين من الانتقاد، ونركز على الداخل السعوديّ كون زيارة السعودية ليست بالأمر السهل للكثيرين في أنحاء المنطقة العربية بسبب شروط الفيزا، وهذا ما ضبط المقصود بـ”سعودة الفنون”، أي احتواء كل ما هو “عربي” تحت جناح تركي آل الشيخ، وللاستهلاك المحليّ فقط!
هذا كله لا يعكس سوى تناقضات المشهد العربي، حيث يتصدر فنانون داعمون لأنظمة قمعية المحافل، بينما تبقى الحقيقة في ذاكرة الشعوب، والشعوب تسامح لكنها لا تنسى.
إقرأوا أيضاً: