في الليلة الفاصلة بين نهاية عام 2022 وبداية 2023، زار رئيس الجمهورية قيس سعيد، حيّ الانطلاقة، أكبر الأحياء الشعبية في تونس، وخلافاً لزياراته المعهودة للأحياء الشعبية وحديثه مع المواطنين، زار سعيد هذه المرة مقهى شعبياً ودكّاناً للمواد الغذائية، ووثّق الفيديو الذي نشرته رئاسة الجمهورية طلب سعيد قارورة زيت مدعوم من صاحب الدكان، محاولاً نفي خبر عدم توافر مواد مدعومة في المحلّات التجارية، وخصوصاً الزيت. ولاحقاً قال الناصر التونسي، صاحب المحل، إن كمية الزيت النباتي المدعوم التي ظهرت في فيديو الزيارة قد تحصل عليها في يوم الزيارة نفسه، قبل ساعات فقط من قدوم قيس سعيد الى حي الانطلاقة. أثار الفيديو سخرية كبيرة، لكن خلف تلك السخرية تكمن حقيقة مؤلمة. كيف بات توافر الزيت النباتي والغذائي في محل تجاري في تونس إنجازاً يفتخر به رئيس الجمهورية؟ فيما كانت تونس من أكبر الدول إنتاجاً للزيت في العالم، لتوضح هذه الحادثة وغيرها أي واقع اقتصادي باتت تعيشه تونس بعد الثورة عموماً وفي عهد سعيد بخاصة. تعيش تونس اليوم أسوأ فتراتها، اقتصادياً وسياسياً وحتى اجتماعياً، حيث يتشابك الفشل السياسي مع الفشل الاقتصادي ليشكلا واقعاً اجتماعياً هو الأصعب منذ سنوات.
حكومات مختلفة والأزمة نفسها
منذ الاستقلال وحتى هذه اللحظة، تعيش تونس الأزمة الاقتصادية نفسها، لم تكن تبعات الأزمات ودرجة تأثيرها في الشرائح الوسطى والفقيرة، ملموسة مثل اليوم، لكن غياب المواد الأساسية والبطالة والفقر كانت ملازمة للواقع الاجتماعي في تونس منذ السبعينات، يعود ذلك أساساً إلى النموذج الاقتصادي المشوّه الذي تتبعه تونس، والذي يقع في المنتصف بين الإقطاعية والرأسمالية والاشتراكية. وُلدت في تونس طبقة من البرجوازية المتمتّعة بامتيازات احتكارية بسبب علاقتها بالسلطة السياسية منذ الاستقلال وحتى الثورة، ولاحقاً تغيرت علاقات الولاء من خلال سيطرتها على السلطة عبر تمويل أكبر الأحزاب السياسية ووسائل الإعلام والنقابات. هكذا بات الاقتصاد مغلقاً من دون أي محاولات للتجديد أو خلق فرص أو توزيع للثروة، حيث يسيطر عدد من العائلات على البنوك والمؤسسات المالية، التي ترفض منح أي قرض أو تمويل لمشروع قد يهدد نفوذ البرجوازية التونسية المالي والاقتصادي، عبر فرض شروط تعجيزية على صغار المستثمرين والشباب.
يوضح الكاتب والخبير الاقتصادي الصغير الصالحي، لـ”درج”، أن الأزمة في تونس ستتواصل بسبب عدم استيعاب النخب الحاكمة للاقتصاد، لم يتغير الوضع الاقتصادي في تونس منذ الاستقلال حتى هذه اللحظة. يضيف الصالحي، جميع أدبيات الأحزاب السياسية غيّبت الاقتصاد عن مدار اهتمامها، فعندما حكمت النهضة، لم تغير القوانين الاقتصادية التي كانت تدار بالمحاباة والمحسوبية وعلاقات الولاء، بل أرادت الاستفادة منها وتطويعها لصالحها، الأمر نفسه في فترة الراحل الباجي قايد السبسي والآن خلال حكم قيس سعيد، وأول قانون ذي طابع اقتصادي كان عام 2014، بعد ثلاث سنوات من الثورة، إذ سعت النهضة من خلاله الى أن تحلّ محلّ التجمع الدستوري الديمقراطي، الحزب الحاكم قبل الثورة، وبذلك لم تسعَ النهضة الى التغيير، بل حافظت على الموجود، والأمر نفسه ينطبق على سعيد الذي لم يسعَ إلى التغيير بقدر سعيه إلى استيعاب الوضع الحالي.
خابت آمال كل من ساند الرئيس وقراراته بغد أفضل، وبدت الشعارات التي رفعها سعيّد مجرّد حشو لغوي.
رخَص وتضخّم وركود
أعلنت حكومة الشاهد منتصف عام 2017، أنها ستراجع قانون إسناد الرخص الذي يكبّل الاقتصاد، لتؤكد بعدها أنها ستعفي نحو خمسين نشاطاً اقتصادياً من الرخص وتعويضها بكرّاس الشروط. ذهبت الحكومة ولم تحقق وعودها، ولاحقاً أعلن الياس الفخفاخ الأمر نفسه، إلا أن حكومته سقطت ولم تتغير منظومة الرخص، الوعود نفسها أعلنها هشام المشيشي، وحالياً نجلاء بودن، رئيسة الحكومة الحالية، وفي النهاية لم تقم أي حكومة بالإصلاحات والإعفاءات المرجوّة، وبات الاقتصاد التونسي يعيش أسوأ أيامه، إذ زاد الأثرياء ثراءً والفقراء فقراً. وبدأت الطبقة الوسطى في الانهيار والتراجع، وأضحت تونس تعيش بين التضخّم، الركود، غلاء الأسعار، فقدان المواد الأساسية وارتفاع نسبة التضخم… مصطلحات شكلت عناوين بارزة في نشرات الأخبار وفي الحديث اليومي بين المواطنين، تخفي خلفها مخاوف ومؤشرات عن تردي الوضعين الاقتصادي والاجتماعي في تونس، بعدما باتت سياسات قيس سعيد الاقتصادية تعمّق الأزمة يوماً بعد يوم. وعلى رغم أن مشروعه الاقتصادي لم يثر أي مخاوف قبل توليه الحكم لسببين، هما عدم ارتفاع حظوظه في الوصول إلى الرئاسة، والهوة الكبيرة بين ما كان يطمح إليه والواقع الاقتصادي والبيروقراطي المعقّد في تونس، إضافة الى معارضة مجلس النواب السابق لمقترحاته، إلا أن المعطيات تبدلت بعد استيلائه على مختلف السلطات وتسييره الحكم من خلال مناشير وأوامر رئاسية لا تمكن معارضتها أو حتى مناقشة جدواها، وبات سعيد يدير الحياة السياسية والاقتصادية في تونس على هواه، فيما تدفع تونس والمجتمع ضريبة قراراته بسبب مقايضة فاشلة.
مقايضة فاشلة
شهدت مختلف المحافظات التونسية في 25 تموز / يوليو، وهو تاريخ تجميد البرلمان وإعفاء الحكومة والبدء بإجراءات استثنائية، احتفالات بقرارات قيس سعيد، الذي قدّم مقايضة جديدة للتونسيين، عنوانها الأمن والرخاء الاجتماعي مقابل إحكام سيطرته على جميع السلطات. فرحّب طيف كبير من المجتمع بهذه المقايضة، بخاصة في ظل فساد سياسي في البرلمان السابق، وانتشار سريع لفايرس كورونا وعدم توافر اللقاحات. وفيما رحّبت دول عدة بقراراته وساندته في المضي قدماً فيها، بدأت قرارات سعيد الارتجالية تأتي بنتائج عكسية، فتحت شعار مقاومة الاحتكار خفّضت المصانع والشركات معدلات الإنتاج، ما ساهم في غياب السكر والحليب ومشتقات القمح. وفي سعيه إلى تحسين موارد الدولة، فرض ضرائب إضافية دفعت شركات أجنبية كثيرة إلى المغادرة، وبهدف توزيع عادل للثروة أصدر سعيّد قانون الشركات الأهلية الذي لم يأتِ بأي جدوى تُذكر.
خفّض سعيّد من لهجته الحادة مع مرور الوقت، فبدأ يشيد بدور نقابة الأعراف وأصحاب المساحات التجارية الكبرى، وجمعية البنوك، الجهة الأكثر استفادة من الوضع الاقتصادي وتخلّف القوانين والتشريعات الاقتصادية، بعدما كان يصفهم بالمحتكرين والفاسدين.
يقول لؤي الشابي، رئيس جمعية “ألرت” لـ”درج”، “إن الحديث عن الاقتصاد في الفترة الأخيرة بات يقوم على ثلاثة أبعاد مختلفة، الأول خطاب رئيس الجمهورية، والثاني الفعل السياسي الذي يتماشى مع أهواء الرئيس، والثالث الوجه الآخر لرئاسة الحكومة. وبالنسبة الى خطاب الرئيس، فقد تغير في الفترة الأخيرة بعد اكتشافه الهوة الكبيرة بين الواقع الاقتصادي وخطابه، ففيما كان الحديث عن الأموال المنهوبة في الداخل والخارج و”مليارات المليارات” وضرورة إعادتها لتغطية احتياجات الاقتصاد، يطغى على خطاباته، وجد سعيد في رجال الأعمال الذين نهبوا المال العام الحل لتنمية المناطق الأكثر فقراً”. ويضيف الشابي، “من هنا، بدأت فكرة الشركات الأهلية، ولم يكن حديث الرئيس عن مشاريع كبرى إلا حبراً على ورق، بسبب عدم رصد التمويلات الكافية لها، وعدم قدرة الدولة على تفعيل هذه المشاريع، مثل المدينة الصحية في القيروان.
إقرأوا أيضاً:
قيس سعيد القاتل والمقتول
ردّ سعيد ارتفاع الأسعار وغياب مواد أساسية عن السوق الى المحتكرين “الذين نكلوا بقوت الشعب التونسي، والذي يعرف الشعب من هم” وفق قوله. وفي مسلسل مكافحة الاحتكار، داهم سعيد، برفقة قوات من الأمن، مصنعاً لإنتاج الحديد، وشهّر بصاحبه، معتبراً أنه كان ينوي احتكار كميات الحديد الموجودة في المخزن وتوزيعها خارج المسالك الرسمية، إلا أن صاحب المصنع أثبت بالوثائق قانونية الكميات الموجودة وأحقية بيعها لصالح شركة مقاولات.
تتالت زيارات سعيد الى شركات حفظ وتبريد الخضر والغلال والمخابز والأدوية ومصنع السكر، فيما قلصت مؤسسات كثيرة من طاقة إنتاجها، خوفًا من الغضب الشعبي وتهمة الاحتكار التي باتت جاهزة لأي مؤسسة تزيد إنتاجها. وفيما أعلن سعيد أن مادتي الدقيق والشعير متوافرتان بالكمية المطلوبة في السوق، والنقص فيهما سببه الاحتكار، صرّح وزير الشؤون الاجتماعية بأن الحكومة تنتظر الموافقة على قرض من صندوق النقد الدولي لشراء القمح والشعير نظراً الى عدم توافر العملة الصعبة. وأمام غياب الحليب ومشتقاته نتيجة عدم قدرة الدولة على مقاومة تهريب الأبقار إلى دول مجاورة بسبب غلاء الأعلاف، علاوة على ارتفاع تكلفة إنتاج الحليب ونقله وتبريده، لم يجد سعيّد من تبرير سواء اعتبار أن الأمر مؤامرة تحاك ضده وضد الشعب.
يلفت الشابي لـ”درج”، الى أن سعيد لا يعرف الفرق بين احتكار السلع واحتكار الأسواق، ويقترح حلولاً سهلة وبسيطة لمشكلات كبيرة ومتشعبة، كونه لا يملك أي دراية أو معرفة بالاقتصاد التونسي، متجاهلاً الخلل الحاصل في القطاعات كافة، الاقتصادية والمالية والاجتماعية… كما أنه لا يرى سبيلاً الى النمو والازدهار الاقتصادي سوى بتطبيق القانون على الأموال المنهوبة.
في اليوم نفسه الذي صادق سعيد فيه على قانون المالية الجديد، الذي وصفه البعض بقانون الجباية نظراً الى رفعه نسبة الضرائب، أعلن موزعو الأدوية إضراباً مفتوحاً اعتراضاً على “الأعباء الضريبية”، لتشهد الصيدليات والمستشفيات نقصاً حاداً في بعض الأدوية. أما أسعار الوقود، فارتفعت خمسة أضعاف في عام 2022، وطاول ارتفاع الأسعار اللحوم والدجاج والبيض والخضر والغلال وباقي المنتجات. كما بلغ التضخّم نسبة 8.6 في المئة، ما أدى الى تدهور القدرة الشرائية للمواطن، وانهيار الطبقى الوسطى، وارتفاع نسبة الفقر ومعدلات الجريمة والهجرة غير النظامية، والفساد، فاحتلت تونس المرتبة 85 في مؤشر مدركات الفساد الصادر عن منظمة الشفافية الدولية، وهي أدنى مرتبة تبلغها تونس منذ الثورة، وبتراجع سبع نقاط عن السنة الماضية.
خابت آمال كل من ساند الرئيس وقراراته بغد أفضل، وبدت الشعارات التي رفعها سعيّد مجرّد حشو لغوي. إذ سيدفع التونسيون ثمن التقشّف الذي فرضه صندوق النقد الدولي لمنح تونس القرض المطلوب، والذي يعني بدوره رفع الدعم وارتفاع أسعار المواد الأساسية، ناهيك بتخلي الدولة عن دورها في مجالات التعليم والصحة والنقل والرعاية الاجتماعية. وككل مرة، سيرمي سعيد فشله على أطراف غامضة، لم ولن يسميها. ويبدو أن الظلم الحاصل ورقعة الفقر سيتوسعان جغرافياً في تونس، فيما تغيب أصوات أحزاب المعارضة، فلا احتجاجات ضد سياسات سعيّد الاقتصادية، ولا تظاهرات ولا شيء من هذا القبيل.
احتكار السلطات وإنكار الأزمات
تعيش تونس حالياً، أزمةً اقتصاديةً حادة هي الأخطر منذ الثورة، وقد لا يكون سعيد السبب الرئيس فيها، لكنه العنوان الأبرز في النتائج الاقتصادية الكارثية التي وصلت إليها البلاد. ويبدو أن قيس سعيّد، وقبله الباجي قايد السبسي، ومن قبلهما حركة النهضة، ليسوا سوى واجهة سياسية تحمي مصالح البرجوازية التونسية التي تعد السبب الرئيس في الأزمة الاقتصادية. فيما فشلت مختلف الحكومات التي أفرزتها أحزاب سياسية مختلفة، في ظل توافق ديمقراطي مغشوش وفاسد على القيام بثورة للحد من البطالة والقضاء على الفقر. وباتت تونس تسير تدريجياً نحو الهاوية.
تظهر نتائج الانتخابات في دورتها الأولى والثانية نفور الشعب التونسي من الحلول الجماعية، وباتت الحلول الفردية طاغية على التفكير الجمعي، خصوصاً في ظل أداء كارثي لحكومة نجلاء بودن. ليصبح حلم العائلات التونسية الوحيد الهجرة الى الخارج، حتى ولو كانت هجرة غير نظامية محفوفة بأخطار كبيرة، وسط انقسام سياسي حاد وانتشار خطابات الكراهية والتخوين والتشهير، واحتكار السلطات وإنكار الأزمات من جانب السلطة.
إقرأوا أيضاً: