ثمة تمثلات تشي بأن قرار الرئيس التونسي، قيس سعيد، بتقسيم البلاد إلى خمسة أقاليم جغرافية، يأتي ضمن سياق مشروعه السياسي الذي يسعى من خلاله إلى تطبيق فكرته التي تحدّث عنها في برنامجه الانتخابي عام 2019. هذه الفكرة في قاموس سعيد السياسي عبّر عنها بـ”البناء القاعدي”، والذي يشبه إلى حد بعيد “الكتاب الأخضر” للعقيد معمر القذافي، إذ يضفي على نموذج الحكم أبعاداً خلاصية تتخطى السياسة والانتخابات إلى تكريس أنماط سلطوية للحكم مغلقة على معانٍ مبهمة وغامضة وتؤدي تناقضاتها إلى التباسات جمّة.
يرى سعيد أن الشعب هو الذي يمارس بشكل مباشر الديمقراطية ومن ثم “السلطة” من دون تحديد أو فهم الآليات والإجراءات فضلاً عن الضمانات. فالديمقراطية في متخيل سعيد السياسي تنعكس في تصوراته على طريقة ما كان يجري في المدن الإغريقية القديمة، أو، ربما، في مستوى آخر على طريقة “كومونة باريس” في أحلام الشيوعية الطوباوية. وبينما الثابت لديه، في ما يبدو، هو تأبيد نموذج الشعب/ الأمة كجسم سياسي للدولة متجانس ومن دون تباينات طبقية بمصالحها وخطاباتها، فإنه، وفي إطار مزيد من التناقضات، يؤكد استمرارية التمثيل السياسي عبر انتخاب “ممثلي العمادات”.
باشر الرئيس التونسي في الإشارة الى تنفيذ مشروعه منذ طرح الدستور الجديد بصيغة رئاسية سلطوية تعكس تمركز السلطات في قبضته من دون شراكات أخرى. ثم تنقيح القانون الانتخابي من نظام الاقتراع على القائمة إلى اقتراع على الأفراد في دوائر ضيقة.
بالإضافة إلى ما أقره الدستور من غرفة ثانية للانتخاب بالتوازي مع البرلمان، وربط ذلك بقرار تقسيم البلاد الى خمس ولايات، فضلاً عن قانون الشركات الأهلية الذي أصدره الرئيس ويمثل البنية الاقتصادية لرؤيته.
يقول سعيد حول مشروعه، إن “السبيل للتعبير عن إرادتكم الحقيقية هو إعادة البناء من القاعدة، من المحلي نحو المركز، حتى تكون القوانين والتشريعات كلها على اختلاف أصنافها ودرجاتها معبّرة عن إرادتكم، حاملة لآمالكم، صدى لمطالبكم وتطلعاتكم، متّسقة مع الانفجار الثوري الذي انطلق من المعتمديّات والقرى قبل أن يبلغ ذروته في المركز”.
ويتابع: “ينطلق التأسيس الجديد تحت شعار “الشعب يريد”، من قراءة لهذه المرحلة التاريخيّة، لا في تونس فحسب، بل في العالم بأسره. فقد دخلت الإنسانيّة مرحلة جديدة من تاريخها لم يعد بالإمكان تنظيمها بمفاهيم بالية تحوّلت بفعل هذا التطوّر إلى عقبة أمام فكر سياسي جديد صنعته الشعوب وتجاهله كثيرون ممن لا يزالون يعتقدون أنهم صفوة الصفوة ونخبة النخبة التي تحدّد بمفردها أقوم المسالك لإدارة شؤون الممالك، فالمسلك فتحه الشعب التونسي. (…) معالم الطريق الجديدة التي شقّها الشعب التونسي ليست بالمستعصية على الفهم إلا لمن أراد ألا يفهم أصلاً أو أراد أن يفهم طبقاً لمصالحه ولم يتخلص من طموحه الشخصي وأطماعه وهواه”.
نصّ قرار الرئيس في فصله الأول، على أن جغرافيا “الجمهورية التونسية” تتكون من خمسة أقاليم؛ الأول يضم جملة من محافظات الشمال، بنزرت وباجة وجندوبة والكاف، بينما يضمّ الإقليم الثاني محافظات تونس وأريانة وبن عروس وزغوان ومنوبة ونابل، ويشمل الإقليم الثالث محافظات الوسط وسليانة وسوسة والقصرين والقيروان والمنستير والمهدية، ويضم الإقليم الرابع محافظات توزر وسيدي بوزيد وصفاقس وقفصة، وأخيراً يتكوّن الإقليم الخامس من محافظات الجنوب، تطاوين وقابس وقبلي ومدنين.
ووفق ما تضمنه القرار في فصله الثاني، يجتمع مجلس الإقليم بالتداول بين الولايات المكوّنة للإقليم وتنعقد الاجتماعات في مقر المحافظات. فيما يتغير مقر الاجتماع كل ستة أشهر بالنسبة إلى كل إقليم بحسب الترتيب المنصوص عليه في الفصل الأول من القرار ذاته. وينص الفصل الثالث على أن تضع المحافظات المكونة للإقليم على ذمة مجالس الأقاليم كل الوسائل البشرية والمادية اللازمة بما يضمن “حسن أدائها” مهامها.
جاء الأمر الرئاسي بتقسيم البلاد الى أقاليم باعتباره الشرط القانوني والإجرائي اللازم لإجراء استحقاق الانتخابات المحلية يوم 24 كانون الأول /ديسمبر المقبل، ويعد ذلك الأمر المتمِّم لتنفيذ مشروع رئيس الجمهورية قيس سعيد، الذي دشنه منذ إجراءات 25 تموز/ يوليو عام 2021. وذلك بعد صياغة الدستور الجديد والاستفتاء عليه وإجراء انتخابات مبكرة لاختيار أعضاء مجلس نواب الشعب. وبهذه الانتخابات، تستكمل الجهة المعنية بالوظيفة التشريعية انتخاب أعضاء الغرفة الثانية وفق نظام انتخابي جديد معقد يقوم على قاعدة الانتخاب على الأفراد. علاوة على إرساء فكرة التزكية المسبقة وآلية سحب الوكالة وتصعيد النائب المنتخب من الدائرة الضيقة المحلية إلى الجهوية ثم الوطنية، وهو ما يعرف بـ”النظام القاعدي”. لذلك، لجأ سعيد نحو قرار تقسيم البلاد إلى أقاليم جهوية.
تميل فكرة “البناء القاعدي”، في إطارها النظري، نحو توسيع المشاركة السياسية والفاعلين عبر اللامركزية لتستوعب كل الجهات. بيد أن مسار الأحداث يؤشر إلى تفتيت السلطات كافة لصالح قبضة الرئيس، بما فيها السلطة التشريعية والتنفيذية.
إقرأوا أيضاً:
تقسيم الأقاليم… تقسيم الثروة
ثمة قراءة لهذا الأمر الرئاسي بتقسيم البلاد إلى خمسة أقاليم جغرافية، واشتملت على ثلاثة فصول، فقط، من دون الإشارة إلى أي خلفيات اقتصادية تنموية، تدفع بتأويل مفاده أن هذا التقسيم هو تقسيم إداري من دون مضامين سياسية لتعزيز أدوار الفاعلين في الحكم، وتوسيع الديمقراطية التمثيلية أو غيرها، بما يضمن هامشاً من الحرية وتداول السلطة ومشاركة المجتمع المدني بأطيافه كافة. يتعلق الأمر الرئاسي فقط ومن الناحية الإجرائية، بتكوين المجلس التشريعي (الغرفة الثانية) إلى جانب مجلس نواب الشعب، إذ تتمثّل صلاحياته في النظر بمشاريع التنمية ومراقبة تنفيذها من دون التقيد والالتزام بأي مرجعيات قانونية للمساءلة والمحاسبة. الأمر الذي يضع هدف ومبدأ تحقيق العدالة في توزيع موارد الدولة بين الأقاليم بالتساوي، محلّ سؤال حقيقي، لا سيما مع غياب الحديث عن خطة الدولة ورؤيتها لاستراتيجية التنمية الشاملة.
وهنا، يبدو المغزى الحقيقي من وراء أهداف الرئيس سعيد غامضة وملتبسة، أو بالأحرى بلا أساس واضح سوى تعميق أركان حكمه التي لا تخرج من نطاقات سيطرته. فمن الناحية التنموية الشاملة اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً، لا توجد خطط مرتبطة بهذا النسق السياسي الجديد، الأمر الذي يفاقم الوضع في البلاد، بخاصة مع ما تشهده تونس من تفاوت كبير على مستوى الاستثمارات بين الأقاليم، ما دفع البعض الى التشكّك في قدرة النموذج الانتخابي الجديد على تحقيق أي تغيير وتقدّم. رغم أن التصوّر النظري يطرح المواطن شريكاً (؟!) في صناعة القرار مع الدولة التي كانت تمثل سابقاً صناعة القرار.
إذاً، سبّب القرار الرئاسي بتقسيم تونس إلى خمسة أقاليم جغرافية جدلاً وصخباً كبيرين في تأويل القرار وفهم مقتضياته. وبينما يمكن القول، مبدئياً، إن قبضة الرئيس على البلاد التي ستتمدد هي الشيء الظاهر، حتى الآن. ومن ثم، تحقيق قدرته على هندسة انتخابات المجلس الوطني للأقاليم، فإنه، من المؤكد، كذلك، أن الرؤية التنموية غير الواضحة تبدد أي آمال بشأن الخروج من التصنيفات الدولية التي تجعل تونس في أدنى المستويات، وتحديداً مع تداعيات القرار الحقوقية والاجتماعية بعدم خضوعه لرؤية تشاورية مع مؤسسات المجتمع.
الدكتور الهادي عبد الله، مدير قسم الجغرافيا في جامعة منوبة، يقول إن تونس معروفة بتقاسماتها الجغرافية، وبأن لكل منطقة خصوصيتها من النواحي الثقافية والديمغرافية والاقتصادية، وهي أقاليمها الطبيعية كإقليم الشمال الغربي ويضم ولايات جندوبة وباجة التي تعتمد بالأساس على النشاطات الزراعية، فتتوافر السهول الخصبة لوادي مجردة.
فضلاً عن إقليم الشمال الشرقي، ويتكون من ولايات تونس الكبرى بالإضافة إلى ولايات نابل وزغوان وبنزرت، ويمثل ثقلاً اقتصادياً (تجارة – صناعة – خدمات). كما أن إقليم الساحل تتركز فيه النشاطات السياحية والخدمية وإقليم الجنوب الغربي أو ما يعرف بـ”الحوض المنجمي”. يعتمد هذا الإقليم على النشاطات الاستخراجية للطاقة (الفوسفات).
ووفقاً لما قاله منوبة لـ”درج”، فإن نمط الحكم في مرحلة الاستعمار ربما لا يختلف عن الوضع في مرحلة نشوء الدولة الوطنية، حيث “تجاهل بناء شخصية لهذه الأقاليم المتجانسة على المستوى الطبيعي والسكاني والاقتصادي، وقد عمدت نحو دعم مركزية الحواضر الكبرى الموجودة على الشريط الساحلي. ونتج من هذا التوجه تركز المنشآت الاقتصادية المهمة والبنية التحتية في الواجهة الشرقية للبلاد. وحتماً، ظلت الواجهة الغربية تعاني من تدني مؤشرات التنمية، وهو ما دعم ظاهرة الإخلاء الريفي في الواجهة الغربية للبلاد”.
يذهب الهادي عبد الله نحو فهم الأمر الرئاسي لقيس سعيد بشأن التقسيم المحدث، الذي اعتمد التقسيم العرضي للبلاد، وهو خلق أقاليم لها واجهات بحرية وموانئ كبرى من خلال “القطع مع ما أنتجه التقسيم الطولي للبلاد، والذي دعم ظاهرة السوحلة، بحيث كانت الأقاليم الشرقية مطلة على واجهة غربية مهمشة العوائد وفرص التنمية”.
ويقول إن هذا القرار يتجاهل غياب التجانس الاجتماعي والاقتصادي للولايات المكونة لهذه الأقاليم الجديدة، وهو ما سيجعل الاندماج في ما بينها صعب التحقق نظراً الى اختلاف الخصائص الديمغرافية والاقتصادية.
يضاف إلى ذلك “ضعف البنية التحتية لمعظم الأقاليم، فللانتقال داخل الإقليم الأول من بنزرت إلى جندوبة، يتحتم عليك المرور بمدينة تونس المنتمية إلى الإقليم الثاني (!). كما أن التفاوت الكبير في الوزن الديمغرافي للأقاليم الجديدة يظلم أكثر من ثلاثة ملايين ساكن، أي حوالى ربع سكان البلاد، فيما لا يتعدى عدد سكان الإقليم الأول أربع مائة ألف ساكن”.
تغييب المتخصصين في مجال إعادة تقسيم الأقاليم يجعل المشروع “بلا أي قواعد علمية تجعل له وجاهة وتحقق منه فائدة سياسية أو تنموية”، وفق الهادي عبد الله. ويختتم حديثه قائلاً، إن تيسير العملية الانتخابية داخل هذه الأقاليم المحدثة يبقى هدفاً ثانوياً إن لم يصاحبها ارتفاع في مؤشرات التنمية الاقتصادية والاجتماعية.
“الاندماج الكبير”
يطرح الباحث والمحلل السياسي محمد ذويب، تقديره بقوله إن هذا التقسيم يرتبط بذهنية الرئيس قيس سعيد، ويبدو أن له “غايات تنموية واقتصادية” من الناحية الظاهرية، لأن الأقاليم الخمسة منفتحة على الساحل ولها خصوصيات طبيعية وتضاريسية وبشرية متقاربة، ما يعني قدرتها على الاندماج الكبير في البرامج التنموية التي تزعم البلاد القيام بها.
يضيف ذويب لـ”درج”: “التقسيم الجديد قد يمكّن الدولة مستقبلاً من رسم الخطط والاستراتيجيات وإدماج الأقاليم الطرفية وربطها بالساحل ورد الاعتبار الى مناطق هُمِّشت سابقاً جراء التقسيم القديم”، مستدركاً بقوله: “لكن يظل تحقيق هذه الأهداف مرهوناً بقدرة الدولة على ربط مختلف مناطق هذه الأقاليم بعضها ببعض من خلال استحداث بنية تحتية تستطيع استيعاب ذلك”.
من ثم، يرى ذويب أن لهذا التقسيم سلبياته، موضحاً أن سكان البلاد في غالبيتهم مستقرون في الإقليم الثاني، بينما الإقليم الخامس الأكبر مساحة (تقريباً نصف مساحة البلاد) هو الأقل عدداً من الناحية السكانية، ما من شأنه أن يُحدث خللاً ديموغرافياً.
يختتم ذويب حديثه لـ”درج”، بأن التقسيم الإقليمي مهم لكن بشرط ألا تكون له أهداف سياسية وبراغماتية مؤقتة ومرحلية، ترتبط بالانتخابات. وعليه، من المنتظر أن نرى تصورات جادة أو بالأحرى شاملة للتنمية. إذ من المفترض أن تكون غاية التقسيم الديمغرافي مراجعة التفاوت الطبقي وإعادة توزيع الثروة عبر الاستثمارات العمومية في التعليم والصحة وغيرهما، ليكون الإقليم إطاراً لهضم التناقضات لا لخلق تباينات جديدة.