fbpx
ساهموا في دعم الإعلام المستقل و الجريء!
ادعموا درج

كأنها قنبلة انفجرت في قرافة مصر… و”الكلّ” مسؤول عن تدميرها

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

تتحمل الدولة المصرية مسؤولية الإطاحة بالإرث العمراني، فهي تتبنى خطاباً استعلائياً تجاه القاهرة وسكانها، فترى فيهم عبئاً عليها وعلى ميزانيتها، ثم هي في النهاية تتعامل مع القاهرة كأداة لخدمة الأحياء العمرانية الجديدة، فلا تراعي فيها نسيجاً حضرياً أو عمرانياً. 

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

خلال زيارتي الأخيرة والنزول المعتاد من ميدان السيدة عائشة عبر شارع القادرية، بدا موقع القرافة وكأنه تحت القصف، آلاف الأطنان من الركام والحجارة المبعثرة على جانبي الطريق الذي كان مزدحماً بالحياة، بدا الوضع كئيباً إلى درجة لا تُوصف.

لم أعد أرى سكان القرافة الذين يقطنون الأحواش خدمة لها، إذ نُقل كثير منهم إلى أماكن أخرى بعيدة عن موقع القرافة بعدما سُلبت منهم مساكنهم، ولا تلك الواجهات الحجرية المميزة بتفاصيلها الفنية التي يحمل بعضها توقيعات فنية وكتابات شعرية، ولا تلك الحيوانات التي اعتدت أن أراها في الشارع والتي سكنت القرافة كمكان آمن، لم أعد أسمع حتى صوت العصافير، إذ باتت معظم أشجار الشارع مقطوعة، حتى يسهل هدم الأحواش. 

في السنوات الثلاث الأخيرة، بدا الوضع كارثياً في القرافة عموماً، إذ بدأت حملة توسعة الطرق وإنشاء محاور عدة داخل منطقة القرافة، بدءاً من قرافة ترب الغفير، حيث تمت توسعة شارع قنصوه الذي يجاور قبة قنصوه أبو سعيد المملوكية، وامتداده في محور جيهان السادات، حتى يسهل الوصول إلى القاهرة الجديدة ومدينة نصر.

تلك التوسعة أضرّت كثيراً بعدد كبير من المقابر التي يرجع تاريخها إلى القرنين التاسع عشر والعشرين في المنطقة، ثم هدأت الأمور قليلاً حتى انتقلت إلى قرافة الإمام الشافعي، القرافة الواسعة النطاق، التي بدأت الدولة من عندها، بتحديد مسار لربط المحاور الجديدة بشارع صلاح سالم، فرُسم الخط من دون مراعاة لأي موقع على الأرض، ثم جاءت الكارثة بهدم عشرات الأحواش في القرافة من دون هوادة، ومن دون اعتبار لأي من الشخصيات المدفونة فيها معروفة كانت أم مغمورة. 

إحدى القباب التي هُدمت في شارع القادرية، هي قبة مستولدة محمد علي باشا نام شاز قادين ووالدة محمد عبد الحليم، وهي إحدى القباب التي بُنيت على الطراز المملوكي المستحدث، الطراز الذي كان معبراً عن فترة تاريخية مهمة من تاريخ العمارة في مصر، فهو طراز يعتمد بشكل رئيسي على إعادة إحياء الطراز المملوكي بتفاصيله الفنية المعقدة، وهي حركة معمارية فنية ظهرت في القرن التاسع عشر ضمن ظروف سياسية وثقافية معينة، عملت على إحياء الهوية المصرية ممثلة في هذا النوع من العمارة، وبطبيعة الحال كانت القرافة، الأرض التي استقبلت عشرات القباب على هذا الطراز، المكان المناسب لها عمرانياً، فتنافس فيها عدد كبير من المعماريين من شتى أنحاء العالم، وأصبحت كتاباً مفتوحاً لتجربة هذا الطراز الفني الرفيع. 

أذكر تلك القبة جيداً، فقد حاولت أن أزورها مرات عدة، وباءت كلها بالفشل، لأنها كانت مقراً لمدرسة ابتدائية في المنطقة، وكان مدير المدرسة يمانع دخولنا بشدة، إلا أننا احتلنا عليه في إحدى المرات، فتعمدنا أن نُجري معه الحديث داخل القبة لكي تتسنى لنا فرصة رؤية تفاصيلها الفنية ولو لوقت قصير، ولسوء الحسن كان الضوء يومها خافتاً، لكن هذا لم يمنعنا من التقاط بعض العناصر فيها بأعيننا فقط، من دون أي فرصة لتصويرها بالكاميرا. لقد هُجّرت المدرسة تماماً وأُزيلت فصولها التي اتخذت من الحوش الخاص بالقبة مقراً لها، وسقطت القبة تماماً على الأرض منذ يومين فقط. لقد كان المشهد مروعاً يقبض على الروح، كانت تلك هي المرة الوحيدة التي أرى فيها تفاصيل القبة الداخلية بوضوح، بسبب الهدم المتراكم فيها. 

بالقرب منها، تقع مقبرة محمود سامي البارودي، وهي إحدى المقابر المهمة في قرافة الإمام الشافعي، التي تحمل تركيبة في غاية الإبداع، وكُتب عليها شعر من تأليف البارودي نفسه، فضلاً عن أنها تحمل تفاصيل فنية مميزة، وقد هدمت في اليوم التالي من القبة السابقة. عشرات القباب والأحواش في شارع القادرية وشارع الإمام الشافعي والإمام الليث هُدمت للهدف نفسه، من بينها حوش إبراهيم النبراوي وحوش محمد أفندي خير الكاشف وحوش الفريق إسماعيل سليم. كان الهدف إنشاء محور يعبر فوق القرافة ليتصل بشارع صلاح سالم.

في خريف 2013، كانت أول زيارة لي للقرافة، كانت وجهتي حينها قبة الإمام الشافعي، القبة التي لا يُخطئها زائر داخل تلك المدينة العامرة، على رغم التحذير المستمر لنا كطلاب في كلية الآثار في جامعة القاهرة من أساتذة القسم، بعدم الذهاب إلى القرافة، إلا أن الفضول قادني إليها مع أحد أصدقائي من خارج الجامعة، إذ تُحدد الجامعة جدول زيارات ميدانية يرتبط بمناطق معينة داخل القاهرة، مثل شارع المعز لدين الله الفاطمي وشارع الصليبة في السيدة زينب ومسجدي السلطان حسن والرفاعي، وبطبيعة الحال لم تكن القرافة ضمن هذا الجدول الرتيب، وهو أمر كارثي انعكس على مستقبل القرافة كنسيج عمراني مرتبط بالقاهرة. 

كانت قبة الإمام الشافعي مزدحمة بالزوار،  يغلب عليها اللون الأخضر الباهت بفعل الزمن، وحال الغطاء القماشي الذي يغطي الضريح دون رؤيتي التركيبة الخشبية الأنيقة تحته، التي ترجع إلى الفترة الأيوبية المبكرة، حيث كانوا يلفون الأضرحة بأغطية خضراء. لقد احتفظت بهذه الزيارة بكل تفاصيلها في وجداني. بعد مدة وجيزة أُغلق الضريح لفترة طويلة بهدف الترميم، لكنني لم أتوقف عن زيارة هذه القبة المبهرة، متأملاً في مركزيتها الروحية وسط الناس والقرافة. والحقيقة أن أحداً لم يتوقف عن زيارتها من الذين اعتادوا على ذلك، حتى إنني ما زلت أذكر هؤلاء الذين تعودوا على زيارة الإمام الشافعي يقفون خارج السياج الحديدي، منهم من يدعو  بصمت، ومنهم من ينادي على أحد المرممين ويعطيه رسالة مغلقة بهدف إعطائها للإمام الشافعي. استمرت تلك العادة لسنوات طويلة حتى أُعيد فتح القبة مرة أخرى منذ عامين تقريباً، وعادت إليها الزيارات بانتظام، بعدما تهيّأت القبة ورُمِّمت بدقة. 

مسار الزيارة 

اعتدت على مسار محدد أثناء زيارتي القرافة، وهو أن أبدأ مترجلاً من ميدان السيدة عائشة عبر شارع القادرية، وصولاً إلى قبة الإمام الشافعي. كنت أفضّل المشي في هذا الشارع الواسع بأشجاره الكثيفة، وقد فُتنت به إلى درجة لا توصف، فالأحواش والقباب التي تزينه وتتراصف على جانبيه، لا يمكن أن تراها في أي شارع آخر في القاهرة. يرجع تاريخ معظم تلك الأحواش إلى القرنين التاسع عشر والقرن العشرين، مطعمة ببعض المباني التي يرجع تاريخها إلى فترات أطول، بدءاً من الفترة الفاطمية حتى العثمانية، بُنيت الأحواش على أنماط معمارية مختلفة، لكنها التزمت تماماً بنسق واضح وتركيبة عمرانية محددة داخل شوارع القرافة حتى يسهل زيارتها والدخول إليها. تتفرع من هذا الشارع شوارع أخرى عدة، مثل شارع عمر بن الفارض وشارع الإمام الشافعي والإمام الليث، والدخول إلى مثل تلك الشوارع المتفرعة هو بمثابة رحلة أخرى داخل التاريخ، لاكتشاف شخصيات ربما غفلت عنها بعض المصادر التاريخية في الفترة الحديثة. فتدخل إلى حوش هنا أو هناك، لتجد تركيبة قبر كُتب عليها بخط أنيق تاريخ المتوفى بإيجاز ودعوات خالصة له، فضلاً عن مقتنيات معينة مثل جزء من كسوة الكعبة وبعض كتب الأذكار والحديث، داخل صالون خُصص لأهل المتوفى عند زيارتهم له. 

عتدت على تلك الجولات طيلة عشر سنوات كاملة منذ أول زيارة لي حتى وقت قريب، حتى إنني كونت صداقات فيها، فقهوة الإمام الشافعي التي تجاور ضريحه، كانت ملتقى لقاءاتنا المتكررة، اعتدنا أن نتجول داخل أحواش القرافة المغلقة منها والمفتوحة، لم نترك حوشاً واحداً إلا وحاولنا مراراً وتكراراً أن ندخله، وكان القدر وحده هو من يتصرف في هذا الأمر من دون ترتيب للزيارة، لقد تعرفت حينها على الدكتور مصطفى الصادق أستاذ النساء والتوليد في جامعة القاهرة، وهو أحد الذين ألهموني تذوّق الفن في القرافة، كان يلفت انتباهي لتفصيلة في شاهد قبر هنا، أو تيمة فنية أعلى سقف قبة هناك، كانت الزيارات متكررة، صيفاً وشتاءً، بعنائها ومتعتها وكنوزها الخفية التي لا يعلم عنها أحد، وكرم الناس فيها وتطفل بعض القائمين على رعاية الأحواش.كانت تلك الأحداث اليومية مشوّقة الى حد كبير، طالما أنها تنتهي في آخر اليوم ببعض الصور والمعلومات الجديدة، التي يصعب أن تجدها في المصادر التاريخية على كثرتها.

هذا المسار الذي سلكته ليس جديداً، بل هو قديم بقدم مدينة القرافة ذاتها، وعبقرية هذا المسار أنه مُحدد منذ تاريخ تأسيس القرافة تقريباً، حتى أُلفت فيه كتب سُميت بكتب الزيارة، وهي كتب تحدد طبيعة الزيارة للقرافة، فتصفها لك كأنها خريطة، كيف تزور المعالم فيها، بتحديد أبرز الشخصيات وأبرز الأحواش، وهو أمر بالغ الأهمية ومتفرد لدى قرافة القاهرة. وقرافة الإمام الشافعي تلك إحدى أكبر القرافات الباقية في القاهرة الآن، إلى جانب قرافة السيدة نفيسة، التي تقع على الجانب الآخر من شارع صلاح سالم، والتي بُنيت كذلك على ضريحها. أما تلك المنطقة التي تقع على يمين ميدان السيدة عائشة جهة طريق الأتوستراد، فهي قرافة سيدي جلال الدين السيوطي، أو قرافة المماليك الجنوبية. وهي إحدى أهم المواقع العمرانية للقرافة في القاهرة، إذ تضم عدداً كبيراً من القباب التي يرجع تاريخها إلى الفترة المملوكية، فضلاً عن ذلك فقد فضّل الناس دفن موتاهم فيها في فترة متأخرة من عمر المدينة. إلا أن قرافة الإمام الشافعي متمايزة عن كل تلك القرافات بالعدد الضخم من الشخصيات التاريخية والعامة التي دُفنت فيها، وبالتالي فقد بُنيت لهم مبان فخمة، حرص كل واحد منهم على أن يُخلّد اسمه بمبنى ينافس به غيره، وهنا أتت ميزة هذا المكان. 

على من تقع المسؤولية؟

تتحمل الدولة المصرية مسؤولية الإطاحة بالإرث العمراني، فهي تتبنى خطاباً استعلائياً تجاه القاهرة وسكانها، فترى فيهم عبئاً عليها وعلى ميزانيتها، ثم هي في النهاية تتعامل مع القاهرة كأداة لخدمة الأحياء العمرانية الجديدة، فلا تراعي فيها نسيجاً حضرياً أو عمرانياً. 

هدم القرافة تشترك فيه الجهات المنوط بها العمل على فهم ديموغرافية المدينة، فأساتذة كليات الآثار الذين حذروا طلابهم من النزول إليها، باتوا منعزلين تماماً عن طبيعة المدينة، ولا ينظرون إليها إلا عن طريق الآثار المسجلة فقط، التي ترجع إلى عصور قديمة، وهو ما يمكن أن يُفهم من خلال تصريحات البعض بأن ما هُدم لا علاقة له بالآثار، بحجة أنه لم تمر عليه 100 عام أو لم يتميز بعناصر فنية، لإعطاء الدافع والمبرر للدولة لهدم كل هذا الإرث الحضاري. تقع المسؤولية على جهاز التنسيق الحضاري، الذي لا يأخذ موقفاً جاداً تجاه ما يحدث، على وزارتي الثقافة والآثار، وعلى وزارة الإسكان التي تسعى جاهدة إلى شطب تلك المواقع. المسؤولية تقع على عاتق النظام المصري كله بلا استثناء.

هلا نهاد نصرالدين - صحافية لبنانية | 15.03.2025

“درج” مستهدفاً من أذرع أنطون صحناوي الإعلامية… لماذا؟!

المعارك التي يخوضها ضدّنا صحناوي تؤكّد لنا أننا ننجح في عملنا الاستقصائي الصحافي حيث نسعى لتحقيق العدالة لكلّ مودع خسر أمواله بسبب فساد المصارف وحزب المصارف الذي تقوده جمعية المصارف.
28.10.2024
زمن القراءة: 7 minutes

تتحمل الدولة المصرية مسؤولية الإطاحة بالإرث العمراني، فهي تتبنى خطاباً استعلائياً تجاه القاهرة وسكانها، فترى فيهم عبئاً عليها وعلى ميزانيتها، ثم هي في النهاية تتعامل مع القاهرة كأداة لخدمة الأحياء العمرانية الجديدة، فلا تراعي فيها نسيجاً حضرياً أو عمرانياً. 

خلال زيارتي الأخيرة والنزول المعتاد من ميدان السيدة عائشة عبر شارع القادرية، بدا موقع القرافة وكأنه تحت القصف، آلاف الأطنان من الركام والحجارة المبعثرة على جانبي الطريق الذي كان مزدحماً بالحياة، بدا الوضع كئيباً إلى درجة لا تُوصف.

لم أعد أرى سكان القرافة الذين يقطنون الأحواش خدمة لها، إذ نُقل كثير منهم إلى أماكن أخرى بعيدة عن موقع القرافة بعدما سُلبت منهم مساكنهم، ولا تلك الواجهات الحجرية المميزة بتفاصيلها الفنية التي يحمل بعضها توقيعات فنية وكتابات شعرية، ولا تلك الحيوانات التي اعتدت أن أراها في الشارع والتي سكنت القرافة كمكان آمن، لم أعد أسمع حتى صوت العصافير، إذ باتت معظم أشجار الشارع مقطوعة، حتى يسهل هدم الأحواش. 

في السنوات الثلاث الأخيرة، بدا الوضع كارثياً في القرافة عموماً، إذ بدأت حملة توسعة الطرق وإنشاء محاور عدة داخل منطقة القرافة، بدءاً من قرافة ترب الغفير، حيث تمت توسعة شارع قنصوه الذي يجاور قبة قنصوه أبو سعيد المملوكية، وامتداده في محور جيهان السادات، حتى يسهل الوصول إلى القاهرة الجديدة ومدينة نصر.

تلك التوسعة أضرّت كثيراً بعدد كبير من المقابر التي يرجع تاريخها إلى القرنين التاسع عشر والعشرين في المنطقة، ثم هدأت الأمور قليلاً حتى انتقلت إلى قرافة الإمام الشافعي، القرافة الواسعة النطاق، التي بدأت الدولة من عندها، بتحديد مسار لربط المحاور الجديدة بشارع صلاح سالم، فرُسم الخط من دون مراعاة لأي موقع على الأرض، ثم جاءت الكارثة بهدم عشرات الأحواش في القرافة من دون هوادة، ومن دون اعتبار لأي من الشخصيات المدفونة فيها معروفة كانت أم مغمورة. 

إحدى القباب التي هُدمت في شارع القادرية، هي قبة مستولدة محمد علي باشا نام شاز قادين ووالدة محمد عبد الحليم، وهي إحدى القباب التي بُنيت على الطراز المملوكي المستحدث، الطراز الذي كان معبراً عن فترة تاريخية مهمة من تاريخ العمارة في مصر، فهو طراز يعتمد بشكل رئيسي على إعادة إحياء الطراز المملوكي بتفاصيله الفنية المعقدة، وهي حركة معمارية فنية ظهرت في القرن التاسع عشر ضمن ظروف سياسية وثقافية معينة، عملت على إحياء الهوية المصرية ممثلة في هذا النوع من العمارة، وبطبيعة الحال كانت القرافة، الأرض التي استقبلت عشرات القباب على هذا الطراز، المكان المناسب لها عمرانياً، فتنافس فيها عدد كبير من المعماريين من شتى أنحاء العالم، وأصبحت كتاباً مفتوحاً لتجربة هذا الطراز الفني الرفيع. 

أذكر تلك القبة جيداً، فقد حاولت أن أزورها مرات عدة، وباءت كلها بالفشل، لأنها كانت مقراً لمدرسة ابتدائية في المنطقة، وكان مدير المدرسة يمانع دخولنا بشدة، إلا أننا احتلنا عليه في إحدى المرات، فتعمدنا أن نُجري معه الحديث داخل القبة لكي تتسنى لنا فرصة رؤية تفاصيلها الفنية ولو لوقت قصير، ولسوء الحسن كان الضوء يومها خافتاً، لكن هذا لم يمنعنا من التقاط بعض العناصر فيها بأعيننا فقط، من دون أي فرصة لتصويرها بالكاميرا. لقد هُجّرت المدرسة تماماً وأُزيلت فصولها التي اتخذت من الحوش الخاص بالقبة مقراً لها، وسقطت القبة تماماً على الأرض منذ يومين فقط. لقد كان المشهد مروعاً يقبض على الروح، كانت تلك هي المرة الوحيدة التي أرى فيها تفاصيل القبة الداخلية بوضوح، بسبب الهدم المتراكم فيها. 

بالقرب منها، تقع مقبرة محمود سامي البارودي، وهي إحدى المقابر المهمة في قرافة الإمام الشافعي، التي تحمل تركيبة في غاية الإبداع، وكُتب عليها شعر من تأليف البارودي نفسه، فضلاً عن أنها تحمل تفاصيل فنية مميزة، وقد هدمت في اليوم التالي من القبة السابقة. عشرات القباب والأحواش في شارع القادرية وشارع الإمام الشافعي والإمام الليث هُدمت للهدف نفسه، من بينها حوش إبراهيم النبراوي وحوش محمد أفندي خير الكاشف وحوش الفريق إسماعيل سليم. كان الهدف إنشاء محور يعبر فوق القرافة ليتصل بشارع صلاح سالم.

في خريف 2013، كانت أول زيارة لي للقرافة، كانت وجهتي حينها قبة الإمام الشافعي، القبة التي لا يُخطئها زائر داخل تلك المدينة العامرة، على رغم التحذير المستمر لنا كطلاب في كلية الآثار في جامعة القاهرة من أساتذة القسم، بعدم الذهاب إلى القرافة، إلا أن الفضول قادني إليها مع أحد أصدقائي من خارج الجامعة، إذ تُحدد الجامعة جدول زيارات ميدانية يرتبط بمناطق معينة داخل القاهرة، مثل شارع المعز لدين الله الفاطمي وشارع الصليبة في السيدة زينب ومسجدي السلطان حسن والرفاعي، وبطبيعة الحال لم تكن القرافة ضمن هذا الجدول الرتيب، وهو أمر كارثي انعكس على مستقبل القرافة كنسيج عمراني مرتبط بالقاهرة. 

كانت قبة الإمام الشافعي مزدحمة بالزوار،  يغلب عليها اللون الأخضر الباهت بفعل الزمن، وحال الغطاء القماشي الذي يغطي الضريح دون رؤيتي التركيبة الخشبية الأنيقة تحته، التي ترجع إلى الفترة الأيوبية المبكرة، حيث كانوا يلفون الأضرحة بأغطية خضراء. لقد احتفظت بهذه الزيارة بكل تفاصيلها في وجداني. بعد مدة وجيزة أُغلق الضريح لفترة طويلة بهدف الترميم، لكنني لم أتوقف عن زيارة هذه القبة المبهرة، متأملاً في مركزيتها الروحية وسط الناس والقرافة. والحقيقة أن أحداً لم يتوقف عن زيارتها من الذين اعتادوا على ذلك، حتى إنني ما زلت أذكر هؤلاء الذين تعودوا على زيارة الإمام الشافعي يقفون خارج السياج الحديدي، منهم من يدعو  بصمت، ومنهم من ينادي على أحد المرممين ويعطيه رسالة مغلقة بهدف إعطائها للإمام الشافعي. استمرت تلك العادة لسنوات طويلة حتى أُعيد فتح القبة مرة أخرى منذ عامين تقريباً، وعادت إليها الزيارات بانتظام، بعدما تهيّأت القبة ورُمِّمت بدقة. 

مسار الزيارة 

اعتدت على مسار محدد أثناء زيارتي القرافة، وهو أن أبدأ مترجلاً من ميدان السيدة عائشة عبر شارع القادرية، وصولاً إلى قبة الإمام الشافعي. كنت أفضّل المشي في هذا الشارع الواسع بأشجاره الكثيفة، وقد فُتنت به إلى درجة لا توصف، فالأحواش والقباب التي تزينه وتتراصف على جانبيه، لا يمكن أن تراها في أي شارع آخر في القاهرة. يرجع تاريخ معظم تلك الأحواش إلى القرنين التاسع عشر والقرن العشرين، مطعمة ببعض المباني التي يرجع تاريخها إلى فترات أطول، بدءاً من الفترة الفاطمية حتى العثمانية، بُنيت الأحواش على أنماط معمارية مختلفة، لكنها التزمت تماماً بنسق واضح وتركيبة عمرانية محددة داخل شوارع القرافة حتى يسهل زيارتها والدخول إليها. تتفرع من هذا الشارع شوارع أخرى عدة، مثل شارع عمر بن الفارض وشارع الإمام الشافعي والإمام الليث، والدخول إلى مثل تلك الشوارع المتفرعة هو بمثابة رحلة أخرى داخل التاريخ، لاكتشاف شخصيات ربما غفلت عنها بعض المصادر التاريخية في الفترة الحديثة. فتدخل إلى حوش هنا أو هناك، لتجد تركيبة قبر كُتب عليها بخط أنيق تاريخ المتوفى بإيجاز ودعوات خالصة له، فضلاً عن مقتنيات معينة مثل جزء من كسوة الكعبة وبعض كتب الأذكار والحديث، داخل صالون خُصص لأهل المتوفى عند زيارتهم له. 

عتدت على تلك الجولات طيلة عشر سنوات كاملة منذ أول زيارة لي حتى وقت قريب، حتى إنني كونت صداقات فيها، فقهوة الإمام الشافعي التي تجاور ضريحه، كانت ملتقى لقاءاتنا المتكررة، اعتدنا أن نتجول داخل أحواش القرافة المغلقة منها والمفتوحة، لم نترك حوشاً واحداً إلا وحاولنا مراراً وتكراراً أن ندخله، وكان القدر وحده هو من يتصرف في هذا الأمر من دون ترتيب للزيارة، لقد تعرفت حينها على الدكتور مصطفى الصادق أستاذ النساء والتوليد في جامعة القاهرة، وهو أحد الذين ألهموني تذوّق الفن في القرافة، كان يلفت انتباهي لتفصيلة في شاهد قبر هنا، أو تيمة فنية أعلى سقف قبة هناك، كانت الزيارات متكررة، صيفاً وشتاءً، بعنائها ومتعتها وكنوزها الخفية التي لا يعلم عنها أحد، وكرم الناس فيها وتطفل بعض القائمين على رعاية الأحواش.كانت تلك الأحداث اليومية مشوّقة الى حد كبير، طالما أنها تنتهي في آخر اليوم ببعض الصور والمعلومات الجديدة، التي يصعب أن تجدها في المصادر التاريخية على كثرتها.

هذا المسار الذي سلكته ليس جديداً، بل هو قديم بقدم مدينة القرافة ذاتها، وعبقرية هذا المسار أنه مُحدد منذ تاريخ تأسيس القرافة تقريباً، حتى أُلفت فيه كتب سُميت بكتب الزيارة، وهي كتب تحدد طبيعة الزيارة للقرافة، فتصفها لك كأنها خريطة، كيف تزور المعالم فيها، بتحديد أبرز الشخصيات وأبرز الأحواش، وهو أمر بالغ الأهمية ومتفرد لدى قرافة القاهرة. وقرافة الإمام الشافعي تلك إحدى أكبر القرافات الباقية في القاهرة الآن، إلى جانب قرافة السيدة نفيسة، التي تقع على الجانب الآخر من شارع صلاح سالم، والتي بُنيت كذلك على ضريحها. أما تلك المنطقة التي تقع على يمين ميدان السيدة عائشة جهة طريق الأتوستراد، فهي قرافة سيدي جلال الدين السيوطي، أو قرافة المماليك الجنوبية. وهي إحدى أهم المواقع العمرانية للقرافة في القاهرة، إذ تضم عدداً كبيراً من القباب التي يرجع تاريخها إلى الفترة المملوكية، فضلاً عن ذلك فقد فضّل الناس دفن موتاهم فيها في فترة متأخرة من عمر المدينة. إلا أن قرافة الإمام الشافعي متمايزة عن كل تلك القرافات بالعدد الضخم من الشخصيات التاريخية والعامة التي دُفنت فيها، وبالتالي فقد بُنيت لهم مبان فخمة، حرص كل واحد منهم على أن يُخلّد اسمه بمبنى ينافس به غيره، وهنا أتت ميزة هذا المكان. 

على من تقع المسؤولية؟

تتحمل الدولة المصرية مسؤولية الإطاحة بالإرث العمراني، فهي تتبنى خطاباً استعلائياً تجاه القاهرة وسكانها، فترى فيهم عبئاً عليها وعلى ميزانيتها، ثم هي في النهاية تتعامل مع القاهرة كأداة لخدمة الأحياء العمرانية الجديدة، فلا تراعي فيها نسيجاً حضرياً أو عمرانياً. 

هدم القرافة تشترك فيه الجهات المنوط بها العمل على فهم ديموغرافية المدينة، فأساتذة كليات الآثار الذين حذروا طلابهم من النزول إليها، باتوا منعزلين تماماً عن طبيعة المدينة، ولا ينظرون إليها إلا عن طريق الآثار المسجلة فقط، التي ترجع إلى عصور قديمة، وهو ما يمكن أن يُفهم من خلال تصريحات البعض بأن ما هُدم لا علاقة له بالآثار، بحجة أنه لم تمر عليه 100 عام أو لم يتميز بعناصر فنية، لإعطاء الدافع والمبرر للدولة لهدم كل هذا الإرث الحضاري. تقع المسؤولية على جهاز التنسيق الحضاري، الذي لا يأخذ موقفاً جاداً تجاه ما يحدث، على وزارتي الثقافة والآثار، وعلى وزارة الإسكان التي تسعى جاهدة إلى شطب تلك المواقع. المسؤولية تقع على عاتق النظام المصري كله بلا استثناء.