بدت الانتخابات البلدية التركية الأخيرة، والتي ضاهت بسخونتها ونتائجها وتداعياتها الانتخابات التشريعية والرئاسية، بمثابة انتخابات مصيرية. وكأن هذه الانتخابات تؤسّس لمنعطف سياسي جديد، ليس بالنسبة إلى الأتراك، أو المهتمين الخارجيين، على الصعيد العربي والإقليمي والدولي، وحسب، وإنما بالنسبة إلى السوريين، تحديداً. محرّك الشعور عند هؤلاء لا يتوقف عند الدلالات أو التبعات السياسية لأي تغيير في طبيعة الحكم في تركيا، إذ هو يشمل الخوف من نشوء أي وضع يهدد وجود حوالى 3 ملايين سوري، في هذا البلد، باتت لهم حياتهم وسبل تحصيل عيشهم وبيوتهم ومدارسهم وجامعاتهم ومحلاتهم وأحياؤهم.
والفكرة هنا أنه بقدر ما يمكن الحديث عن تدخلات تركية في الشأن السوري، في مختلف المجالات، منها التحكم بالمعارضة الرسمية (الإئتلاف الوطني)، فإنه يمكن الحديث، أيضاً، عن تغلغل أو تداخل سوري في المجتمع التركي، مع الفارق بين الجانبين، لمصلحة الجانب التركي طبعاً.
ومعلوم أن تركيا اضطلعت، منذ بداية الصراع السوري (مطلع العام 2011)، أي منذ 8 سنوات، بأدوار متعددة، فهي حاولت في الأشهر الأولى إقناع النظام بالتجاوب مع مطالب الحراك الشعبي، ثم انتقلت إلى دعم مطالب هذا الحراك، واحتضان المعارضة، السياسية والمدنية والعسكرية، في أراضيها، والمطالبة برحيل النظام. وبعد ذلك، كما شهدنا، فهي دعمت، أو شجّعت التحول نحو العسكرة، التي طغى عليها طابع “الإسلام السياسي” السلفي والجهادي والمتعصب. ثم فتحت حدودها لاستقبال ملايين اللاجئين، إن للاستقرار أو العبور إلى أوروبا. بيد أن تركيا منذ أواخر 2016، مع عملية “درع الفرات” وخروج مدينة حلب من سيطرة المعارضة، أو تحديداً منذ مطلع عام 2017، انتقلت إلى طور آخر تمثل بانخراطها في ما يمكن تسميته محور استانة، الذي يضم روسيا وإيران وتركيا، في انعطافة غريبة أو خارج السياق. ففيما هي تدعم المعارضة، وتطالب بإنهاء نظام الأسد، فإن كل من روسيا وإيران، تدعمان بشكل غير محدود ذلك النظام، سياسياً وعسكرياً واقتصادياً.
ويمكن الاستنتاج من كل ما تقدم أن تركيا باتت بمثابة فاعل أساسي، وداخلي، في الصراع السوري، سيما أنها هي التي تبسط نفوذها، إن مباشرة أو مداورة، على مناطق واسعة في الشمال السوري، عند حدودها الجنوبية من غرب الفرات إلى مدينة إدلب، ومع وجود مقر المعارضة على أراضيها، ناهيك بثلاثة ملايين سوري باتوا جزءاً من نسيجها الاجتماعي، ليس فقط مع عمليات التجنيس، وإنما أيضاً عبر الانخراط النشط في الحياة الاقتصادية والاجتماعية.
وبذلك، كان طبيعياً أن يأخذ الموضوع السوري، وبخاصة وجود السوريين في تركيا، مكانة بارزة في السجالات التي دارت إبان تلك الانتخابات، سواء بين الأحزاب التركية، أو بين السوريين أنفسهم، وإن ظلت هذه السجالات في معظم الأحوال مضبوطة، أو في نطاق السيطرة (باستثناء حادثة بسيطة أدت إلى مشكلات بين السوريين والأتراك في ضاحية اسنيورت في إسطنبول إبان الانتخابات السابقة)، بخاصة أنه لم يصدر من السوريين ما يسيء لصورتهم في هذا البلد، علماً أن غالبيتهم تعيش إما في مدن حدودية (غازي عنتاب) مثلاً، أو في مدينة إسطنبول، التي تعج بملايين السياح.
في هذا الإطار برز، مثلاً، موقف لافت لمرشحة المعارضة عن الحزب “الجيد” -القومي (المتحالف مع الحزب الجمهوري) في منطقة الفاتح في إسطنبول، التي يقطنها عدد كبير من السوريين، مع محلات وبقاليات ومطاعم، بتبنيها في حملتها الانتخابية شعاراً يقول: “لن أسلّم الفاتح للسوريين”. بل إن الأكثر لفتاً للانتباه، أن علي بن يلدريم، المرشح لرئاسة بلدية إسطنبول عن حزب “العدالة والتنمية” الحاكم، استدرج إلى الخطاب ذاته، وإن بشكل أخفّ، أو أقل توتراً بتعهده بعدم التهاون مع السوريين “إن أخطأوا أو تجاوزوا…”. وطبعاً ففي الحالتين، صدرت ردود فعل من سوريين كثر في إسطنبول، استنكرت موقف مرشحة المعارضة واستغربت موقف بن يلدريم، ولم تنس تلك الردود أن تذكر الطرفين بأن السوريين لم يسيئوا الضيافة، وأنهم يستحقون معاملة أفضل، وأنهم يشكلون إضافة إيجابية وحيوية في تحريك عجلة الاقتصاد التركي، وفي المجتمع التركي.
أما بعد ظهور نتائج الانتخابات البلدية، وخسارة “حزب العدالة والتنمية” معظم المدن الرئيسية، لا سيما العاصمة السياسية أنقرة والعاصمة التاريخية والسياحية والاقتصادية إسطنبول، فقد عبر سوريون، عن شماتتهم بسقوط مرشحة المعارضة في منطقة الفاتح، وعن انزعاجهم من خسارة حزب العدالة والتنمية لتلك المدن، بل إن بعضهم تحدث عن تزوير في الانتخابات، متناسين أن النظام في تركيا مختلف عن النظام الذي عهدوه في بلدهم، وأن الحزب الحاكم هنا هو حزب العدالة والتنمية، أي أنه المسؤول عن الانتخابات وسلامة إجراءاتها.
طبعاً، يمكن الحديث هنا عن وجود مشكلة تتعلق بكيفية تعامل معظم “التيارات الإسلامية” السورية (والعربية) مع الواقع التركي، لا سيما أن معظمها موجود في تركيا، فعلى رغم أن هؤلاء يمنحون الرئيس اردوغان كل دعمهم، ومديحهم، إلا أنهم لا يريدون أن يستوعبوا حقيقة أن تركيا دولة علمانية وديموقراطية. وبدل استنتاج الدروس من التجربة التركية، أو من تجربة حزب العدالة والتنمية، يريدون، في الأغلب، أن يطبقوا مفاهيمهم وتجربتهم عليه، أو على التجربة السياسية في تركيا، وهو الأمر الذي ينظر إليه من قبل معظم النخب التركية باستغراب، بل وباستهجان، حتى أن عمر فاروق (إعلامي تركي بارز وعمل سابقاً مستشاراً لرئيس الحكومة السابق محمد داوود أوغلو)، خاطبهم بصراحة قائلاً: “أفشلتم المشروع الديموقراطي في بلادكم ولا نريدكم أن تفشلوه في تركيا. تركيا دولة وطنية وديموقراطية”.
رسائل مجروحة من غزة : “امتى بدنا نخلص من ها الصراع وها العيشة وها المسرحية؟”