بعد الحكم الثالث بالسجن المؤبّد، الصادر بحقّه في آذار (مارس) ٢٠١٧، استهلّت محكمة باريس نهار مطلع هذا الشهر النظر في الاستئناف الذي قدّمه إليتش راميريز سانشيز المعروف باسم “كارلوس” في قضية التفجير الذي طاول مركز “دراغستور بابليسيس” التجاري في شارع سان جرمان في العاصمة الفرنسية باريس في ١٥ أيلول (سبتمبر) عام ١٩٧٤ والذي خلّف قتيلين و٣٤ جريحاً.
الاستئناف الذي جاء بطلب من فريق الدفاع الذي تترأسه محامية كارلوس، وزوجته في الوقت عينه، إيزابيل كوتان بيار ستستمرّ جلساته حتى ١٨ آذار(مارس) الجاري، في ظلّ دعوة مكرّرة من الدفاع لإطلاق سراح كارلوس أو تسليمه للسلطات الفنزويلية، الأمر الذي ترفضه فرنسا في شكل مطلق بعد إدانة كارلوس بأربعة اعتداءات إرهابية على الأراضي الفرنسية في سبعينات وثمانينات القرن الماضي خلّفت ١١ قتيلاً وثمانين جريحاً.
في الجلسة الافتتاحية التي أرادها كارلوس علنية ومفتوحة أمام الإعلام والجمهور (ورفض المحكمة لطلبه)، دخل “الثعلب” الذي كان لسنوات طويلة المطلوب رقم واحد في أوروبا والعالم، مبتسماً، ممازحاً الصحافيين ورافعاً قبضته أمام الكاميرا، بشكل يوحي باستعداده لعرض مسرحي جديد تمرّس كارلوس في أدائه منذ الجلسات الأولى للمحاكمة عام ١٩٩٧، ثلاث سنوات بعد إلقاء القبض عليه من عملاء المخابرات الفرنسية في العاصمة السودانية الخرطوم.
طفولة غير عادية وشباب ثوري ماركسي
ولد إليتش راميريز سانشيز في ١٢ تشرين الأول (أوكتوبر) عام ١٩٤٩ في كاراكاس في فنزويلا لأب يدعى خوسيه راميريز عرف كمحامٍ ماركسي ثريّ، وأمّ كاثوليكية محافظة تدعى ألبا سانشيز. وقد أخذ اسمه الأول غير المألوف عن أبيه الذي أطلق على أبنائه الثلاثة أسماء: فلاديمير وإليتش ولينين.
تأثّر إليتش في طفولته بقصة جدّه الذي كان شيوعياً عنيداً، قاد ثورة فاشلة ضد الحكم في فنزويلا، وسرعان ما التحق في عمر العاشرة بالحركة الشيوعية للشباب في بلاده. ولكن عندما أصبح في سنّ المراهقة بدأ يعاني من نظرة احتقار في محيطه الأهلي، إذ كان رفاقه يهزأون به بسبب السمنة التي كانت ظاهرة عليه، حتى أنهم كانوا يطلقون عليه في “ليسيه فيرمان تورو دي كاراكاس” لقب El Gordo الذي يعني “السمين” في اللغة الإسبانية. كان إليتش يردّ دائماً “سيأتي يوم ويستمع العالم كله إلى صوتي”.
بعد انفصال والديه عام ١٩٦٦، سافر إليتش مع والدته للدراسة في البوليتيكنيك سكول في لندن، وفي الوقت الذي بدأ فيه تعلّم الإنكليزيه كان والده يضغط على السفارة السوفياتية في لندن لقبول ابنه في جامعة باتريس لومومبا في موسكو، وقد نجح في الأمر بعد أن أقنع إليتش بضرورة إكمال دراسته هنالك. في الجامعة، تعلّم إليتش مبادئ الماركسية وتشرّب من مناهجها السوفياتية، لكنّه لم يكن ميّالاً أبداً للإيديولوجيا، بمقدار ما كان يستهويه النمط الثوري، لذلك غادر موسكو إلى عمّان عام ١٩٧٠ بعد أن التقى طلاباً فلسطينيين على مقاعد الدراسة.
في الجبهة الشعبية: فشل العمليات وحب الظهور
سيتحوّل إليتش فعلياً إلى كارلوس بعد مروره في معسكرات التدريب التابعة للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في الصحراء الأردنية. في هذا التنظيم وجد الشاب ما كان يبحث عنه منذ أن بدأ وعيه السياسي يتشكّل. من بين عشرات التنظيمات الفلسطينية اختار إليتش الجبهة الشعبية، لارتباطها باسم وديع حداد، وتصدّرها المشهد الذي لطالما كان كارلوس يتوق إليه: العنف الثوري. العنف ذاته الذي تحوّل إلى “عمليات إرهاب الدولة”، بعد خروجه باكراً من الجبهة.
بعد أحداث “أيلول الأسود” عام ١٩٧٠ في الأردن والتي شاهدها كارلوس بأم العين، أصبح رسمياً عضواً في الجبهة، وعاد إلى لندن لجمع معلومات عن أهداف محتملة من شركات ورجال أعمال يهود بارزين. بدأ الرجل يشعر بالإحباط بعد سنة ونصف السنة في الجبهة، من دون أن يشارك بأي عملية وأعرب في تلك الفترة لصديقه محمد بودية عن تململه من وضعه الحالي.
بعد اغتيال بودية بسيارة مفخخة، طمع كارلوس بمنصب المسؤول الأول عن عمليات الجبهة في أوروبا الغربية، لكنّ وديع حداد اختار العميل السري للجبهة في باريس ميشال مكربل للإشراف على عمل الجبهة في أوروبا. زاد إحباط كارلوس وغضبه.
أخيراً، أوكل وديع حداد المهمة الأولى لكارلوس وكانت: اغتيال رجل أعمال يهودي بارز انتقاماً لاغتيال بودية. في كتابه “كارلوس، الشبكات السرية للإرهاب الدولي”، يقول برنارد فيوليه، إنّ كارلوس اختار لائحة بأسماء رجال أعمال يهود في لندن، لكنّه رسا على نائب رئيس الاتحاد الصهيوني في لندن وصاحب سلسلة متاجر Marks and spencer جوزيف سيف.
في سانت جونز وود في العاصمة البريطانية حيث منزل سيف، كانت أولى العمليات التي يقوم بها كارلوس، لكنّها فشلت فشلاً ذريعاً، على رغم نجاحه في الوصول إلى سيف وإطلاق الرصاص عليه من مسافة قريبة. لم يمت سيف، إذ منعت صلابة أسنانه من تحوّل الرصاصة إلى شريان دموي ونجا من العملية بأعجوبة.بعدها أخذ كارلوس قرار تفجير مصرف هابوئليم اليهودي في لندن ،لكنّ القنبلة التي وضعها لم تنفجر وفشلت العملية. وعلى رغم فشل العمليتين، إلا أن كارلوس استطاع أن يحقق جزءاً من الهدف الذي كانت تقول الجبهة أنها تسعى اليه من وراء عملياتها: أن تُسمِع العالم صوت قضية فلسطين.
في صيف عام ١٩٧٤ حطّ كارلوس رحاله في باريس. المدينة التي ستكون نقطة تحوّل رئيسة في حياته. بدأ العمل مع ميشال مكربل وقاما بتفجير ثلاث صحف فرنسية ومبنى راديو فرنسا بسبب ممالأتها للصهيونية كما قالوا، لكنّ القنابل التي كانت تنفجر في كل مرة لم تخلّف ضحايا. في أيلول من العام ذاته قرّر كارلوس تفجير مركز تجاري في قلب العاصمة الفرنسية في حي سان جرمان. كانت تلك العملية الأولى من نوعها التي تتعرّض لها باريس. وأصبحت تلك اللحظة مفصلية في مسيرة كارلوس الذي “يقاتل الإمبريالية والبرجوازية والصهيونية” فيقتل “مواطنين فرنسيين” ويجرح العشرات. كان رد فعل وديع حداد غاضباً من تصرّف كارلوس، وساءت العلاقة بين ميشال مكربل وكارلوس حتى وصلت إلى تملّص مكربل من العمل الإرهابي، واعترافه بعد التحقيق معه إثر توقيفه بعد عملية أورلي، بأنّ كارلوس نفّذ العملية بشكل فرديّ.
تأزّمت الأمور بعد أن وافق مكربل على مرافقة ثلاثة ضباط أمنيين فرنسيين إلى شارع تولييه في الحي اللاتيني في باريس. بعد دخول شقة كارلوس واستجوابه من الضباط الفرنسيين برفقة مكربل، تأكّد كارلوس أنّ رفيقه قد باعه لينفذ بجلده. أخرج مسدّسه وقتل مكربل وضابطين فرنسيين. في الليلة ذاتها فرّ “الثعلب” من باريس بجواز سفر مزوّر إلى بيروت. كان غضب الجبهة وحداد قد بلغ ذروته بسبب قتل مكربل، الرجل الذي أسّس البنى التحتية للجبهة في أوروبا الغربية، رصاصة واحدة كانت كفيلة بتدمير عمل عمره ٦ سنوات.
تنامت أسطورة كارلوس في الإعلام بشكل سريع وأصبح اسمه يتصدّر مانشيت الصحف العالمية. وجاءت عملية اختطاف وزارء النفط في فيينا، المدينة المحايدة الهادئة منذ اندلاع الحرب الباردة، لتعيد تسليط الضوء على كارلوس في الجبهة الشعبية بعد الخلافات مع وديع حداد وأصوات أخرى بدأت تتذمّر من تحوّل الرجل إلى حالة عصابية لا تكترث للنتائج بمقدار ما يهمّها التنامي والظهور. كلّفت مهمة اختطاف الرهائن لكارلوس وطُلِب منه قتل وزير النفط السعودي أحمد زكي اليماني ووزير النفط الإيراني جامشي أموسكار. أظهرت تلك العملية شخصية كارلوس المتناقضة: الرجل المغرور الذي يدخل إلى المبنى بمسدسه صارخاً “أنا كارلوس وأنتم تعرفوني جيداً”، والإنسان المتقلّب المزاج الذي يمزح مع الرهائن في الطائرة ويترك لهم تواقيع شخصية ويكتب رسالة لأمه ويسلّمها إلى وزير النفط الفنزويلي.
كان كارلوس مسرحياً في كلّ عملياته، وكان مهجوساً بالشهرة والأضواء.
بعيداً من الجبهة: ماغدالينا كوب والثمانينات الدموية
بعد فشل عملية أوبك، طُرِد كارلوس من الجبهة الشعبية في شباط (فبراير) ١٩٧٦ وهمس لاحقاً على لسان جورج حبش أنّ “أمثال كارلوس لم يؤمنوا يوماً بقضية الجبهة وساهموا بأذيتها أكثر من إفادتها”، وتحوّل إلى محارب غير ايديولوجي مجدداً، يقدّم خدمات لمن يدفع أكثر، فأسّس منظمة النضال المسلّح العربي، وأمسى سمسار محاربين في ليبيا وسوريا مطلع الثمانينات.
والباحث عن سيرة كارلوس في تلك الفترة أمكنه التأكد من حتمية نزوح الرجل إلى سياق دموي بعد سنة ٨٢، السنة التي شهدت اعتقال حبيبته ماغدالينا كوب، عضو الخلايا الثورية الألمانية الشرقية أثناء قيادتها سيارة مليئة بالمتفجرات في العاصمة الفرنسية. أصبحت فرنسا هدف كارلوس الأول، وفي تلك المرحلة رأى العالم طبيعة كارلوس العنيفة التي لم تتبدَّ بشكل واضح في العمليات التي نفّذها لمصلحة الجبهة الشعبية.
من جملة الأهداف الفرنسية التي تبنّاها كارلوس، وهو لم يخفِ يوماً مسؤوليته عنها، قتل ١٥٠٠ شخص (بينهم ٨٠ بشكل مباشر) في جلسة المرافعة الأولى عام ٢٠١٤، تفجير المركز الثقافي الفرنسي في بيروت عام ١٩٨٢ وتفجير قطار يقلّ ركاباً فرنسيين ذهب ضحيته ٥ أشخاص وجرح ٢٧، ثم قيامه بتفجير سيارة قرب السفارة الفرنسية في بيروت أسفر عن قتل ١١ شخصا، ليختتم المسلسل في ليلة رأس السنة حين قامت مجموعة تابعة له بتفجير قطارين فائقي السرعة بين تولوز ومرسيليا وأدّى ذلك إلى مقتل ٧ ركّاب.
لم تكن تلك العمليات ذات بعد ايديولوجي ولم تكن مناصرة لقضية فلسطين، ولم تقتل سوى مدنيين فرنسيين وكان دافعها واضحا عبّر عنه كارلوس في مطالباته المتكررة “أطلقوا سراح ماغدالينا لينتهي الجحيم”.
خرجت ماغدالينا من السجن عام ١٩٨٥ بعد قضاء محكوميتها وهربت مع زوجها إلى الشرق الأوسط. استقرّا في دمشق وأنجبا طفلة وتحوّلت حياة “الثعلب” إلى الصورة الأولى التي انتفض عليها في شبابه “البرجوازية”. تعرّف كارلوس إلى صبية تدعى لانا فتزوّج منها وغادر دمشق إلى السودان بداية التسعينات.
كانت السودان رافعة الإرهاب ومأوى تنظيم القاعدة في بداية التسعينات وكانت أنظار الغرب تتركّز على شخص واحد آنذاك: أسامة بن لادن. الزعيم الإسلامي الجهادي الذي رأى فيه كارلوس “رمزاً للثورة الحديثة ومقارعة الإمبريالية”. وعبّر عن إعجابه بأسلوب العمليات التي خطّط لها ونفذها في كتابه “الإسلام الثوري” الصادر عام ٢٠٠٣.
في ١٤ آب (أغسطس) ١٩٩٤ ألقى عملاء المخابرات الفرنسية القبض على كارلوس في الخرطوم.
وعلى رغم الحكم عليه بالسجن المؤبد في قضية قتل الضابطين الفرنسيين ووضعه في سجن انفرادي، فإنّ الرجل لم يتخلّف عن عاداته، المسرح والجمهور حاضران: من الإضراب عن الطعام سنة ٩٨ إلى زواجه من محاميته ايزابيل كوتان بيار، التي يتقاطع معها كثيراً في المعاش- وإسلامه في السجن وتوجيهه التحية لهجمات أيلول على مركزي التجارة العالمي والبنتاغون. في تلك الفترة، خرجت زوجته السابقة ماغدالينا في كتاب عن حياتها مع كارلوس تتحدّث فيه عن شخصيته الغاوية، التي تحب النساء والبذخ واعتبرت نفسها “واحدة من ضحايا الثعلب”.
عام ٢٠١١ أعيد فتح ملف التفجيرات الإرهابية في محكمة باريس وكانت الجلسات مقطعاً جديداً من مسرحية طويلة: كان كارلوس سعيداً جداً، هنالك الجمهور والكاميرا وساحة يتنفّس فيها بعيداً من سجنه. كان يتوجّه إلى الجمهور بين الحين والآخر ليخبرهم نكاتاً وكان بعض الحضور يتفاعل معه. كانت المحكمة صالة عرض انتهت بغضب أهالي الضحايا ومغادرتهم الجلسة وأقفلت مرة جديدة على رفض كارلوس تلك الاتهامات وطلبه الاستئناف.
مرة جديدة حكمت محكمة الجنايات الخاصة في باريس بالسجن المؤبد على كارلوس في آذار ٢٠١٧ في قضية “دراغستور” سان جرمان ليعاد فتح الملف مجدداً، بعد طلبه الاستئناف، على رغم إصرار الادعاء على اعتراف الرجل بمسؤوليته عن العمل الإرهابي في حوار مع مجلة الوطن العربي عام ١٩٧٩.
في كل مرّة يعود كارلوس إلى المحكمة، يسيل حبر كثير في الصحافة العالمية وتعود هالة الشهرة، التي ما لبثت تخبو في غيابه عن المسرح، تلك المسافة الفاصلة بين محاكمة وأخرى، لتحيط به. لقد تغلّب اسم كارلوس على اسم إليتش راميريز سانشيز وانتصرت الأسطورة على القيمة الفعلية لظروف نشأتها وتداولها وأصبح الحديث عن “الثعلب” سبباً رئيسياً، ليستمرّ الرجل في كتابة فصل جديد من مسرحيته.[video_player link=””][/video_player]
كارلوس أمام الاستئناف مجدداً: “لست نادماً والثورة مهنتي”
في كل مرّة يعود كارلوس إلى المحكمة، يسيل حبر كثير في الصحافة العالمية وتعود هالة الشهرة، التي ما لبست تخبو في غيابه عن المسرح، تلك المسافة الفاصلة بين محاكمة وأخرى، لتحيط به. لقد تغلّب اسم كارلوس على اسم إليتش راميريز سانشيز، وانتصرت الأسطورة على القيمة الفعلية لظروف نشأتها وتداولها وأصبح الحديث عن “الثعلب” سبباً رئيسياً، ليستمرّ الرجل في كتابة فصل جديد من مسرحيته.
هل ستهتم الحكومة المصرية بجلسة حقوق الإنسان في الأمم المتحدة؟
الإمارات أنتجته والسعودية حذفته…حملة معلومات مضللة منسقة تهاجم “حياة الماعز”
“هالسيارة مش عم تمشي”… لكنها الحرب في ميس الجبل وليس في “ميس الريم”!
في كل مرّة يعود كارلوس إلى المحكمة، يسيل حبر كثير في الصحافة العالمية وتعود هالة الشهرة، التي ما لبست تخبو في غيابه عن المسرح، تلك المسافة الفاصلة بين محاكمة وأخرى، لتحيط به. لقد تغلّب اسم كارلوس على اسم إليتش راميريز سانشيز، وانتصرت الأسطورة على القيمة الفعلية لظروف نشأتها وتداولها وأصبح الحديث عن “الثعلب” سبباً رئيسياً، ليستمرّ الرجل في كتابة فصل جديد من مسرحيته.
بعد الحكم الثالث بالسجن المؤبّد، الصادر بحقّه في آذار (مارس) ٢٠١٧، استهلّت محكمة باريس نهار مطلع هذا الشهر النظر في الاستئناف الذي قدّمه إليتش راميريز سانشيز المعروف باسم “كارلوس” في قضية التفجير الذي طاول مركز “دراغستور بابليسيس” التجاري في شارع سان جرمان في العاصمة الفرنسية باريس في ١٥ أيلول (سبتمبر) عام ١٩٧٤ والذي خلّف قتيلين و٣٤ جريحاً.
الاستئناف الذي جاء بطلب من فريق الدفاع الذي تترأسه محامية كارلوس، وزوجته في الوقت عينه، إيزابيل كوتان بيار ستستمرّ جلساته حتى ١٨ آذار(مارس) الجاري، في ظلّ دعوة مكرّرة من الدفاع لإطلاق سراح كارلوس أو تسليمه للسلطات الفنزويلية، الأمر الذي ترفضه فرنسا في شكل مطلق بعد إدانة كارلوس بأربعة اعتداءات إرهابية على الأراضي الفرنسية في سبعينات وثمانينات القرن الماضي خلّفت ١١ قتيلاً وثمانين جريحاً.
في الجلسة الافتتاحية التي أرادها كارلوس علنية ومفتوحة أمام الإعلام والجمهور (ورفض المحكمة لطلبه)، دخل “الثعلب” الذي كان لسنوات طويلة المطلوب رقم واحد في أوروبا والعالم، مبتسماً، ممازحاً الصحافيين ورافعاً قبضته أمام الكاميرا، بشكل يوحي باستعداده لعرض مسرحي جديد تمرّس كارلوس في أدائه منذ الجلسات الأولى للمحاكمة عام ١٩٩٧، ثلاث سنوات بعد إلقاء القبض عليه من عملاء المخابرات الفرنسية في العاصمة السودانية الخرطوم.
طفولة غير عادية وشباب ثوري ماركسي
ولد إليتش راميريز سانشيز في ١٢ تشرين الأول (أوكتوبر) عام ١٩٤٩ في كاراكاس في فنزويلا لأب يدعى خوسيه راميريز عرف كمحامٍ ماركسي ثريّ، وأمّ كاثوليكية محافظة تدعى ألبا سانشيز. وقد أخذ اسمه الأول غير المألوف عن أبيه الذي أطلق على أبنائه الثلاثة أسماء: فلاديمير وإليتش ولينين.
تأثّر إليتش في طفولته بقصة جدّه الذي كان شيوعياً عنيداً، قاد ثورة فاشلة ضد الحكم في فنزويلا، وسرعان ما التحق في عمر العاشرة بالحركة الشيوعية للشباب في بلاده. ولكن عندما أصبح في سنّ المراهقة بدأ يعاني من نظرة احتقار في محيطه الأهلي، إذ كان رفاقه يهزأون به بسبب السمنة التي كانت ظاهرة عليه، حتى أنهم كانوا يطلقون عليه في “ليسيه فيرمان تورو دي كاراكاس” لقب El Gordo الذي يعني “السمين” في اللغة الإسبانية. كان إليتش يردّ دائماً “سيأتي يوم ويستمع العالم كله إلى صوتي”.
بعد انفصال والديه عام ١٩٦٦، سافر إليتش مع والدته للدراسة في البوليتيكنيك سكول في لندن، وفي الوقت الذي بدأ فيه تعلّم الإنكليزيه كان والده يضغط على السفارة السوفياتية في لندن لقبول ابنه في جامعة باتريس لومومبا في موسكو، وقد نجح في الأمر بعد أن أقنع إليتش بضرورة إكمال دراسته هنالك. في الجامعة، تعلّم إليتش مبادئ الماركسية وتشرّب من مناهجها السوفياتية، لكنّه لم يكن ميّالاً أبداً للإيديولوجيا، بمقدار ما كان يستهويه النمط الثوري، لذلك غادر موسكو إلى عمّان عام ١٩٧٠ بعد أن التقى طلاباً فلسطينيين على مقاعد الدراسة.
في الجبهة الشعبية: فشل العمليات وحب الظهور
سيتحوّل إليتش فعلياً إلى كارلوس بعد مروره في معسكرات التدريب التابعة للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في الصحراء الأردنية. في هذا التنظيم وجد الشاب ما كان يبحث عنه منذ أن بدأ وعيه السياسي يتشكّل. من بين عشرات التنظيمات الفلسطينية اختار إليتش الجبهة الشعبية، لارتباطها باسم وديع حداد، وتصدّرها المشهد الذي لطالما كان كارلوس يتوق إليه: العنف الثوري. العنف ذاته الذي تحوّل إلى “عمليات إرهاب الدولة”، بعد خروجه باكراً من الجبهة.
بعد أحداث “أيلول الأسود” عام ١٩٧٠ في الأردن والتي شاهدها كارلوس بأم العين، أصبح رسمياً عضواً في الجبهة، وعاد إلى لندن لجمع معلومات عن أهداف محتملة من شركات ورجال أعمال يهود بارزين. بدأ الرجل يشعر بالإحباط بعد سنة ونصف السنة في الجبهة، من دون أن يشارك بأي عملية وأعرب في تلك الفترة لصديقه محمد بودية عن تململه من وضعه الحالي.
بعد اغتيال بودية بسيارة مفخخة، طمع كارلوس بمنصب المسؤول الأول عن عمليات الجبهة في أوروبا الغربية، لكنّ وديع حداد اختار العميل السري للجبهة في باريس ميشال مكربل للإشراف على عمل الجبهة في أوروبا. زاد إحباط كارلوس وغضبه.
أخيراً، أوكل وديع حداد المهمة الأولى لكارلوس وكانت: اغتيال رجل أعمال يهودي بارز انتقاماً لاغتيال بودية. في كتابه “كارلوس، الشبكات السرية للإرهاب الدولي”، يقول برنارد فيوليه، إنّ كارلوس اختار لائحة بأسماء رجال أعمال يهود في لندن، لكنّه رسا على نائب رئيس الاتحاد الصهيوني في لندن وصاحب سلسلة متاجر Marks and spencer جوزيف سيف.
في سانت جونز وود في العاصمة البريطانية حيث منزل سيف، كانت أولى العمليات التي يقوم بها كارلوس، لكنّها فشلت فشلاً ذريعاً، على رغم نجاحه في الوصول إلى سيف وإطلاق الرصاص عليه من مسافة قريبة. لم يمت سيف، إذ منعت صلابة أسنانه من تحوّل الرصاصة إلى شريان دموي ونجا من العملية بأعجوبة.بعدها أخذ كارلوس قرار تفجير مصرف هابوئليم اليهودي في لندن ،لكنّ القنبلة التي وضعها لم تنفجر وفشلت العملية. وعلى رغم فشل العمليتين، إلا أن كارلوس استطاع أن يحقق جزءاً من الهدف الذي كانت تقول الجبهة أنها تسعى اليه من وراء عملياتها: أن تُسمِع العالم صوت قضية فلسطين.
في صيف عام ١٩٧٤ حطّ كارلوس رحاله في باريس. المدينة التي ستكون نقطة تحوّل رئيسة في حياته. بدأ العمل مع ميشال مكربل وقاما بتفجير ثلاث صحف فرنسية ومبنى راديو فرنسا بسبب ممالأتها للصهيونية كما قالوا، لكنّ القنابل التي كانت تنفجر في كل مرة لم تخلّف ضحايا. في أيلول من العام ذاته قرّر كارلوس تفجير مركز تجاري في قلب العاصمة الفرنسية في حي سان جرمان. كانت تلك العملية الأولى من نوعها التي تتعرّض لها باريس. وأصبحت تلك اللحظة مفصلية في مسيرة كارلوس الذي “يقاتل الإمبريالية والبرجوازية والصهيونية” فيقتل “مواطنين فرنسيين” ويجرح العشرات. كان رد فعل وديع حداد غاضباً من تصرّف كارلوس، وساءت العلاقة بين ميشال مكربل وكارلوس حتى وصلت إلى تملّص مكربل من العمل الإرهابي، واعترافه بعد التحقيق معه إثر توقيفه بعد عملية أورلي، بأنّ كارلوس نفّذ العملية بشكل فرديّ.
تأزّمت الأمور بعد أن وافق مكربل على مرافقة ثلاثة ضباط أمنيين فرنسيين إلى شارع تولييه في الحي اللاتيني في باريس. بعد دخول شقة كارلوس واستجوابه من الضباط الفرنسيين برفقة مكربل، تأكّد كارلوس أنّ رفيقه قد باعه لينفذ بجلده. أخرج مسدّسه وقتل مكربل وضابطين فرنسيين. في الليلة ذاتها فرّ “الثعلب” من باريس بجواز سفر مزوّر إلى بيروت. كان غضب الجبهة وحداد قد بلغ ذروته بسبب قتل مكربل، الرجل الذي أسّس البنى التحتية للجبهة في أوروبا الغربية، رصاصة واحدة كانت كفيلة بتدمير عمل عمره ٦ سنوات.
تنامت أسطورة كارلوس في الإعلام بشكل سريع وأصبح اسمه يتصدّر مانشيت الصحف العالمية. وجاءت عملية اختطاف وزارء النفط في فيينا، المدينة المحايدة الهادئة منذ اندلاع الحرب الباردة، لتعيد تسليط الضوء على كارلوس في الجبهة الشعبية بعد الخلافات مع وديع حداد وأصوات أخرى بدأت تتذمّر من تحوّل الرجل إلى حالة عصابية لا تكترث للنتائج بمقدار ما يهمّها التنامي والظهور. كلّفت مهمة اختطاف الرهائن لكارلوس وطُلِب منه قتل وزير النفط السعودي أحمد زكي اليماني ووزير النفط الإيراني جامشي أموسكار. أظهرت تلك العملية شخصية كارلوس المتناقضة: الرجل المغرور الذي يدخل إلى المبنى بمسدسه صارخاً “أنا كارلوس وأنتم تعرفوني جيداً”، والإنسان المتقلّب المزاج الذي يمزح مع الرهائن في الطائرة ويترك لهم تواقيع شخصية ويكتب رسالة لأمه ويسلّمها إلى وزير النفط الفنزويلي.
كان كارلوس مسرحياً في كلّ عملياته، وكان مهجوساً بالشهرة والأضواء.
بعيداً من الجبهة: ماغدالينا كوب والثمانينات الدموية
بعد فشل عملية أوبك، طُرِد كارلوس من الجبهة الشعبية في شباط (فبراير) ١٩٧٦ وهمس لاحقاً على لسان جورج حبش أنّ “أمثال كارلوس لم يؤمنوا يوماً بقضية الجبهة وساهموا بأذيتها أكثر من إفادتها”، وتحوّل إلى محارب غير ايديولوجي مجدداً، يقدّم خدمات لمن يدفع أكثر، فأسّس منظمة النضال المسلّح العربي، وأمسى سمسار محاربين في ليبيا وسوريا مطلع الثمانينات.
والباحث عن سيرة كارلوس في تلك الفترة أمكنه التأكد من حتمية نزوح الرجل إلى سياق دموي بعد سنة ٨٢، السنة التي شهدت اعتقال حبيبته ماغدالينا كوب، عضو الخلايا الثورية الألمانية الشرقية أثناء قيادتها سيارة مليئة بالمتفجرات في العاصمة الفرنسية. أصبحت فرنسا هدف كارلوس الأول، وفي تلك المرحلة رأى العالم طبيعة كارلوس العنيفة التي لم تتبدَّ بشكل واضح في العمليات التي نفّذها لمصلحة الجبهة الشعبية.
من جملة الأهداف الفرنسية التي تبنّاها كارلوس، وهو لم يخفِ يوماً مسؤوليته عنها، قتل ١٥٠٠ شخص (بينهم ٨٠ بشكل مباشر) في جلسة المرافعة الأولى عام ٢٠١٤، تفجير المركز الثقافي الفرنسي في بيروت عام ١٩٨٢ وتفجير قطار يقلّ ركاباً فرنسيين ذهب ضحيته ٥ أشخاص وجرح ٢٧، ثم قيامه بتفجير سيارة قرب السفارة الفرنسية في بيروت أسفر عن قتل ١١ شخصا، ليختتم المسلسل في ليلة رأس السنة حين قامت مجموعة تابعة له بتفجير قطارين فائقي السرعة بين تولوز ومرسيليا وأدّى ذلك إلى مقتل ٧ ركّاب.
لم تكن تلك العمليات ذات بعد ايديولوجي ولم تكن مناصرة لقضية فلسطين، ولم تقتل سوى مدنيين فرنسيين وكان دافعها واضحا عبّر عنه كارلوس في مطالباته المتكررة “أطلقوا سراح ماغدالينا لينتهي الجحيم”.
خرجت ماغدالينا من السجن عام ١٩٨٥ بعد قضاء محكوميتها وهربت مع زوجها إلى الشرق الأوسط. استقرّا في دمشق وأنجبا طفلة وتحوّلت حياة “الثعلب” إلى الصورة الأولى التي انتفض عليها في شبابه “البرجوازية”. تعرّف كارلوس إلى صبية تدعى لانا فتزوّج منها وغادر دمشق إلى السودان بداية التسعينات.
كانت السودان رافعة الإرهاب ومأوى تنظيم القاعدة في بداية التسعينات وكانت أنظار الغرب تتركّز على شخص واحد آنذاك: أسامة بن لادن. الزعيم الإسلامي الجهادي الذي رأى فيه كارلوس “رمزاً للثورة الحديثة ومقارعة الإمبريالية”. وعبّر عن إعجابه بأسلوب العمليات التي خطّط لها ونفذها في كتابه “الإسلام الثوري” الصادر عام ٢٠٠٣.
في ١٤ آب (أغسطس) ١٩٩٤ ألقى عملاء المخابرات الفرنسية القبض على كارلوس في الخرطوم.
وعلى رغم الحكم عليه بالسجن المؤبد في قضية قتل الضابطين الفرنسيين ووضعه في سجن انفرادي، فإنّ الرجل لم يتخلّف عن عاداته، المسرح والجمهور حاضران: من الإضراب عن الطعام سنة ٩٨ إلى زواجه من محاميته ايزابيل كوتان بيار، التي يتقاطع معها كثيراً في المعاش- وإسلامه في السجن وتوجيهه التحية لهجمات أيلول على مركزي التجارة العالمي والبنتاغون. في تلك الفترة، خرجت زوجته السابقة ماغدالينا في كتاب عن حياتها مع كارلوس تتحدّث فيه عن شخصيته الغاوية، التي تحب النساء والبذخ واعتبرت نفسها “واحدة من ضحايا الثعلب”.
عام ٢٠١١ أعيد فتح ملف التفجيرات الإرهابية في محكمة باريس وكانت الجلسات مقطعاً جديداً من مسرحية طويلة: كان كارلوس سعيداً جداً، هنالك الجمهور والكاميرا وساحة يتنفّس فيها بعيداً من سجنه. كان يتوجّه إلى الجمهور بين الحين والآخر ليخبرهم نكاتاً وكان بعض الحضور يتفاعل معه. كانت المحكمة صالة عرض انتهت بغضب أهالي الضحايا ومغادرتهم الجلسة وأقفلت مرة جديدة على رفض كارلوس تلك الاتهامات وطلبه الاستئناف.
مرة جديدة حكمت محكمة الجنايات الخاصة في باريس بالسجن المؤبد على كارلوس في آذار ٢٠١٧ في قضية “دراغستور” سان جرمان ليعاد فتح الملف مجدداً، بعد طلبه الاستئناف، على رغم إصرار الادعاء على اعتراف الرجل بمسؤوليته عن العمل الإرهابي في حوار مع مجلة الوطن العربي عام ١٩٧٩.
في كل مرّة يعود كارلوس إلى المحكمة، يسيل حبر كثير في الصحافة العالمية وتعود هالة الشهرة، التي ما لبثت تخبو في غيابه عن المسرح، تلك المسافة الفاصلة بين محاكمة وأخرى، لتحيط به. لقد تغلّب اسم كارلوس على اسم إليتش راميريز سانشيز وانتصرت الأسطورة على القيمة الفعلية لظروف نشأتها وتداولها وأصبح الحديث عن “الثعلب” سبباً رئيسياً، ليستمرّ الرجل في كتابة فصل جديد من مسرحيته.[video_player link=””][/video_player]