fbpx
ساهموا في دعم الإعلام المستقل و الجريء!
ادعموا درج

كامالا هاريس: ابنة الطبيبة والماركسي المغمور !

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

كامالا هي ابنةٌ لكيانين مختلفين، متناقضين، الأول هو إنسانٌ يواجه المنبع الأساسي للعنصرية الممأسسة، وتتصدّر قضايا التنمية المتكافئة والعدالة الاجتماعية لائحة اهتماماته وهمومه، والثاني هو “المؤسسة” الأميركية، بكل ما تمثّله من بيروقراطية ثقيلة، وسياسات خارجية رعناء، واتجاهات اقتصادية جائرة بحق معظم سكان الولايات المتحدة وعمالها.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

الكثير يُكتَب ويُقال عن كامالا هاريس وعن حملتها الانتخابية الرئاسية بعد انسحاب الرئيس الأميركي جو بايدن من السباق الرئاسي وتأييده ترشيحها عن الحزب الديمقراطي، لكن ما الذي نعرفه عن عائلتها ووالدها دونالد تحديداً؟

شيامالا جوبان: طبيبة وباحثة

والدة كامالا هي شيامالا جوبالان (1938-2009)، عالمة في الطب الحيوي وباحثة في مجال سرطان الثدي، وهي هندية المولد والجنسية من مجموعة التاميل العرقية، ومهاجرة إلى الولايات المتحدة. 

تعرّفت شيامالا على والد كامالا، دونالد هاريس، في جامعة كاليفورنيا في بيركلي وناضلت إلى جانبه في حركة الحقوق المدنية وحقوق السود في الولايات المتحدة. درست هي الطب فيما هو درس الاقتصاد. تزوّجا عام 1963 وانفصلا عام 1970 حين كانت كامالا تبلغ السبع سنوات فقط.

صورة تجمع شيامالا جوبالان مع ابنتها كامالا (المصدر: صفحة كامالا هاريس على موقع X)

الأخت الصغرى لكامالا هي مايا هاريس، محامية وكاتبة ناشطة في الحزب الديمقراطي، وكانت واحدة من ثلاثة مستشارين سياسيين كبار لجدول أعمال حملة هيلاري كلينتون الرئاسية عام 2016، ورئيسة الحملة الرئاسية لأختها كامالا عام 2020.

 كان لجوبالان التأثير الأكبر على تشكّل وعي كامالا وأختها مايا وانخراطهما في النشاط السياسي، إذ أمضتا معظم حياتهما بعيدتين عن والدهما بعد انفصاله عن والدتهما.

سافرت جوبالان وابنتيها إلى كندا بعدما أمضت بعض الوقت في أوروبا لإجراء أبحاث على سرطان الثدي، وذلك بعد حصولها على فرصة عمل في جامعة ماكجيل في مونتريال، وهناك عاشت كامالا منذ سن 12 عاماً حتى تخرّجها في المدرسة الثانوية.

تستمر كامالا هاريس بتكرار قصتها مع والدتها في المناسبات المهمّة (على سبيل المثال: خطابها في المؤتمر الوطني الديمقراطي حين أعلنت ترشحها لمنصب نائب الرئيس في آب/ أغسطس 2020)، وتستفيض في الحديث عنها، وكيف أن “شجاعتها وقواعدها الأخلاقية ساهمت في تشكيلها كشخصية وسياسية”، وكيف دفعتها إلى “رؤية عالم يتجاوز نفسها”، وعلّمتها أن “تكون واعية ومتعاطفة بشأن نضالات جميع الناس”… إلخ. لكنها لا تقول سوى القليل جداً عن والدها، فمن هو والد كامالا، ولماذا لا تقول عنه شيئاً يستحق الذكر؟ وهل الأسباب شخصية أم أيديولوجية؟

دونالد جاسبر هاريس: اقتصادي ماركسي!

والد كامالا هو دونالد جاسبر هاريس، اقتصادي جامايكي أسود مهاجر إلى الولايات المتحدة. لا يزال هاريس الأب حياً، وقد قاطع حضور أهم المناسبات السياسية لابنته على رغم احتفاظهما بالجانب الاجتماعي من علاقتهما. 

وكان لافتاً توبيخه العلني لابنته كامالا عام 2019 رداً على نكتة أطلقتها الأخيرة حول تراثها الجامايكي، إذ اتهمها بتكريس “الصورة النمطية الاحتيالية” حول الشعب الجامايكي المتّصلة “بالبحث عن المتعة وتدخين الماريجوانا”، ووضَع مقولتها في إطار “السعي وراء سياسات الهوية”.

A group of people posing for a photo Description automatically generated

صورة حديثة تجمع دونالد هاريس مع ابنتيه كامالا ومايا (المصدر: جامايكا غلوبال أونلاين)

يبدو التناقض الفكري والسياسي بين دونالد وابنته كامالا مثيراً، إذ يتّضح من أعمال الأب البحثية مدى تأثره بالأفكار الماركسية، على رغم انتقاده بعض جوانب النظرية الماركسية الكلاسيكية في الاقتصاد، وهو من أتباع مدرسة “ما بعد الكينزية”، ويهتم بشكل أساسي باقتصاديات التنمية.

 ركّزت أبحاثه على التنمية غير المتكافئة انطلاقاً من علاقة عدم المساواة الاقتصادية بعملية التراكم الرأسمالي في اقتصاد السوق. ويمكن إيجاد أبحاثه ومنشوراته في المكتبة الإلكترونية لجامعة ستانفورد التي كان أستاذاً فخرياً فيها. 

واللافت أيضاً، عدم تركيز وسائل الإعلام الأميركية على هذا الجانب الفكري والسياسي لوالد كامالا، إذ تكتفي غالبية الكتابات بذكر أبحاثه حول التنمية ومساهمته كمستشار اقتصادي للحكومات الجامايكية المتعاقبة، فيما تذكر بعض الكتابات تأثره بالماركسية بشكل عرضي.

الغيتو الأسود

أعمال دونالد هاريس البحثية والنظرية كثيرة، وتتناول مواضيع عدة تتعلق بالاقتصادين الأميركي والجامايكي واقتصادات دول البحر الكاريبي، إضافة إلى مراجعات ومساهمات نقدية عدة يتمحور جزء كبير منها حول الاقتصاد الكلي ودراسة بنية العلاقات الاقتصادية من وجهة نظر ماركسية. 

لكن كتاب “الغيتو الأسود كـ”مستعمرة داخلية”: نقد نظري وصياغة بديلة” عام 1972، لفت انتباهي بشكل خاص أثناء تصفّحي بعض أعماله، إذ تجاوز فيه هاريس حاجز الهوية الذاتية المرتبطة بلون البشرة، وأثبت نظرته الموضوعية ومنهجيته العلمية الشمولية، مقاتلاً النزعة الهوياتية المتنامية بين بعض المفكّرين السود عن “الغيتوهات السوداء”.

تلك النزعة تعزّز بدورها الصور النمطية العنصرية انطلاقاً من إسقاطات تاريخية تُمارَس على الحاضر والمستقبل، ومعيداً تفسير “الاستغلال” من منطلقات ماركسية رافضاً التفسير الهوياتي الضيّق، وذلك في رد على كتاب “الاقتصاد السياسي للغيتو الأسود” لأستاذ الاقتصاد والعلوم السياسية ويليام تاب عام 1970، قبل أن يرد الأخير عام 1974 في كتاب آخر هو “الاستغلال الماركسي والاستعمار المحلي: رد على دونالد ج. هاريس”.

يقدّم هاريس في نقد تاب دراسةً للجذور التاريخية للغيتو الأسود، ويطرح تفسيراً أكثر ديناميكية وتاريخانية لفهم المجتمعات السوداء في الولايات المتحدة الأميركية. 

 يرفض هاريس أطروحة “المستعمرة الداخلية” التي تشير إلى أن الأميركيين السود الذين يعيشون في الغيتوهات يشبهون “الشعوب المستعمَرة”، ويخضعون للسيطرة الخارجية والاستغلال من المجتمع الأبيض المهيمن بكليّته الذي لا يتجزأ اجتماعياً، بل يجادل بأن الطبقة العاملة لا يمكن تقسيمها إلى سوداء وبيضاء.

يرى هاريس أيضاً أن الاستغلال لا يمكن تقسيمه إلى أسود وأبيض، لأن ميكانيزمات الاستغلال في النظام الاقتصادي لا تتبدّل بتبدل لون البشرة، على الرغم من وجود خصوصيات معينة هنا وهناك في فترات تاريخية معينة، لكن الخصوصيات تشكل استثناءات للقاعدة المركزية، وليس العكس. وفي الوقت نفسه، يدعو إلى عدم تهميش نضالات المجتمعات السوداء، والتركيز أكثر على فعالية مقاومتها التاريخية والنتائج التي انبثقت عنها عوضاً عن التركيز على الجانب المتعلق بالمظلومية.

A person holding a baby Description automatically generated

دونالد هاريس يحمل ابنته كامالا في نيسان/ أبريل 1965 (المصدر: وكالة أسوشييتد برس)

رفض المظلوميّة الهوياتيّة

يقاوم هاريس منذ سبعينات القرن الماضي، عملية توظيف المظلومية الهوياتية لإنتاج المفاهيم الضبابية والتبسيطية التي لا تأخذ بالاعتبار تعقيدات البنية الاجتماعية الرأسمالية، وتقود في نهاية المطاف إلى حالة من الاغتراب السياسي.

يقف هاريس تماماً بعكس حملة الحزب الديمقراطي التي تتصدّر واجهتها ابنته كامالا، إذ يتم تقديمها لمواجهة ترامب، بأسلوب رمزي ساذج، كامرأة سوداء من أصول جنوب آسيوية. كما لو أن اعتبار “الانتماء الهوياتي” سلاحاً في المواجهة لا يصبّ في خدمة النموذج الترامبي الغارق في سياسات الهوية. 

لا يمكن إنكار أن لون البشرة والنوع الاجتماعي يلعب دوراً رمزياً كبيراً في مواجهة رجلٍ أبيض ثريّ وكاره للنساء يمثل اتجاهاً فاشياً صاعداً، لكن هذه الرمزية ليست موقفاً سياسياً بحد ذاتها، ولا هي بسلاحٍ قادر على كسر شوكة ترامب وإبطاء صعود اليمين المتطرّف في أنحاء الولايات المتحدة وأميركا الشمالية كافة، بل العكس من ذلك تماماً.

يهاجم دونالد هاريس بوضوح سياسات الهوية منذ وقت طويل، إذ يقول في كتابه المشار إليه أعلاه: “ﻻ يمكن إنكار أن السود في أميركا يتعرضون إلى حد ما للتمييز والعزل واﻻضطهاد، وإن كان من الصعب إنكار المعنى الدقيق الذي تستخدم فيه هذه المصطلحات. وقد يكون من الأفضل استخدامها للإشارة إلى القيود والتجاوزات العلنية (والسرية) من مختلف الأنواع المرتبطة بأنماط السلوك الفردي، أو القيود المؤسسية وما شابه ذلك، التي تمارس ضد السود بسبب العرق. أما القول بأن السود يتعرضون للاستغلال فهو شيء آخر.”. 

ويضيف: “تقوم المناقشة على افتراض أن المنطق الداخلي للرأسمالية وقوانينها المتعلقة بالظروف التاريخية الخاصة لأميركا هو ما نحتاج إلى فهمه. فقط من خلال هذا الفهم يمكننا أن ندرك بشكل كافٍ وضع السود في أميركا. ولهذا الغرض، لا تساعدنا المصطلحات ولا أدوات “اقتصاديات التنمية” المعيارية كثيراً”.

ويتابع: “السمة الأساسية للغيتو هي أنه مجال يسيطر عليه الرأسمالي الصغير، الذي تمثله عادةً الشركات العائلية الصغيرة. ويمكننا أن نجمع في هذه الفئة العامة أصحاب العقارات والتجار وورش التصليح ومؤسسات التصنيع الصغيرة… التي تنتشر في الغيتو. ويمكننا أن نسمي هذا المجال بالرأسمالية الصغيرة. (في الواقع، الغيتو ليس سوى جزء من هذا المجال)”. 

ويردف قائلاً: “كانت عملية التوسع الرأسمالي طوال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر على نحو جعل من الحدود الجغرافية أو حتى الوطنية البحتة أمراً لا معنى له. وكانت نتيجة هذه العملية، تكثيف تطوّر علاقات الإنتاج الرأسمالية في المناطق المستعمرة ودمج هذه المناطق في نظام رأسمالي غير متطور بشكل متساوٍ ولكنه عالمي. وفي حالة السود، انطوت العملية أيضاً على الإبعاد الجسدي للأجداد الأفارقة من مناطق ولادتهم وجذورهم الثقافية ليتم زرعهم كعمال عبيد في المناطق الداخلية لحاضرة أميركا الشمالية وأماكن أخرى في الأميركيتين ومنطقة البحر الكاريبي. ولذلك، ليس من المستغرب أن يصعب التمييز، ظاهرياً على أي حال، بين الوضع الداخلي في المركز الرأسمالي والوضع في المستعمرة.”. 

ويكمل: “بصرف النظر عن الاختلاف في مستوى التنمية والاختلاف المحتمل في معدل الاستغلال، فإن الفصل بين المستعمرة والحاضرة كان في جزء منه مجرد فصل جغرافي، كما كان ينطوي على اختلافات ثقافية وعرقية واضحة”.

يضع هاريس الأب مسألة العنصرية في نصابها المادي، مصوباً على البنية الاقتصادية والطبقية للمجتمع، إذ لا يمكن، بنظره، اعتبار التمييز العنصري مسألة منفصلة عن الاقتصاد. فالنظام الاقتصادي في المكان والزمان المعينين يستند إلى علاقات إنتاج محددة، وفي حالة العلاقات العبودية في الولايات المتحدة الأميركية، حيث يتم استغلال من هم أضعف وأقل قدرة على الدفاع عن أنفسهم، من أي لونٍ أو عرق كانوا، للعمل في الحقول ومراكمة أكبر قدرٍ ممكن من فائض القيمة لصالح “السيد الأبيض”، اعتُبر السود من أصول أفريقية أقل قيمة من البيض تماماً على أساس “الفصل بين المستعمرة والحاضرة”، وليس لأن الطفل الأبيض يولد سيداً يملك وعي السيد، فيما يولد الطفل الأسود عبداً يملك وعي العبد.

انطلاقاً من هذا الفصل الطبقي والجغرافي في آن، تتفشى أشكال مختلفة من الكراهية العنصرية، وتنعكس في الثقافة واللغة والأيديولوجيا كما في القوانين والسياسات.

 ويُعاد إنتاج هذه الثقافة القائمة على الكراهية العنصرية بأشكال مختلفة، وفي أزمنة مختلفة، على رغم اضمحلال الجزء الأكبر من العلاقات المادية التي قامت على أساسها في زمانٍ سابق، لأنها نتاج تراكمٍ تاريخي. 

تلعب “سياسات الهوية” دوراً في إعادة إنتاج هذه الثقافة، فتلك السياسات لا تنفك تؤكّد الشيء ونقيضه، فإن اتخذت أشكالاً معاكسة للحركة القومية البيضاء، على أساس “القوة السوداء”، عزّزت الاتجاهين القائمين على الهوية الذاتية في الوقت نفسه. وهذا ما يقوم به الآن إعلام الحزب الديمقراطي، من خلال تركيزه على لون بشرة وأصول كامالا هاريس الجنوب آسيوية، وكأنهما يشكلان موقفاً وخطاباً ومشروعاً سياسياً بحد ذاتهما، على رغم رمزيتهما.

في النهاية، كامالا هي ابنةٌ لكيانين مختلفين، متناقضين، الأول هو إنسانٌ يواجه المنبع الأساسي للعنصرية الممأسسة، وتتصدّر قضايا التنمية المتكافئة والعدالة الاجتماعية لائحة اهتماماته وهمومه، والثاني هو “المؤسسة” الأميركية، بكل ما تمثّله من بيروقراطية ثقيلة، وسياسات خارجية رعناء، واتجاهات اقتصادية جائرة بحق معظم سكان الولايات المتحدة وعمالها.

30.07.2024
زمن القراءة: 7 minutes

كامالا هي ابنةٌ لكيانين مختلفين، متناقضين، الأول هو إنسانٌ يواجه المنبع الأساسي للعنصرية الممأسسة، وتتصدّر قضايا التنمية المتكافئة والعدالة الاجتماعية لائحة اهتماماته وهمومه، والثاني هو “المؤسسة” الأميركية، بكل ما تمثّله من بيروقراطية ثقيلة، وسياسات خارجية رعناء، واتجاهات اقتصادية جائرة بحق معظم سكان الولايات المتحدة وعمالها.

الكثير يُكتَب ويُقال عن كامالا هاريس وعن حملتها الانتخابية الرئاسية بعد انسحاب الرئيس الأميركي جو بايدن من السباق الرئاسي وتأييده ترشيحها عن الحزب الديمقراطي، لكن ما الذي نعرفه عن عائلتها ووالدها دونالد تحديداً؟

شيامالا جوبان: طبيبة وباحثة

والدة كامالا هي شيامالا جوبالان (1938-2009)، عالمة في الطب الحيوي وباحثة في مجال سرطان الثدي، وهي هندية المولد والجنسية من مجموعة التاميل العرقية، ومهاجرة إلى الولايات المتحدة. 

تعرّفت شيامالا على والد كامالا، دونالد هاريس، في جامعة كاليفورنيا في بيركلي وناضلت إلى جانبه في حركة الحقوق المدنية وحقوق السود في الولايات المتحدة. درست هي الطب فيما هو درس الاقتصاد. تزوّجا عام 1963 وانفصلا عام 1970 حين كانت كامالا تبلغ السبع سنوات فقط.

صورة تجمع شيامالا جوبالان مع ابنتها كامالا (المصدر: صفحة كامالا هاريس على موقع X)

الأخت الصغرى لكامالا هي مايا هاريس، محامية وكاتبة ناشطة في الحزب الديمقراطي، وكانت واحدة من ثلاثة مستشارين سياسيين كبار لجدول أعمال حملة هيلاري كلينتون الرئاسية عام 2016، ورئيسة الحملة الرئاسية لأختها كامالا عام 2020.

 كان لجوبالان التأثير الأكبر على تشكّل وعي كامالا وأختها مايا وانخراطهما في النشاط السياسي، إذ أمضتا معظم حياتهما بعيدتين عن والدهما بعد انفصاله عن والدتهما.

سافرت جوبالان وابنتيها إلى كندا بعدما أمضت بعض الوقت في أوروبا لإجراء أبحاث على سرطان الثدي، وذلك بعد حصولها على فرصة عمل في جامعة ماكجيل في مونتريال، وهناك عاشت كامالا منذ سن 12 عاماً حتى تخرّجها في المدرسة الثانوية.

تستمر كامالا هاريس بتكرار قصتها مع والدتها في المناسبات المهمّة (على سبيل المثال: خطابها في المؤتمر الوطني الديمقراطي حين أعلنت ترشحها لمنصب نائب الرئيس في آب/ أغسطس 2020)، وتستفيض في الحديث عنها، وكيف أن “شجاعتها وقواعدها الأخلاقية ساهمت في تشكيلها كشخصية وسياسية”، وكيف دفعتها إلى “رؤية عالم يتجاوز نفسها”، وعلّمتها أن “تكون واعية ومتعاطفة بشأن نضالات جميع الناس”… إلخ. لكنها لا تقول سوى القليل جداً عن والدها، فمن هو والد كامالا، ولماذا لا تقول عنه شيئاً يستحق الذكر؟ وهل الأسباب شخصية أم أيديولوجية؟

دونالد جاسبر هاريس: اقتصادي ماركسي!

والد كامالا هو دونالد جاسبر هاريس، اقتصادي جامايكي أسود مهاجر إلى الولايات المتحدة. لا يزال هاريس الأب حياً، وقد قاطع حضور أهم المناسبات السياسية لابنته على رغم احتفاظهما بالجانب الاجتماعي من علاقتهما. 

وكان لافتاً توبيخه العلني لابنته كامالا عام 2019 رداً على نكتة أطلقتها الأخيرة حول تراثها الجامايكي، إذ اتهمها بتكريس “الصورة النمطية الاحتيالية” حول الشعب الجامايكي المتّصلة “بالبحث عن المتعة وتدخين الماريجوانا”، ووضَع مقولتها في إطار “السعي وراء سياسات الهوية”.

A group of people posing for a photo Description automatically generated

صورة حديثة تجمع دونالد هاريس مع ابنتيه كامالا ومايا (المصدر: جامايكا غلوبال أونلاين)

يبدو التناقض الفكري والسياسي بين دونالد وابنته كامالا مثيراً، إذ يتّضح من أعمال الأب البحثية مدى تأثره بالأفكار الماركسية، على رغم انتقاده بعض جوانب النظرية الماركسية الكلاسيكية في الاقتصاد، وهو من أتباع مدرسة “ما بعد الكينزية”، ويهتم بشكل أساسي باقتصاديات التنمية.

 ركّزت أبحاثه على التنمية غير المتكافئة انطلاقاً من علاقة عدم المساواة الاقتصادية بعملية التراكم الرأسمالي في اقتصاد السوق. ويمكن إيجاد أبحاثه ومنشوراته في المكتبة الإلكترونية لجامعة ستانفورد التي كان أستاذاً فخرياً فيها. 

واللافت أيضاً، عدم تركيز وسائل الإعلام الأميركية على هذا الجانب الفكري والسياسي لوالد كامالا، إذ تكتفي غالبية الكتابات بذكر أبحاثه حول التنمية ومساهمته كمستشار اقتصادي للحكومات الجامايكية المتعاقبة، فيما تذكر بعض الكتابات تأثره بالماركسية بشكل عرضي.

الغيتو الأسود

أعمال دونالد هاريس البحثية والنظرية كثيرة، وتتناول مواضيع عدة تتعلق بالاقتصادين الأميركي والجامايكي واقتصادات دول البحر الكاريبي، إضافة إلى مراجعات ومساهمات نقدية عدة يتمحور جزء كبير منها حول الاقتصاد الكلي ودراسة بنية العلاقات الاقتصادية من وجهة نظر ماركسية. 

لكن كتاب “الغيتو الأسود كـ”مستعمرة داخلية”: نقد نظري وصياغة بديلة” عام 1972، لفت انتباهي بشكل خاص أثناء تصفّحي بعض أعماله، إذ تجاوز فيه هاريس حاجز الهوية الذاتية المرتبطة بلون البشرة، وأثبت نظرته الموضوعية ومنهجيته العلمية الشمولية، مقاتلاً النزعة الهوياتية المتنامية بين بعض المفكّرين السود عن “الغيتوهات السوداء”.

تلك النزعة تعزّز بدورها الصور النمطية العنصرية انطلاقاً من إسقاطات تاريخية تُمارَس على الحاضر والمستقبل، ومعيداً تفسير “الاستغلال” من منطلقات ماركسية رافضاً التفسير الهوياتي الضيّق، وذلك في رد على كتاب “الاقتصاد السياسي للغيتو الأسود” لأستاذ الاقتصاد والعلوم السياسية ويليام تاب عام 1970، قبل أن يرد الأخير عام 1974 في كتاب آخر هو “الاستغلال الماركسي والاستعمار المحلي: رد على دونالد ج. هاريس”.

يقدّم هاريس في نقد تاب دراسةً للجذور التاريخية للغيتو الأسود، ويطرح تفسيراً أكثر ديناميكية وتاريخانية لفهم المجتمعات السوداء في الولايات المتحدة الأميركية. 

 يرفض هاريس أطروحة “المستعمرة الداخلية” التي تشير إلى أن الأميركيين السود الذين يعيشون في الغيتوهات يشبهون “الشعوب المستعمَرة”، ويخضعون للسيطرة الخارجية والاستغلال من المجتمع الأبيض المهيمن بكليّته الذي لا يتجزأ اجتماعياً، بل يجادل بأن الطبقة العاملة لا يمكن تقسيمها إلى سوداء وبيضاء.

يرى هاريس أيضاً أن الاستغلال لا يمكن تقسيمه إلى أسود وأبيض، لأن ميكانيزمات الاستغلال في النظام الاقتصادي لا تتبدّل بتبدل لون البشرة، على الرغم من وجود خصوصيات معينة هنا وهناك في فترات تاريخية معينة، لكن الخصوصيات تشكل استثناءات للقاعدة المركزية، وليس العكس. وفي الوقت نفسه، يدعو إلى عدم تهميش نضالات المجتمعات السوداء، والتركيز أكثر على فعالية مقاومتها التاريخية والنتائج التي انبثقت عنها عوضاً عن التركيز على الجانب المتعلق بالمظلومية.

A person holding a baby Description automatically generated

دونالد هاريس يحمل ابنته كامالا في نيسان/ أبريل 1965 (المصدر: وكالة أسوشييتد برس)

رفض المظلوميّة الهوياتيّة

يقاوم هاريس منذ سبعينات القرن الماضي، عملية توظيف المظلومية الهوياتية لإنتاج المفاهيم الضبابية والتبسيطية التي لا تأخذ بالاعتبار تعقيدات البنية الاجتماعية الرأسمالية، وتقود في نهاية المطاف إلى حالة من الاغتراب السياسي.

يقف هاريس تماماً بعكس حملة الحزب الديمقراطي التي تتصدّر واجهتها ابنته كامالا، إذ يتم تقديمها لمواجهة ترامب، بأسلوب رمزي ساذج، كامرأة سوداء من أصول جنوب آسيوية. كما لو أن اعتبار “الانتماء الهوياتي” سلاحاً في المواجهة لا يصبّ في خدمة النموذج الترامبي الغارق في سياسات الهوية. 

لا يمكن إنكار أن لون البشرة والنوع الاجتماعي يلعب دوراً رمزياً كبيراً في مواجهة رجلٍ أبيض ثريّ وكاره للنساء يمثل اتجاهاً فاشياً صاعداً، لكن هذه الرمزية ليست موقفاً سياسياً بحد ذاتها، ولا هي بسلاحٍ قادر على كسر شوكة ترامب وإبطاء صعود اليمين المتطرّف في أنحاء الولايات المتحدة وأميركا الشمالية كافة، بل العكس من ذلك تماماً.

يهاجم دونالد هاريس بوضوح سياسات الهوية منذ وقت طويل، إذ يقول في كتابه المشار إليه أعلاه: “ﻻ يمكن إنكار أن السود في أميركا يتعرضون إلى حد ما للتمييز والعزل واﻻضطهاد، وإن كان من الصعب إنكار المعنى الدقيق الذي تستخدم فيه هذه المصطلحات. وقد يكون من الأفضل استخدامها للإشارة إلى القيود والتجاوزات العلنية (والسرية) من مختلف الأنواع المرتبطة بأنماط السلوك الفردي، أو القيود المؤسسية وما شابه ذلك، التي تمارس ضد السود بسبب العرق. أما القول بأن السود يتعرضون للاستغلال فهو شيء آخر.”. 

ويضيف: “تقوم المناقشة على افتراض أن المنطق الداخلي للرأسمالية وقوانينها المتعلقة بالظروف التاريخية الخاصة لأميركا هو ما نحتاج إلى فهمه. فقط من خلال هذا الفهم يمكننا أن ندرك بشكل كافٍ وضع السود في أميركا. ولهذا الغرض، لا تساعدنا المصطلحات ولا أدوات “اقتصاديات التنمية” المعيارية كثيراً”.

ويتابع: “السمة الأساسية للغيتو هي أنه مجال يسيطر عليه الرأسمالي الصغير، الذي تمثله عادةً الشركات العائلية الصغيرة. ويمكننا أن نجمع في هذه الفئة العامة أصحاب العقارات والتجار وورش التصليح ومؤسسات التصنيع الصغيرة… التي تنتشر في الغيتو. ويمكننا أن نسمي هذا المجال بالرأسمالية الصغيرة. (في الواقع، الغيتو ليس سوى جزء من هذا المجال)”. 

ويردف قائلاً: “كانت عملية التوسع الرأسمالي طوال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر على نحو جعل من الحدود الجغرافية أو حتى الوطنية البحتة أمراً لا معنى له. وكانت نتيجة هذه العملية، تكثيف تطوّر علاقات الإنتاج الرأسمالية في المناطق المستعمرة ودمج هذه المناطق في نظام رأسمالي غير متطور بشكل متساوٍ ولكنه عالمي. وفي حالة السود، انطوت العملية أيضاً على الإبعاد الجسدي للأجداد الأفارقة من مناطق ولادتهم وجذورهم الثقافية ليتم زرعهم كعمال عبيد في المناطق الداخلية لحاضرة أميركا الشمالية وأماكن أخرى في الأميركيتين ومنطقة البحر الكاريبي. ولذلك، ليس من المستغرب أن يصعب التمييز، ظاهرياً على أي حال، بين الوضع الداخلي في المركز الرأسمالي والوضع في المستعمرة.”. 

ويكمل: “بصرف النظر عن الاختلاف في مستوى التنمية والاختلاف المحتمل في معدل الاستغلال، فإن الفصل بين المستعمرة والحاضرة كان في جزء منه مجرد فصل جغرافي، كما كان ينطوي على اختلافات ثقافية وعرقية واضحة”.

يضع هاريس الأب مسألة العنصرية في نصابها المادي، مصوباً على البنية الاقتصادية والطبقية للمجتمع، إذ لا يمكن، بنظره، اعتبار التمييز العنصري مسألة منفصلة عن الاقتصاد. فالنظام الاقتصادي في المكان والزمان المعينين يستند إلى علاقات إنتاج محددة، وفي حالة العلاقات العبودية في الولايات المتحدة الأميركية، حيث يتم استغلال من هم أضعف وأقل قدرة على الدفاع عن أنفسهم، من أي لونٍ أو عرق كانوا، للعمل في الحقول ومراكمة أكبر قدرٍ ممكن من فائض القيمة لصالح “السيد الأبيض”، اعتُبر السود من أصول أفريقية أقل قيمة من البيض تماماً على أساس “الفصل بين المستعمرة والحاضرة”، وليس لأن الطفل الأبيض يولد سيداً يملك وعي السيد، فيما يولد الطفل الأسود عبداً يملك وعي العبد.

انطلاقاً من هذا الفصل الطبقي والجغرافي في آن، تتفشى أشكال مختلفة من الكراهية العنصرية، وتنعكس في الثقافة واللغة والأيديولوجيا كما في القوانين والسياسات.

 ويُعاد إنتاج هذه الثقافة القائمة على الكراهية العنصرية بأشكال مختلفة، وفي أزمنة مختلفة، على رغم اضمحلال الجزء الأكبر من العلاقات المادية التي قامت على أساسها في زمانٍ سابق، لأنها نتاج تراكمٍ تاريخي. 

تلعب “سياسات الهوية” دوراً في إعادة إنتاج هذه الثقافة، فتلك السياسات لا تنفك تؤكّد الشيء ونقيضه، فإن اتخذت أشكالاً معاكسة للحركة القومية البيضاء، على أساس “القوة السوداء”، عزّزت الاتجاهين القائمين على الهوية الذاتية في الوقت نفسه. وهذا ما يقوم به الآن إعلام الحزب الديمقراطي، من خلال تركيزه على لون بشرة وأصول كامالا هاريس الجنوب آسيوية، وكأنهما يشكلان موقفاً وخطاباً ومشروعاً سياسياً بحد ذاتهما، على رغم رمزيتهما.

في النهاية، كامالا هي ابنةٌ لكيانين مختلفين، متناقضين، الأول هو إنسانٌ يواجه المنبع الأساسي للعنصرية الممأسسة، وتتصدّر قضايا التنمية المتكافئة والعدالة الاجتماعية لائحة اهتماماته وهمومه، والثاني هو “المؤسسة” الأميركية، بكل ما تمثّله من بيروقراطية ثقيلة، وسياسات خارجية رعناء، واتجاهات اقتصادية جائرة بحق معظم سكان الولايات المتحدة وعمالها.