تميّزت الحركة المعماريّة في العراق على الدوام بوقع مختلف عن مثيلاتها في الدول العربيّة الأخرى. فالتحقيب الجيليّ بالنسبة لهذه الحركة اتّسم بشيء من الانتظام، كما تميّزت تجاربها على الأرض بالوضوح والترابط وبالأبعاد المشروعيّة، وكذا تميّز انفتاحها على مظاهر التخطيط والـتأسيس المدينيين، وعلى التيّارات الفنيّة والثقافيّة العامّة في مراحل لاحقة.
رفعة الجادرجي هو أحد أفراد الجيل المعماري العراقيّ الثالث، وكان عاد إلى العراق بعد دراسته الأكاديميّة في بريطانيا وشرع في ممارسته الاحترافيّة في مطلع خمسينيّات القرن الماضي. لكنّه، وبالنظر إلى نتاجه العملاني والتنظيريّ والكتابيّ الواسع، يُعدّ المعماري العراقي الأكثر حضورًا والأوضح نبرة والأوسع تجربة. إذ شملت هذه الأخيرة، إلى تصاميم المساكن الخاصّة التي حقّقها في بداياته، تصاميم أكثر أهميّة لمبانٍ رسميّة استضافت وزارات ومؤسسات الدولة العراقيّة، إضافة إلى أنشطة التخطيط العام وفتح المجال العراقي لتجارب معماريين دوليين، واهتمامه الخاص بالكتابة والتدوين والبحث الأنثروبولوجي والمسح الفوتوغرافي للحياة اليوميّة في العراق.
على أنّ هذا النشاط المسحي لم يبدأه هو من الصفر، بل أكمل ما كان شرع به والده، السياسي العراقي الليبرالي كامل الجادرجي، الذي كان يرى في نفسه ناشطًا أنتروبولوجيًّا أكثر منه رجل سياسة بالمعنى الضيّق للكلمة. وهنا، في ميزة الوصل الجيليّ هذه بالتحديد، تكمن أهميّة رفعة الجادرجي. فما قام به على الدوام، إلى ميزات البحث والتحصيل الأكاديمي والابتكار الملازمة لسيرته، مثّل وصلًا فكريًّا وعملانيًّا على جميع المستويات، بدءًا من تراثه العائليّ الخاص، وصولًا إلى تفاعله مع الأفكار والتراث والحداثة ومع تجارب الآخرين، وسعيه إلى خلق نظريّة متكاملة قائمة على ذاك التفاعل وعلى الجدليّة الناشئة بين مختلف المعطيات. وهذا ما جعله واحدًا من روّاد التحديث في العالم العربي، وأحد واضعي البنى التأسيسيّة لعراق ما قبل النكبات.
حين حاورته
مضى رفعة الجادرجي اليوم في منتصف تسعينيّاته، تاركًا خلفه تراثًا ضخمًا من العمائر المبنيّة والمُخططات والدراسات والمجموعات المسحيّة والصور الفوتوغرافيّة، وهو ظلّ حتّى آخر أيّامه ناشطًا فكريًّا، وصدر له قبل أعوام قليلة كتاب فكري تنظيري في الجماليّات. عندما التقيته وحاورته للمرّة الأولى بمطلع الألفيّة الثانية (ملحق “نوافذ”، جريدة المستقبل) في داره ببلدة حالات الساحليّة (نحو 35 كلم شمال بيروت)، لم أكن قد عاينت تلك الدار من قبل مباشرة إلّا في الصور.
وفي لبنان ليس ثمّة من عناوين واضحة تنضبط بأسماء الشوارع وأرقام الوحدات المبنيّة. قدت السيّارة وانطلقت من دون أيّة معلومات تتعلّق بالعنوان، سوى أن الدار بمحاذاة بحر حالات. وأنا لم أفعل سوى معاينة البيوت الساحليّة ما إن بلغت تلك البلدة، ولم أجد نفسي إلّا منقادًا من تلقائي نحو ذاك المسكن المكعّب الصخري الحجر، البسيط، لكن الحاذق في كتلته، والكثيف في طاقته المعماريّة الكامنة والمبثوثة، وملامحه المحلّيّة الآسرة.
وحين قرّرت محاورته ثانيةً في العام 2015 بإطار عددٍ يتمحور حول “الخفائض” لمجلّة “البوّابة التّاسعة” (الراحلة هي أيضًا)، ولم يتسنَّ لي السفر إلى لندن حيث يقيم كي ألقاه وجهًا لوجه كما في المرّة الأولى، وتوافقنا على اعتماد التواصل الإلكتروني بالتعاون مع شريكة حياته السيّدة بلقيس شرارة، قمتُ، تعويضًا، بزيارة داره في حالات من جديد. وقفت أمام الدار، تلمّست جدرانها، مشيت في حِماها، وجلست تحت ظلالها، قرب الموج الذي يضرب الصخور التي تقوم عليها ويداعب رذاذه حجارتها. كان لا بدّ لي قبيل المحاورة وفي أثنائها من التفاعل مع طاقة الجادرجي الإنسانيّة والمعماريّة من خارج كتبه وصوره وتصاوير مشاريعه وشروحاتها التي تُغطّي ما يقارب قرنًا كاملًا من الزمن، وهذا ما حصّلته بالتمام، هناك، أمام دارته اللبنانيّة الفريدة.
النشأة والبيوت الأولى
فادي طفيلي: في فترة نشأتك الأولى في بغداد الثلاثينيّات والأربعينيّات، عاصرت زمن الأفكار القوميّة والأيديولوجيّات ومدّها، لكنّك، كما يستنتج المرء من قراءة مذكراتك ومدوناتك، بقيت محافظًا على استقلاليتك الفكريّة. كيف بقيت بمنأى عن الأيديولوجيا في زمن الأيديولوجيا؟ ومن هم أبرز الأشخاص الذين تبادلت معهم التأثّر والتأثير؟
رفعة جادرجي: نشأتي الأولى التي تتحدّث عنها تعود إلى نحو ثمانين عامًا. لذا ما أتذكره منها هو ليس بالكثير، بل أتذكر عموميات حقبة الطفولة. كان والدي هو المؤثر الأول في نشأتي. كان لا يستعمل اللغة الدينيّة الدارجة أبدًا، وأنا لم أسمع منه ولا مرّة في حياتي كلمة “الله”. فهو لم يكن يصلّي ولا يصوم ولا يقرأ القرآن. أمّا بالنّسبة للوالدة، فكانت تقوم ببعض الطقوس الدينيّة، لكنّي لم أسمعها تستعمل لغة دينية، بالرغم من أنّها كانت مؤمنة إلى حدّ ما.
أمّا أنا فكنت منذ طفولتي ثائرًا على تقاليد المجتمع. إذ إنني لا أؤمن بوجود قوى غيبيّة خارجة عن منطق العقل. لذا حينما كانوا يبلغونني أنّ هناك عفاريت أو شيطانًا في سراديب البيوت الكبيرة (وهي غرف تحت الدار لخزن المؤن وتستخدم كملجأ بارد من حرّ بغداد)، كنت أذهب إلى تلك الأماكن المظلمة كي أبرهن للعاملين في تلك الدور، أنّه لا يوجد عفاريت فيها ولا يؤمّها الشيطان. ربّما ساعدتني كثيرًا في ألّا أتأثّر باللغة الدينيّة، دراستي الابتدائيّة التي كانت في مدرسة الأميركان، وهي مدرسة بروتستانتيّة علمانيّة.
ف. ط: تتحدّث في مرويّاتك المدوّنة، تحديدًا في كتابك “صورة أب”، عن بيوتكم العائليّة العديدة والانتقالات التي شهدتها في حداثتك فيما بينها، من دار الحيدر خانة في بغداد، إلى “المشتمل” الصغير المطلّ على دجلة في الكرّادة، ثم البيت الكبير في محلّة باب الشيخ في بغداد، والصيفيّات خارج بغداد في دار الرستميّة، ودار محلّة الميدان، التي عُرِفت فيما بعد بشارع طه. لماذا حصلت هذه الانتقالات العديدة؟
ر. ج: عشت في بيوت عدّة، والسبب في ذلك كان وفاة جدّي في عام 1927، فتمّ تقسيم دار جدّي التي كانت تتضمن داخلها بيوتًا عدّة. واستورث عمّي رؤوف الجادرجي أحد البيوت وجعله سكناً له، أما البيوت الأخرى فصارت من حصّة والدي وعمّتي. وعندما باعها والدي، اضطررنا إلى استئجار بيت في الكرّادة الشرقية مطلّ على نهر دجلة. ولم نبقَ أكثر من عام في هذا البيت الذي كان عبارة عن مشتمل (وهو بيت ملتصق بحائط الجيران) لكن أمامه حديقة واسعة.
بعد عام انتقلنا إلى حي باب الشيخ وعشنا في دار كبيرة، في داخلها حوش واسع بعدد من الغرف. وكانت غرفة الوالد واسعة، استخدمها في استقبال ضيوفه. كانت الغرفة تحتوي على مكتبة كبيرة. قضينا في هذه الدار ثلاث أو أربع سنوات، أيّ حتى عام 1932.
أمّا سبب التنقل، فهو أنّ الوالد قرّر أن يبني بيتًا لا أن يرث واحدًا، واشترى قطعة أرض كبيرة في شارع طه لهذه الغاية.
ف. ط: بعد شراء والدك الأرض، بنيتم بيتًا جديدًا عليها وانتقلتم إليه في العام 1937. وكان أنّ كُلّف المهندس السوري بدري قدح بتصميم ذلك البيت الجديد. هل كان عمل مهندسين سوريين، أمثال قدح، أمرًا شائعًا في العراق الثلاثينيّات؟
ر. ج: كان بدري قدح معماريًّا سوريًّا تخرّج في جامعة السوربون في فرنسا. هو لم يصمّم ربما أكثر من ثلاثة أو أربعة بيوت في بغداد، منها بيت محمد حديد، وبيت كامل الجادرجي، وبيت أحد الأشخاص من عائلة القصّاب.
لاعلم لي بمعماريين آخرين في العراق في تلك الحقبة. لكن حسبما أعلم أن أول المعماريين الذين دخلوا العراق، هم معماريّون بريطانيّون جاؤوا مع الجيش البريطاني في مطلع العشرينيّات من القرن الماضي. أمّا في الثلاثينيّات فكان هنالك مهندسون أجانب وليس معماريين.
ف. ط: أوّل ذكرياتك عن الوالد تتعلّق بمنظومته المتكاملة في العيش والتنظيم وتقسيم مساحات الدار وتخصيص كلّ منها لأمر ووظيفة. كامل الجادرجي، السياسي التقدّمي ومؤسس الحزب الوطني الديموقراطي في العراق مطلع العشرينيّات، ما مصدر اهتمامه بالتخطيط والتنظيم الهندسي؟
ر.ج: ربّما لأنّ تفكيره كان تفكيرًا علميًّا. كان الوالد منتظمًا في معيشه ودقيقًا في حفظ الوثائق، كما كان يمارس هواية التصوير. عندما انتقلنا إلى شارع طه وضع في مدخل الدار، تحديدًا على باب المدخل الخارجي الخاص به، جهاز ميزان للحرارة، فكان يرصد التحوّلات المناخيّة في العراق من عام إلى آخر.
كان البيت مقسومًا إلى قسمين، قسم خاص به مع حمّام ومطبمخصّصين به وبالضيوف. كان الوالد مهتمًّا بتصميم الدار وبعلاقات الغرف من حيث الحركة والوظائف المعيشيّة. عندما كانت تقام بعض الشعائر والاحتفالات الدينيّة في الدار، كان لا يتدخّل إنّ لم تؤثّر على معيشه.
ف. ط: كأنّ هذا الشغف التنظيمي للوالد انتقل إليك؟
ر. ج: نعم. فقد كان الوالد يجيبني بطريقةٍ علميّة عندما أسأله عن ظاهرة ما ويُقنعني. كان يفسّر لي المبادئ العلميّة لتلك الظاهرة. كان مهتمًّا بالقضايا العلميّة والأبحاث الأنثروبولوجيّة، فاشترك بعدد من المجلّات الأجنبيّة، العلميّة والاجتماعيّة، باللغة الإنكليزيّة.
ف. ط: وعلاقاته المتميّزة مع الحرفيين، كالنجّارين، وبعض روّاد المهندسين والمتخصصين كأنّها انتقلت إليك أيضًا وجذبتك إلى ذلك العالم الذي تُصمَّم وتُصنع فيه أدوات العيش وفضاءاته؟
ر. ج: كنت أراقب التفاصيل التي يتناقش بها الوالد مع الحرفيين وذلك عندما انتقلنا إلى بيت شارع طه. حينها كان يزوره المعماري أحمد مختار إبراهيم، وهو أوّل المعماريين العراقيين الذين درسوا في إنكلترا، وأوّل معماري في العراق.
كما التقيت في تلك الفترة بالطيّار جواد حسين، وهو الذي قصف بغداد في انقلاب 1936، وحُكم عليه بعد الانقلاب بالسجن المؤبّد. وخلال حركة 1941 التي قام بها رشيد عالي الكيلاني، طلب الوالد إصدار عفو بحقّه وقد لُبّي الطلب. لكن بعد فشل الحركة، وخوفًا من إلقاء القبض عليه ثانية، إلتجأ إلى دارنا لمدّة قصيرة. كنت أتحدّث معه عن الموسيقى الغربيّة الكلاسيكيّة، وكان مُلمًّا بالأوبرا، فترك لي مجموعة من الأسطوانات لسماع الأوبرا الإيطاليّة. كانت هي المرّة الأولى التي أتعرّض فيها لسماع الأوبرا. قبلها كنت أستمع إلى السمفونيّات وذلك بتأثير من قبل بعض أصدقائي في شارع طه، خصوصًا قحطان عوني الذي كان له تأثير عليّ لجهة الإطّلاع على الحركات الفنّيّة في أوروبا. أمّا الوالد فلم يكن له هواية في سماع الموسيقى الغربيّة الكلاسيكيّة.
ف. ط: ما كانت قراءاتك الأولى؟
ر. ج: في فترة الأربعينيّات باشرت في قراءة الأدب العالمي عن طريق الترجمات، ومنها الترجمات العلميّة التي كانت تصدر من قبل دار الترجمة والنشر في القاهرة.
ف. ط: وكيف كانت علاقاتك بالفضاءات العامّة خارج بيوتكم؟ أسأل هذا السؤال إذ لفتتني إحدى الصور المنشورة في كتابك “صورة أب” لمعهد دار المعلّمين في الرستميّة في أوائل الثلاثينيّات، حيث مثّلت لكم الساحة العشبيّة لتلك الدار مسرحًا لممارسة الهوايات واللعب. ويظهر في هذه الصورة قطيع أغنام يرعى العشب في تلك المساحة المفتوحة. هل كانت تلك المباني المرتبطة بإدارات الدولة تَفتح مساحاتها للعامّة آنذاك؟
ر. ج: لا لم تكن تلك المساحات مفتوحة للعامّة، وإنّما كانت خاصّة، مرتبطة بالموظّفين الذين يشرفون على الزراعة النموذجيّة في الرستميّة آنذاك.
الدراسة: بغداد- لندن- بغداد
ف. ط: هل كان لنشأتك كإبن رجل سياسي مُطّلع على حيثيّات الإدارة والقطاعات التنفيذيّة في حقبة تأسيسيّة من عمر الدولة في العراق تأثير على اختيارك لاختصاصك؟
ر. ج: لا.
ف. ط: قبل توجّهك إلى لندن والتحاقك بكليّة “هامرسمث”، تدرّبت في مكتب مدحت علي مظلوم، أحد أفراد الجيل الأوّل من المعماريين العراقيين. بماذا أفادتك تلك التجربة التدريبيّة مع أحد المؤسسين للعمارة العراقيّة؟
ر. ج: تعلّمت الرسم الهندسي في مكتب المعماري مدحت علي مظلوم، كما تعرفت بحكم العمل معه على بعض كتب العمارة وعلى أعمال الشاعر الإنكليزي تي أس أليوت.
ف. ط: ما هي العوامل الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة والفكريّة التي كانت تؤثّر في عمل هذا الجيل المعماري العراقيّ الأوّل؟
ر. ج: لقد درس معماريو الجيل الأول في إنكلترا، وعادوا إلى العراق يمارسون مهنتهم تحت ظروف المجتمع العراقي آنذاك. كان المجتمع العراقي يحيا في ذلك الوقت مرحلة تأسيس الدولة، ساعيًا إلى الحداثة والخروج من المجتمع العثماني التقليديّ المُتديّن.
ف. ط: إلى تدرّبك في مكتب مظلوم، كأن شارع طه، حيث كانت داركم، مثّل مصدرًا مهمًّا لتفاعلك الحياتي والفكري. كيف تكوّن هذا الشارع وما الذي شدّ النخبة الثقافيّة الفنيّة إليه؟
ر. ج: تكوّن هذا الشارع جرّاء عامل الصدفة. فقد انتقلت العائلات، ومن دون تخطيط مُسبق، من بغداد القديمة إلى ما كان يُعتبر خارج بغداد، مثل منطقة العيواضيّة وشارع الزهاوي وشارع طه. وصودف أن اختارت شريحة من الشباب، تشغلها هموم الحداثة والثقافة المتنوّعة كالأدب الإنكليزي والرسم الحديث والموسيقى، المجيء للسكن في هذا الشارع ومحيطه.
ف.ط: ملهمكم الأوّل وقبل الدراسة الأكاديميّة كان الفنان جواد سليم. إلى أيّ حدّ كانت المجالات الثقافيّة في بغداد آنذاك متقاطعة ومؤثّرة في بعضها البعض. هل استمر تأثير جواد في الأكاديميا وبعدها؟
ر. ج: كان تأثير جواد عرضيًا، لأنّه كان أكبر عمرًا مِنّا، ومع ذلك لم يكن هو الوحيد، بل كان هناك القاص عبد الملك نوري، الذي فتح أمامنا الباب للاطّلاع على الحركات الفنّيّة الحديثة في أوروبا.
ف. ط: بدأت عامك الأوّل في “هامرسمث” بمواجهة مع المُشرف على القسم المعماري في الكلّية، ونستن ووكر، بسبب أسلوبه التعليميّ الساخر والشكوكيّ. انتهت المواجهة لمصلحتك. هل حدّدت لك تلك المواجهة قاعدة في التعلّم والعمل؟
ر. ج: لا لم تؤثر تلك المواجهة بيني وبين الأستاذ ووكر بالنسبة لي على منهج الدراسة.
ف.ط: أول أبحاثك الأكاديميّة تمحور حول الحديد الصبّ وتاريخ استخدامه في العمارة ببريطانيا. ثم رحت تهتم بدراسة الزجاج والخرسانة وتواريخ استخدامهما. لماذا سبق اهتمامك بالمواد وتقنيّاتها اهتمامك بالتصميم والتخطيط؟
ر.ج: كان اهتمامي في عمارة الحديد والزجاج في منتصف القرن التاسع عشر لأنّها تمثّل العمارة التي اشتقّت منها قواعد العمارة الحديثة، بمعنى أنّها العمارة التي انتقلت من الحِرفة اليدويّة إلى العمل الصناعي الميكانيكي. وبهذا ظهرت العمارة الحديثة. فمبدأ العمارة الحديثة هو تجاوز العمل الحِرفي اليدوي وابتكار عمارة تستند إلى المكننة. ومن هنا جاء اهتمامي بتلك المواد المُصنّعة.
ف.ط: كانت الأجواء محمومة بينكم كمجموعة من الطلاب المنكبّين على الدراسة والشغوفين بالحداثة وبين أساتذة ذوي توجّه تقليدي يرفض ما سمّي “بالعمارة المستوردة الأجنبيّة”. رغم ذلك استمررتم في “هامرسمث”. هل استطعتم تغيير أجواء الكليّة أم تعايشتم معها؟
ر.ج: بعد المرحلة الأولى المرتبكة في “هامرسمث”، اختارت الكلّيّة من تلقائها وجهة الحداثة.
العمارة السوفياتية والعودة الى بغداد
ف.ط: كنت مستغرقًا في بداياتك الأكاديميّة بدراسة تاريخ العمارة والتقنيّات، وقد تمحور الجزء الأكبر من دراستك، منذ الحقبة الكلاسيكيّة، حول أوروبا. لماذا لم تنظر أكثر إلى الحضارات والتجارب الشرقيّة؟
ر.ج: لم أنظر إلى تجارب الشرق في العمارة لأنّها كانت مُتخلّفة، ولا تزال تنظر إلى العمارة كما لو أنّها عمل حرفيٌّ يدويّ.
ف.ط: طلب منك أستاذك آرثر كورن كتابة مانيفستو معماري، وقد فعلت وكانت نقاطه الأربع تستند إلى نقد التجربة السوفييتيّة في نظرتها إلى العمارة والفن. هل عاينت تلك التجربة عن قرب في بلدانها؟
ر.ج: لا، لم تكن المعاينة مباشرة، وإنّما ذهبت إلى السفارة السوفييتيّة في لندن، واطّلعت على ما لديهم من الكتب حول العمارة، وأهم ما اطّلعت عليه هو كتاب ضخم سجّل التجارب السوفييتيّة في مرحلة ما قبل ستالين. وكان لينين قد طلب في أواخر أيّام حياته تسجيل التجارب السوفياتيّة الأوّليّة في العمارة. وهنا يجب أن أوضح أنّه بعد الثورة السوفييتيّة قام المعماريّون والفنّانون في الاتحاد السوفياتي بتجارب مهمّة في تطوير العمارة الحديثة والفن الحديث، لكن عندما هيمن ستالين وسادت نزعة السيطرة الفكريّة، رجع إلى طرز معماريّة تقليديّة حِرَفيّة متخلّفة جدًا. ولم يتمكّن الاتحاد السوفياتي من التخلّص منها وتجاوزها إلّا بعد مجيء حقبة غورباتشوف.
ف.ط: فور انتهاء دراستك في بريطانيا عدت إلى بغداد سريعًا. هل كانت حوافز العودة قويّة؟ ما كانت أقوى تلك الحوافز؟
ر.ج: نعم كانت الحوافز قويّة، ليس بالنسبة لي فحسب، وإنّما بالنّسبة للمعماريين الآخرين، إذ عندما عدنا من الدول الغربيّة إلى بلدنا، كان العراق في طور بناء مجتمع حديث، مخالف تمامًا ومناقض لما يجري الآن، إذ غدا البلد اليوم مجتمعًا دينيًّا متخلّفًا جدًا، يستنفد كلّ وقته في ممارسة الطقوس الدينيّة وما تتضمن من خرافات وغيبيّات وأساطير.
ف.ط: هل وجدت فارقًا بين العراق الذي غادرته للدراسة وذاك الذي عدت إليه مهندسًا معماريًّا؟
ر.ج: دام غيابي عن العراق ست سنوات من 1946 إلى 1952، وكان العراق إذ ذاك يشهد تكوّن طبقة وسطى برجوازيّة ويسعى لقيام نهضة صناعيّة وزراعية في أنحائه. تلك السنوات الستّ التي غبتها للدّراسة في بريطانيا تزامنت مع هذه الحقبة. لم ألاحظ عندما عدت فارقًا كبيرًا جدًّا، بل وجدت بعض التطوّر في إطار النهضة الفكريّة العامّة، خصوصًا في الأدب والفن، وبعض التطوّر القليل أيضًا في قطاع الخدمات. لكنّي وجدتُ السلطة أكثر استبدادية، وذلك مع سيطرة نوري السعيد والوصيّ عبد الإله على الممارسة السياسيّة عامة، واستخدام العنف ضدّ المعارضة. إلّا أنّني كمعماريّ لاحظت أن موقع ممارسة العمارة تحسّن كثيرًا، وتمثّل الأمر بإقبال الناس على المعماريين لتصميم وإنشاء عمائرهم بدلاً من اعتمادهم، كما في السابق، على المهندسين المدنيين والبنّائين الحِرَفيين. والفضل في هذا يعود إلى الممارسة المهنيّة التي حقّقها كلّ من المعماريين مدحت علي مظلوم وجعفر علاوي ومحمّد مكّيّة.
العمارة والوظائف الرسميّة والاعتقال
ف.ط: بعد عودتك من بريطانيا توظّفت في مجلس الإعمار. كمعماري شاب، ماذا أتاحت لك تلك التجربة في إدارة رسميّة تتولّى شؤون الإعمار والتخطيط في العراق؟
ر.ج: كان تعييني في مجلس الإعمار لمدة قصيرة لا تتجاوز أربعة أو خمسة أشهر، إذ سرعان ما أُلقي القبض عليّ لبعض الوقت. وبعد إطلاق سراحي انتقلت إلى مديرية الأشغال العامّة وغيرها من الدوائر الرسميّة، فاطّلعت على كيفيّة إدارة الدوائر في المجال الإداري والتكنولوجي. كانت خبرة مهمّة كوّنت لي خلفيّة مكّنتني فيما بعد من ممارسة وظائف أهم في الدولة.
ف. ط: لماذا أُلقي القبض عليك آنذاك في مطلع الخمسينيّات؟
ر.ج: جاء توقيفي بناء على تقرير وجِد في أحد أوكار الحزب الشيوعي في العراق يشير إلى أنّ ابن الوزير (كامل الجادرجي) له علاقة بشخص من الحزب الشيوعي البريطاني، والأمر صحيح، فقد كان هذا الصديق طالبًا وزميلًا في دفعتي. وسعت الحكومة العراقيّة في أن تجعل من الأمر مسألة كبيرة بسبب مركز والدي السياسي. وعلمت فيما بعد أنّ نوري السعيد، الذي تولّى رئاسة الوزراء لمرّات عديدة في العراق، كان مهتمًّا على نحوٍ شخصي بهذه القضيّة وينوي سجني لمدّة طويلة واعتباري شيوعيًّا خطيرًا، نكاية بوالدي.
ف.ط: تمكّنت بالرغم من ذلك، وفي وقت سريع، من افتتاح مكتبٍ استشاريٍّ للعمارة، واستمريت فيه حتى 1978. كأنّ الظروف في بغداد كانت مناسبة جدًّا لمهنة العمارة، صحيح؟
ر.ج: نعم، أعتقد أنّه في مطلع الخمسينيّات، وحتّى قبل هذه الفترة وبعدها، كان الظرف في العراق مناسبًا، إذ كان البلد في حاجة إلى مكاتب هندسيّة ومعماريّة لقيادة عمليّة الإعمار، بدلًا من “الأسطوات/ الَّبنّائين” غير المتعلّمين. والفارق بين مكاتب الهندسة المعماريّة والأخيرين كبير. ففيما “البَّناء” يُقتصر فهمه لعمليّة البناء على الناحية الحرفيّة اليدويّة، فإنّ المهندس المعماري يمارس مهنة التعمير بِناءً على دراسة علميّة وعلى مبادئ مكننة الإنتاج.
هذا لا يعني أنّه لا يوجد بنّائون ماهرون جدًّا و مطّلعون على تقنيّة البناء الحرفي التي تجعل قيادتهم للعمل وإدارة البناء مميزة جدّاً. لكن مهما كانت هذه الخبرة العمليّة التقليديّة كبيرة، فإن قاعدة عملها تبقى الحرفيّة اليدويّة، وهو الأمر الذي أبقاها متخلّفة بالنسبة للعراق الذي كان ساعيًا إلى التطور. هذه الحالة من التخلف توضحت أكثر فيما بعد، بسبب العدد الكبير من المهندسين المعماريين خريجي الجامعات العراقيّة والأجنبيّة.
ف.ط: كيف وفّقت بين العمل في مكتب معماري خاص وبين الوظائف في الإدارات الرسميّة؟ هل كان هناك منافسون لمكتبكم المعماري الاستشاري؟
ر.ج: اختلفت بالنسبة لي الممارسة المهنيّة في الدوائر الرسميّة وفي العمل الاستشاري. عملي في الدوائر الرسمية كان في الغالب إداريًّا، وقد تكوّنت لي من خلال العمل في القطاعين خبرة مناسبة لتحقيق إدارة جيدة للعمل.
لم يكن هنالك من تعارض بين ممارسة المهنة وبين التوظّف في الدوائر الرسميّة، بل كان ذلك باعتقادي، عاملاً مساعداً، لأنّ في الدوائر الرسمية تطلب الأمر معرفة إدارية واسعة ارتبط بها أحياناً معرفة معمارية وتكنولوجية أيضًا، من دون الحاجة إلى الإبداع المعماري. بينما في القطاع الخاص فقد كان أن بدأ الابتكار والحداثة مع الجيل الثاني من المعماريين العراقيين إثرعودة الذين درسوا في الدول الغربيّة، وبدأت حركة الابتكار تؤلّف اتجاهاً مهمًّاً في الممارسة.
أما المنافسة بالنسبة لي، فكانت عامّة ولم تكن شخصيّة. الذين كانوا منافسين في العمل، خصوصًا في الخمسينيّات والستينيّات من القرن الماضي، هم ثلاثة أقطاب. القطب الأول تمثّل بالبنّائين الحرفيّين الأمّيّين، إذ كان قسم كبير من المجتمع العراقي يأتمن هؤلاء على عمائره أكثر من ائتمانه على تقنية المهندسين والمعماريين، بسبب خبرة البنّائين الحرفيين الطويلة في النواحي العمليّة وتفهّمهم متطلبات المعيش التقليدي، فكان هؤلاء منافسين أقوياء.القطب الثاني تمثّل بالمهندسين المدنيين، وذلك لكثرة أعمالهم وخدماتهم وتجربتهم الطويلة قبل ظهور المعماريين في مجال الممارسة. فقد كان هؤلاء يتمتعون بمعرفة جيدة في التصميم المعماري وإلمام علمي أكاديمي في مجال الهندسة المدنيّة، لذا شكّلوا منافسة قوية جدًا عند ظهور المهندسين المعماريين في العراق. وأهم هؤلاء المهندسين المدنيين من حيث الخبرة والمعرفة التكنولوجيّة والمكتبيّة، كان نيازي فتو. وكان ثمّة آخرون غيره، لكنّهم لم يتمتّعوا بالتنظيم المكتبي الجيّد الذي تميّز به مكتب نيازي فتو. أمّا القطب الثالث من المنافسين فقد تمثّل بالمعماري العراقي الأوّل، أحمد مختار إبراهيم. وإبراهيم لم يمارس العمارة كثيرًا لكنّه كان معماريًّا جيّدًا.
ثم جاءت الموجة الثانية من المعماريين الذين فتحوا الأبواب للممارسة الاحترافيّة للعمارة في العراق، وثبّتوا لهذه المهنة مركزًا مهمًّا في قطاع العمل، وهم: مدحت علي مظلوم، جعفر علاوي، عبدالله إحسان كامل، ومحمّد مكيّة، وغيرهم ممّن هم أقل أهميّة من حيث الممارسة .
غير أنّ مهنة العمارة بمختلف المستويات والطرز لم تتأسّس إلّا بعد مجيء الموجة الثالثة من المعماريين، ومنهم: قحطان عوني، رفعة الجادرجي، قحطان المدفعي، وهشام منير.
ففي مطلع الستينيّات كانت ممارسة العمارة قد حجزت موقعًا مهمًّا لها بعد أن حقّق أفراد الموجة الثانية والثالثة عمارة جيدة في العراق. كنتُ أحد أفراد الموجة الثالثة، والمنافسة التي واجهتها كانت بحكم ممارسة المهنة. المهم في هذه الممارسة أن معماريّي الموجة الثالثة كانوا على اتّصال مستمر فيما بينهم، وعلى اطّلاع جيد على ما يحصل من تطوّرات في الحركة الفنّيّة.
التنظير والحداثة
ف.ط: بعد المرحلة الأكاديميّة التي توّجتها بوضع نظريتك في “جدليّة العمارة” سرعان ما انغمست في العمل الاحترافي التطبيقي في العراق. هل كان التكيّف بين النظريات والممارسة المهنيّة سهلًا أم صعبًا؟ ما هي أبرز التحدّيات التي واجهتها في هذا التكيّف؟
ر.ج: التنظير المعماري والنظريّة الجدليّة dialectical theory التي توصلت إليها وأنا طالب في الكليّة، ساعداني كثيرًا. شكّلَت هذه النظرية بالنسبة لي حافزًا للبحث والابتكار في العمارة. هي لم تكن نظرية في الطراز، بل في كيفيّة تحقيق التعمِير ودوره في العمارة وبناء الحضارة. كنت أمارس مهنتي كمعماري وأستنفد وقتًا طويلًا في القراءة وتتبّع تاريخ العمارة، ربما أكثر بكثير مما كنت أسّخره من وقت للممارسة. وكان نشاطي التنظيريّ متداخلًا جدًا مع اطلاعي على الفنون الأخرى، كالرسم والنحت، بحكم علاقتي مع الفنانين. كما كنت أتتبّع تطورات الموسيقى الغربيّة عامّة والكلاسيكيّة والهنديّة واليابانيّة. وكنت أطّلع، في الوقت عينه، على العمارة الإسلاميّة في العصور السابقة كي أفهم العلاقة بين التطوّر المعماري وتطوّر الحضارة. وذاك ساعدني كثيراً في تنظير جدلية العمارة Dialectics of Architecture، التي دونتُ مبادءها في كتاب “شارع طه وهمرسمث”، الذي أتبعته بكتاب في الممارسة هو “الأخيضر والقصر البلّوري”.
وأنا كنت قد اطّلعت على مبادئ الجدليّة عن طريق قراءتي لهيغل وماركس وأنغلز ولبعض المنظّرين الإنكليز في هذا المجال. كما أخذت “كورسًا” في هذا الموضوع أثناء دراستي في بريطانيا.
وملخّص نظريّة الجدليّة يقول إن لكل ظهور هنالك شكل form يسبقه، يتأتّى من تفاعل جدلي. والتفاعل الجدليّ هذا يحصل بين قطبين. فمثلاً:الحاجةُ عندما تتبدّى في الفكر، أو يبتكرها الفكر، تصبح قطباً. وهذا القطب يتفاعل مع القطب الآخر الذي هو التكنولوجيا، التي بدورها إمّا تكون قائمة مسبقًا أو تُبتكر بهدف إرضاء متطلبات الحاجة الجديدة. مثلٌ واحد يوضّح هذه العلاقة:
عند ظهور حاجة إلى كرسي، يقدم الفكر على نقل الشجرة إلى مادة الخشب، ومن ثمّ نقل الخشب إلى شكل كرسي. في كل هذه المراحل يكون الفكر هو المبتكر وهو الفاعل في آن. فعندما يصبح الكرسي حاجة، أو تُطرح الحاجة إلى ابتكار كرسي، يصبح إنتاج الكرسي مطلبًا اجتماعيًّا، فيقدم الفكر ويُفاعل المطلب مع التكنولوجيا القائمة، أو يبتكر تكنولوجيا جديدة. في محصلةٍ لهذا التفاعل يتحول الخشب إلى شكل كرسي. وهذا ينطبق على كل ما أنتج الإنسان وصنّع وابتكر في تاريخ وجوده.
ف.ط: من هم زبائنك الأوائل وما هو أوّل مشروع التزمته؟ ومتى نُفّذ وما كانت أولويّاتك في تنفيذه وماذا تعلّمت منه؟
ر.ج: السيد باهر فائق كان أول زبون لي بعد أقل من ستة أشهر من عودتي إلى بغداد. كان باهر صديق لعائلتنا وموظفًا في السلك الدبلوماسي. كانت تجربة قاسية بالنسبة لي، لأنّ الفرضيّة الأولى التي انطلقت منها في التصميم لم تكن ملائمة للكلفة المخصّصة للمشروع. فاضطررت إلى إعادة التصاميم بسرعة من غير أن يكون هناك وقت لدراسة وافية. فكان البناء الأوّل الذي حققته في العراق أدنى من قدراتي التصميميّة التي حققتها عندما كنت تلميذًا. غير أن التكليف الثاني جاء في عام 1953، وهو دار محمد عبد الوهاب. إذ ذاك وجدت الوقت المناسب لتطوير دار يسعى إلى مواجهة الظروف المناخيّة في العراق، مع ابتكار عناصر معماريّة جديدة بالنسبة للحركة في الدار. تلك العناصر التي ابتكرتها في دار محمّد عبد الوهاب لم تكن معتادة في تصميم الدور الحديثة في العراق. كما كان هدفي في تصميم هذا الدار أن يكون متوافقًا مع تطورات التنظير المعماري في الغرب.
ف.ط: عملت رئيسًا لشعبة الهندسة في دائرة الأوقاف في الخمسينيّات. ماذا مثّلت لك هذه التجربة التي وضعتك في صلة مباشرة مع العمارة الإسلاميّة والتقليديّة في العراق؟
ر.ج: كان عملي في شعبة هندسة مديريّة الأوقاف في منتصف الخمسينيّات مهمًّا جدًا بالنسبة لي، وذلك من ناحيتين رئيستين:
أولًا من الناحية الإدارية، حيث ساهمت وظيفتي كرئيس دائرة رسميّة في الدولة العراقيّة في بلورة قدراتي في كيفيّة الإدارة. وهذه خبرة استندت إليها وأضفت عليها طيلة حياتي المهنيّة.
ثانيًا، من الناحية المعرفيّة العملانيّة، حيث كوّنت فهمًا أكبر للعلاقة بين العمارة التقليديّة وبين التكنولوجيا. كنت أزور المباني العائدة لمديريّة الأوقاف بغية ترميمها والمحافظة عليها، فأطّلع على تفاصيل تكنولوجيّة العمارة الحرفيّة اليدويّة مستندًا إلى نظريّة الجدليّة التي نبهتني إلى أهميّة هذه العلاقة. إنّه بحسبي إطلاع مهمّ، إذ أنّه يعلّم عدم الوقوع في فخ “تقليد” العمارة التقليديّة ونسخها عند محاولة التعامل مع مسألة هويّة المكان. وهذا فخّ لم ينجُ منه جميع الذين سعوا إلى التعبير عن هويّة المكان، لا في العراق فحسب، بل في جميع أنحاء العالمين العربي والإسلامي.
ف.ط: ثمّ عيّنت تباعًا مديرًا عامًا لوزارة التخطيط ومديرًا لدائرة الإسكان في مجلس الإعمار. قلّما حظي معماري عربي رائد بهذه الفرص في أن يكون في قلب هيئات عمرانيّة – تخطيطيّة مُقرّرة وتنفيذيّة. ماذا حقّقت في هذه المواقع؟
ر.ج: في كل واحدة من هذه الوظائف كنت أجدد قدراتي الإدارية وأطوّرها، كما أواصل وأطوّر اطلاعي على ظروف العمران وخلفيّاته في العراق.
ف.ط: تصاميمك لمباني وزارات ومصالح رسميّة عراقيّة تشير إلى مساهمتك في تأسيس بُنى الدولة العراقيّة وتحديث الهويّة المحليّة معماريًّا. كيف تنظر إلى هذه التجربة الآن؟ هل تقارنها بجهود مماثلة لمعماريين في لبنان مثلًا، كعاصم سلام وغيره؟
ر.ج: تصاميم مباني الوزارات الرسميّة حققتها في مكتبي الخاص، وليس كموظف في دوائر الدولة. في هذه الدوائر لم أكن أكثر من إداري، كما سبق وذكرت.
وللإجابة عن الشق الثاني من سؤالك يتعيّن عليّ أن أبيّن الفرق بيني وبين معماريّي ما قبل الستينيّات. فقد انتبهت في منتصف الخمسينيّات إلى أنّه ينبغي ابتكار هويّة معماريّة حديثة للعراق. وأدركت أنّ ابتكار هذه الهوية لا يعني الرجوع إلى المعالم التقليديّة في العمارة العراقيّة ونسخها، بل يعني رفضها رفضًا باتًّا. لأنّ العمارة التقليديّة هي حرفة يدويّة، وعليه فإنّ الشكل التقليدي هو محصلة تلك الحرفة اليدويّة. بينما العمارة الحديثة تستند وتقوم على التكنولوجيا والمكننة. هنا أهمية ما ذكرته آنفًا من خبرة حصّلتها من جرّاء عملي في مديريّة الأوقاف وتمثّلت بفهم الحرفة اليدويّة، وما تمكّنت تلك الحرفة من إنتاجه من معالم معماريّة. فكنت أرفض تلك المعالم التي أنتجتها الحرفة وأستحدث بدلًا منها معالم تستند إلى المكننة، متأثّرًا بالتطوّرات التكنولوجيّة في العالم الغربي.
والمهم في ذلك لم يتمثّل في نقل معالم استمددتها من تطورات العمارة الحديثة في أوروبا وأميركا، بل في تحويل هذه الأخيرة إلى مادّة أوّليّة، فكنت أجرّدها وأعيد صياغتها لتعبّر عن هويّة المكان العراقي. بهذا فإنّ جميع أعمالي في تجربة التعبير عن هويّة المكان، أو ما يُصطلح على تسميته بالعمارة الإسلاميّة، اختلفت عن أعمال جميع المعماريين الحداثيين في العالم العربي. إذ إنّ الأخيرين لم يرفضوا الشكل التقليدي الإسلامي، بل سخروه مباشرة في أعمالهم، كما هو واضح في أعمال محمّد مكيّة. طبعًا هذا لا يعني أن هؤلاء المعماريين لم يتمكّنوا من تحقيق عمارة حديثة جيّدة.
أمّا بالنسبة للمعماري اللبناني عاصم سلام في لبنان، فإنّ مساعي استلهام التأثيرات المحليّة وتحقيق الهويّة في مبانيه التي حقّقها في لبنان ليست واضحة تمامًا في أعماله التي أعرفها.
النُصب والرموز والعمارة والفن والمجتمع والتخطيط
ف.ط: بعد ثورة 1958 في العراق كلّفتك الدولة بتصميم عدّة نصب بارزة في ميادين بغداد، وقد نفذتها بالتعاون مع فنانين ومهندسين آخرين. كيف تستعيد هذه التجربة الآن، خاصة أنّه لم يبقى شيء من هذه النصب؟
ر.ج: بعد ثورة 1958، كلّفني رئيس الوزراء عبد الكريم قاسم القيام في تصميم وبناء ثلاثة نُصب، وهي نصب الجندي المجهول، ونصب 14 تموز (ذكرى الثورة)، ونصب الحرية.
أول نصب صمّمته هو الجندي المجهول، وقد نُفّذ في 7 أشهر، لكي يكون جاهزًا في احتفال ذكرى مرور عام على الثورة، وهذا ما حصل. ثم أقدم صدام حسين على هدم هذا النصب واستبداله بتمثالٍ له. أما نصب 14 تموز، فقد صممته كلافتةٍ طولها 52 مترًا، وعرضها عشرة أمتار، مرتفعة عن الأرض ستة أمتار. بعد أن التقيت عبد الكريم قاسم وأطلعته على الفكرة ووافق على مبدأ التصميم، زرت الرسّام والنحّات جواد سليم وأخبرته بأنّ هناك لافتة بالقياس الذي ذكرته تتطلب ملؤها بجداريّات برونزيّة. قال لي: لم يحدث مثل هذا النصب منذ العصر الأشوري، فقلت له: لم لا يحدث الآن. فسكّج البعض من معالم الجداريّة، وسافر إلى فلورنسا لنحت وصب الجداريّات ولم يطّلع عليها أحد مسبقًا، كما أنّي لم أسعَ إلى الحصول على الموافقة من أيّة جهة رسميّة.
أمّا نصب الحرية، فلم يكن لي الوقت المناسب لهذا النصب، وبعد مرور عام كامل تمكّنت من تصميمه، وهو عبارة عن جدار مستطيل كبير، وقد كلفت الرسّام فائق حسن بتصميم موزاييك يرمز إلى الحرّيّة، وأرسلت التصميم إلى إيطاليا، وهناك تمّ تهيئة الموزاييك وتركيبه من قبل عمّال عراقيين.
ف.ط: لماذا بدت المحاولات والجهود التخطيطيّة المدينيّة في عراق الخمسينيّات وكأنّها قُطعت على نحو غريب ومفاجئ؟ ماذا حصل؟
ر.ج: لأنّ بعد ثورة 1958، كانت جهات كثيرة وأحزاب سياسيّة عديدة في العراق تقف ضد مجلس الإعمار الذي كان يُخطط المشاريع وينفذها، بذريعة أنّ المجلس ذاك مكّون من خبرات أجنبية. وقد نجح هذا العداء في أنّ يسقط مبادئ الخطة التي وضعت لتعمير العراق. ولابدّ لي من القول هنا إنّ الاسستشاريين المكلّفين آنذاك كانوا جيّدين وخبرتهم كانت كبيرة، وقد خسر العراق بعد العام 1958 هذه الخبرة وأضاع تلك الفرصة. لم ينجُ، إلى حدّ ما، سوى مديرية الإسكان، التي كانت الجهة الأجنبية الملّكفة بتخطيط وتنفيذ مشاريعها هي مؤسسة دوكسيادس.
لقد تم تعيني مديرًا للإسكان، وبعد اطلاعي على عملها، وبحسب خبرتي ومعرفتي بالموضوع، وجدت أن هذه المؤسسة من الأكفأ في تخطيط وتنفيذ مشاريع الإسكان في العالم. لذا بذلت كلّ جهدي كي أحافظ على تكليفها، ونجحت لبعض الوقت، إلى أنّ انتقلت اضطرارًا إلى مديرية أخرى وانتهى دوري مع الإسكان عمومًا.
ف.ط: كيف تقيّم ما حقّقه المخطّطون والمعماريّون الأجانب عمومًا في الخمسينيّات والستينيّات؟ وهل تتقاطع تلك الظاهرة مع ما نشهده اليوم خصوصًا في مدن الخليج العربي؟
ر.ج: كانت الخبرة الأجنبية في العراق حتى بداية الخمسينيّات خبرة بريطانيّة في المجال المعماري، وإن كانت هذه الخبرة متميّزة في عشرينيّات وثلاثينيّات القرن الماضي، إلّاأنّها ضعفت فيما بعد، إذ لم يتبدّل الخبراء.
فقمنا قحطان عوني وأنا بمراجعة وزير التخطيط آنذاك الدكتور نديم الباججي، وأعلمناه رأينا في أنّ الخبرة البريطانيّة القائمة في العراق ليست أفضل ما يمكن الحصول عليه. فطلب منّا تهيئة قائمة بالاستشاريين العالميين، وهذا ما حصل.
لا أتذكّر من احتوت قائمة الاستشاريين العالميين. لكنّي أتذكر جيو بونتي الذي صمم وزارة التخطيط، ولوكوربوزيه الذي صمّم الملعب الأولمبي. كما لا أتذكّر من كلّف فرانك لويد رايت في تصميم مبنى الأوبرا، أو كروبيوس في تصميم جامعة بغداد. أمّا دوكسيادس فجاء تكليفه من قبل الخبرات الأجنبيّة التي كانت تقوم بإدارة مجلس الإعمار.
وهذه التجربة تختلف عمّا يجري في الخليج العربي، لأنّ في العراق كان يوجد خبرات محلّيّة في مختلف مجالات الهندسة، وكان للعراقي دور كبير في توجيه الخبرات الأجنبيّة، وهناك من ناحية ثانية، كانت مشاريع العراق تأخذ في الاعتبار أهميّة الكلفة، بينما في الخليج العربي فإنّ الكلفة في معظم الوقت مبالغ فيها.
ف.ط: في تصاميمك العراقيّة، إذ كنت مشغولًا بمواءمة المتطلبات الاجتماعيّة بتقنيات المجتمع الحديث، استند مسعاك إلى علاقة وطيدة مع المجتمع العراقي والحرفيين المحليين. ما كان منهجك حين صمّمت دارك في “حالات” على الساحل اللبناني؟
ر.ج: كنت أسعى في تصاميمي دائمًاً إلى التعامل مع مسألة المناخ الحار في العراق، خصوصًا في فترة الخمسينيّات عندما بدأ البغداديّون يتركون وسط مدينة بغداد ودورها التقليديّة التي كانت تؤمّن لهم معيشًا متوافقًا مع متطلبات الحماية ضد الحرارة. إذ حين خرجوا إلى ضواحي بغداد، لم تهيّئ العمارة التي كان يصممها المهندسون والمعماريّون آنذاك هذه الحماية. كنت أسعى إلى خلق سبل تأمين الحماية ضد الحرارة ضمن الكلفة المعتادة والمعقولة، بالتوازي مع مسعاي في إضفاء الشكل المعماري سِمة تعّبر عن هوية المجتمع.
أما بالنسبة إلى تصميم داري في حالات، بلبنان، فقد اطلعت بقدر الإمكان على الحرفة التقليديّة اللبنانيّة. كان هدفي من هذا الاطلاع أنّ أتمكّن من إضفاء سِمة لبنانيّة حديثة على داري، بعد تجريد الشكل التقليدي. لأنّ إضفاء السِمة التقليديّة على العمارة الحديثة، بحسبي، لا يتمّ بالنقل الحرفي للشّكل، بل بتجريده عن الأصل وبإدخال سِمة معاصرة عليه، على الرغم من أنّ قاعدة الشكل هي تقليديّة. أعتقد أنّني تمكّنت من تحقيق هذا في داري بحالات، وهو ما عجز عنه بعض المعماريّين اللبنانيّين ممن سعى إلى التعبير عن هوية المكان. إذ أنّ بعضهم ذاك لم يفرّق بين شكل تكنولوجيا الحرفة اليدويّة وبين شكل التكنولوجيا الحديثة الناتجة عن المكننة.
ف.ط: هل استفدت من تجربة مهندسين محليّين في لبنان؟
ر.ج: لا، لم أستفد كثيرًا. لأنّ موقفي من العمارة التقليديّة يختلف جذريًّا عن موقفهم منها.
لكن وبعد أن أكملت التصاميم تعلّمت كثيرًا من تقنيّة الحرفيين اللبنانيين، إذ إنّ البَنّاء الذي شيّد داري كان حرفيًّا ممتازًا.
ف.ط: من هو هذا البنّاء؟ هل تذكره؟
ر.ج: عرّفني عليه المعمار عاصم سلام، واسمه وهيب الحاج من ضيعة عمشيت، وكان حرفيًّا متميزًا.
ف.ط: ما هي ابرز أعمالك خارج العراق؟
ر.ج: كانت أعمالي قليلة خارج العراق، منها مسابقة بنك أبو ظبي، الذي لم يُنفّذ.
ف.ط: بدأت عمليات توقيفك باكرًا وفي ذروة عطائك، منذ 1953، كما تحدثنا آنفًا. ثم حُجزت أموالك ومنعت من السفر وأحلت إلى لجان تحقيق في 1963. ما السبب؟
ر.ج: حجزت أموالي في 1963 إثر الإنقلاب الذي حدث ضد رئيس الوزراء عبد الكريم قاسم. فقد جاء عبد السلام عارف رئيسًا للجمهوريّة، وهو الذي لم أكن أعيره اهتمامًا في علاقتي الوظيفيّة معه قبل أن يصبح رئيسًا. لذا حجزت أموالي ومُنعت من السفر، وأحِلت إلى التحقيق للتدقيق في أعمال نصب 14 تمّوز والجندي المجهول، اللذين قمت بتصميمهما وتنفيذهما. وبعد التحقيق والتدقيق في الكلفة وجد نقص وحيد، وهو عربة صغيرة لنقل التراب التي لا تتجاوز كلفتها الدينارين أو ثلاثة. سألني المُحقق بعد أن وجد هذا الخلل، كما لو كان جريمة كبرى: ماذا تقول في هذا الأمر؟ فقلت له: “أنصحك في أن تراجع طبيب نفساني”. وتركت غرفة المُحقق، ولا أدري ما حصل بعد ذلك.
نحو عراق صدّام والمنفى
ف.ط: توقيفك الكبير في العام 1977 حيث أودعت سجن أبو غريب طوال 20 شهرًا، انعكس جذريًا على نشاطك المهني، ما كان سببه؟ و ما هي التهمة؟
ر.ج: حدث هذا خلال رئاسة أحمد حسن البكر ، إذ أخذ يسود في الأوساط المحيطة به نوع من الحقد الطبقي والمهني. كانت التهمة من الناحية القانونية لا تتطلب توقيفي يومًا واحدًا. بل هي ممارسة روتينيّة يمارسها كل استشاري بحكم طبيعة عمله.
كانت الحكومة العراقية كلفت عددًا من الشركات الأجنبية في تنفيذ أحد المشاريع الكبيرة. واتصلت بي شركة ومبي البريطانية طالبة منّي أن أشاركها في العمل. اعتذرت لأنّ المشروع كان ضخمًا جدًّا وخارج نطاق اختصاصي. ولسبب لا أعرفه انسحبت الشركة من المساهمة في هذا المشروع. كانت تهمتي أنّ انسحاب الشركة أدّى إلى خسارة اقتصادية في وقت كان العراق بحالة حرب مع إسرائيل، ولذا فإنّ عدم اشتراكي في المشروع أدّى إلى قيامي بجريمة اقتصاديّة وسياسيّة وطنيّة. هذا تمامًاً ما قاله القاضي في المحكمة.
ف.ط: لكن يبدو أنّك استفدت من هذا التوقيف بالتأليف ومراجعة الأفكار والأعمال؟
ر.ج: نعم لقد استفدت. فبدلًا من استنفاد الوقت في الابتهال والتوسّل إلى الله، كما كان يفعل بعض السجناء، اتجهت إلى قضاء وقتي في المطالعة والكتابة. فألّفت كتابين هما “صورة أب” و”شارع طه وهمرسمث”، كما أنجزت نصف كتابي “الأخيضر والقصر البلّوري”. وساعدني وشجعني في بداية العمل عطا عبد الوهاب، الذي كان محكومًا عليه بالسجن المؤبّد آنذاك.
ف.ط: كيف خرجت من الاعتقال؟
ر.ج: كان صدام حسين قد غدا رئيسًا للجمهورية، وهو أراد في مطلع الثمانينيّات تحسين مدينة بغداد تهيئة لاستضافة مؤتمر عدم الانحياز. وقد سأل من هم المعماريّون العراقيّون المؤهّلون للقيام بهذه المهمة؟ فقيل له رفعة الجادرجي في السجن، ومحمّد مكيّة خارج العراق. فقال لهم: “البّرة نجيبَه، والجُوّة نطلعَه”.
وفي 20 آب 1980، جاء نائب مدير السجن وطلب منّي أن أرافقه، فذهبنا إلى القصر وكلّفت في القيام بمهام مستشار أمانة العاصمة، وترأّست إحدى دوائرها.
ف.ط: تسنّت لك فرصة جديدة آنذاك لوضع رؤية لإعادة تخطيط وتجميل مدينة بغداد. على ماذا استندت رؤيتك وكيف سارت الخطّة وماذا تحقّق منها؟
ر.ج: كان المعتقد من قبل رئيس الجمهوريّة صدام حسين من خلال تعييني في هذا المركز، أن في مقدوري القيام بتخطيط وإعمار مدينة بغداد بمفردي. إلّا أنّني استدعيت إستشاريين من مختلف بلدان العالم، من اليابان إلى الولايات المتّحدة. وكان لكلًّ من هؤلاء مهمّة استشاريّة مكلّف بها ضمن خطّة عامّة وضعتها لتحسين مدينة بغداد، حيث كان صدام حسين يوافق على جميع القرارات التخطيطيّة التي كنت أقدّمها.
ف.ط: كما أنّك دعوت معماريين عالميين كروبرت فينتوري ودينيس سكوت لتصميم وحدات تجارية وسكنيّة. إلى ماذا استندت دعوتك لهم وإلى أين أفضت تلك التجربة؟
ر.ج: لقد دعوت عددًا من الاستشاريين الذين كنت مطّلعًا على أعمالهم من خلال المجلات والكتب، كما من خلال زيارات قمت بها لبعض منهم في محترفاتهم. كانوا، كما ذكرت، من مختلف أنحاء العالم، من اليابان والدنمارك ومالطا وبريطانيا وفرنسا وإسبانيا والولايات المتحدة. وأدّى الأمر إلى قيام علاقات مهنية جيّدة خلال العمل على تهيئة مفهوم التّصاميم وتحقيقها.
ف.ط: لماذا غادرت العراق بعد هذه التجربة المهمّة؟
ر.ج: وجهت لي دعوة من جامعة هارفرد كي أتولّى وظيفة Loeb Fellow، لمدة عام، ولكنّي بقيت معهم عشر سنوات. وبالرغم من واجباتي، فقد استطعت دراسة الفلسفة والأنثروبولوجيا وبعض النواحي الحياتية.
ف.ط: كيف كانت ظروف المغادرة؟ كيف تعاملت مع أرشيفك ومع تراث كامل الجادرجي عندما غادرت؟
ر.ج: كان السفر ممنوعًا بقرار من صدام حسين بحجة أنّ العراق يخوض حربًاً مع إيران. لكنّه وافق على طلبي من غير تردّد. أمّا أرشيف كامل الجادرجي فقد حُفظ في دار الجادرجي، وصدر ثلاثة كتب عن الأرشيف، هي: “من أوراق كامل الجادرجي” طبع من قبل دار الطليعة في بيروت، و”كامل الجادرجي، في حق ممارسة السياسة والديموقراطيّة”، منشورات دار الجمل في بيروت، وكتبت مقدمته بعنوان “تنشئة النظام الديموقراطي وإحباطه في العراق”، و”مذكرات كامل الجادرجي وتاريخ الحزب الوطني الديموقراطي”، منشورات دار الجمل، وقد كتبت مقدمته أيضًا.
ف.ط: أين هو أرشيفك الآن؟
ر.ج: أرشيفي هو نوعان: الأول يتعلّق بالرسوم drawings، وقد فسد كلّه بسبب الفيضان الذي حدث في المنطقة التي كان يُحفظ فيها ببغداد. أمّا الوثائق التي تتعلّق بالتصوير الفوتوغرافي والمشاريع، فقد أودعتها جميعها لدى “المؤسّسة العربيّة للصورة” في بيروت، وتجري الآن عمليّات scanning على تلك المواد لحفظها إلكترونيًّا ورقميًّا أيضًا.
ف.ط: هل زرت العراق بعد العام 2003؟
ر.ج: نعم زرت العراق عدة مرات.
ف.ط: كيف وجدت الدار في شارع طه؟
ر.ج: وجدت الدار مهملة بعض الشيء.
ف.ط: هل قمت بجولة على عمائرك؟ ماذا حلّ بها؟
ر.ج: الكثير من أعمالي هُدم أو شوّه. كنت مُتوقعًا لهذه الحالة. لكنّي كنت قد قمت بتصوير غالب أعمالي إثر الانتهاء من العمل بها، وأمتلك الآن أرشيفًا منظمًا بجميع أعمالي.
ف.ط: في نتاجك الأخير توغل في التنظير بالبحث عن “صفة الجمال في وعي الإنسان”- عنوان كتابك الأحدث. هل هذا تعميق للمنفى عن العراق، أم أنّها محاولة لتأسيس صلة جديدة مع هذا البلد الصعب، الذاهبُ والمُبتعد في خرابه؟
ر.ج: إنها دراسة لا علاقة لها في العراق أو بتراث العمارة، بل هي دراسة فلسفية عن ماهية الجمال في وعي الإنسان. إن غالب ما كتب عن الجمال في اللغتين العربية والإنكليزية جاء كوصف لشكل الجمال ولتطوّر هذا الشكل في الزمن وعلاقته مع الأشكال في الطبيعة. بينما الدراسة التي حققتها في كتابي المشار إليه تتعلق بسؤال هو: لماذا هنالك وعي بجمال الأشياء في وعي الإنسان؟ فوضعت المبادئ الماديّة لدراسة ظاهرة الجمال في الوعي وعلاقة هذا الوعي مع مادّيّة أشكال الأشياء الطبيعية والمصنّعة.