ساهموا في دعم الإعلام المستقل و الجريء!
ادعموا درج

كتاب “الجغرافيا المقلوبة”: ماذا لو كانت السياسة في مصر مجرّد عرض مسرحي كبير؟ 

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

في الحبّ تظهر هشاشة الذات الذكورية بوضوح؛ هنا تنكشف حدود المجّانية التي تفزع السياسي المحترف. فالحبّ تجربة مجّانية بالمعنى الفلسفي: دوافع الرغبة فيها غامضة، والأحكام مؤجّلة باستمرار، والعلاقة مفتوحة على المجهول بلا ضمانات.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

ماذا لو كانت السياسة في مصر مجرّد عرض مسرحي كبير؟ هذا هو السؤال الجريء الذي ينبض في قلب كتاب “الجغرافيا المقلوبة: عن الحداثة المصرية ومآزقها” لمهاب نصر (تحرير مينا ناجي). 

يقدّم الكتاب رؤيةً مُفزعة بقدر ما هي مُتبصّرة: السياسة المصرية لا تُمارَس كفعل تفاوضي حقيقي بين قوى ومصالح، بل تُعاش كـ”عرض” مستمرّ يعيد إنتاج العجز والخواء بدلاً من تجاوزهما. هكذا، تتبدّى المدينة والحبّ والجسد واللغة والتمثيل كأوجه متعدّدة لبنية واحدة؛ بنية مسرحية يصبح فيها الجميع ممثّلين على خشبة وطن متخيّل. هكذا تُدار السلطة كمعادلة مجّانية، بلا موضوع فعلي وبلا مفاوضة، ونكتفي نحن بتكرار أدوار مرسومة سلفاً على مسرح يتعذّر كسره إلا  عبر العنف أو الجنون.

يأخذنا الكتاب في فصوله عبر مجالات شتى – الأدب والسياسة والحبّ والجسد والعمران واللغة – ليبيّن كيف تتكرّر عبرها البنية المأزومة ذاتها. سرعان ما نكتشف أننا أمام أب غائب يخيّم اسمه الرمزي من دون جسده، وسلطة مجّانية بلا أساس، وفُرجة تعمّ جميع نواحي الحياة: من علاقة المواطن بالدولة، إلى علاقة العاشق بالمعشوق، إلى علاقة الفرد بجسده ومدينته ولغته. كلّ شيء يتحوّل إلى مسرح للتمثيل الرمزي، فيما الفعل الحقيقي مؤجّل أو مستحيل. تلك هي “الجغرافيا المقلوبة” التي يشي بها عنوان الكتاب: واقع مقلوب ينكفئ إلى الداخل، ويعيد تدوير عجزه بدل أن يتّجه إلى الخارج لصنع تاريخ جديد.

الوطن كشخصيّة على المسرح

في الفصل الأوّل من الكتاب، يأخذنا مهاب نصر إلى عالم نجيب محفوظ الروائي لنفهم جذور هذه البنية المسرحية. المكان الروائي المحفوظي يتحوّل إلى مشهد ثابت معزول، شقّة مفروشة أو عوّامة أو بانسيون، ليس كديكور اجتماعي بل كاستعارة سياسية ووجودية.

إن القاهرة في روايات محفوظ تبدو كمسرحٍ حقيقي تحاصره الصحراء والفراغ من كلّ جانب، فيعيش أبطاله في عزلة قدرية عن العالم الواقعي. يصف مهاب هذه الحالة بقوله: يصبح الوطن شخصاً اعتبارياً يقف على خشبة مسرح، أو هو خشبة المسرح ذاتها التي يتناوب عليها الأبطال التراجيديون“. على هذه الخشبة، يؤدّي الجميع أدوارهم بروح مأساوية، حيث الأسئلة الوجودية تُصبغ بصبغة سياسية شاملة: من نحن؟ وإلى أين نسير؟

المدينة في هذه الرؤية ليست فضاءً حيّاً يتفاعل مع ناسه، بل إطار قهري من العزلة. شخصيّات محفوظ “تجيء وتمضي كالأشباح” لا يتحقّق وعيها بذاتها إلا عبر تركيز داخلي على إثم غامض وجريرة بلا جناة. وحين يتحرّك المشهد أخيراً، يكون ذلك بانفجار اعترافي: مثلاً في رواية “ثرثرة فوق النيل”، لا يخرج رُوّاد العوّامة من غيبوبتهم الاختيارية إلا بعد اصطدام سيّارتهم بجسد شخص مجهول ومقتلِه. اللحظة المسرحية هنا هي لحظة انكشاف وفاجعة دفعت الشخصيّات إلى مواجهة حقيقتها، لكنّها مواجهة من نوع اعترافي مغلق. 

“لكنّ الرواية الأكثر دلالة حقّاً في هذا الجانب هي “أفراح القبّة”، نقتبس هنا من مهاب نصر هي رواية “أفراح القبّة” هو اسم مسرحية يقترحها مدير إحدى الفرق على ممثّليها، حيث يكتشفون أنها لا تحكي إلا حياتهم، بكلّ تفاصيلها الملأى بالخيانة والقهر والجريمة والدعارة. ويجد أبطال الرواية أنفسهم في وضع شاذّ، يمثّلون كلّ يوم على خشبة المسرح سقطاتهم بالذات. هذا ما يصرخ به أحد الممثّلين في وجه مدير الفرقة: “ما هي بمسرحية، إنها اعتراف هي الحقيقة نحن أشخاصها الحقيقيون…”. 

تلقى المسرحية نجاحاً رغم اعتراض الممثّلين الذين يواجهون أنفسهم كلّ ليلة. وينطلق الحكي من هذه اللحظة بالذات التي يتحوّل فيها المسرح واقعاً، حيث تتكوّن الرواية من مونولوجات متوازية تحكي فيها كلّ شخصيّة، اتكاء على اللحظة نفسها تاريخ أزمتها. هناك جريمة أو جرائم وهناك شعور حارق بالمسؤوليّة يتكرّر لدى محفوظ في أعمال كثيرة، تنطلق من ضرورة تجاوز التاريخ المخزي. فعلى مدى أعماله الروائية، يمكن الاعتقاد بأن محفوظ يكتب رواية ما قبل التاريخ، ومن هنا تكمن نموذجيتها.

هكذا يتحوّل الأداء إلى غاية بذاته، إلى تطهير جمالي يمنح المهزومين كرامة شكلية،  كرامة جمالية للذين حُرموا منها في الحياة، لكنّه في الوقت نفسه يرسّخ استثنائية الوطن بوصفه كياناً مطلقاً خارج التاريخ. 

إنهم يعترفون باغترابهم على الخشبة ويحقّقون حضورهم الكامل في اعتراف مسرحي، بدل محاولة تغيير واقعهم المنقوص. وبذلك تصبح تلك الاعترافات نهايةً مغلقة لمأساتهم؛ لأن الواقع لا يُرَى إلا من وراء مسافة، عبر مرآة المسرح. إن الأب الغائب يخيّم على هذا المشهد بوصفه سلطة رمزية تسكن خلف الستار؛ لا حضور له في الواقع، لكنّ اسمه (اسم الأب) حاضر كقانون ميتافيزيقي. في غياب أب فعلي يؤسِّس الهويّة، يتحوّل الوطن/ الأب إلى شبحٍ رمزي مهيب، وإلى سؤال لا كيان له: سؤال الهويّة الذي يلاحق الجميع دون إجابة تاريخية واقعية.

هذه البنية تفسّر لماذا تبدو السياسة في جيل محفوظ أفقاً للوجود برمّته.

لقد حلّ السؤال السياسي من نحن؟ محل سؤال العقل أو الكينونة، ولكن دون أن يجد حلاً تفاوضياً عملياً. كلّ ما لدينا هو عرض مستمرّ لذات مأزومة تبحث عن تبرير وجودها، بمعزل عن تاريخ مشترك أو عقد اجتماعي حقيقي. لذلك ليس الواقع مركزاً للصراع/ الحوار في أعمال محفوظ، كما يلاحظ مهاب؛ فالصراع الحقيقي يدور على خشبة الرمز والمعنى، في الفراغ بين المثال والواقع. 

النتيجة هي عنف كامن في قلب المشهد: ما دام التفاوض والتفاعل غائبين، يتراكم العجز ليصبح عنفاً ضمنياً ضدّ الذات. إنه عنف مغلّف برداء الأسطورة والقداسة أحياناً، كما في رواية “حضرة المحترم حيث البيروقراطية تظهر كاستعارة تجمع بين القداسة والمجون. 

عثمان بيومي، الموظّف الذي يكرّس حياته للترقّي الإداري، ليس سوى ذراع السلطة العدمية؛ وجوده كلّه مستمدّ من عبادة السلطة لذاتها. فهو يرى في صعوده الوظيفي تجلياً لمعنى أعلى يغنيه عن التفكير في معنى الحياة. ومثل ذلك الموظّف، تتماهى الشخصيّات مع أدوارها بوصفها استعارات فارغة؛ يكسبون احترامهم لذواتهم فقط عبر تمثيل مثال متعالٍ، لا عبر تحقيق مصالح أو حقوق واقعية. هكذا تتحقّق معجزة غريبة في المخيال الجمعي: سلطة بلا مبرّر جوهري، تستمرّ لمجرّد استمرارها، وتبرّر ذاتها بخطاب الأمن والثبات الذي “لا يعني أي شيء… لكنّه يختم بغموض نهائي موضوعاً لا يمكن النقاش فيه”.

الحبّ والسلطة: وهم اللقاء المستحيل

إذا كان الوطن/ المدينة في النصّ بمثابة مسرح كبير، فإن علاقة الحبّ في مجتمع كهذا ليست خارج العرض، بل هي مشهد موازٍ على الخشبة ذاتها. ينتقل الكتاب في بابه الثاني إلى تفكيك سياسات الحبّ، ليبيّن كيف تشابهت سلطة الحبّ مع السلطة الوطنية. ففي الحالتين هناك تطابق مهووس مع الذات المثالية، دون جذور تاريخية أو اجتماعية حقيقية. حبّنا الحديث – كما تصوّره سردياتنا – يبدو مرتهناً بنظام قيمي عالمي أُلقي فيه دون أن يكون جزءاً فعلياً منه ؛ أي أنه خيال معلَّق في الهواء، بلا موضوع واقعي سوى أشواق مبتورة. إننا نقلّد فكرة الحبّ كما سوّقتها الحداثة (أو السينما وقصص الرومانس) لكنّنا نعجز عن توطينها في حياتنا اليومية. لذا يظلّ الحبّ عندنا مستحيلاً و”خيالياً” بالمعنى اللاكاني؛ مجالاً للشطحات والحظر معاً، تغذّيه التوقّعات المطلقة وتحاصره المحرّمات الاجتماعية.

في مجتمع أبوي متأزّم، تغدو المرأة رمزاً متضخّماً لهذه المعادلة. يشير مهاب بعمق إلى وضع المرأة بوصفها السلطة النهائية، والرمز الكلّي الذي يعيّن الأدوار ويظلّ أمره لا يُمسّ، لأنه جوهر الهويّة/ البيت. المرأة هنا تمثّل الأصل الذي يحمي هويّة البيت/ الوطن، لكنّها في الوقت نفسه موقع التوتّر وكبت الرغبات. فبينما يُنتظر منها أن تكون المثال النقي (الأم، الشرف، الأرض الرمزية)، تُعامل واقعياً كمحلّ للسيطرة والقمع، لأنها تحمل “الآخرية غير القابلة للاختزال” داخل البنية الذكورية. يقرأ الكتاب علاقة الرجل/ المرأة بوصفها الجسر الحقيقي حيث يلتقي العيش/ الحياة بالمعنى السياسي. 

في الحبّ تظهر هشاشة الذات الذكورية بوضوح؛ هنا تنكشف حدود المجّانية التي تفزع السياسي المحترف. فالحبّ تجربة مجّانية بالمعنى الفلسفي: دوافع الرغبة فيها غامضة، والأحكام مؤجّلة باستمرار، والعلاقة مفتوحة على المجهول بلا ضمانات.

 الحبّ ليس شيئاً، إنه مجال للتوتّر، علاقة. هذه اللا نفعية (المجّانية) تقلق عقليّة السلطة التي تريد كلّ شيء مضبوطاً ومصنّفاً. لذا يرتاح السياسي إلى إطار الأسرة التقليدي، لكنّه “يشعر بالهول أمام تجربة الحبّ”، ويسعى إلى الهرب منها باستبدال الحبّ بالحكم. أي أنه يفضّل سلطة لها موضوع ظاهر (القوانين، الامتثال، الامتلاك) على مواجهة العلاقة الإنسانية الحرّة التي تضعه أمام آخر لا يخضع بالكامل.

في تحليل مهاب، تمّ فهم الحبّ خطأً على أنه مجرّد رغبة يمكن إخضاعها لقواعد، كما فُسِّرت السياسة على أنها مجرّد حُكم. لكنّ الحقيقة المأساوية أن الحبّ يشكّك في بنية الرغبة ذاتها ويؤجّل السلطة الكامنة فيها. حين نحبّ، نفتقر تلقائياً إلى السيطرة الكاملة ونحتاج إلى الاعتراف من الآخر على قدم المساواة. 

من هنا يصبح الحبّ تحدّياً لبنية السلطة الأحادية: إنه المجال الذي تظهر فيه حرّية بلا موضوع – حرّية قد تنقلب إلى تكرار عقيم إن لم تجد تحقّقاً فعلياً. يحيلنا الكاتب إلى نقد نيتشه لموسيقى فاغنر بوصفها ذروة خداع فكرة التعبير في الفنّ؛ فاغنر الذي يخدّر الجمهور بعاطفة جماعية نحو هدف غامض، وينتج فنًاً درامياً زائفاً يعد بالمستقبل دون أن يحقّقه. 

كذلك تفعل سرديات الحبّ والسلطة لدينا: وعود مثالية بالحرّية والخلاص، لكن بلا نسل حقيقي أو أثر مستدام  “زيغفريد يحرّر المرأة… لكن دون أمل في نسل”. إن حرّية كهذه، بلا موضوع حقيقي، تظلّ عقيمة داخل نظام من التكرار. وفي النهاية، يصبح المجتمع كلّه ممثّلاً يؤدّي دوره بلا انقطاع؛ الجميع ممثّلون بدرجة ما، يمارسون الحياة بوصفها أداء في العراء. لقد انتهى عصر “المعنى” مادام التعبير قد انفصل عن أي مرجعية خارجية؛ صارت اللغة قوّة في ذاتها، نوعاً من العنف التكميلي الذي يعبّر عن العجز المستحكم.

الجسد وحقّ التعبير: بين الإهانة والإغواء

 يخصّص نصر الباب الثالث لسياسات الجسد في سياقنا المعاصر، ليكشف تناقضاً آخر من تناقضات الحداثة المقلوبة. فلطالما بشّرت الديمقراطية الحديثة بشعار “الحقّ في التعبير”، ورأت في إطلاق حرّية الجسد انتصاراً إنسانياً. لكنّ الكتاب يطرح السؤال من زاوية مغايرة: هل حاجة الجسد الأساسية أن يعبّر عن نفسه، أم أن يُشبع رغباته ضمن علاقة لها معنى؟ إن رفع شعار حرّية التعبير الجسدي – في غياب علاقة حقيقية مع آخر – هو في نظر نصر إجابة عن سؤال خاطئ. يقول بصراحة: “ليست قضيّة الجسد أن يعبّر، بل هناك بالأساس رغبة تسعى إلى الإشباع، رغبة موجَّهة إلى الآخر تحديداً”. أي أن الجسد لا يطلب مجرّد الإفصاح أو الاستعراض، بل يطلب أن يُحَبّ ويُرغَب فيه ضمن علاقة متبادلة. التركيز على “الكلام” و”الظهور” أخفى الجوهر الأعمق للمسألة: هل يستطيع الجسد أن يجد اعترافاً وقبولاً حقيقياً لدى جسد آخر؟

يرى نصر أن الخطابات الحداثية حول تحرير الجسد أفضت إلى نتيجة عكسية غير مقصودة: فقد تشيّأ الجسد وانعزل بدل أن يتحرّر.

 أصبحنا بإزاء إنسان يختزل كيانَه كلّه في جسده، ثم يقيم حوله حصونأً قانونية وأخلاقية صارمة. أي لمسة غير مرغوبة باتت تُعتبر إهانة مطلقة للذات، وكأن حدود الجسد غدت حدود الهويّة التي لا تُمسّ. 

لقد وُضع أي انتهاك جسدي – ولو عابر – في مصاف الخيانة العظمى. ظننا أننا نحمي الأفراد من العنف، لكنّنا في الحقيقة جعلنا الجسد كلّ شيء، فصار أكثر هشاشة وعُرضة للعنف من أي وقت مضى. 

يقتبس الكتاب عبارة ثاقبة في هذا السياق: “هذا النفي الأخلاقي والقانوني للعنف نهائياً هو ما يفتح باب العنف المنفلت تماماً بلا أي غطاء. بمعنى أنه حين حاولنا القضاء على العنف كلياً وتحريم أي مساس، أطلقنا شكلاً جديداً من العنف أشد انفلاتاً وشراسة. يكفي أن ننظر إلى فيضان الصور في الثقافة الشعبية – أجساد مستعرَضة في الأفلام والأغاني والإعلانات، وأخرى مُعنَّفة في مشاهد الأكشن والرعب والإباحية – لندرك أن الهوس بنفي العنف “المشروع” (ضمن علاقة متفاوض عليها) انتهى بنا إلى عنف غير مشروع في كلّ مكان. وكذلك الأمر في الواقع الملموس: جرائم التحرّش والاعتداء لم تختفِ، بل ربما ازدادت وحشية وهمجية في السنوات الأخيرة، كأنما خرجت من عقالها تماماً.

لقد حوّلنا الجسد إلى ساحة حرب لأنه فُصل عن سياقه العاطفي والاجتماعي.

جسد بلا حبّ وبلا علاقة هو مجرّد كتلة صمّاء تصرخ في فراغ الهويّة المنغلقة دون أن يُصغي إليها أحد. وأي حديث عن “حقوق” هذا الجسد المعزول يصبح دوراناً في حلقة مفرغة؛ مطالبة تتلوها مطالبة دون موضوع حقيقي يُطالَب به.

 لذلك يرى نصر أن شعار “جسدي حرّيتي” إذا فُصل عن الحبّ والتواصل يتحوّل إلى فخّ: حرّية شكلية تنتج في الخلفية قمعاً من نوع آخر. هنا أيضاً يلمّح الكاتب إلى أن الحلّ يكمن في استعادة اللغة وسيطاً حيّاً بين الأجساد، واستعادة الحبّ إطاراً ومعنىً يُضفي الإنسانية على الحرّية الجسدية. 

فاللغة هي ما يحدّد موقع الأنا والآخر ويضبط علاقتهما ضمن تفاوض إنساني. ويذكّرنا نصر بأفكار المفكّرة جوديث بتلر حول تكوّن الذات: اللا وعي نفسه مأهول بالآخر من البداية، فنحن لا نمتلك ذواتنا أو أجسادنا بشكل مستقلّ مطلق؛ بل نتشكّل باستمرار عبر التفاعل المتبادل مع الغير. لذا فالإيمان بسيادة فردية مطلقة للجسد وهويّته هو ضرب من الوهم الذي يؤدّي إلى مأزق: إمّا عنف منفلت، وإمّا فراغ معنوي تامّ. البديل الذي يقترحه نصر ضمنياً هو الاعتراف بالتشابك التفاعلي بين الذوات. علينا أن نعترف بأن الجسد ليس ساحة لإعلان السيادة الفردية المنعزلة، بل ميدان اشتباك تفاوضي مع الآخرين. وهنا تأتي اللغة لتكون الأداة الأولى لهذا التفاوض.

مدينة “اللا مكان»: شاشة العرض الكبيرة

في مشهد حديث لحيّ المال والأعمال في العاصمة الإدارية الجديدة. هذه المدينة المبنية في الصحراء تبدو كأنها بلا تاريخ أو ذاكرة، تلمع مبانيها الزجاجية على اتّساع طرق ضخمة فارغة، نموذج حقيقي لـ”مدينة اللا مكان” التي يناقشها الكتاب.

في الباب الرابع، ينتقل نصر إلى المدينة ذاتها، طارحاً مفهوم  مدينة “اللا مكان. هنا نواجه مفارقة المدن المعاصرة التي تفقد مرجعيتها الجغرافية والتاريخية وتتحوّل إلى صورة مجرّدة. يشير الكاتب إلى أن معظم الكتابات عن المدينة المصرية كانت ذات طبيعة أدبية كلّية؛ إما تغني بـ”جمالية الحداثة” أو ترثي “سلطة الحداثة” في قسوتها. في الحالتين، يتمّ تناول المدينة ككيان كامل الحضور، مفارق للتاريخ وغير إشكالي، وكأنها مسرح جاهز للمشاهدة أو القصيدة. في المقابل، يحاول مهاب الكشف عن التناقضات المخفيّة في عمران المدينة وتحوّلاتها. يكتب نصّاً مشحوناً بالحنين والنقد معاً عن الإسكندرية (حيّ كامب شيزار)، فيستحضر نماذج اختفت وملامح تشوّهت، ويربط بين الكوزموبوليتانية البائدة والتشوّه الحديث المتضاعف.

القضيّة الأكثر إثارة للانتباه هنا هي بزوغ فضاء إلكتروني شبحي يوازي المدينة المادّية. هذا الفضاء الرقمي هو ما يسميه “اللا مكان”. إنه نتاج التكنولوجيا المدينية ذاتها، لكنّه لا جغرافي، يخترق الواقع الحضري ويعيد تشكيله. يقول مهاب: “يشكّل ضميره في اللحظة التي يبدو فيها وكأنه انعكاس لهذا الضمير نفسه”. بعبارة أخرى، صارت للشوارع شاشات مرآة تنقل نبضها وفي الوقت نفسه تصنعه. 

على وسائل التواصل والهواتف، تتحوّل المشاعر والحالات إلى شيء أكثر تجريداً واختلاقاً. الوعد والإمكان يمسيان افتراضيين، واللقاء الإنساني ينتقل من الساحات العامّة إلى الغرف الخاصّة أمام الشاشات. 

صحيح أن هذا الفضاء الإلكتروني يمنح الفرد حرّية حركة وتعبير أوسع، لكنّه ينزع الجسد من المعادلة. نحن حاضرون إلكترونياً بلا حضور جسدي؛ نرى العالم عبر الصور دون مشاركة مادّية. هكذا يفقد المكان تاريخه، وتصبح الأحداث مجرّد فرص لظهور الصور مرّة أخرى. “كلّ واقعة تُختزل إلى لقطة قابلة للتكرار والمشاركة، مما ينفي فرادة الحدث ويتسبّب في اغتراب الذاكرة”. لقد تحوّل التاريخ نفسه إلى جزء من مشهديّة مصطنعة؛ كأننا نعيش في بثّ مباشر دائم لأحداث تتكرّر بلا تراكم معنى.

هذه المسرحة الشاملة للمدينة تجعل المكان الحضري أشبه بحلبة عرض: العمارات، الجسور، الميادين تُبنى وتهدم كأنها ديكورات في مشهدية ضخمة. ففي الواقع المصري اليوم، نرى بعين اليقين مصاديق هذه الأفكار. خلال انتفاضة يناير 2011، حين نزل الشباب ينظّفون الشوارع بأنفسهم، بدت اللحظة كأنها محاولة بائسة أخيرة للتشبث بمدينة حقيقية. لكن بعد ذلك بسنوات، تحوّلت القاهرة إلى ساحة مشاريع استعراضية: عاصمة جديدة في الصحراء، طرق شاسعة وكباري تطعن أحياءها القديمة، واجهات زجاجية وأبراج شاهقة تلمع كأنها تصل الماضي بالحاضر لكنّها في الواقع تقطع الصلة بينهما.

هكذا نحصل على مدينة لا مكان بامتياز؛ مدينة ترفع شعار الحداثة والتطوير لكنّها تساوي بين الحقيقي والزائف بطريقة عبثية. فقد تُهدَم أعرق مقابر القاهرة التاريخية لإفساح طريق لجسر عابر، ويُقتل تراث حيّ عمره قرون باسم مدينة المستقبل. كلّ ذلك يجري كأننا نبدّل ديكور المسرح بين فصل وآخر، غير عابئين بأن ما يُمحى ليس مجرّد حجر وطوب بل ذاكرة ونسيج حياة.

انهيار التفاوض: بين الفصحى والعاميّة ونهاية الكلام

أخطر أبعاد الأزمة المسرحية التي يكشفها الكتاب يأتي في الباب الخامس، حيث إشكاليات التعبير واللغة. هنا يصل التشخيص إلى جذوره العميقة: لقد تعطّل التوسّط اللغوي بين الناس، ففشلت اللغة في أداء وظيفتها كأداة تفاوض وفهم متبادل. 

يبيّن مهاب كيف أن تقديس الجماهير للغة الفصحى من جهة، وتقديم العاميّة كراية لهويّة المواطن العادي من جهة مقابلة، قد يكونان وجهين لمشكلة واحدة. 

الفصحى تُعامل كلغة مقدّسة تعلو عن الحياة اليومية “مقدّسة وزائفة معاً”، لأنها مرفوعة كشعار هويّة مستحيلة التطبيق. والعاميّة تُستخدم كرمز سياسي للواقع الشعبي، لكنّها في الحقيقة تعيش حالة تخثّر وانحلال مع تجزّؤ الشخصيّة وانغلاقها. كلّ من الفصحى والعاميّة إذاً تعجز عن التحوّل إلى لغة حيّة بالمعنى العميق، لأنهما عالقتان في فخّ الهويّة بدل أن تكونا وعاء للتواصل المتناقض والخصب.

يوضح مهاب هذا الأمر مستعيناً مرّة أخرى بعالم محفوظ الروائي. فالحوار في أدب محفوظ فصيح شكلاً، لكنّه يكشف عدم أصالة ما يدور في الواقع. إن شخصيّاته تتراشق بالكلام كأنها تؤدّي مشهداً تمثيلياً أكثر مما تخوض حواراً حقيقياً. والسبب أن الواقع الاجتماعي ذاته في مصر لم يكن قطّ ساحة حوار أصيلة؛ الواقع ليس مركز الصراع كما أسلفنا. ومن ثم جاء الحوار الروائي أشبه بتمثيل رمزي للعجز عن الحوار الواقعي، وصور جوهر العنف الكامن في تواصلنا. فحين تغيب لغة التفاوض، لا يبقى سوى العنف الرمزي ثم المادّي.

يحذّر الكتاب من تخيّل إمكانية وجود لغة نقيّة معصومة تعبّر عن هويّة خالصة. هذه الفكرة بذاتها تجعل اللغة “مخزناً لعنف مستتر”، لأنها تحمل دوماً شعوراً بالنقص وعبئاً مضافاً ورغبة دفينة في فرض الذات بالخارج. 

هكذا تنتهي كلّ لغة هويّاتية، فصحى كانت أم عاميّة، إلى طريق مسدود: “كلتاهما تُسقط التفاوض والتعثّر والشكّ، وتُبقي اليأس أو نهاية الكلام”. وبالفعل هذا ما نشعر به اليوم: نهاية الكلام.

الجميع يصرخون بشعارات وهتافات، أو يتبادلون اتّهامات وهزلاً على مواقع التواصل، لكن لا أحد يسمع أحداً في حقيقة الأمر. لقد صار الكلام ذاته أداةً للإقصاء والتنفيس، لا أفقاً للفهم والتقدّم للأمام. وفي مثل هذه الأجواء، يصبح التخلّص من الإشكال برمّته – عبر إدانة الذات أو جلد الآخر – مخرجاً سهلاً لكنّه تدميري. الكثير يختارون الصمت أو الانفصال (عزلة فردية، هجرة داخلية أو خارجية)، والبعض يختارون التقوقع في هويّة صلبة تبرّر العنف. وفي كلّ الحالات يُسدل الستار على أيّ تفاوض مجتمعي حقيقي.

لكنّ مهاب نصر لا يتركنا دون بارقة أمل. 

في ختام الكتاب، يتحدّث عن ضرورة إدراك الكتابة بوصفها سرداً واعياً بذاته. إذا كان الأدب الحالي قد فقد ثوريته وصار مجرّد “ترصيع أخلاقي عدمي، فإن الحلّ ربما في تبنّي نهج مختلف: أن نكتب ونحكي ونحن مدركون أننا نصنع حكاية لا تدّعي كشف الحقيقة العارية ولا تتنصّل منها تماماً. 

بل تسعى هذه الحكاية إلى “خلق إيناس بالحاضر، وتطوير الطبيعة العلائقية المتشابكة للبشر”. أيّ أدب وأيّ خطاب نريده يجب أن يتقدّم إلى الأمام مفتوحاً على الممكنات والأسئلة الجديدة، بدل أن يحبس نفسه في غاية نهائية أو ينفي ما قبله كلّياً. هذه الرؤية النقدية للأدب تنطبق بالقياس على السياسة والحياة العامّة أيضاً: علينا أن نتقدّم دون أن ننفي، أن نبني منطقاً للتفاوض يعترف بالواقع المتنازع عليه ولا يدّعي حلوله السحرية.

أسوار تتهاوى: العرض يمتدّ إلى العمران

مقبرة تاريخية مهدومة في القاهرة ضمن موجة واسعة لإزالة جبانات العاصمة بحجّة إنشاء طرق ومشاريع جديدة. المشهد يُظهر جداراً مزخرفاً من مقبرة عائلة عريقة بعد أن نال منه البلدوزر، وتحوّل المكان إلى أنقاض متناثرة. هكذا تُمحى شواهد القرون في لحظة، لإفساح المجال لواقع “جديد” ينقطع عن ماضيه. 

في خاتمة المطاف، يربط “الجغرافيا المقلوبة الخيوط النظرية بالواقع الملموس في مصر اليوم. ما كشفه الكتاب فكرياً عن بنية الفُرجة والعجز نجده متجسّداً في شكل العمران الراهن وسياسات الدولة المدينية. فقد شهدنا خلال الأعوام القليلة الماضية اندفاعاً محموماً نحو بناء عواصم جديدة تماماً في قلب الصحراء، إلى جانب شقّ طرق سريعة وكباري ضخمة تخترق نسيج المدن القديمة بلا رحمة. 

هذه المشاريع تُقدَّم للجمهور في خطاب السلطة كعلامات الحداثة والتطوير، لكنّها عملياً أقرب إلى مشاهد استعراضية من كونها حلولاً لمشاكل حقيقية. إنها مسرحة للسلطة على أرض الواقع: بناءات عملاقة تُعلن قوّة النظام وقدرته على الفعل، ولكن دون تفاوض مع المجتمع أو التاريخ. كأن الدولة تقول: سنخلق واقعاً جديداً من العدم، مجّانياً بلا تكلفة سياسية أو تشاور، كما يخلق المخرج ديكوراً جديداً على المسرح بين فصلين.

لا عجب إذاً أن العاصمة الإدارية الجديدة نفسها – وهي المشروع الأضخم – توصف بأنها مدينة بلا قلب تاريخي: مجرّد وزارات وأبراج وبحيرات صناعية في قلب الصحراء. مدينة تلمع وسط الغبار الزاحف كما كتب مهاب عن القاهرة الحديثة، لكنّها هذه المرّة غبار من نوع آخر: غبار النسيان المتعمّد لكلّ ما كان قبلها. إنها مدينة مقلوبة الجغرافيا حقّاً، حيث تنتصب ناطحات سحاب تحمل أسماء لامعة فوق رمال لم تعرف عمراناً قبلها. كلّ شيء مصنوع ومنمّق ليكون لوحة لمستقبل افتراضي – عرض كبير – بينما القاهرة الأصلية بأزقتها وتاريخها تُطوى على عجل كذكرى محرجة. لقد تحقّق على الأرض ما رصده الكتاب نظرياً: “التاريخ مجرّد عنصر في مشهديّة مصطنعة”. فها نحن نحيا تاريخاً مستأنفاً على هيئة عروض افتتاح واستعراضات إعلامية لإنجازات معزولة عن سياقها.

في المحصّلة، يكشف لنا كتاب “الجغرافيا المقلوبة” أن أزمتنا الحديثـة مركّبة ومعقّدة: إنها أزمة تمثيل (سياسي وجمالي) تغلغلت في كلّ جوانب الحياة. السياسة تحوّلت إلى أداء مجّاني يعيد إنتاج العجز بدل حلّه؛ المدينة إلى ديكور قابل للإزالة وإعادة البناء دون ذاكرة؛ الحبّ إلى فانتازيا محكومة بمنطق الامتلاك والعرض؛ الجسد إلى شعار صاخب يخفي صمت المعنى؛ واللغة إلى حلبة صراع هويّاتي فارغ.

 إن المسرح يحيط بنا من كلّ جانب – خشبة كبرى بحجم الوطن يقف عليها أشباح الماضي وأوهام الحداثة ليكرّروا مشهداً تلو الآخر. وما لم نخرج من أسر هذه البنية المسرحية، بأن نهدم الجدار الرابع بيننا وننزل إلى أرض الواقع التفاوضي الحيّ، فستظلّ حياتنا العامّة مجرّد فُرجة… فُرجة مثيرة أحياناً، مؤلمة غالباً، لكنّها دائماً عاجزة عن التغيير. لقد آن أوان البحث عن لغة جديدة وصناعة قصّة مختلفة، نستعيد بها حقّنا في الاعتراف والتوسّط وخلق مستقبل نابع من صلب تاريخنا، لا مفروض علينا من علٍ كفصل آخر في مسرحية طويلة.

جنى بركات - صحافية لبنانية | 14.11.2025

“ستارلينك” لبنان: ما علاقتها بوزير الاتّصالات وبالشبهات المرتبطة بمعاقَب أميركياً؟ 

مع دخول "ستارلينك" إلى لبنان، برزت إشكالية حول مساعي الشركة الأميركية للتعاقد مع "Connect Services Liberia" كموزّع لخدمات "ستارلينك" في لبنان، من دون فتح باب المنافسة بين الشركات الأخرى، وهي الشركة التي سبق أن ترأّسها وزير الاتّصالات الحالي شارل الحاج. 
11.10.2025
زمن القراءة: 15 minutes

في الحبّ تظهر هشاشة الذات الذكورية بوضوح؛ هنا تنكشف حدود المجّانية التي تفزع السياسي المحترف. فالحبّ تجربة مجّانية بالمعنى الفلسفي: دوافع الرغبة فيها غامضة، والأحكام مؤجّلة باستمرار، والعلاقة مفتوحة على المجهول بلا ضمانات.

ماذا لو كانت السياسة في مصر مجرّد عرض مسرحي كبير؟ هذا هو السؤال الجريء الذي ينبض في قلب كتاب “الجغرافيا المقلوبة: عن الحداثة المصرية ومآزقها” لمهاب نصر (تحرير مينا ناجي). 

يقدّم الكتاب رؤيةً مُفزعة بقدر ما هي مُتبصّرة: السياسة المصرية لا تُمارَس كفعل تفاوضي حقيقي بين قوى ومصالح، بل تُعاش كـ”عرض” مستمرّ يعيد إنتاج العجز والخواء بدلاً من تجاوزهما. هكذا، تتبدّى المدينة والحبّ والجسد واللغة والتمثيل كأوجه متعدّدة لبنية واحدة؛ بنية مسرحية يصبح فيها الجميع ممثّلين على خشبة وطن متخيّل. هكذا تُدار السلطة كمعادلة مجّانية، بلا موضوع فعلي وبلا مفاوضة، ونكتفي نحن بتكرار أدوار مرسومة سلفاً على مسرح يتعذّر كسره إلا  عبر العنف أو الجنون.

يأخذنا الكتاب في فصوله عبر مجالات شتى – الأدب والسياسة والحبّ والجسد والعمران واللغة – ليبيّن كيف تتكرّر عبرها البنية المأزومة ذاتها. سرعان ما نكتشف أننا أمام أب غائب يخيّم اسمه الرمزي من دون جسده، وسلطة مجّانية بلا أساس، وفُرجة تعمّ جميع نواحي الحياة: من علاقة المواطن بالدولة، إلى علاقة العاشق بالمعشوق، إلى علاقة الفرد بجسده ومدينته ولغته. كلّ شيء يتحوّل إلى مسرح للتمثيل الرمزي، فيما الفعل الحقيقي مؤجّل أو مستحيل. تلك هي “الجغرافيا المقلوبة” التي يشي بها عنوان الكتاب: واقع مقلوب ينكفئ إلى الداخل، ويعيد تدوير عجزه بدل أن يتّجه إلى الخارج لصنع تاريخ جديد.

الوطن كشخصيّة على المسرح

في الفصل الأوّل من الكتاب، يأخذنا مهاب نصر إلى عالم نجيب محفوظ الروائي لنفهم جذور هذه البنية المسرحية. المكان الروائي المحفوظي يتحوّل إلى مشهد ثابت معزول، شقّة مفروشة أو عوّامة أو بانسيون، ليس كديكور اجتماعي بل كاستعارة سياسية ووجودية.

إن القاهرة في روايات محفوظ تبدو كمسرحٍ حقيقي تحاصره الصحراء والفراغ من كلّ جانب، فيعيش أبطاله في عزلة قدرية عن العالم الواقعي. يصف مهاب هذه الحالة بقوله: يصبح الوطن شخصاً اعتبارياً يقف على خشبة مسرح، أو هو خشبة المسرح ذاتها التي يتناوب عليها الأبطال التراجيديون“. على هذه الخشبة، يؤدّي الجميع أدوارهم بروح مأساوية، حيث الأسئلة الوجودية تُصبغ بصبغة سياسية شاملة: من نحن؟ وإلى أين نسير؟

المدينة في هذه الرؤية ليست فضاءً حيّاً يتفاعل مع ناسه، بل إطار قهري من العزلة. شخصيّات محفوظ “تجيء وتمضي كالأشباح” لا يتحقّق وعيها بذاتها إلا عبر تركيز داخلي على إثم غامض وجريرة بلا جناة. وحين يتحرّك المشهد أخيراً، يكون ذلك بانفجار اعترافي: مثلاً في رواية “ثرثرة فوق النيل”، لا يخرج رُوّاد العوّامة من غيبوبتهم الاختيارية إلا بعد اصطدام سيّارتهم بجسد شخص مجهول ومقتلِه. اللحظة المسرحية هنا هي لحظة انكشاف وفاجعة دفعت الشخصيّات إلى مواجهة حقيقتها، لكنّها مواجهة من نوع اعترافي مغلق. 

“لكنّ الرواية الأكثر دلالة حقّاً في هذا الجانب هي “أفراح القبّة”، نقتبس هنا من مهاب نصر هي رواية “أفراح القبّة” هو اسم مسرحية يقترحها مدير إحدى الفرق على ممثّليها، حيث يكتشفون أنها لا تحكي إلا حياتهم، بكلّ تفاصيلها الملأى بالخيانة والقهر والجريمة والدعارة. ويجد أبطال الرواية أنفسهم في وضع شاذّ، يمثّلون كلّ يوم على خشبة المسرح سقطاتهم بالذات. هذا ما يصرخ به أحد الممثّلين في وجه مدير الفرقة: “ما هي بمسرحية، إنها اعتراف هي الحقيقة نحن أشخاصها الحقيقيون…”. 

تلقى المسرحية نجاحاً رغم اعتراض الممثّلين الذين يواجهون أنفسهم كلّ ليلة. وينطلق الحكي من هذه اللحظة بالذات التي يتحوّل فيها المسرح واقعاً، حيث تتكوّن الرواية من مونولوجات متوازية تحكي فيها كلّ شخصيّة، اتكاء على اللحظة نفسها تاريخ أزمتها. هناك جريمة أو جرائم وهناك شعور حارق بالمسؤوليّة يتكرّر لدى محفوظ في أعمال كثيرة، تنطلق من ضرورة تجاوز التاريخ المخزي. فعلى مدى أعماله الروائية، يمكن الاعتقاد بأن محفوظ يكتب رواية ما قبل التاريخ، ومن هنا تكمن نموذجيتها.

هكذا يتحوّل الأداء إلى غاية بذاته، إلى تطهير جمالي يمنح المهزومين كرامة شكلية،  كرامة جمالية للذين حُرموا منها في الحياة، لكنّه في الوقت نفسه يرسّخ استثنائية الوطن بوصفه كياناً مطلقاً خارج التاريخ. 

إنهم يعترفون باغترابهم على الخشبة ويحقّقون حضورهم الكامل في اعتراف مسرحي، بدل محاولة تغيير واقعهم المنقوص. وبذلك تصبح تلك الاعترافات نهايةً مغلقة لمأساتهم؛ لأن الواقع لا يُرَى إلا من وراء مسافة، عبر مرآة المسرح. إن الأب الغائب يخيّم على هذا المشهد بوصفه سلطة رمزية تسكن خلف الستار؛ لا حضور له في الواقع، لكنّ اسمه (اسم الأب) حاضر كقانون ميتافيزيقي. في غياب أب فعلي يؤسِّس الهويّة، يتحوّل الوطن/ الأب إلى شبحٍ رمزي مهيب، وإلى سؤال لا كيان له: سؤال الهويّة الذي يلاحق الجميع دون إجابة تاريخية واقعية.

هذه البنية تفسّر لماذا تبدو السياسة في جيل محفوظ أفقاً للوجود برمّته.

لقد حلّ السؤال السياسي من نحن؟ محل سؤال العقل أو الكينونة، ولكن دون أن يجد حلاً تفاوضياً عملياً. كلّ ما لدينا هو عرض مستمرّ لذات مأزومة تبحث عن تبرير وجودها، بمعزل عن تاريخ مشترك أو عقد اجتماعي حقيقي. لذلك ليس الواقع مركزاً للصراع/ الحوار في أعمال محفوظ، كما يلاحظ مهاب؛ فالصراع الحقيقي يدور على خشبة الرمز والمعنى، في الفراغ بين المثال والواقع. 

النتيجة هي عنف كامن في قلب المشهد: ما دام التفاوض والتفاعل غائبين، يتراكم العجز ليصبح عنفاً ضمنياً ضدّ الذات. إنه عنف مغلّف برداء الأسطورة والقداسة أحياناً، كما في رواية “حضرة المحترم حيث البيروقراطية تظهر كاستعارة تجمع بين القداسة والمجون. 

عثمان بيومي، الموظّف الذي يكرّس حياته للترقّي الإداري، ليس سوى ذراع السلطة العدمية؛ وجوده كلّه مستمدّ من عبادة السلطة لذاتها. فهو يرى في صعوده الوظيفي تجلياً لمعنى أعلى يغنيه عن التفكير في معنى الحياة. ومثل ذلك الموظّف، تتماهى الشخصيّات مع أدوارها بوصفها استعارات فارغة؛ يكسبون احترامهم لذواتهم فقط عبر تمثيل مثال متعالٍ، لا عبر تحقيق مصالح أو حقوق واقعية. هكذا تتحقّق معجزة غريبة في المخيال الجمعي: سلطة بلا مبرّر جوهري، تستمرّ لمجرّد استمرارها، وتبرّر ذاتها بخطاب الأمن والثبات الذي “لا يعني أي شيء… لكنّه يختم بغموض نهائي موضوعاً لا يمكن النقاش فيه”.

الحبّ والسلطة: وهم اللقاء المستحيل

إذا كان الوطن/ المدينة في النصّ بمثابة مسرح كبير، فإن علاقة الحبّ في مجتمع كهذا ليست خارج العرض، بل هي مشهد موازٍ على الخشبة ذاتها. ينتقل الكتاب في بابه الثاني إلى تفكيك سياسات الحبّ، ليبيّن كيف تشابهت سلطة الحبّ مع السلطة الوطنية. ففي الحالتين هناك تطابق مهووس مع الذات المثالية، دون جذور تاريخية أو اجتماعية حقيقية. حبّنا الحديث – كما تصوّره سردياتنا – يبدو مرتهناً بنظام قيمي عالمي أُلقي فيه دون أن يكون جزءاً فعلياً منه ؛ أي أنه خيال معلَّق في الهواء، بلا موضوع واقعي سوى أشواق مبتورة. إننا نقلّد فكرة الحبّ كما سوّقتها الحداثة (أو السينما وقصص الرومانس) لكنّنا نعجز عن توطينها في حياتنا اليومية. لذا يظلّ الحبّ عندنا مستحيلاً و”خيالياً” بالمعنى اللاكاني؛ مجالاً للشطحات والحظر معاً، تغذّيه التوقّعات المطلقة وتحاصره المحرّمات الاجتماعية.

في مجتمع أبوي متأزّم، تغدو المرأة رمزاً متضخّماً لهذه المعادلة. يشير مهاب بعمق إلى وضع المرأة بوصفها السلطة النهائية، والرمز الكلّي الذي يعيّن الأدوار ويظلّ أمره لا يُمسّ، لأنه جوهر الهويّة/ البيت. المرأة هنا تمثّل الأصل الذي يحمي هويّة البيت/ الوطن، لكنّها في الوقت نفسه موقع التوتّر وكبت الرغبات. فبينما يُنتظر منها أن تكون المثال النقي (الأم، الشرف، الأرض الرمزية)، تُعامل واقعياً كمحلّ للسيطرة والقمع، لأنها تحمل “الآخرية غير القابلة للاختزال” داخل البنية الذكورية. يقرأ الكتاب علاقة الرجل/ المرأة بوصفها الجسر الحقيقي حيث يلتقي العيش/ الحياة بالمعنى السياسي. 

في الحبّ تظهر هشاشة الذات الذكورية بوضوح؛ هنا تنكشف حدود المجّانية التي تفزع السياسي المحترف. فالحبّ تجربة مجّانية بالمعنى الفلسفي: دوافع الرغبة فيها غامضة، والأحكام مؤجّلة باستمرار، والعلاقة مفتوحة على المجهول بلا ضمانات.

 الحبّ ليس شيئاً، إنه مجال للتوتّر، علاقة. هذه اللا نفعية (المجّانية) تقلق عقليّة السلطة التي تريد كلّ شيء مضبوطاً ومصنّفاً. لذا يرتاح السياسي إلى إطار الأسرة التقليدي، لكنّه “يشعر بالهول أمام تجربة الحبّ”، ويسعى إلى الهرب منها باستبدال الحبّ بالحكم. أي أنه يفضّل سلطة لها موضوع ظاهر (القوانين، الامتثال، الامتلاك) على مواجهة العلاقة الإنسانية الحرّة التي تضعه أمام آخر لا يخضع بالكامل.

في تحليل مهاب، تمّ فهم الحبّ خطأً على أنه مجرّد رغبة يمكن إخضاعها لقواعد، كما فُسِّرت السياسة على أنها مجرّد حُكم. لكنّ الحقيقة المأساوية أن الحبّ يشكّك في بنية الرغبة ذاتها ويؤجّل السلطة الكامنة فيها. حين نحبّ، نفتقر تلقائياً إلى السيطرة الكاملة ونحتاج إلى الاعتراف من الآخر على قدم المساواة. 

من هنا يصبح الحبّ تحدّياً لبنية السلطة الأحادية: إنه المجال الذي تظهر فيه حرّية بلا موضوع – حرّية قد تنقلب إلى تكرار عقيم إن لم تجد تحقّقاً فعلياً. يحيلنا الكاتب إلى نقد نيتشه لموسيقى فاغنر بوصفها ذروة خداع فكرة التعبير في الفنّ؛ فاغنر الذي يخدّر الجمهور بعاطفة جماعية نحو هدف غامض، وينتج فنًاً درامياً زائفاً يعد بالمستقبل دون أن يحقّقه. 

كذلك تفعل سرديات الحبّ والسلطة لدينا: وعود مثالية بالحرّية والخلاص، لكن بلا نسل حقيقي أو أثر مستدام  “زيغفريد يحرّر المرأة… لكن دون أمل في نسل”. إن حرّية كهذه، بلا موضوع حقيقي، تظلّ عقيمة داخل نظام من التكرار. وفي النهاية، يصبح المجتمع كلّه ممثّلاً يؤدّي دوره بلا انقطاع؛ الجميع ممثّلون بدرجة ما، يمارسون الحياة بوصفها أداء في العراء. لقد انتهى عصر “المعنى” مادام التعبير قد انفصل عن أي مرجعية خارجية؛ صارت اللغة قوّة في ذاتها، نوعاً من العنف التكميلي الذي يعبّر عن العجز المستحكم.

الجسد وحقّ التعبير: بين الإهانة والإغواء

 يخصّص نصر الباب الثالث لسياسات الجسد في سياقنا المعاصر، ليكشف تناقضاً آخر من تناقضات الحداثة المقلوبة. فلطالما بشّرت الديمقراطية الحديثة بشعار “الحقّ في التعبير”، ورأت في إطلاق حرّية الجسد انتصاراً إنسانياً. لكنّ الكتاب يطرح السؤال من زاوية مغايرة: هل حاجة الجسد الأساسية أن يعبّر عن نفسه، أم أن يُشبع رغباته ضمن علاقة لها معنى؟ إن رفع شعار حرّية التعبير الجسدي – في غياب علاقة حقيقية مع آخر – هو في نظر نصر إجابة عن سؤال خاطئ. يقول بصراحة: “ليست قضيّة الجسد أن يعبّر، بل هناك بالأساس رغبة تسعى إلى الإشباع، رغبة موجَّهة إلى الآخر تحديداً”. أي أن الجسد لا يطلب مجرّد الإفصاح أو الاستعراض، بل يطلب أن يُحَبّ ويُرغَب فيه ضمن علاقة متبادلة. التركيز على “الكلام” و”الظهور” أخفى الجوهر الأعمق للمسألة: هل يستطيع الجسد أن يجد اعترافاً وقبولاً حقيقياً لدى جسد آخر؟

يرى نصر أن الخطابات الحداثية حول تحرير الجسد أفضت إلى نتيجة عكسية غير مقصودة: فقد تشيّأ الجسد وانعزل بدل أن يتحرّر.

 أصبحنا بإزاء إنسان يختزل كيانَه كلّه في جسده، ثم يقيم حوله حصونأً قانونية وأخلاقية صارمة. أي لمسة غير مرغوبة باتت تُعتبر إهانة مطلقة للذات، وكأن حدود الجسد غدت حدود الهويّة التي لا تُمسّ. 

لقد وُضع أي انتهاك جسدي – ولو عابر – في مصاف الخيانة العظمى. ظننا أننا نحمي الأفراد من العنف، لكنّنا في الحقيقة جعلنا الجسد كلّ شيء، فصار أكثر هشاشة وعُرضة للعنف من أي وقت مضى. 

يقتبس الكتاب عبارة ثاقبة في هذا السياق: “هذا النفي الأخلاقي والقانوني للعنف نهائياً هو ما يفتح باب العنف المنفلت تماماً بلا أي غطاء. بمعنى أنه حين حاولنا القضاء على العنف كلياً وتحريم أي مساس، أطلقنا شكلاً جديداً من العنف أشد انفلاتاً وشراسة. يكفي أن ننظر إلى فيضان الصور في الثقافة الشعبية – أجساد مستعرَضة في الأفلام والأغاني والإعلانات، وأخرى مُعنَّفة في مشاهد الأكشن والرعب والإباحية – لندرك أن الهوس بنفي العنف “المشروع” (ضمن علاقة متفاوض عليها) انتهى بنا إلى عنف غير مشروع في كلّ مكان. وكذلك الأمر في الواقع الملموس: جرائم التحرّش والاعتداء لم تختفِ، بل ربما ازدادت وحشية وهمجية في السنوات الأخيرة، كأنما خرجت من عقالها تماماً.

لقد حوّلنا الجسد إلى ساحة حرب لأنه فُصل عن سياقه العاطفي والاجتماعي.

جسد بلا حبّ وبلا علاقة هو مجرّد كتلة صمّاء تصرخ في فراغ الهويّة المنغلقة دون أن يُصغي إليها أحد. وأي حديث عن “حقوق” هذا الجسد المعزول يصبح دوراناً في حلقة مفرغة؛ مطالبة تتلوها مطالبة دون موضوع حقيقي يُطالَب به.

 لذلك يرى نصر أن شعار “جسدي حرّيتي” إذا فُصل عن الحبّ والتواصل يتحوّل إلى فخّ: حرّية شكلية تنتج في الخلفية قمعاً من نوع آخر. هنا أيضاً يلمّح الكاتب إلى أن الحلّ يكمن في استعادة اللغة وسيطاً حيّاً بين الأجساد، واستعادة الحبّ إطاراً ومعنىً يُضفي الإنسانية على الحرّية الجسدية. 

فاللغة هي ما يحدّد موقع الأنا والآخر ويضبط علاقتهما ضمن تفاوض إنساني. ويذكّرنا نصر بأفكار المفكّرة جوديث بتلر حول تكوّن الذات: اللا وعي نفسه مأهول بالآخر من البداية، فنحن لا نمتلك ذواتنا أو أجسادنا بشكل مستقلّ مطلق؛ بل نتشكّل باستمرار عبر التفاعل المتبادل مع الغير. لذا فالإيمان بسيادة فردية مطلقة للجسد وهويّته هو ضرب من الوهم الذي يؤدّي إلى مأزق: إمّا عنف منفلت، وإمّا فراغ معنوي تامّ. البديل الذي يقترحه نصر ضمنياً هو الاعتراف بالتشابك التفاعلي بين الذوات. علينا أن نعترف بأن الجسد ليس ساحة لإعلان السيادة الفردية المنعزلة، بل ميدان اشتباك تفاوضي مع الآخرين. وهنا تأتي اللغة لتكون الأداة الأولى لهذا التفاوض.

مدينة “اللا مكان»: شاشة العرض الكبيرة

في مشهد حديث لحيّ المال والأعمال في العاصمة الإدارية الجديدة. هذه المدينة المبنية في الصحراء تبدو كأنها بلا تاريخ أو ذاكرة، تلمع مبانيها الزجاجية على اتّساع طرق ضخمة فارغة، نموذج حقيقي لـ”مدينة اللا مكان” التي يناقشها الكتاب.

في الباب الرابع، ينتقل نصر إلى المدينة ذاتها، طارحاً مفهوم  مدينة “اللا مكان. هنا نواجه مفارقة المدن المعاصرة التي تفقد مرجعيتها الجغرافية والتاريخية وتتحوّل إلى صورة مجرّدة. يشير الكاتب إلى أن معظم الكتابات عن المدينة المصرية كانت ذات طبيعة أدبية كلّية؛ إما تغني بـ”جمالية الحداثة” أو ترثي “سلطة الحداثة” في قسوتها. في الحالتين، يتمّ تناول المدينة ككيان كامل الحضور، مفارق للتاريخ وغير إشكالي، وكأنها مسرح جاهز للمشاهدة أو القصيدة. في المقابل، يحاول مهاب الكشف عن التناقضات المخفيّة في عمران المدينة وتحوّلاتها. يكتب نصّاً مشحوناً بالحنين والنقد معاً عن الإسكندرية (حيّ كامب شيزار)، فيستحضر نماذج اختفت وملامح تشوّهت، ويربط بين الكوزموبوليتانية البائدة والتشوّه الحديث المتضاعف.

القضيّة الأكثر إثارة للانتباه هنا هي بزوغ فضاء إلكتروني شبحي يوازي المدينة المادّية. هذا الفضاء الرقمي هو ما يسميه “اللا مكان”. إنه نتاج التكنولوجيا المدينية ذاتها، لكنّه لا جغرافي، يخترق الواقع الحضري ويعيد تشكيله. يقول مهاب: “يشكّل ضميره في اللحظة التي يبدو فيها وكأنه انعكاس لهذا الضمير نفسه”. بعبارة أخرى، صارت للشوارع شاشات مرآة تنقل نبضها وفي الوقت نفسه تصنعه. 

على وسائل التواصل والهواتف، تتحوّل المشاعر والحالات إلى شيء أكثر تجريداً واختلاقاً. الوعد والإمكان يمسيان افتراضيين، واللقاء الإنساني ينتقل من الساحات العامّة إلى الغرف الخاصّة أمام الشاشات. 

صحيح أن هذا الفضاء الإلكتروني يمنح الفرد حرّية حركة وتعبير أوسع، لكنّه ينزع الجسد من المعادلة. نحن حاضرون إلكترونياً بلا حضور جسدي؛ نرى العالم عبر الصور دون مشاركة مادّية. هكذا يفقد المكان تاريخه، وتصبح الأحداث مجرّد فرص لظهور الصور مرّة أخرى. “كلّ واقعة تُختزل إلى لقطة قابلة للتكرار والمشاركة، مما ينفي فرادة الحدث ويتسبّب في اغتراب الذاكرة”. لقد تحوّل التاريخ نفسه إلى جزء من مشهديّة مصطنعة؛ كأننا نعيش في بثّ مباشر دائم لأحداث تتكرّر بلا تراكم معنى.

هذه المسرحة الشاملة للمدينة تجعل المكان الحضري أشبه بحلبة عرض: العمارات، الجسور، الميادين تُبنى وتهدم كأنها ديكورات في مشهدية ضخمة. ففي الواقع المصري اليوم، نرى بعين اليقين مصاديق هذه الأفكار. خلال انتفاضة يناير 2011، حين نزل الشباب ينظّفون الشوارع بأنفسهم، بدت اللحظة كأنها محاولة بائسة أخيرة للتشبث بمدينة حقيقية. لكن بعد ذلك بسنوات، تحوّلت القاهرة إلى ساحة مشاريع استعراضية: عاصمة جديدة في الصحراء، طرق شاسعة وكباري تطعن أحياءها القديمة، واجهات زجاجية وأبراج شاهقة تلمع كأنها تصل الماضي بالحاضر لكنّها في الواقع تقطع الصلة بينهما.

هكذا نحصل على مدينة لا مكان بامتياز؛ مدينة ترفع شعار الحداثة والتطوير لكنّها تساوي بين الحقيقي والزائف بطريقة عبثية. فقد تُهدَم أعرق مقابر القاهرة التاريخية لإفساح طريق لجسر عابر، ويُقتل تراث حيّ عمره قرون باسم مدينة المستقبل. كلّ ذلك يجري كأننا نبدّل ديكور المسرح بين فصل وآخر، غير عابئين بأن ما يُمحى ليس مجرّد حجر وطوب بل ذاكرة ونسيج حياة.

انهيار التفاوض: بين الفصحى والعاميّة ونهاية الكلام

أخطر أبعاد الأزمة المسرحية التي يكشفها الكتاب يأتي في الباب الخامس، حيث إشكاليات التعبير واللغة. هنا يصل التشخيص إلى جذوره العميقة: لقد تعطّل التوسّط اللغوي بين الناس، ففشلت اللغة في أداء وظيفتها كأداة تفاوض وفهم متبادل. 

يبيّن مهاب كيف أن تقديس الجماهير للغة الفصحى من جهة، وتقديم العاميّة كراية لهويّة المواطن العادي من جهة مقابلة، قد يكونان وجهين لمشكلة واحدة. 

الفصحى تُعامل كلغة مقدّسة تعلو عن الحياة اليومية “مقدّسة وزائفة معاً”، لأنها مرفوعة كشعار هويّة مستحيلة التطبيق. والعاميّة تُستخدم كرمز سياسي للواقع الشعبي، لكنّها في الحقيقة تعيش حالة تخثّر وانحلال مع تجزّؤ الشخصيّة وانغلاقها. كلّ من الفصحى والعاميّة إذاً تعجز عن التحوّل إلى لغة حيّة بالمعنى العميق، لأنهما عالقتان في فخّ الهويّة بدل أن تكونا وعاء للتواصل المتناقض والخصب.

يوضح مهاب هذا الأمر مستعيناً مرّة أخرى بعالم محفوظ الروائي. فالحوار في أدب محفوظ فصيح شكلاً، لكنّه يكشف عدم أصالة ما يدور في الواقع. إن شخصيّاته تتراشق بالكلام كأنها تؤدّي مشهداً تمثيلياً أكثر مما تخوض حواراً حقيقياً. والسبب أن الواقع الاجتماعي ذاته في مصر لم يكن قطّ ساحة حوار أصيلة؛ الواقع ليس مركز الصراع كما أسلفنا. ومن ثم جاء الحوار الروائي أشبه بتمثيل رمزي للعجز عن الحوار الواقعي، وصور جوهر العنف الكامن في تواصلنا. فحين تغيب لغة التفاوض، لا يبقى سوى العنف الرمزي ثم المادّي.

يحذّر الكتاب من تخيّل إمكانية وجود لغة نقيّة معصومة تعبّر عن هويّة خالصة. هذه الفكرة بذاتها تجعل اللغة “مخزناً لعنف مستتر”، لأنها تحمل دوماً شعوراً بالنقص وعبئاً مضافاً ورغبة دفينة في فرض الذات بالخارج. 

هكذا تنتهي كلّ لغة هويّاتية، فصحى كانت أم عاميّة، إلى طريق مسدود: “كلتاهما تُسقط التفاوض والتعثّر والشكّ، وتُبقي اليأس أو نهاية الكلام”. وبالفعل هذا ما نشعر به اليوم: نهاية الكلام.

الجميع يصرخون بشعارات وهتافات، أو يتبادلون اتّهامات وهزلاً على مواقع التواصل، لكن لا أحد يسمع أحداً في حقيقة الأمر. لقد صار الكلام ذاته أداةً للإقصاء والتنفيس، لا أفقاً للفهم والتقدّم للأمام. وفي مثل هذه الأجواء، يصبح التخلّص من الإشكال برمّته – عبر إدانة الذات أو جلد الآخر – مخرجاً سهلاً لكنّه تدميري. الكثير يختارون الصمت أو الانفصال (عزلة فردية، هجرة داخلية أو خارجية)، والبعض يختارون التقوقع في هويّة صلبة تبرّر العنف. وفي كلّ الحالات يُسدل الستار على أيّ تفاوض مجتمعي حقيقي.

لكنّ مهاب نصر لا يتركنا دون بارقة أمل. 

في ختام الكتاب، يتحدّث عن ضرورة إدراك الكتابة بوصفها سرداً واعياً بذاته. إذا كان الأدب الحالي قد فقد ثوريته وصار مجرّد “ترصيع أخلاقي عدمي، فإن الحلّ ربما في تبنّي نهج مختلف: أن نكتب ونحكي ونحن مدركون أننا نصنع حكاية لا تدّعي كشف الحقيقة العارية ولا تتنصّل منها تماماً. 

بل تسعى هذه الحكاية إلى “خلق إيناس بالحاضر، وتطوير الطبيعة العلائقية المتشابكة للبشر”. أيّ أدب وأيّ خطاب نريده يجب أن يتقدّم إلى الأمام مفتوحاً على الممكنات والأسئلة الجديدة، بدل أن يحبس نفسه في غاية نهائية أو ينفي ما قبله كلّياً. هذه الرؤية النقدية للأدب تنطبق بالقياس على السياسة والحياة العامّة أيضاً: علينا أن نتقدّم دون أن ننفي، أن نبني منطقاً للتفاوض يعترف بالواقع المتنازع عليه ولا يدّعي حلوله السحرية.

أسوار تتهاوى: العرض يمتدّ إلى العمران

مقبرة تاريخية مهدومة في القاهرة ضمن موجة واسعة لإزالة جبانات العاصمة بحجّة إنشاء طرق ومشاريع جديدة. المشهد يُظهر جداراً مزخرفاً من مقبرة عائلة عريقة بعد أن نال منه البلدوزر، وتحوّل المكان إلى أنقاض متناثرة. هكذا تُمحى شواهد القرون في لحظة، لإفساح المجال لواقع “جديد” ينقطع عن ماضيه. 

في خاتمة المطاف، يربط “الجغرافيا المقلوبة الخيوط النظرية بالواقع الملموس في مصر اليوم. ما كشفه الكتاب فكرياً عن بنية الفُرجة والعجز نجده متجسّداً في شكل العمران الراهن وسياسات الدولة المدينية. فقد شهدنا خلال الأعوام القليلة الماضية اندفاعاً محموماً نحو بناء عواصم جديدة تماماً في قلب الصحراء، إلى جانب شقّ طرق سريعة وكباري ضخمة تخترق نسيج المدن القديمة بلا رحمة. 

هذه المشاريع تُقدَّم للجمهور في خطاب السلطة كعلامات الحداثة والتطوير، لكنّها عملياً أقرب إلى مشاهد استعراضية من كونها حلولاً لمشاكل حقيقية. إنها مسرحة للسلطة على أرض الواقع: بناءات عملاقة تُعلن قوّة النظام وقدرته على الفعل، ولكن دون تفاوض مع المجتمع أو التاريخ. كأن الدولة تقول: سنخلق واقعاً جديداً من العدم، مجّانياً بلا تكلفة سياسية أو تشاور، كما يخلق المخرج ديكوراً جديداً على المسرح بين فصلين.

لا عجب إذاً أن العاصمة الإدارية الجديدة نفسها – وهي المشروع الأضخم – توصف بأنها مدينة بلا قلب تاريخي: مجرّد وزارات وأبراج وبحيرات صناعية في قلب الصحراء. مدينة تلمع وسط الغبار الزاحف كما كتب مهاب عن القاهرة الحديثة، لكنّها هذه المرّة غبار من نوع آخر: غبار النسيان المتعمّد لكلّ ما كان قبلها. إنها مدينة مقلوبة الجغرافيا حقّاً، حيث تنتصب ناطحات سحاب تحمل أسماء لامعة فوق رمال لم تعرف عمراناً قبلها. كلّ شيء مصنوع ومنمّق ليكون لوحة لمستقبل افتراضي – عرض كبير – بينما القاهرة الأصلية بأزقتها وتاريخها تُطوى على عجل كذكرى محرجة. لقد تحقّق على الأرض ما رصده الكتاب نظرياً: “التاريخ مجرّد عنصر في مشهديّة مصطنعة”. فها نحن نحيا تاريخاً مستأنفاً على هيئة عروض افتتاح واستعراضات إعلامية لإنجازات معزولة عن سياقها.

في المحصّلة، يكشف لنا كتاب “الجغرافيا المقلوبة” أن أزمتنا الحديثـة مركّبة ومعقّدة: إنها أزمة تمثيل (سياسي وجمالي) تغلغلت في كلّ جوانب الحياة. السياسة تحوّلت إلى أداء مجّاني يعيد إنتاج العجز بدل حلّه؛ المدينة إلى ديكور قابل للإزالة وإعادة البناء دون ذاكرة؛ الحبّ إلى فانتازيا محكومة بمنطق الامتلاك والعرض؛ الجسد إلى شعار صاخب يخفي صمت المعنى؛ واللغة إلى حلبة صراع هويّاتي فارغ.

 إن المسرح يحيط بنا من كلّ جانب – خشبة كبرى بحجم الوطن يقف عليها أشباح الماضي وأوهام الحداثة ليكرّروا مشهداً تلو الآخر. وما لم نخرج من أسر هذه البنية المسرحية، بأن نهدم الجدار الرابع بيننا وننزل إلى أرض الواقع التفاوضي الحيّ، فستظلّ حياتنا العامّة مجرّد فُرجة… فُرجة مثيرة أحياناً، مؤلمة غالباً، لكنّها دائماً عاجزة عن التغيير. لقد آن أوان البحث عن لغة جديدة وصناعة قصّة مختلفة، نستعيد بها حقّنا في الاعتراف والتوسّط وخلق مستقبل نابع من صلب تاريخنا، لا مفروض علينا من علٍ كفصل آخر في مسرحية طويلة.

11.10.2025
زمن القراءة: 15 minutes
|

اشترك بنشرتنا البريدية