طرحت الكاتبة أسماء عثمان الشرقاوي كتابها “كاملات عقل ودين.. دفاعاً عن سنة رسول الله”، بوصفه (كما يظهر من عنوانه وغلافه) سعي للدفاع عن نبي المسلمين من تهمة انتقاص المرأة، على أساس فرضية مفادها أن الحديث النبوي الذي يشير إلى “نقصان عقلها ودينها” لا يعني الحط من قدرها، وهذا ما يتّضح في الكتاب، الذي يحاول المقارنة بين هذا الحديث والنصوص القرآنية والسنة النبوية ككل، ليصل إلى أن الإسلام لا يميّز ضد المرأة.
كتاب في مهب السلفية المصرية؟
قوبل الكتاب برفض منقطع النظير، وتعرّضت الكاتبة نفسها لحملة من السباب كان أكثر منتقديها رجال، فيما ظهرت حملات عدائية شنّتها نساء من التيار السلفي. فلماذا غضب السلفيون المصريون، برغم أن الكتاب يناقش أمراً يخص المسلمين عامة؟ وهل حقاً وُضع الكتاب تحت مجهر علماء الأزهر لفحصه؟ وكيف واجهت الكاتبة الحملة العنيفة الموجّهة ضدها؟
الكاتبة لم تترك مجالًا للتشكيك في مؤهلاتها العلمية، فهي حاصلة على دبلوم من معهد الدراسات الإسلامية ومعهد إعداد الدعاة، وهو ما يعكس حرصها على تقديم طرحها من داخل المنظومة الدينية وليس من خارجها.
لكن المشكلة لم تكن في المنهجية البحثية التي أوردتها في طرح رؤيتها البحثية، بل في فكرة أن تجرؤ امرأة على القول إن النساء “كاملات” عقلاً وديناً. مجرد هذا الطرح كان كفيلاً بإثارة غضب أنصار الفهم السلفي التقليدي الذين يرون هذا العنوان انتهاكاً للمسلّمات المتوارثة. ومن هنا بدأت المعضلة في قبوله.
لم تشفع شهادات أسماء العلمية، ولا عملها في مجال الدعوة الإسلامية لمدة ربع قرن، إذ سحبت دار النشر الكتاب من معرض القاهرة الدولي للكتاب، فكتبت إحداهن تعليقاً على الخبر، أن كونها تعلّمت في معهد الدراسات الإسلامية لا يؤهّلها للحديث عن صحة الأحاديث النبوية من عدمها، فالأمر مقصورة مناقشته على العلماء الرجال الجهابذة، فضلاً عن اتهامها بتكذيب النبي في كتابها وليس الدفاع عنه.
كان مصطفى الهواري خريج معهد إعداد القادة في الجيزة، من أبرز منتقدي الكتاب، حيث وصفه بـ”المشؤوم” ونعت مؤلفته بـ”الجاهلة الحمقاء”، معتبراً أن محتواه يتضمّن طعناً في صحة العديد من الأحاديث النبوية، واعتبر الهواري ذلك افتراءً على الدين، مما دفعه إلى المطالبة بإلزام دور النشر بعرض الكتب الدينية على علماء الأزهر قبل طرحها للجمهور.
موقف دار السراج
في المقابل، نفى أحمد الملام ممثل شركة “قمرة” المسؤولة عن تسويق إصدارات دار السراج، أن يكون الجدل الذي أثاره الكتاب ناتجاً عن حيلة تسويقية لزيادة المبيعات، وأكّد أن الكتاب خضع بالفعل للمراجعة من قِبل مجموعة من رجال الدين، الذين لم يعترضوا على مضمونه، لكنه أوضح أن الدار، بعد إدراكها أن عنوان الكتاب يتعارض مع حديث نبوي، عقدت اجتماعاً داخلياً قررت على إثره سحب النسخ المتداولة وإيقاف نشره.
وجاء قرار دار السراج بحجب كتاب “كاملات عقل ودين”، استجابةً لموجة الرفض العارمة التي أطلقها أنصار التيار الديني المحافظ عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وأكّدت الدار أنها لم تكن تهدف إلى المساس بالأحاديث النبوية، بل إلى طرح قضية للنقاش، لكنها أدركت أن مثل هذه القضايا غير مقبولة ضمن حدود الخطاب الديني السائد، مما دفعها إلى التراجع عن نشر الكتاب.
جاء بيان دار السراج ممتلئاً بالتناقضات. فمن جهة، أكّدت الدار أن الكتاب خضع لمراجعة لجنة مختصة قبل عرضه في جناح المعرض، لكنها في الوقت ذاته بررت سحبه برفض الجمهور له بعد عرضه، لكن البيان لم يذكر من هم أعضاء هذه اللجنة، ولم يُوضح المعايير التي استندوا إليها في مراجعتهم، مما يثير الشكوك حول حقيقة وجودها من الأساس.
لماذا لم تدافع دار النشر عن الكتاب والكاتبة؟
لم تتخذ دار النشر، موقفاً دفاعياً عن الكتاب، بل آثرت السلامة وسحبت الكتاب من جناحها في المعرض، خوفاً على مصالحها التجارية في سوق الكتب الدينية، هذا الرأي الذي ذهب إليه الكثير من المعارضين لقرار الدار، واعتبروا ذلك خنقاً وقمعاً إضافياً لحرية الفكر، وأن المنظومة الفكرية المفروضة على المجتمع، لا يمكن دمجها مع قيم الدولة المدنية والعقد الاجتماعي الحديث.
يقول الكاتب ماجد إبراهيم صاحب دار الياسمين للنشر والتوزيع، في حديثه مع “درج”: “إن سحب كتاب “كاملات عقل ودين” من قبل دار السراج، يُعدّ فضيحة كبرى في عالم النشر. فالإجراء المعتاد لسحب كتاب من الأجنحة الخاصة بدور النشر داخل المعارض، يحدث بموجب حكم قضائي صادر عن محكمة الأمور المستعجلة، وهي المحكمة المخولة بالفصل في المنازعات التي يُخشى عليها من فوات الوقت، أو بطلب رسمي من جهة رقابية مثل المصنّفات الفنية، لمراجعته والتأكد من عدم مخالفته القوانين. لكن في هذه الحالة، لم يكن هناك حكم قضائي ولا تدخل من جهة رسمية، بل جاء الحجب نتيجة لضغط السوشيال ميديا، في سابقة خطيرة تعكس هشاشة موقف الدار أمام العاصفة الإلكترونية”.
ويضيف: “اختارت الدار إرضاء جمهورها وكتّابها من التيار السلفي، فسحبت الكتاب تفادياً للمواجهة معهم، خصوصاً بعد الحملة العنيفة التي شُنّت ضد الكتاب والكاتبة. هذه الواقعة تكشف بوضوح مدى تأثير التيارات الدينية على صناعة النشر، وقدرتها على فرض رقابة غير رسمية على الفكر والإبداع”.
نال موقف دار السراج من حجب الكتاب، تقديراً من المحافظين الجدد، الذين ثاروا لمجرد التشكيك في فكرة أن المرأة “ناقصة”، وقابل نقداً لاذعاً من جهة التيار العلماني والتنويري والنسوي، واعتبر أن ما حدث مع كتاب “كاملات عقل ودين” ليس مجرد حادثة عابرة، بل هو نموذج لكيفية استحالة التوفيق بين التيار الديني المحافظ، وبين أي محاولة لإعادة قراءة النصوص بعيون أكثر إنصافاً للمرأة.
تعاطف الكاتبة وقبولها اعتذار الدار
تعاطفت الكاتبة أسماء الشرقاوي مع صاحب الدار، الذي اعتذر لها بعد تعرّضه لحملة هجوم إلكترونية شرسة من لجان مدفوعة، مما تسبب له في أضرار كبيرة، حسبما ذكرت ل “درج”، وقبلت اعتذاره قائلة: “إفعل ما تراه في مصلحتك، وأستودع الكتاب الله تعالى”.
تؤكّد الكاتبة أن الكتاب لم يُعرض على لجنة من قِبل الأزهر بعد سحبه من المعرض، ولا توجد دوافع سياسية لحجبه، لكنها تأثرت بالحملة الشنعاء التي شُنت ضدها، وتقول: “برغم الألم الذي شعرت به، كنت على يقين بأن الظلم، مهما بلغ، يمكن أن يتحوّل إلى نصر بإذن الله. والتجربة كانت صعبة، لكنها زادتني إيماناً بأن الله لا يُضيع أجر من يدافع عن الحقيقة”.
وأشارت إلى أن هدفها من الكتاب، هو إظهار حقيقة الدين التي شوهتها قرون من الجهل والتسلط، حسب وصفها، وأن هذا بالضبط ما يُوضحه كتاب “كاملات عقل ودين”، حيث يُبرز الفارق بين التعاليم النقية للدين وما لُفِّق له من ادّعاءات، وترى أن الحل ليس في الشكوى المستمرة، بل في أن نتعلّم ديننا كما أنزله الله، لنحمي أنفسنا والأجيال القادمة من التشويه المتعمّد.
المرأة أداة الحشد الشعبي الديني
يظل إخضاع المرأة وتحقيرها أحد أبرز الأدوات الرئيسية لتوسيع نفوذ التيارات الإسلامية في الشارع المصري، واعتمدت هذه التيارات على استخدام أساليب مختلفة على مدار العقود، مثل فرض الحجاب، والخمار، والنقاب، والآن، تستغل قوة السوشيال ميديا كوسيلة ضغط فعالة ضد أي خطاب نقدي يهدد مصالحها الفكرية والاجتماعية.
ونلاحظ أن الكاتبة صدر لها من قبل كتب دينية أخرى مثل كتابيْ: فهم الأقدار (نور للقلب والعقل) أسماء الله الحسنى (الملك، الرزاق، الغفار، العظيم، الأعلى) ولم ينتبه إليهما أحد، وهذا ما يتوافق مع رأي الدكتور مصطفى راشد وهو عالم أزهري وأستاذ قانون، الذي يرى أن “قرار الدار يعكس استمرار محاولات تقييد حرية الفكر، خاصة عندما يكون الموضوع متعلقاً بقضايا المرأة والنصوص الدينية التراثية عامة”.
وبحسب راشد، فإن “التشكيك في صحة الحديث من الناحية التاريخية والعلمية يُعدّ مشروعاً، لا سيما وأن أقدم مصدر له لا يتجاوز عمره 460 عاماً، وهذا بدوره يثير تساؤلات حول مدى صحته”، ويقول خلال حديثه مع “درج”: “يبدو أن بعض الجهات ترى في هذا الحديث وسيلة للهيمنة على المرأة، وليس مجرد نص ديني، مما يدفعهم للدفاع عنه بضراوة، حتى لو كان الأمر يتعلق بكتاب فكري يطرح وجهة نظر بديلة”.
الهجوم الذي لحق بصاحبة “كاملات عقل ودين”، لحق بالكاتبة دينا أنور التي نشرت لها دار الياسمين عام 2019، كتابها “خالعات الحجاب والنقاب”، تعرّضت أنور لحملة شرسة انتهت بضغط من جهات معينة لسحب الكتاب من معرض القاهرة الدولي للكتاب في دورته الخمسين، التي أُقيمت لأول مرة في منطقة التجمع الخامس، لكن الدار أبت الرضوخ لهذه الضغوط.
يعود ذلك نسبة إلى ما ذكره الناشط العلماني ومؤسس حركة “علمانيون” أحمد سامر، لرفض الصدام مع التراث الديني الإسلامي، الذي يعكس من منظوره نمطاً متكرراً من الهيمنة الدينية على المجال العام، مما يدفع الكثيرين من المحقّرين للمرأة، بالاستناد إلى أحاديث مثل “خاب قوم ولّوا أمرهم امرأة” أو “النساء ناقصات عقل ودين”، لتبرير إقصاء المرأة، برغم التشكيك في صحة هذه النصوص أو تأويلها بشكل انتقائي.
القضية ليست المرأة
كما يرى مؤسس حركة “علمانيون” أن القضية تتجاوز مجرد العداء تجاه المرأة أو التدخل في شؤونها، فهو يعتبر أن القوى الدينية تسعى لترسيخ سلطتها وسطوتها على المجتمع بأكمله، من خلال فرض أحكام مسبقة على فئات معينة، تارة ضد المرأة، وتارة أخرى ضد الفنانين والمفكرين والأقليات، ويقول خلال حديثه مع “درج”: “المرأة ليست الهدف الأساسي لهذه التيارات، لكنها تُستخدم كوسيلة لإحكام السيطرة على المجتمع. القضية ليست مجرد منع كتاب أو معارضة فكرة، بل هي ممارسة ممنهجة للهيمنة الفكرية والسياسية”.
بصدد مسألة سحب كتاب “كاملات عقل ودين”، ترددت تساؤلات عديدة ممن غضبوا لقرار الحجب، كان أبرزها: لماذا تُصادَر الكتب؟ إلى متى سنستمر في فرض الوصاية الفكرية على الناس، ونحدد لهم ما يحق لهم قراءته وما يُمنع عليهم؟ لماذا تحوّل الدين من رسالة إلهية إلى منظومة يتحكم فيها رجال ومؤسسات وكهنة نخشى على مشاعرهم أكثر مما نهتم بحرية الفكر والمعرفة؟ ويُرجع مؤسس حركة “علمانيون” ذلك إلى تجاوز المؤسسة الدينية ويقصد “الأزهر” دورها، و تغوّلها على مهام الدولة، مستشهداً بموقف المؤسسة من فيلم “الملحد” الذي تم إنتاجه قبل أربعة أشهر، من إخراج محمد جمال العدل، الذي انتقد بدوره وقف عرض الفيلم، وقصة الكاتب المعروف بنقده الدائم للتراث الديني إبراهيم عيسى، وربما كان ذلك أحد أبرز أسباب التحفّظ على الفيلم، وبالرغم من حصول الفيلم على موافقة الرقابة على المصنّفات الفنية، إلا أن بعض علماء الأزهر اعترضوا على مشاهد معينة، مطالبين بتعديلها.
ويرى سامر أن هذا التدخل في عمل إبداعي وفكري، يعكس إشكالية خطيرة في عصر الثورة المعلوماتية، التي لا مجال فيها لمنع أي كتاب أو حجب أي فكرة.
الإسلام النسوي: جدل بلا جدوى؟
أعادت هذه الواقعة الجدل الأوسع حول ما يُعرف بـ”النسوية الإسلامية” (Islamic Feminism) ضمن الآراء التي برزت كأحد أشكال السخرية من الكاتبة نفسها، واعتبر كتّابها محاولة تلفيقية للجمع بين متناقضين، باعتبار أن النسوية الإسلامية تحاول الجمع بين مبادئ المساواة والعدالة والمرجعية الدينية التقليدية.
ويرى أنصار النسوية الإسلامية، أنها تسعى لتقديم قراءة تأويلية للنص الديني، من خلال وضعه في سياقاته التاريخية والاجتماعية، التي أثّرت بشكل مباشر في فهمه وفي صياغة خطابه حول النساء. وعلى المستوى المضموني، تعمل على مراجعة القضايا النسائية التي يُنظر إليها تقليدياً على أنها ثابتة وغير قابلة للتغيير، سواء في الأحكام الفقهية أو في تمثّلات الواقع والمتخيّل حول المرأة.
ومن هذا المنطلق، تُعيد النسوية الإسلامية النظر في العديد من القضايا، مثل الجسد الأنثوي وآليات حجبه، والتراتبية بين الجنسين في الأحكام والمعاملات الاجتماعية كالزواج، والنفقة، والإرث، والطلاق، بالإضافة إلى موقع المرأة في المجال الاقتصادي وفرصها في العمل والمهن المختلفة.
كما تتناول الأبعاد السياسية لدور المرأة، بما في ذلك إمكان تولّيها الرئاسة أو ما يُعرف بالإمامة الكبرى، فضلاً عن إعادة التفكير في موقعها ضمن التمكين الديني، من خلال مسألة إمامة الصلاة أو ما يُعرف بالإمامة الصغرى. وقد حاولت نساء سابقات وتعرضن للفشل، منهن الناشطة درية شفيق، التي برغم نضالها، لم تستطع تحقيق اختراق حقيقي في مواجهة السلطة الذكورية السائدة، وعندما اصطدمت بالرئيس الراحل جمال الناصر، انتهى بها الأمر تحت الإقامة الجبرية حتى رحلت في عزلة وإحباط، كانت تأمل في أن الإصلاح من الداخل ممكن، لكن الرد جاء قاسياً وواضحاً: لا مجال لهذا التوفيق.
تتعمّد اللجان الإلكترونية السلفية حجب العامة ومنعهم من التفكير في الأمور الدينية، لا سيما التراث الإسلامي الذي يُستخدم كل ما جاء فيه مما يخص المرأة كوسيلة للحشد الشعبي… وتشكّل اللجان المدفوعة خطراً على حرية الرأي والتعبير وخطراً مماثل على حرية المرأة وكرامتها.
إقرأوا أيضاً: