بين جدران المنازل، أو خلف أقنعة الوجه، تحت وطأة القيود الحكومية للحد من انتشار فايروس “كورونا” وسلالاته، لن تكون الفسحة كافية، إلّا مع ما توفّره التكنولوجيا الحديثة من نوافذ، وأخيراً فُتِحَت واحدةٌ واسعة: موقع التواصل الاجتماعي “كلوب هاوس” clubhouse، الذي يعتمد المحادثات الصوتيّة الحية ويوفّر ميزة إنشاء غرفٍ يختار المستخدمون دخول إحداها والاستماع أو المشاركة في الحديث. ارتفع عدد مستخدمي التطبيق، الذي انطلق في نيسان/ أبريل 2020، من 600 ألف مستخدم في كانون الأول/ ديسمبر 2020 إلى نحو 11 مليوناً بظرفِ شهرين، ليحتلّ المركزَ الخامس في “آب ستور” بين تطبيقات التواصل الاجتماعي.

تسلل التطبيق، الذي لم يتوفر على نظام “الآنديرويد” بعد، بل يقتصر حصراً على الـapple store إلى هواتف العراقيين وحياتهم بسرعة لافتة، فتهافتوا عليه مطلقين لحناجرهم العنان، ربما لأنها عاشت مكممة، سياسياً واجتماعياً والآن صحياً، ولأن أصحابها يُسقطون الأيام من حياتهم، غارقين في همومِ توفير أبسط مستلزمات العيش، تلك التي يجب أن تكون في متناولهم، ويفترض بالدولة توفيرها. يضاف ذلك إلى أننا نتحدّث عن بلدٍ لا أمان فيه، بسبب التهديدات الأمنية، وفي بلد تحاصرُه قيود “المقدّس”، حتى في مواقع التواصل الاجتماعي الرائدة كـ”فايسبوك”، الذي بلغ عدد مستخدميه العراقيين 17 مليون مستخدم نشط في 2020 بحسب إحصاء لـ”مركز الإعلام الرقمي”. لا يُفصح مستخدمو “فايسبوك” عن كل ما يفكرون به، خوفاً من أذناب الأحزاب والميليشيات والشخصيات “المقدّسة” التي تصطاد كلّ نشاطٍ لا يتناسب معها.
في غرف “كلوب هاوس”، يتحدث العراقيون عن كلّ شيء، ربما لأنهم يفتقرون إلى كل شيء: يحوّلون آراءهم بالطبقة السياسية والحكومة إلى كلمات ويطلقونها في أرجاء البرنامج، يحرّرون آراءهم بالميليشيات والسلاح المتفلّت، يتناقشون في الانتخابات وجدوى خيارَي الاشتراك والمقاطعة ويتغنّون بانتفاضة تشرين متناولين مآلاتها وناقدين تفاصيلها.
بتعبير آخر: منح الابتكار الجديد العراقيين فرصة قتلتها أحزاب السلطة وسلاحها، وعوّض الحراك المدني التشريني حرمانَه من الاستمرار بالاحتجاج في معظم الساحات، ومن اللقاء والاجتماع والتباحث.
يلاحظُ زائرُ الغرف العراقية في التطبيق، تعطّشَ العراقيين للتعبير عن ذواتهم وتحرير أسئلتهم، ويُلَاحظ أيضاً، في حوارات القضايا العامة، نضج غير متوقّع في الطرح والتلقّي، وربما، تصدمه جرأة المتفاعلين.
لم يفوّت نشطاء الحراك الاحتجاجي التشريني يوماً إلّا وبنوا غرفةً وأثّثوها بنقاشات، من قبيل موقف تشرين من الانتخابات المقبلة، فخلقوا حواراً لإعداد ورقة تتضمن اشتراطات تشرين من أجل المشاركة في الانتخابات، ونقاشاً آخر عن مفهوم المعارضة السياسية تحت عنوان سؤال: هل للمعارضة مكان في برلمان العراق؟ وخُصِّصَت غرفٌ تناقش أهمية عزل انتفاضة تشرين عن محيطها المليشياوي وحماية شبابها من السلاح، والسبل إلى ذلك، وصولاً إلى بناء طبقات من الغرفِ التي تنتصرُ لتظاهرات الناصرية الأخيرة التي انتهت بـ”إقالة” المحافظ (26 شباط)، بعد 5 قتلى وأكثر من 130 جريحاً برصاص القوات الأمنية.
كسر التطبيق حاجزاً كان منيعاً، يفصل السياسيين عن المجتمع، فصارت بعض الشخصيات السياسية تطرقُ أبوابَ غرفه، خصوصاً تلك التي تتناول قضايا حساسة، والأهم من ذلك، هو جرأة الشباب على نقد هذه الشخصيات أو تياراتها بأسلوب هادئ يجبر الطرفَ الآخر إلى التفاعل والنقاش.
ولأن التواصل الصوتي، في التفكير الفطري، يزداد معه احتمال “مرور الكرام”، تشهد نقاشات معلومات خطيرة لم تكن معروفة للعموم، ومنها ما يخصّ اجتماعات واتفاقات السياسيين في أوقات الأزمة، أو تنبؤات للمشهد العراقي مرفقةً بمعطيات كانت في ما مضى تدرج في خانة “الحسّاسة”.
تمتد مساحة بعض النقاشات في غرفٍ متفرقة، إلى تابوهات اجتماعية قديمة، في وقت واحد، فقد ترى مجموعتين كبيرتين في غرفتين منفصلتين يناقشُ أعضاؤهما، الذكور في الغالب، قضايا تخصُّ المرأة، ويتنافس المشاركون على طرح رؤاهم في خلق نسويّة محلية تنتصر للمرأة بخطوات مدروسة، بينما ينهمك متحدثو غرفة أخرى في نقاش عن مساهمة المرأة في المجتمع والفضاء العام بشكل أكثر فاعلية.
“يعلّمنا كعراقيين ان نسمع الآخر، بل يجبرنا على ذلك، ويفتح امامنا المجال لسماع افكار الآخرين، وفهم طريقة تفكيرهم”.
كل هذه الأحاديث تمثّل إغراءً لأحزابٍ وميليشياتٍ عرفت بقمعها الأصوات الحرّة، لا في المشاركة بها والتفاعل معها، بل في مراقبتها ورصد النشطاء فيها.
يعي النشطاء في التطبيق خطورة ذلك: يتحسسون أوتارهم الصوتية، ينتبهون إلى كلماتهم وأحاديثهم الشفوية التي تمسّ سلطة الميليشيات وإجرامها، مع ضبابية في ما يخص مستوى الأمان الذي يوفره التطبيق. لكن ذلك لا يقلل من الجرأة في الطرح، حتى مع التحاق “النمل الإلكتروني” التابع لهذه الجهات بالتطبيق، عبر مراقبة غرف الحديث وتسجيل النقاشات التي تمسّها، ما يعني أن الرقابة والقمع يتسللان إلى “كلوب هاوس” أيضاً، ويشكلان خطراً على النشطاء.
لا تخفي صفا عماد، وهي إعلامية عراقية، خوفها “الأمني” من هذا التطبيق، لكنها في الآن عينه ترى انه “يعلّمنا كعراقيين ان نسمع الآخر، بل يجبرنا على ذلك، ويفتح امامنا المجال لسماع افكار الآخرين، وفهم طريقة تفكيرهم”. وترى أيضاً ان المواضيع المطروحة مهمة جداً ونحتاج إلى سماع الآراء فيها، خصوصاً في مواضيع كمثل “العنف ضد النساء”، الذي يتحول إلى موضوع أساسي في الغرف العراقية، وسمح لنساء عراقيات بمشاركة تجاربهن والبوح بها ونقاشها مع أخريات وآخرين.
أما الكاتب وصانع المحتوى أحمد الحسيني، فيرى أن “كلوب هاوس” حقق خرقاً في مسألة حصرية الحوارات المرئية التي كانت مسنودة تقليدياً للتلفزيون، وأصبح بإمكان الناس اختيار المواضيع التي يريدون مشاركتها عبر حوارات بالصوت والصورة، وهذا أمر يعزّز حرية التعبير ويفتح مجالاً للمهمّشين ليطرحوا أفكارهم ومشاكلهم وشكاويهم ومناقشتها على الملأ.
ولأن ما تبقّى من الدولة في العراق، لا يقوى على استيعاب هذا الهدير من الأصوات العالية، أعلن عضو “لجنة الأمن والدفاع النيابية” عباس صروط إمكان حظر هذا التطبيق كما صرّح لإحدى وكالات الأنباء المحلية: “إن حظر التطبيق من قبل الجهات الحكومية وارد جداً، إذا كان يشكل تهديداً على الأمن القومي من خلال استغلاله من الجماعات الإرهابية في التواصل”.
إقرأوا أيضاً: