fbpx
ساهموا في دعم الإعلام المستقل و الجريء!
ادعموا درج

“كلٌّ يطلق النار على هواه”:هل صوت الرصاص مألوف لدى الجميع في لبنان؟

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

كيف يعتاد المرء على صوتٍ لا يبشّر إلا بالموت، حتى عندما يراد له أن يعلن عن فرحٍ وانتصار صغيرٍ في الحياة، كالزواج وشهادة تعليمية، إلا أنه لا يخلو من الخطر الذي بات يهدد حياتنا بأشكال مختلفة، كأنما لا ينقص هذه البلاد التي ترزح تحت وطأة أزمة اقتصادية خانقة، وفلتان أمني غير مسبوق، إلا صوتاً جديداً للخوف

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

18 عاماً أمضيتها من حياتي في حي الليلكي في الضاحية الجنوبية لبيروت، في منزلٍ ترك رصاص الحرب الأهلية فراغاتٍ كثيرة في جدرانه، 26 صيفاً أمضيتها في “الهرمل”، قريتي البعيدة عن المدينة، البعيدة عن الحياة.

كان الحي خارجاً عن يد الدولة، محكوماً بعائلات كبيرة معظم أفرادها ذوو غطاء سياسي، ولم يكن انتشار السلاح في بيوته وأزقته عيبه الوحيد، لكنه كان السبب والنتيجة، لتركيبته الغريبة من أناس عاديين، فقراء جداً، يطلقون الرصاص كما يشربون الماء، بهذه البساطة والعفوية، ويتقاتلون في ما بينهم على أهون الأسباب.

كانت لدى والدي قطعة سلاحٍ واحدة، رشاشٌ أخذه تذكاراً من الحرب، وأودعه منزل عمي كي لا يُسرق، ولا يموت برصاصه عابر سبيلٍ لا ذنب له سوى أن طرقات هذا الحي مغطاة بالبارود والدم في كثيرٍ من الأوقات، ولسنوات طويلة، ظننت أن كل الأسلحة التي يصدح صوتها في الحي هي رشاش أبي.

كان صوت الرصاص اعتيادياً في حياتنا اليومية، واستطعنا مع الوقت وبحكم العادة، أن نميز السبب وراء إطلاقه. إذا كان الصوت خفيفاً، ثم كثيفاً من جهتين اثنتين، ومختلفاً بين جهة وأخرى، فهو خلافٌ بدأ فردياً وتحول إلى صراع عائلي كبير، قد يمتد لساعات وربما أيام. إذا كان الصوت كثيفاً من جهة واحدة، فهو رصاص فرح بولادة إذا لم يمتد الى أكثر من دقائق معدودة، وجنازةٍ إذا تجاوزها. أما رصاص حفلات الزفاف، فهو ممزوجٌ دائماً بالموسيقى والزغاريد وقرع الطبول.

لم يكن صوت الرصاص غريباً على أذاننا، ولم يكن حدثاً فارقاً في حياتنا اليومية، باستثناء المرات التي طاول فيها شباك غرفتي، وشرفة الجيران، وألزمنا البقاء ليومين كاملين في منزل جارنا في الطابق الأرضي للمبنى. كنت بعمر الخامسة عشرة حين امتد أحد النزاعات الداخلية في الحي الى ثلاثة أيام، وأودى بحياة شابٍ أقسمت عائلته على الثأر لدمائه.

 يومها، طاول الرصاص المبنى كاملاً، فاجتمعنا في غرفة جارنا الآمنة. كان أحد الأطفال البالغ من العمر ست سنوات يبكي خائفاً، وكان باقي الأطفال يضحكون عليه، وينعتونه بالجبان. لم يكترث لخوفه ودموعه الغزيرة سوى أمه، التي كانت تعانقه وتطمئنه بأنه مجرد رصاص عادي، ولا شيء يدعو الى الذعر.

في حرب تموز/ يوليو، أيقظتني والدتي ليلاً لنختبئ في موقف سيارات بناية مجاورة لمنزلنا، كانت الذريعة حينها أن المبنى جديد ومتينٌ أكثر، وقد ننجو. آنذاك، رأيت شكل الرصاص للمرة الأولى في السماء، وعرفت أن للرصاص هيئةً أستطيع تخيلها عند سماعه. ولأنه كان مألوفاً على أذني، فقد كان منظره بهياً لي في تلك اللحظة، كان يشبه الشهب الصغيرة التي كنا نراها في الأفلام، كان مضيئاً ولماعاً وساحراً للعين.


 كيف يعتاد المرء على صوتٍ لا يبشّر إلا بالموت، حتى عندما يراد له أن يعلن عن فرحٍ وانتصار صغيرٍ في الحياة، كالزواج وشهادة تعليمية، إلا أنه لا يخلو من الخطر الذي بات يهدد حياتنا بأشكال مختلفة، كأنما لا ينقص هذه البلاد التي ترزح تحت وطأة أزمة اقتصادية خانقة، وفلتان أمني غير مسبوق، إلا صوتاً جديداً للخوف

رصاص الصيف

في القرية الأمر نفسه، كان الجميع يحتفلون ويحزنون بالرصاص، وينتقمون ويغضبون ويتشاجرون به، لم نكن نسمع عن عراكٍ بالأيدي، أو بالسلاح الأبيض. دائماً ما يقال، فلان تشاجر مع فلان فأطلق النار عليه، أو في الهواء لإخافته. وغالباً ما يبدأ برصاصة غاضبة، لا يتوقف حتى يبصر الدم، والثأر لأجله، من ثم ينتهي في غرفة تضم عشر رجالٍ يكررون الكلام عينه في منازل مختلفة، ولأجل دماء جديدة.

في مراسم العزاء، كان الرصاص يخرج من بين الجموع الحاملة للنعش، وكان الصغار يحاوطون حامل السلاح ويحدقون به بإعجاب شديد، وكان البعض يتناوبون على إطلاق النار مواساة للعائلة وتعبيراً عن حزنهم البالغ على الفقيد. والأمر نفسه كان في حفلات الزفاف، إلا أنه لا موعد ولا طقوس معينة للرصاص، كلٌّ يطلق النار على هواه.

لا يؤرق الرصاص نوم العائلات في الهرمل، حتى يخطف من بيتها فرداً، بالمصادفة أو بالقصد، فيصير مذموماً، وعادةً ينبغي التخلص منها. عرفت في حياتي وجوهاً كثيرة غيبها الموت رصاصاً، ضحايا صراعات لا شأن لهم بها، ضحايا الوقت الخاطئ في المكان الخاطئ، وأعرف كيف غير هذا الموت مفاهيم الحياة والموت والتقاليد والعادات لدى عائلاتهم وأحبتهم، وصار محرماً عليهم السلاح تحت أي ذريعةٍ أو غاية.

الآخرون يخافون صوت الرصاص

المرة الأولى التي  سمعت فيها صوت رصاص خارج الحي والقرية، كانت في واحدة من تظاهرات 17 تشرين الأول/ أكتوبر في بيروت، كان بعيداً، لكنني رأيت الناس يركضون، فركضت معهم نحو الأزقة، ولم أسأل، لماذا نركض إن كان من الواضح أننا بعيدون عن مرمى الرصاص؟

عزيت خوف الناس الى معرفتهم السابقة بألا أمان لنا في تلك الساحات، وبأن رصاصة بعيدةً قد تتبعها رصاصة قريبةٌ من حيث لا ندري، لذا، فمداخل الأبنية أسلم وأنجى، وفي بعض الهرب شجاعةٌ في وجه موتٍ لا قيمة له.

في السنوات الثلاث الأخيرة، تحول لبنان إلى ساحة حرب غير معلنة، بين مئات الأطراف التي تتقاتل لكل الأسباب الممكنة، من دون أن تأخذ الدولة على عاتقها، أي دورٍ في لجم السلاح المتفلت الذي أصبح في كل منزلٍ وكل شارع، من دون حسيب أو رقيب، ومن دون اتخاذ أي إجراءات قضائية حازمة تجعل مطلق النار يفكر مرتين قبل أن يستل سلاحه، لذا، صار الحديث عن إطلاق النار حديثاً يومياً، كالسؤال عن سعر الصرف والكهرباء والطقس.

في أقل من شهرٍ واحد، اخترقت سماء لبنان كل أنواع الرصاص، بدايةً باشتباكات عين الحلوة التي تسببت بسقوط ضحايا وجرحى ونزوح الأهالي من المخيم لفترة من الزمن، بالإضافة إلى أضرار مادية كبيرة، طاولت المناطق المجاورة للمخيم، وصولًا إلى رصاص الابتهاج بصدور نتائج الثانوية العامة، والذي تسبب بإصابة الطفلة نايا حنّا البالغة من العمر سبع سنوات إصابة بالغة ما زالت ترقد على إثرها في مستشفى “قلب يسوع” في الحدث.

وليس آخرها الاشتباك المسلح الذي وقع بين أهالي منطقة الكحالة وعناصر من “حزب الله”، بعد انقلاب شاحنة محمّلة بالأسلحة والذخائر تابعة للحزب على كوع الكحالة الشهير، وتسبب بوفاة شخصين، شُيع كلاهما بالرصاص الحي.  

بعد كل حادثة مشابهة، تتعالى الأصوات الغاضبة والخائفة على مواقع التواصل الاجتماعي، من أناس يعبرون بوضوحٍ عن الخوف الذي يعيشونه حتى في غرفهم المغلقة، وعن القلق البالغ الذي يصيبهم كلما اعترض ضجيج النهار وسكون الليل، صوت البارود، ويدافعون عن حقهم وحق الجميع بألا يموتوا برصاصة طائشة، لأن أحدهم لم يأخذ بالاعتبار أن رصاصه كثيراً ما يضل الطريق.

التعوُّد عوضاً عن المواجهة

تخبرني صديقتي، التي تملك كلبة تبلغ من العمر عامين، أن كلبتها لا تتوقف عن النباح المذعور كلما ارتفع صوت المفرقعات النارية أو الرصاص في حيهم، فأخبرها للتو أن قطتي “شمس” كانت تختبئ لساعات طويلة كلما علا صوت رشق ناري في حيّنا الواقع في منطقة الكفاءات في الضاحية الجنوبية، إلا أنها الآن لا تحرك ساكناً، تفتح عينها الناعستين ثم تغمضهما، كأن شيئاً لم يكن. 

أخبرها أني تأخرت كثيراً في إدراك حقيقة أن تعوُّدنا على صوت الرصاص لم يكن حدثاً عابراً، ولم يكن المألوف، لكنه كان خيارنا الوحيد في ظل عدم قدرتنا على تغيير الواقع، لكن واقعنا، الذي كان محصوراً بمناطق معدودة، بإمكان المرء تجنبها قدر الإمكان، أصبح اليوم على نطاق بلادٍ بكاملها، ولا مهرب لنا منه، إلا بمعجزة لا يبدو أنها ستحدث في السنوات المقبلة.

قد تستطيع الحيوانات أن تتأقلم مع صوت الرصاص خلال سنوات لأنها قاصرة عن فهم ماهيته، لكن كيف يعتاد المرء على صوتٍ لا يبشّر إلا بالموت، حتى عندما يراد له أن يعلن عن فرحٍ وانتصار صغيرٍ في الحياة، كالزواج وشهادة تعليمية، إلا أنه لا يخلو من الخطر الذي بات يهدد حياتنا بأشكال مختلفة، كأنما لا ينقص هذه البلاد التي ترزح تحت وطأة أزمة اقتصادية خانقة، وفلتان أمني غير مسبوق، إلا صوتاً جديداً للخوف، الخوف الذي اعتدنا أن نشعر به، بات اليوم غارقاً في أذاننا.

18.08.2023
زمن القراءة: 6 minutes

كيف يعتاد المرء على صوتٍ لا يبشّر إلا بالموت، حتى عندما يراد له أن يعلن عن فرحٍ وانتصار صغيرٍ في الحياة، كالزواج وشهادة تعليمية، إلا أنه لا يخلو من الخطر الذي بات يهدد حياتنا بأشكال مختلفة، كأنما لا ينقص هذه البلاد التي ترزح تحت وطأة أزمة اقتصادية خانقة، وفلتان أمني غير مسبوق، إلا صوتاً جديداً للخوف

18 عاماً أمضيتها من حياتي في حي الليلكي في الضاحية الجنوبية لبيروت، في منزلٍ ترك رصاص الحرب الأهلية فراغاتٍ كثيرة في جدرانه، 26 صيفاً أمضيتها في “الهرمل”، قريتي البعيدة عن المدينة، البعيدة عن الحياة.

كان الحي خارجاً عن يد الدولة، محكوماً بعائلات كبيرة معظم أفرادها ذوو غطاء سياسي، ولم يكن انتشار السلاح في بيوته وأزقته عيبه الوحيد، لكنه كان السبب والنتيجة، لتركيبته الغريبة من أناس عاديين، فقراء جداً، يطلقون الرصاص كما يشربون الماء، بهذه البساطة والعفوية، ويتقاتلون في ما بينهم على أهون الأسباب.

كانت لدى والدي قطعة سلاحٍ واحدة، رشاشٌ أخذه تذكاراً من الحرب، وأودعه منزل عمي كي لا يُسرق، ولا يموت برصاصه عابر سبيلٍ لا ذنب له سوى أن طرقات هذا الحي مغطاة بالبارود والدم في كثيرٍ من الأوقات، ولسنوات طويلة، ظننت أن كل الأسلحة التي يصدح صوتها في الحي هي رشاش أبي.

كان صوت الرصاص اعتيادياً في حياتنا اليومية، واستطعنا مع الوقت وبحكم العادة، أن نميز السبب وراء إطلاقه. إذا كان الصوت خفيفاً، ثم كثيفاً من جهتين اثنتين، ومختلفاً بين جهة وأخرى، فهو خلافٌ بدأ فردياً وتحول إلى صراع عائلي كبير، قد يمتد لساعات وربما أيام. إذا كان الصوت كثيفاً من جهة واحدة، فهو رصاص فرح بولادة إذا لم يمتد الى أكثر من دقائق معدودة، وجنازةٍ إذا تجاوزها. أما رصاص حفلات الزفاف، فهو ممزوجٌ دائماً بالموسيقى والزغاريد وقرع الطبول.

لم يكن صوت الرصاص غريباً على أذاننا، ولم يكن حدثاً فارقاً في حياتنا اليومية، باستثناء المرات التي طاول فيها شباك غرفتي، وشرفة الجيران، وألزمنا البقاء ليومين كاملين في منزل جارنا في الطابق الأرضي للمبنى. كنت بعمر الخامسة عشرة حين امتد أحد النزاعات الداخلية في الحي الى ثلاثة أيام، وأودى بحياة شابٍ أقسمت عائلته على الثأر لدمائه.

 يومها، طاول الرصاص المبنى كاملاً، فاجتمعنا في غرفة جارنا الآمنة. كان أحد الأطفال البالغ من العمر ست سنوات يبكي خائفاً، وكان باقي الأطفال يضحكون عليه، وينعتونه بالجبان. لم يكترث لخوفه ودموعه الغزيرة سوى أمه، التي كانت تعانقه وتطمئنه بأنه مجرد رصاص عادي، ولا شيء يدعو الى الذعر.

في حرب تموز/ يوليو، أيقظتني والدتي ليلاً لنختبئ في موقف سيارات بناية مجاورة لمنزلنا، كانت الذريعة حينها أن المبنى جديد ومتينٌ أكثر، وقد ننجو. آنذاك، رأيت شكل الرصاص للمرة الأولى في السماء، وعرفت أن للرصاص هيئةً أستطيع تخيلها عند سماعه. ولأنه كان مألوفاً على أذني، فقد كان منظره بهياً لي في تلك اللحظة، كان يشبه الشهب الصغيرة التي كنا نراها في الأفلام، كان مضيئاً ولماعاً وساحراً للعين.


 كيف يعتاد المرء على صوتٍ لا يبشّر إلا بالموت، حتى عندما يراد له أن يعلن عن فرحٍ وانتصار صغيرٍ في الحياة، كالزواج وشهادة تعليمية، إلا أنه لا يخلو من الخطر الذي بات يهدد حياتنا بأشكال مختلفة، كأنما لا ينقص هذه البلاد التي ترزح تحت وطأة أزمة اقتصادية خانقة، وفلتان أمني غير مسبوق، إلا صوتاً جديداً للخوف

رصاص الصيف

في القرية الأمر نفسه، كان الجميع يحتفلون ويحزنون بالرصاص، وينتقمون ويغضبون ويتشاجرون به، لم نكن نسمع عن عراكٍ بالأيدي، أو بالسلاح الأبيض. دائماً ما يقال، فلان تشاجر مع فلان فأطلق النار عليه، أو في الهواء لإخافته. وغالباً ما يبدأ برصاصة غاضبة، لا يتوقف حتى يبصر الدم، والثأر لأجله، من ثم ينتهي في غرفة تضم عشر رجالٍ يكررون الكلام عينه في منازل مختلفة، ولأجل دماء جديدة.

في مراسم العزاء، كان الرصاص يخرج من بين الجموع الحاملة للنعش، وكان الصغار يحاوطون حامل السلاح ويحدقون به بإعجاب شديد، وكان البعض يتناوبون على إطلاق النار مواساة للعائلة وتعبيراً عن حزنهم البالغ على الفقيد. والأمر نفسه كان في حفلات الزفاف، إلا أنه لا موعد ولا طقوس معينة للرصاص، كلٌّ يطلق النار على هواه.

لا يؤرق الرصاص نوم العائلات في الهرمل، حتى يخطف من بيتها فرداً، بالمصادفة أو بالقصد، فيصير مذموماً، وعادةً ينبغي التخلص منها. عرفت في حياتي وجوهاً كثيرة غيبها الموت رصاصاً، ضحايا صراعات لا شأن لهم بها، ضحايا الوقت الخاطئ في المكان الخاطئ، وأعرف كيف غير هذا الموت مفاهيم الحياة والموت والتقاليد والعادات لدى عائلاتهم وأحبتهم، وصار محرماً عليهم السلاح تحت أي ذريعةٍ أو غاية.

الآخرون يخافون صوت الرصاص

المرة الأولى التي  سمعت فيها صوت رصاص خارج الحي والقرية، كانت في واحدة من تظاهرات 17 تشرين الأول/ أكتوبر في بيروت، كان بعيداً، لكنني رأيت الناس يركضون، فركضت معهم نحو الأزقة، ولم أسأل، لماذا نركض إن كان من الواضح أننا بعيدون عن مرمى الرصاص؟

عزيت خوف الناس الى معرفتهم السابقة بألا أمان لنا في تلك الساحات، وبأن رصاصة بعيدةً قد تتبعها رصاصة قريبةٌ من حيث لا ندري، لذا، فمداخل الأبنية أسلم وأنجى، وفي بعض الهرب شجاعةٌ في وجه موتٍ لا قيمة له.

في السنوات الثلاث الأخيرة، تحول لبنان إلى ساحة حرب غير معلنة، بين مئات الأطراف التي تتقاتل لكل الأسباب الممكنة، من دون أن تأخذ الدولة على عاتقها، أي دورٍ في لجم السلاح المتفلت الذي أصبح في كل منزلٍ وكل شارع، من دون حسيب أو رقيب، ومن دون اتخاذ أي إجراءات قضائية حازمة تجعل مطلق النار يفكر مرتين قبل أن يستل سلاحه، لذا، صار الحديث عن إطلاق النار حديثاً يومياً، كالسؤال عن سعر الصرف والكهرباء والطقس.

في أقل من شهرٍ واحد، اخترقت سماء لبنان كل أنواع الرصاص، بدايةً باشتباكات عين الحلوة التي تسببت بسقوط ضحايا وجرحى ونزوح الأهالي من المخيم لفترة من الزمن، بالإضافة إلى أضرار مادية كبيرة، طاولت المناطق المجاورة للمخيم، وصولًا إلى رصاص الابتهاج بصدور نتائج الثانوية العامة، والذي تسبب بإصابة الطفلة نايا حنّا البالغة من العمر سبع سنوات إصابة بالغة ما زالت ترقد على إثرها في مستشفى “قلب يسوع” في الحدث.

وليس آخرها الاشتباك المسلح الذي وقع بين أهالي منطقة الكحالة وعناصر من “حزب الله”، بعد انقلاب شاحنة محمّلة بالأسلحة والذخائر تابعة للحزب على كوع الكحالة الشهير، وتسبب بوفاة شخصين، شُيع كلاهما بالرصاص الحي.  

بعد كل حادثة مشابهة، تتعالى الأصوات الغاضبة والخائفة على مواقع التواصل الاجتماعي، من أناس يعبرون بوضوحٍ عن الخوف الذي يعيشونه حتى في غرفهم المغلقة، وعن القلق البالغ الذي يصيبهم كلما اعترض ضجيج النهار وسكون الليل، صوت البارود، ويدافعون عن حقهم وحق الجميع بألا يموتوا برصاصة طائشة، لأن أحدهم لم يأخذ بالاعتبار أن رصاصه كثيراً ما يضل الطريق.

التعوُّد عوضاً عن المواجهة

تخبرني صديقتي، التي تملك كلبة تبلغ من العمر عامين، أن كلبتها لا تتوقف عن النباح المذعور كلما ارتفع صوت المفرقعات النارية أو الرصاص في حيهم، فأخبرها للتو أن قطتي “شمس” كانت تختبئ لساعات طويلة كلما علا صوت رشق ناري في حيّنا الواقع في منطقة الكفاءات في الضاحية الجنوبية، إلا أنها الآن لا تحرك ساكناً، تفتح عينها الناعستين ثم تغمضهما، كأن شيئاً لم يكن. 

أخبرها أني تأخرت كثيراً في إدراك حقيقة أن تعوُّدنا على صوت الرصاص لم يكن حدثاً عابراً، ولم يكن المألوف، لكنه كان خيارنا الوحيد في ظل عدم قدرتنا على تغيير الواقع، لكن واقعنا، الذي كان محصوراً بمناطق معدودة، بإمكان المرء تجنبها قدر الإمكان، أصبح اليوم على نطاق بلادٍ بكاملها، ولا مهرب لنا منه، إلا بمعجزة لا يبدو أنها ستحدث في السنوات المقبلة.

قد تستطيع الحيوانات أن تتأقلم مع صوت الرصاص خلال سنوات لأنها قاصرة عن فهم ماهيته، لكن كيف يعتاد المرء على صوتٍ لا يبشّر إلا بالموت، حتى عندما يراد له أن يعلن عن فرحٍ وانتصار صغيرٍ في الحياة، كالزواج وشهادة تعليمية، إلا أنه لا يخلو من الخطر الذي بات يهدد حياتنا بأشكال مختلفة، كأنما لا ينقص هذه البلاد التي ترزح تحت وطأة أزمة اقتصادية خانقة، وفلتان أمني غير مسبوق، إلا صوتاً جديداً للخوف، الخوف الذي اعتدنا أن نشعر به، بات اليوم غارقاً في أذاننا.