صورة واحدة قديمة، قد نجدها مصادفة في هواتفنا، أو ضمن ملف في حواسيبنا الشخصية، تكون كفيلة بأن تعيد علينا كماً هائلاً من الذكريات، التي نظن أننا نسيناها، أو ربما نوهم أنفسنا بذلك، لما لها من عواقب مؤلمة على حالتنا النفسية، التي بالتقادم، ستنعكس حتماً على الحالة الجسدية. وهاتان الحالتان، في الأساس، تشوهتا خلال الأعوام العشرة الأخيرة.
وبما أنني أقول الأعوام العشرة الأخيرة، فهذا القول هو إشارة إلى أنني مواطن سوري، صارت حرب العشر سنوات ثيمة أساسية في حياتي. ولو أردت من خلال حسبة صغيرة، أن أخمن عدد الصور التي أحتفظ بها، سواء في هاتفي أو في أي مكان آخر، فإنني حتماً (وهذا ينطبق على كل مواطن سوري) سوف أكون في مواجهة خاسرة، أمام ما أفضل تسميته “هجمات الذاكرة”.
هل يمكن أن يتخيل أحدكم المُعاناة، التي قد تسببها معركة كاملة، تتكرر في الذاكرة بشكل دائم، بصوت الرصاص الكثيف، ومجنزرات العسكر، وصوت الجنود، لمجرد رؤية صورة قديمة. ربما التُقطت بالخطأ خلال الحرب!
كلمة “معاناة” لا تكفي لتصدير هذا الألم كله، لكنني لا أملك سوى محاولة تحويل ذلك كله إلى قصة مكتوبة لتوثيق ما لم تعبر أمامه الكاميرات، أو تسجّله أقلام الصحافة في وقتها.
موتٌ حي على الجدران
تشاركني أمي بين فترة وأخرى صوراً تلتقطها لشوارع قريتنا وبعض البيوت التي دمرتها طائرات الجيش ودباباته، محاولةً تقاسم حزنها معي. وأيضاً، في أحيان كثيرة يكون ذلك بناءً على طلب مني. بما أنني منذ أكثر من خمس سنوات أعيش خارج سوريا. ولا أطلب ذلك من أمي وحدها. بل من كل صديق أو قريب ما زال في سوريا، ويمكنه التنقل بين المناطق التي أتت عليها الحرب.
تُرسل لي بعض الصور لبيتنا المُدمَر، فأشاهد من بينها صورة، تظهر فيها آثار دمٍ على حائطٍ في غرفتي. فتأخذني الصدمة إلى أسئلة كثيرة. دم من هذا؟ ولماذا في غرفتي؟ ثم أتذكر مشهداً يجعلني أرتجف كأنه يتكرر في الحقيقة. فخلال فترة الحصار التي عشتها في درعا وتحديداً بين عامي 2012-2015 كانت الحواجز التابعة لجيش النظام تطوق المدينة. لا يمر بها أحد دون أن يُذله العناصر المسؤولون عن الحاجز. تفتيش وتفييش وشتائم للأم والأخت وجميع أفراد العائلة. الوقت الذي يمضيه الناس على الحواجز، للخروج والدخول من قراهم وإليها، كان من أصعب ماقد يمر على الإنسان من ضغط وخوف. أبسط غلطة أو كلمة عابرة خارج سياق الإجابة عن الأسئلة المطروحة، تكون عاقبتها إما الاعتقال أو التصفية. كان الحقد واضحاً في وجوه العساكر على كل من يعيش في المناطق، التي خرج سكانها لإسقاط رئيسهم المفدى.
وفي معرض الحديث عما ذكرتني به تلك الصورة، والدم اليابس على جدار غرفتي، سمعنا ذات يومٍ أن عناصرَ الأمن وبعض العساكر اقتحموا بيت أبو ضياء، وهو رجل خمسيني متزوج، لديه ابن وحيد أنجبه بعد انتظار طويل. ولم يتمكن أحدٌ في لحظتها، من معرفة سبب اقتحام أمن النظام بيته. لكن الذين كانوا شاهدين على ذلك، رأوهم “يشحطون” أبو ضياء وابنه أمامهم. وآثار الضرب والتعنيف بادية على وجهيهما. ثم وبعد وقت قصير، سمع الجميع صوت إطلاق رصاصة واحدة داخل منزل أبو ضياء. تلاه صراخ أم ضياء وبكاء ابنها الذي ملأ الحي.
ركضنا جميعاً، نحو بيتهم بعدما تأكدنا من مغادرة العناصر، فوجدنا الأم منهارة فوق جثة زوجها. وهي تصرخ “ولاد الحرام قوصوه براسو”، بينما دمه ما زال يسيل على الجدار.
كل ما في القصة، أن ضياء الذي لم يتجاوز السادسة، أثناء انتظاره مع أبيه عند أحد الحواجز، أشار إلى سلاح أحد العساكر، وصاح بأعلى صوته أنه يشبه “البارودة” التي اشتراها له أبوه، فظنوا أن أباه يملك سلاحاً. لذلك قاموا بتصفيته، برغم أنهم فتشوا منزله ولم يجدوا شيئاً.
إقرأوا أيضاً:
شعبٌ أراد الحياة، فمات
نشر أحد الأصدقاء منذ فترة قصيرة، على “فيسبوك” مجموعة من الصور وهو يتجول في إحدى مدارس قريتنا في درعا. وكما نعلم، فإن المدارس بشكل خاص، كانت تعتبر من أكثر الأماكن التي لعبت دورا كبيراً في الحرب. بعضها استُخدمت مواقعَ لتجمعات الثوار وعناصر الجيش الحر، وشكلت على إثر ذلك ساحات اشتباك مع عناصر النظام وقوات أمنه، وكانت تعتبر أهدافاً لطائراته. وبعضها الآخر استُخدم ملاجئ للناس الذين هُجروا من منازلهم.
ومن بين تلك الصور، صورة كان يجلس فيها صديقي على أحد المقاعد الدراسية المحطمة، وتظهر في الخلفية سبورةٌ هشمها الرصاص. ما زالت عليها آثار الطباشير، تمكنتُ بعد التدقيق فيها، من قراءة عبارة مكتوبة، فحواها “إذا الشعب يوماً أراد الحياة…”، وفي الحقيقة لا أستطيع أن أجزم، إذا كانت تلك العبارة قد كُتبت حديثاً، أم أنها ما زالت منذ أيام ما قبل الحرب. لأنها على ما أتذكر تمثل شطراً شعرياً من إحدى قصائد الشاعر أبو القاسم الشابي التي كانت تُدرس ضمن مناهج التعليم في المراحل الابتدائية والإعدادية. وثمة صورة أخرى، يقف فيها صديقي في باحة المدرسة، يظهر في كادرها سياج المدرسة المهدم، تملأ الأجزاء المتبقية منه فجوات واسعة، تدل على أثر قصف مدفعي.
هذه المشاهدات، أعادتني في الذاكرة إلى عام 2012. وتحديداً إلى إحدى المعارك التي نشبت وقتها، إذ أُطلق عليها في ما بعد اسم “معركة المدرسة” التي بدأت بوشاية من أحد المُخبرين المزروعين بين الناس في القرية، بأن الثوار وبعض عناصر الجيش الحر، سيجتمعون في أول يوم من رمضان، لتناول إفطار جماعي فيها. فكمنَ لهم عناصر جيش النظام إثر تلك الوشاية، بدباباتهم وأسلحتهم الثقيلة، وحاصروا المدرسة من كل الجهات، وبدأت الاشتباكات بين الطرفين مع لحظة أذان المغرب، وبما أن تلك المدرسة كانت قريبة إلى حد لا بأس به من بيتنا، كنا إذا وقفنا على سطح المنزل، نستطيع مع القليل من الحذر، أن نشاهد كل ما يحدث بالتفصيل. لحظة تفجير باب المدرسة، فوهات الرشاشات تطل من نوافذ الصفوف في الطبقات العليا، سبطانات الدبابات الموجهة إلى أسفل البناء لقصفه، هدم المدرسة على رؤوس كل الذين في الداخل… واستمرت تلك المعركة حتى فجر اليوم التالي. ثم أنهاها جيش النظام من خلال الإتيان بمجموعة من صهاريج المازوت، أفرغوها في قبو المدرسة، ثم أحرقوها بكل من فيها.
أشياء تدل على أصحابها: خاتم خطوبة، حذاء… وهويات شخصية لم تحترق بالكامل
في اليوم التالي، بعدما تأكد الأهالي من خروج جيش النظام وانسحابه بالكامل من القرية، هرعوا باتجاه المدرسة، لينقذوا من يمكن إنقاذه من العالقين في داخلها، لكن للأسف لم تسفر عمليات الإنقاذ سوى عن سحب سبعة وثلاثين جثة متفحمة، لم يتمكن أحد من التعرف إلى أصحابها، فوُضعت في الساحة العامة وسط القرية، ومن خلال مكبرات الصوت في المساجد، نوديَ على الأهالي إلى الساحة لعل الذين فقدوا أولادهم، يتمكنون من التعرف إلى جثثهم. ومن بين أكثر المشاهد إيلاماً، امرأة انهارت فوق إحدى الجثث، بينما تصرخ أنها تعود لابنها، فخاتم خطوبته ما زال يلمع في يده، وأخرى أشارت إلى جثة ابنها من خلال الحذاء الذي يرتديه، فيما عُرفت هوية البعض من أوراق ثبوتية وُجدت في جيوبهم. أما الآخرون فدُفنوا في قبرٍ جماعي، كمجهولين.
إقرأوا أيضاً: