أُنجز هذا التقرير بدعم من برنامج “قريب” الذي تنفذه الوكالة الفرنسية للتنمية الإعلامية CFI وتموله الوكالة الفرنسية للتنمية AFD.
“لقيتكِ يا سايبة، ما خلق يلّي بدّو يحط راسي بالتراب”… بهذه الكلمات، حكم شقيق عدلا عليها بالموت، ونفّذ حكمه بدم بارد يليه احتفال “غسل عار”.
في حفل عيد الميلاد الذي أعدّته عدلا لابنها غدي، أو بالأحرى لتلك الدمية التي اختارتها أن تجسّد مكان ابنها الذي فقدته، ضحية بيئتها التقليدية، ووسط زينة الحي البسيطة وأصوات الضحكات، اقتحم شقيقها المشهد متسلّحا بفكرة مشوّهة عن “الشرف”، لم يمنحها فرصة للكلام، ولا حتى لالتقاط أنفاسها، ثم أطلق عليها ثلاث رصاصات أودت بحياتها فوراً، أمام أعين الجيران والأصدقاء، وأمام غدي.
هذا المشهد من الحلقة 26 من مسلسل “بالدم”، لم يكن مجرّد لحظة درامية عابرة، بل كان انعكاساً مؤلماً لحقيقة يعيشها العديد من النساء في مجتمعاتنا. وشخصية عدلا، التي جسّدتها الممثلة سينتيا كرم، تمثّل نموذجاً لكل امرأة دفعت ثمن أنها وُلدت في مجتمع يفرض عليها قيوده وأحكامه، ويبرّر للذكور أخطاءهم لأنه “ما بعيبهم شيء”.
غدي: كل ما فُرض علينا أن نخسره لأننا نساء
هزّني مشهد قتل عدلا من الداخل، وأيقظ فيّ مشاعر الخوف التي كانت مخبّأة، الخوف من الظلم وغياب العدالة، والخوف من حقيقة أننا مهدّدات بأن نخسر حيواتنا في أي لحظة نرفض فيها قيودهم. جلستُ بعدها أسأل نفسي، كم عدلا في داخل كل منا ولا نعلم؟ كم مرة صمتنا حين انتُهكت حياتنا بطريقة “أقلّ عنفاً” لأننا تعلمنا أن السكوت أكثر أماناً؟ وكم غدي علينا أن نخسر كي لا ترفع مجتمعاتنا الذكورية مسدّسها في وجوهنا؟
أظنّ أن الكاتبة نادين جابر لم ترِد لغدي أن يكون فقط طفل عدلا الذي خسرته، بل أرادت له أن يكون رمزاً أعمق. فغدي هو كل ما سُلب منا لأننا نساء. قد يكون الوظيفة التي حُرمنا منها لأننا لم نكن “ملائمات” لها، أو الحبّ الذي وُئد لأنه لم يكن على هوى التقاليد، أو لأنه جاء في وقتٍ لم يسمح لنا فيه المجتمع بأن نحبّ.
عدلا: منال، زينة، ياسمين، راجية، زينب، سالي، عبير وغيرهن…
حصد مقتل عدلا تفاعلاً واسعاً على منصّات التواصل الاجتماعي، حيث امتلأت التعليقات بالصدمة والغضب والحزن. كثيرون رأوا في المشهد مرآةً لقصص حقيقية عايشوها أو سمعوا بها، وأعاد إليهم وجعاً مألوفاً من قهر النساء وإسكات أصواتهن، لأن ما عُرض لامس واقعاً نعيشه مملوءاً بالتناقضات والخذلان والانتهاكات، التي تمرّ بلا حساب.
ما حدث لعدلا في المسلسل، هو انعكاس لما تتعرّض له نساء كثيرات في لبنان والمنطقة، إنه الواقع الذي تُقتل فيه النساء تحت مسمّى “الشرف” وبحجّة أنهن لم يلتزمن بالدور الذي خُطَّ لهن سلفاً.
قضية عدلا أعادت إلى ذاكرتنا حكاية كل امرأة طُعنت أو خُنقت أو دُهست أو أُطلق عليها الرصاص. منال حرفوش، زينة كنجو، ياسمين السيد، راجية العاكوم، زينب زعيتر، سالي جرجورة، عبير الرحال، وكثيرات غيرهن… نساء خُنقت أحلامهن كما خُنقن جسدياً، فقط لأن المجتمع سمح للقاتل بأن يشعر بأنه يملك حيواتهن وبأن القانون سيجد له المخرج الدائم.
في نيسان/ أبريل 2020، هزّت جريمة بعقلين – قضاء الشوف، الرأي العام، بعدما أقدم مازن حرفوش على قتل زوجته منال التيماني بذريعة “الشرف”، ضمن مجزرة راح ضحيتها عشرة أشخاص من عائلته. وبعدها بأشهر قليلة، عُثر على جثة امرأة (ش.غ) مقطّعة داخل أكياس نفايات في رياق، تبيّن أنها قُتلت على يد زوجها وأمام أطفالهما، قبل أن يُقدم الجاني على الانتحار. وفي كانون الثاني/ يناير 2021، قُتلت عارضة الأزياء زينة كنجو خنقاً في منزلها في عين المريسة على يد زوجها، الذي كان قد فُتح بحقّه أكثر من محضر أمني سابق بتهم عنف وسرقة.
وفي أيار/ مايو 2023، استُدرجت راجية العاكوم من طليقها لرؤية أطفالهما بعد يومين من حصولها على الطلاق. هناك، طعنها بسكين ثم دهسها بسيارتها مراراً حتى الموت أمام أولادهما. تكرّرت المشاهد نفسها مع زينب زعيتر في الشويفات، التي قُتلت بعشر رصاصات في رأسها على يد زوجها، بعد أن اكتشف صوراً لها من دون حجاب. ليظهر شقيقها فيما بعد في فيديو مصوّر، ويعلن خلاله أنه “كان سيُقدم على قتل شقيقته لـ”يغسل عاره”، بعدما تلقّى اتصالاً من زوجها الذي سبقه إلى ذلك”، ثم يؤكّد أنه “لا ثأر بينهما”.
ومنذ أشهر، قُتلت الإعلامية عبير الرحّال داخل المحكمة الشرعية في شحيم على يد زوجها، الذي نشر مقطع فيديو بعد تنفيذه الجريمة برّر ما فعله ثم انتحر.
العنف ليس قضية “شخصية”
بحسب إحصاءات صادرة عن منظمات حقوقية لبنانية أبرزها “كفى” و”أبعاد”، قُتلت أكثر من 107 امرأة في لبنان بين العامين 2020 و2023 فقط، نتيجة العنف الأسري، بمعدّل يقارب امرأة كل أسبوعين، وتُشير التقديرات إلى أن العدد الحقيقي قد يكون أعلى بسبب حالات لم تُوثّق رسمياً أو جرى تسجيلها كـ”حوادث”.
وفي العام 2024، بلغ عدد هذه الجرائم 26 جريمة وفقاً لـ “الهيئة اللبنانية لمناهضة العنف ضد المرأة”.
كل واحدة من هؤلاء النساء كانت عدلا، فالعنف ضدّ النساء ليس حدثاً استثنائياً ولا قضية “شخصية”، بل هو نمط متكرّر، مغطّى بالصمت، ومبرّر بـ”العادات”، ومع كل جريمة جديدة، نقف أمام السؤال نفسه: كم عدلا علينا أن نخسر كي نتحرّك؟
إقرأوا أيضاً: