يسألني أصدقاء وصديقات، زميلات وزملاء كثر عن سبب اهتمامي بالمياه وسط كل هذه الحروب والكوارث الإنسانية التي تحيطنا من كل الجهات. وكنت أجيب على هذا السؤال شفهياً في أغلب الأوقات، رغم ان حكايتي مع المياه، وهي في الحقيقة حكاية أكثر من مليار انسان يتأقلم مع العطش اليوم، لها صلة مباشرة بالطبيعة البشرية فيما خص العلاقة بين الإنسان وبيئته وسبل تنظيمها، أي انها جزء من تلك الحلول التي نبحث عنها اليوم لتفادي العطش. الحكاية ببساطة شديدة، هي علاقة رجل كُردي بشجرة توت داخل بيته الصغير بعدما تزوج واستقل عن بيت الأبوين الكبير.
فتحت عيني في البيت الصغير ذاك، ورأيت فيه شجرة توت جاء بها والدي كما كان يروي لنا، من قرية أخرى وزرعها في البيت الجديد، وحفر إلى جانبها بئراً لم نشرب منه قط، كما لم تشرب منه الشجرة؛ لأن الماء لم ينبع منه وتم ردمه حين كبرنا وكبرت معنا التوتة. كانت تقع قريتنا في منطقة (كرميان)، أي المناطق الحارة، وهي من المناطق السهلية الجافة في كُردستان، ولا يعزّي عزلتها وعطشها سوى نهر (آوَسبي) الذي يتحول في تخوم قضاء طوز خورماتو جنوب مدينة كركوك إلى ساقية في تربة مالحة.
في تلك القرية المعزولة عن العالم، والتي تم تدميرها بالكامل أبان عمليات الأنفال ضد الكُرد من قبل جيش صدام حسين عام 1988، لم يعلمنا أحد كيف نوازن بين احتياجنا للمياه ومصادرها المتوفرة لدينا. كانت إدارة المياه تتم من خلال علاقة عضوية وحسية بين السكان وتلك الطبيعة الجافة التي اختارها أجدادنا للعيش. وكان لكل عائلة بئر، كما أصبح مألوفاً ان تزرع شجرة توت إلى جانبه، ذاك ان التوتة لا تحتاج إلى كميات كبيرة من المياه للسقي، فيما كانت تسعدنا نحن الأطفال بتوت أبيض حلو في الصيف. كانت العلاقة بين المياه الجوفية التي كنا نحصل عليها بعد عناء طويل وبين ظمئنا، تستوجب مثل هذه المعرفة بالأشجار واحتياجها للمياه.
لم ينعم بئرنا في البيت بالماء، إنما كبرت التوتة واجتاز جدران الحوش أو أرض الدار التي كبرت أيضاً ولم تبق صغيرة. أعتاد والدي ان يسقي الشجرة بكميات الماء الذي كان يتوضأ به مرات في كل يوم. لم أره يوماً يهدر الماء المستخدم للوضوء، وكان يقوم تالياً بإعادة تدويره ويسقي به شجرتنا الجميلة. وعلى خطاه، تعلمنا نحن أطفاله ان نحافظ على الماء، نقوم بإعادة تدويره للسقي أو استخدامات أخرى غير الشرب واحضار الطعام والتنظيف. وكان أهل القرية يعيدون استخدام المياه المتبقية في الجداول المخصصة للمواشي لسقي حدائق صغيرة كانت تشبه الواحات في قريتنا في الصيف.
كنا، بشكل عام حرّاس المياه والمدافعين عن حقوقها، حيث لم تقبل علاقتنا الحسية معها، التلوث، الاختناق والهدر. ففي نهر آوَسبي شمال القرية بنحو ساعة من السير على الأقدام، كنا نشرب ونصيد السمك ونسبح، وتوازي هذه الخصائص الثلاث النقاء لأي نهر في العالم حيث يجب حمايته. هناك مثلاً في نيوزلندا لائحة حقوق الأنهار صدرت عام 2017، انما لم نفكر نحن يوماً بأننا نحتاج لقانون أو لائحة من الالتزامات كي يبقى نهرنا بصحة جيدة، بل اعتبرناه جزء منا. كان يستحيل ان نرمي شيئاً بالقرب من مصار شربنا: النهر، السقايات، الآبار، أو في العيون القليلة التي ترطب ريقنا وريق الحيوانات البرّية.
اختصاراً، كانت علاقتنا بالماء تتصف بنوع من الشراكة الحسية قبل الشرب والارتواء؛ وكنا نكتشف العلاقة ذاتها من خلال أشياء أخرى، الخضار والفاكهة. كنا نجعل الفجل أو البصل حاد المذاق، ان أردنا ذلك بطبيعة الحال، وذلك بقطع المياه عنهما في المرحلة الأخيرة من النضج، بينما كنا نزيدهما السقي ان أردناهما حلوين الطعم. كان اتباع زراعة الفاكهة الصيفية التي لا تحتاج سوى إلى أمطار الربيع الأخيرة، خيار الدَيم والشمام مثلا، أسلوب آخر من أساليب ترطيب “أرض اليباب”* وابقاء مياه خضراء في صيفها الحارّ، ذاك ان الشتلات المزروعة في (بُستان الدَيم) كما يسمى بالكُردية، بإمكانها تخزين مطر الربيع لشهور وإعطاء الثمار في الصيف.
تالياً، كانت إدارتنا للمياه وسبل الاستفادة منها قطرة بقطرة، مبنية على علاقتنا العضوية بالطبيعة التي تدور في نظام ايكولوجي لا يخطأ في جعل تناغم عناصره مصدر الدوران والتجديد. بيوتنا الطينية بمنافذها الصغيرة، اعتمادنا على الحبوب والخضار والفاكهة التي تعتمد بالدرجة الأساس على الأمطار الموسمية، استخدامنا للمياه الجوفية المتوفرة في حدود الممكن، تدوير مياه الصرف في صناعة السماد الطبيعي، والمياه المتبقية من جداول المخصصة للمواشي والحيوانات من أجل الزراعة المنزلية المحدودة، أو للبناء والتصليح، كل هذه الأشياء كانت تُصبغ حياتنا بالتناغم والاستمرار.
هذا الموضوع تم انجازه بدعم من مؤسسة Rosa-Luxemburg-Stiftung’s Beirut Office
[video_player link=””][/video_player]